دعاء الاموات لمشاري

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate

السبت، 4 مارس 2023

تفسير سورة النور الايات من 1 الي10.

تفسير سورة النور الايات من 1 الي10. 

 سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
==============
النور - تفسير ابن كثير 
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
سورة النور
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) }
يقول تعالى: هذه { سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا } فيه تنبيه على (1) الاعتناء بها ولا ينفى ما عداها.
{ وفرضناها } قال مجاهد وقتادة: أيْ بيّنا الحلال والحرام والأمر والنهي، والحدود.
وقال البخاري: ومن قرأ "فَرَضْناها" يقول: فَرَضْنا عليكم وعلى من بعدكم .
{ وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي: مفسَّرات واضحَات، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
ثم قال تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد، وللعلماء فيه تفصيل ونزاع؛ فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرًا، وهو الذي لم يتزوج، أو محصنا، وهو الذي قد وَطِئَ في نكاح صحيح، وهو حر بالغ عاقل. فأما إذا كان بكرًا لم يتزوج، فإن حدَّه مائة جلدة (2) كما في الآية ويزاد على ذلك أن يُغرّب عاما [عن بلده] (3) عند جمهور العلماء،خلافا لأبي حنيفة، رحمه الله؛ فإن عنده أن التغريبَ إلى رأي الإمام، إن شاء غَرَّب وإن شاء لم يغرِّب .
وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين، من رواية الزهري، عن عُبَيْد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجُهَنيّ، في الأعرابيين اللذين أتيا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-فقال أحدهما: يا رسول الله، إن ابني كان عَسِيفا -يعني أجيرا -على هذا فزنى بامرأته، فافتديت [ابني[ (4) منه بمائة شاة وَوَليدَة، فسألت أهل العلم، فأخبروني أن (5) على ابني جلد مائة وتغريبَ عام، وأن على امرأة هذا الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم رَدٌّ عليك، وعلى ابنك جَلْدُ مائة وتغريبُ عام. واغد يا أنيس -لرجل من أسلم -إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها". فغدا عليها فاعترفت، فرجمها (6) .
ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا لم يتزوج، فأما إن كان محصنا فإنه يرجم، كما قال الإمام مالك:
__________
(1) في أ: "إلى".
(2) في ف، أ: "جلد مائة".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) زيادة من ف، أ، وصحيحي البخاري ومسلم.
(5) في أ: "إنما".
(6) صحيح البخاري برقم (2314، 6633) وصحيح مسلم برقم (1697).
(6/5)


حدثني ابن شهاب، أخبرنا (1) عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن ابن عباس أخبره أن عمر، رضي الله عنه، قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فإن (2) الله بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها وَوَعَيْناها، وَرَجمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَرَجمْنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى، إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو الحبل، أو الاعتراف.
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا (3) وهذا (4) قطعة منه، فيها مقصودنا هاهنا.
وروى الإمام أحمد، عن هُشَيْم، عن الزهري، عن عُبَيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: حدثني عبد الرحمن بن عوف؛ أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول: ألا وَإنّ أناسا (5) يقولون: ما بالُ الرجم؟ في كتاب الله الجلدُ. وقد رَجَم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَجمَنا بعده. ولولا أن يقول قائلون -أو يتكلم (6) متكلمون -أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه (7) لأثبتها كما نزلت .
وأخرجه النسائي، من حديث عُبَيْد الله بن عبد الله، به (8) .
وقد روى أحمد (9) أيضًا، عن هُشَيْم، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس قال: خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال: لا تُخْدَعُن (10) عنه؛ فإنه حَدٌّ من حدود الله ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورَجمَنا بعده، ولولا أن يقول قائلون: زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه، لكتبت في ناحية من المصحف: وشهد عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وفلان وفلان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده. ألا وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال (11) وبالشفاعة وبعذاب القبر، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتُحِشُوا (12) .
وروى أحمد (13) أيضا، عن يحيى القَطَّان، عن يحيى الأنصاري، عن سعيد بن المسيَّب، عن عمر بن الخطاب (14) : إياكم أن تهَلكوا عن آية الرجم.
الحديث رواه الترمذي، من حديث سعيد، عن عُمَر، وقال: صحيح (15) .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عُبَيْد الله بن عمر القواريري، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا ابن (16) عَوْن، عن محمد -هو ابن سِيرِين -قال: نُبِّئتُ عن كَثِير بن الصلت قال: كنا عند
__________
(1) في ف: "عن".
(2) في ف: "إن".
(3) الموطأ (2/822) وصحيح البخاري برقم (6829،6830) وصحيح مسلم برقم (1691) وهو عندهما بهذا السياق من حديث ابن شهاب الزهري.
(4) في ف، أ: "وهذه".
(5) في ف: "ناسا".
(6) في ف: "ويتكلم".
(7) في أ: "فيه".
(8) المسند (1/29) والنسائي في السنن الكبرى (7154).
(9) في ف، أ: "الإمام أحمد".
(10) في أ: "لا تحيد عنه".
(11) في ف: "والدجال".
(12) المسند (1/23).
(13) في ف، أ: "الإمام أحمد".
(14) في ف، أ: "عمر رضي الله عنه".
(15) المسند (1/36) وسنن الترمذي برقم (1431).
(16) في ف: "أبو".
(6/6)


مروان وفينا زيد، فقال زيد: كنا نقرأ: "والشيخ والشيخة فارجموهما (1) البتة". قال مروان: ألا كتبتَها في المصحف؟ قال: ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب، فقال: أنا أشفيكم من ذلك.قال: قلنا: فكيف؟ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فذكر كذا وكذا، وذكر الرجم، فقال: يا رسول الله، أكْتِبْني آية الرجم: قال: "لا أستطيع الآن". هذا أو نحو (2) ذلك.
وقد رواه النسائي، عن محمد بن المثنى، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جُبَير، عن كَثِير بن الصَّلْت، عن زيد بن ثابت، به (3) .
وهذه طرق كلها متعددة (4) ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها، وبقي حكمها معمولا به، ولله الحمد (5) .
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة، وهي زوجة الرجل الذي استأجر الأجير لما زَنَت مع الأجير. ورجم النبي (6) صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامِدِيَّة. وكل هؤلاء لم يُنقَل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جَلدهم قبل الرجم. وإنما وردت الأحاديث الصِّحَاح المتعددة الطرق والألفاظ، بالاقتصار على رجمهم، وليس فيها ذكر الجلد؛ ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء، وإليه ذهب أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، رحمهم الله. وذهب الإمام أحمد، رحمه الله، إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصَن بين (7) الجلد للآية والرجم للسنة، كما روي، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه لما أتي بشُرَاحة (8) وكانت قد زنت وهي مُحْصَنَةٌ، فجلدها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، ثم قال: جلدتهُا بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى الإمام أحمد ومسلم، وأهل السنن الأربعة، من حديث قتادة، عن الحسن، عن حِطَّان (9) بن عبد الله الرَّقَاشِيّ، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا البِكْر بالبِكْر، جَلْد مائة وتغريب سنة (10) والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم" (11) .
وقوله: { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } أي: في حكم الله. لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله، وليس المنهي عنه (12) الرأفة الطبيعية [ألا تكون حاصلة] (13) على ترك الحد، [وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد] (14) فلا (15) يجوز ذلك.
قال مجاهد: { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال: إقامة الحدود إذا رُفعت إلى السلطان، فتقام ولا تعطل. وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَيْر، وعَطَاء بن أبي رَبَاح. وقد جاء في الحديث:
__________
(1) في ف، أ: "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما".
(2) في ف: "أو نحوه".
(3) النسائي في السنن الكبرى برقم (7148).
(4) في ف، أ: "متعاضدة".
(5) في ف، أ: "والله أعلم".
(6) في ف، أ: "رسول الله"
(7) في أ: "من".
(8) في أ: "بسراجة".
(9) في أ: "عطاء".
(10) في أ: "عام"
(11) المسند (5/317) وصحيح مسلم برقم (1690) وسنن أبي داود برقم (4416) وسنن الترمذي برقم (1434) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11092) وسنن ابن ماجه برقم (2550).
(12) في ف: "النهي عن"
(13) زيادة من ف،أ
(14) زيادة من ف،أ
(15) في ف: "فإنه لا".
(6/7)


"تعافَوُا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حَدٍّ فقد وَجَب" (1) . وفي الحديث الآخر: "لَحَدٌّ يقام في الأرض، خير لأهلها من أن يُمطَروا أربعين صباحا" (2) .
وقيل: المراد: { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فلا تقيموا الحد كما ينبغي، من شدة الضرب الزاجر عن المأثم، وليس المراد الضرب المبرِّح.
قال عامر الشعبي: { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال: رحمة (3) في شدة الضرب. وقال عطاء: ضرب ليس بالمبرِّح. وقال سعيد بن أبي عَرُوُبة، عن حماد بن أبي سليمان: يجلد (4) القاذف وعليه ثيابه، والزاني تخلع ثيابه، ثم تلا { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فقلت: هذا في الحكم؟ قال: هذا في الحكم والجلد -يعني في إقامة الحد، وفي شدة الضرب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأوْدِيّ (5) حدثنا وَكيع، عن نافع، [عن] (6) ابن عمرو، عن (7) ابن أبي مُلَيْكَة، عن عبيد الله (8) بن عبد الله بن عمر: أن جارية لابن عمر زنت، فضرب رجليها -قال نافع: أراه قال: وظهرها -قال: قلت: { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال: يا بني، ورأيتَني أخَذَتْني بها رأفة؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها، ولا أن أجعل جَلدها في رأسها، وقد أوجعت حيث ضربت (9) .
وقوله: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي: فافعلوا ذلك: أقيموا الحدود على من زنى، وشددوا عليه الضرب، ولكن ليس مبرِّحا؛ ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك. وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال: يا رسول الله، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال: "ولك في ذلك أجر" (10) .
وقوله: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } : هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جُلِدا بحضرة الناس، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، فإن في ذلك تقريعًا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا .
قال الحسن البصري في قوله: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } يعني: علانية.
ثم قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } الطائفة: الرجل فما فوقه.
وقال مجاهد: الطائفة: رجل إلى الألف. وكذا قال عكرمة؛ ولهذا قال أحمد: إن الطائفة تصدُق على واحد.
وقال عطاء بن أبي رباح: اثنان. وبه قال إسحاق بن رَاهَويه. وكذا قال سعيد بن جبير: { طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال: يعني: رجلين فصاعدا .
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (4376) والنسائي في السنن (8/70) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
(2) المسند (2/362) والنسائي في السنن (8/75) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(3) في ف، أ: "رحمة الله".
(4) في أ: "نجلد".
(5) في ف: "الأزدي" وفي أ: "الأرزمي".
(6) زيادة من جـ، أ.
(7) في ف، أ: "وعن".
(8) في ف، أ: "عبد الله".
(9) ورواه الطبري في تفسيره (18/52) من طريق نافع، عن ابن عمر فذكره.
(10) المسند (3/436) من حديث قرة المزني، رضي الله عنه.
(6/8)


الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
وقال الزهري: ثلاث نفر فصاعدا .
وقال عبد الرزاق: حدثني ابن وَهْب، عن الإمام مالك في قوله: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال: الطائفة: أربعة نفر فصاعدا؛ لأنه لا يكون شهادة في الزنى دون أربعة شهداء فصاعدًا. وبه قال الشافعي .
وقال ربيعة: خمسة. وقال الحسن البصري: عشرة. وقال قتادة: أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، أي: نفر من المسلمين؛ ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان، حدثنا بَقِيَّةُ قال: سمعت نصر بن علقمة في قوله: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال: ليس ذلك للفضيحة، إنما ذلك ليدعى اللهُ تعالى لهما بالتوبة والرحمة.
{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) }
هذا خَبَر من الله تعالى بأن الزاني لا يَطأ إلا زانية أو مشركة. أي: لا يطاوعه على مراده من الزنى إلا زانية عاصية أو مشركة، لا ترى حرمة ذلك، وكذلك: { الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ } أي: عاص بزناه، { أَوْ مُشْرِكٌ } لا يعتقد تحريمه .
قال سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي عَمَرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } قال: ليس هذا بالنكاح، إنما هو الجماع، لا يزني بها إلا زانٍ أو مشرك .
وهذا إسناد صحيح عنه، وقد رُوي عنه من غير وجه أيضا. وقد رُوي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعُرْوَة بن الزبير، والضحاك، ومكحول، ومُقَاتِل بن حَيَّان، وغير واحد، نحوُ ذلك .
وقوله تعالى: { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } أي: تعاطيه والتزويج بالبغايا، أو تزويج العفائف بالفجار من الرجال.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا قَيْس، عن أبي حُصَين، عن سعيد بن جُبَيْرٍ، عن ابن عباس: { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } قال: حَّرم الله الزنى على المؤمنين.
وقال قتادة، ومقاتل بن حَيّان: حرم الله على المؤمنين نكاح البغايا، وتَقَدّم في ذلك فقال: { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
وهذه الآية كقوله تعالى: { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } [النساء : 25] وقوله { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } الآية [المائدة : 5] ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت
(6/9)


كذلك حتى تستتاب، فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح، حتى يتوب توبة صحيحة؛ لقوله تعالى: { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم (1) ، حدثنا مُعْتَمِر بن سليمان قال: قال أبي: حدثنا الحضرمي، عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عَمْرو، رضي الله عنهما، أن رجلا من المسلمين استأذنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها: "أم مهزول" كانت تسافح، وتشترط له أن تنفق عليه -قال: فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو: ذكر له أمرها -قال: فقرأ عليه رسول (2) الله صلى الله عليه وسلم: { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (3) .
وقال النسائي: أخبرنا عمرو بن علي، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحضرمي، عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عمرو قال: كانت امرأة يقال لها: "أم مهزول" وكانت تسافح، فأراد رجل من أصحاب رسول (4) الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، فأنزل الله عز وجل: { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (5) .
[و] (6) قال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا روح بن عُبَادة بن عُبَيد الله بن الأخنس، أخبرني عمرو بن شُعَيب عن أبيه، عن جده قال: كان رجل يقال له "مَرْثَد بن أبي مرثد" وكان رجلا يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة. قال: وكانت امرأةٌ بَغي (7) بمكة يقال لها "عَنَاق"، وكانت صديقة له، وأنه واعد (8) رجلا من أسارى مكة يحمله. قال: فجئت حتى انتهيتُ إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال: فجاءت "عناق" فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط، فلما انتهت إليّ عرفتني (9) ، فقالت: مَرْثَد؟ فقلت: مرثد فقالت: مرحبًا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة. قال: فقلت (10) يا عناق، حرم الله الزنى. فقالت (11) يا أهل الخيام، هذا الرجل يحمل أسراكم. قال: فتبعني ثمانية ودخلت الحَندمة (12) فانتهيت إلى غار -أو كهف فدخلت فيه (13) فجاءوا حتى قاموا على رأسي فبالوا، فظل بولهم على رأسي، فأعماهم الله عني -قال: ثم رجعوا، فرجعت إلى صاحبي فحملته، وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخَر، ففككت عنه أكبُله، (14) فجعلت أحمله ويعِينني، حتى أتيت به (15) المدينة، فأتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أنكح عناقا؟ أنكح عناقا؟ -مرتين-فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرد علي شيئا، حتى نزلت { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا مرثد، { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ] } (16)
__________
(1) في ف، أ: "عارم بن الفضل".
(2) في ف، أ: "نبي".
(3) المسند (2/159).
(4) في ف: "النبي".
(5) النسائي في السنن الكبرى برقم (11359).
(6) زيادة في ف، أ.
(7) في أ: "تغني".
(8) في ف: "وعد"
(9) في ف، أ: "عرفت".
(10) في ف: "قلت".
(11) في ف: "قالت".
(12) في ف، أ: "الحديقة".
(13) في أ: "به".
(14) في أ: "أكليلة" .
(15) في ف: "قدمت".
(16) زيادة من ف، أ.
(6/10)


فلا تنكحها" ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وقد رواه أبو داود والنسائي، في كتاب النكاح من سننهما (1) من حديث عبيد الله بن الأخنس، به (2) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مُسَدَّد أبو الحسن، حدثنا عبد الوارث، عن حبيب المعلم، حدثني عمرو بن شعيب، عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله" .
وهكذا أخرجه أبو داود في سننه، عن مسدد وأبي معمر -عبد الله بن عمرو -كلاهما، عن عبد الوارث، به (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن أخيه عمر بن محمد، عن عبد الله بن يسار -مولى ابن عمر -قال: أشهد لسمعت سالما يقول: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة -المتشبهة بالرجال -والديوث. وثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومُدْمِن الخمر، والمنَّان بما أعطى" .
ورواه النسائي، عن عمرو بن علي الفلاس، عن يزيد بن زُرَيع، عن عُمَر بن محمد العُمَري، عن عبد الله بن يسار، به (4) .
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، حدثنا الوليد بن كثير، عن قَطَن بن وهب، عن عُوَيْمر بن الأجدع، عمن حدثه، عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: حدثني عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والدَّيُّوث الذي يقر في أهله الخبث" (5) .
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة، حدثني رجل -من آل سهل بن حُنَيْف -، عن محمد بن عَمَّار، عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة دَيُّوث" (6) .
يستشهد به لما قبله من الأحاديث .
وقال ابن ماجه: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا سَلام بن سَوَّار، حدثنا كَثِير بن سُلَيم، عن الضحاك بن مُزَاحِم: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول] (7) " من أراد أن يلقى الله طاهرًا مُطَهَّرًا، فليتزوج الحرائر" .
__________
(1) في ف: "سننيهما"
(2) سنن الترمذي برقم (3177) وسنن أبي داود برقم (2051) وسنن النسائي (6/66).
(3) سنن أبي داود برقم (2052).
(4) المسند (2/134) وسنن النسائي (8/80).
(5) المسند (2/69) وقال الهيثمي في المجمع (8/147): "فيه راوٍ لم يسم".
(6) مسند الطيالسي برقم (642).
(7) زيادة من ف، أ.
(6/11)


في إسناده ضعف (1) .
قال الإمام أبو نصر إسماعيل بن حَمَّاد الجوهري في كتاب "الصحاح في اللغة:" الدَّيُّوث القُنذُع وهو الذي لا غَيرَةَ له (2) .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب "النكاح" من (3) سننه: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن عُلَيَّة، عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة وغيره، عن هارون ابن رئاب، عن عبد الله بن عُبَيد بن عمير -وعبد الكريم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس -عبدُ الكريم رفعه إلى ابن عباس، وهارون لم يرفعه -قالا جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي امرأة [هي] (4) من أحبِّ الناس إلي (5) وهي لا تمنع يد لامِس قال: "طلقها". قال: لا صبر لي عنها قال: "استمتع بها" ، ثم قال النسائي: هذا الحديث غير ثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون أثبت منه، وقد أرسل الحديث وهو ثقة، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم. (6) .
قلت: وهو ابن أبي المخارق البصري المؤدب تابعي ضعيف الحديث، وقد خالفه هارون بن رئاب، وهو تابعي ثقة من رجال مسلم، فحديثه المرسل أولى كما قال النسائي. لكن قد رواه النسائي في كتاب "الطلاق"، عن إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شمَُيل (7) عن حماد بن سلمة، عن هارون بن رئاب، عن عبد الله بن عُبَيد بن عمير، عن ابن عباس مسندا، فذكره بهذا الإسناد، رجاله على شرط مسلم، إلا أن النسائي بعد روايته له قال: "وهذا خطأ، والصواب مرسل" (8) ورواه غير النضر على الصواب.
وقد رواه النسائي أيضا وأبو داود، عن الحسين بن حُرَيث، أخبرنا الفضل بن موسى، أخبرنا الحسين بن واقد، عن عُمَارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وهذا إسناد جيد (9) .
وقد اختلف الناس في هذا الحديث ما بين مُضَعِّف له، كما تقدَّم، عن النسائي، وكما قال الإمام أحمد: هو حديث منكر.
وقال ابن قتيبة: إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلا . وحكاه النسائي في سننه، عن بعضهم فقال: وقيل: "سخية تعطي"، ورُدّ هذا بأنه لو كان المراد لقال: لا تَرُدّ يد ملتمس.
__________
(1) سنن ابن ماجه برقم (1862) ووجه ضعف إسناده؛ لأن فيه كثير بن سليم، وهو ضعيف، وسلام هو ابن سليمان بن سوار المدائني، قال ابن عدي: "عنده مناكير" وقال العقيلي: "في حديثه مناكير" قال ذلك البوصيري في مصباح الزجاجة (2/73).
(2) الصحاح (1/282).
(3) في ف، أ: "في.
(4) زيادة من ف، أ، والنسائي.
(5) في ف: "لي".
(6) سنن النسائي (6/67)
(7) في ف، أ: "إسماعيل".
(8) سنن النسائي (6/170).
(9) سنن النسائي (6/169).
(6/12)


وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
وقيل: المراد أن سجيتها لا تَرُدّ يد لامس، لا أن المراد أن هذا واقع منها، وأنها تفعل الفاحشة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها. فإن زوجها -والحالة هذه -يكون دَيّوثا، وقد تقدم الوعيد على ذلك. ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد، أمره رسولُ صلى الله عليه وسلم بفراقها. فلما ذكر أنه يحبها أباح له البقاء معها؛ لأن محبته لها محققة، ووقوع الفاحشة منها متوهم (1) فلا يُصَار إلى الضرر العاجل لتوهم الآجل، والله سبحانه وتعالى أعلم .
قالوا: فأما إذا حصلت توبة فإنه يحل التزويج، كما قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله:
حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو خالد، عن ابن أبي ذئب، قال: سمعت [شعبة] (2) -مولى ابن عباس، رضي الله عنه -قال: سمعت ابن عباس وسأله رجل قال (3) :إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حَرّم الله عز وجل عليّ، فرزق الله عز وجل من ذلك توبة، فأردت أن أتزوجها، فقال أناس: إن الزاني لا ينكح إلا زانية. فقال ابن عباس: ليس هذا في هذا، انكحها فما كان من إثم فعلي .
وقد ادعى طائفة آخرون من العلماء أن هذه الآية منسوخة، قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد ابن المسيب. قال: ذُكر عنده { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } قال: كان يقال: نسختها [الآية] (4) التي بعدها: { وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ } [النور : 32] قال: كان يقال الأيامى من المسلمين.
وهكذا رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الناسخ والمنسوخ" له، عن سعيد بن المسيب. ونص على ذلك أيضا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله .
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة، وهي الحرة البالغة العفيفة، فإذا كان المقذوف رجلا فكذلك يجلد قاذفه أيضًا، ليس في هذا نزاع بين العلماء. فأما إن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله، رُدّ عنه الحد؛ ولهذا قال تعالى: { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ، فأوجب على القاذف إذا لم يقم بينة على
__________
(1) في أ: "يتوهم".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في أ: "فقال".
(4) زيادة من ف، أ.
(6/13)


وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
صحة ما قاله ثلاثة أحكام:
أحدها: أن يجلد ثمانين جلدة.
الثاني: أنه (1) ترد شهادته دائما.
الثالث: أن يكون فاسقًا ليس بعدل، لا عند الله ولا عند الناس .
ثم قال تعالى: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، اختلف العلماء في هذا الاستثناء: هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط فترفع التوبة الفسق فقط، ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب، أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة ؟ وأما الجلد فقد ذهب وانقضى، سواء تاب أو أصر، ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف -فذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته، وارتفع عنه حكم الفسق. ونص عليه سعيد بن المسيب -سيد التابعين -وجماعة من السلف أيضًا.
وقال الإمام أبو حنيفة: إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط، فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة أبدًا. وممن ذهب إليه من السلف القاضي -شُرَيح، وإبراهيم النَّخَعِيّ، وسعيد بن جُبَيْر، ومكحول، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (2) .
وقال الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته وإن تاب، إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان، فحينئذ تقبل شهادته، والله أعلم .
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) }
هذه الآية الكريمة فيها فَرَج للأزواج وزيادة مخرج، إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة، أن يلاعنها، كما أمر الله عز وجل (3) وهو أن يحضرها إلى الإمام، فيدعي عليها بما رماها به، فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء، { إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } أي: فيما رماها به من الزنى، { وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } فإذا قال ذلك، بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وحرمت عليه أبدًا، ويعطيها مهرها، ويتوجه عليها حد الزنى، ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن، فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، أي: فيما رماها به، { وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ولهذا قال: { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ }
__________
(1) في ف: "أن".
(2) في ف: "جابر".
(3) في أ: "الله تعالى".
(6/14)


يعني: الحد، { أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فخصها بالغضب، كما أن الغالب أن الرجل لا ا فضيحة أهله ورميها بالزنى إلا وهو صادق معذور، وهي تعلم صدقه فيما رماها به. ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب الله عليها. والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه.
ثم ذكر تعالى لطفه بخلقه، ورأفته بهم، وشرعه (1) لهم الفرج والمخرج من شدة ما يكون فيه من الضيق، فقال: { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي: لحرجتم (2) ولشق عليكم كثير من أموركم، { وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ } [أي] (3) : على عباده -وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة-{ حَكِيمٌ } فيما يشرعه (4) ويأمر به وفيما ينهى عنه.
وقد وردت الأحاديث بمقتضى العمل بهذه الآية، وذكر سبب نزولها، وفيمن نزلت فيه من الصحابة، فقال الإمام أحمد:
حدثنا يزيد، أخبرنا عَبَّاد بن منصور، عن عكْرمَة، عن ابن عباس قال: لما نزلت: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } ، قال سعد بن عبادة -وهو سيد الأنصار -: هكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" : يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟" قالوا: يا رسول الله، لا تَلُمه فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قَطّ [إلا بكرًا، وما طلق امرأة له قط] (5) فاجترأ رجل منا أن يتزوجها، من شدة غيرته. فقال سعد: والله -يا رسول الله -إني لأعلم أنها حق وأنها من الله، ولكني قد تعجَبت أني لو وجدت لَكاعًا قد تَفَخَّذها رجل، لم يكن لي أن أهيّجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته. قال: فما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية -وهو أحد الثلاثة الذين تِيبَ عليهم -فجاء من أرضه عشاء، فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، فلم يُهَيّجه حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء، فوجدتُ عندها رجلا فرأيت بعيني، وسمعت بأذني. فَكَرِهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به، واشتدّ عليه، واجتمعت الأنصار فقالوا (6) : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة، الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلالَ بن أمية، ويبْطل شهادته في المسلمين (7) . فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجًا. وقال هلال: يا رسول الله، إني قد أرى ما اشتد عليك مما (8) جئت به، والله يعلم إني لصادق . فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه، إذ أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي -وكان إذا نزل عليه الوحي عرفوا ذلك، في تَرَبُّد وجهه (9) . يعني: فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي -فنزلت: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } (10) الآية، فَسُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أبشر يا هلال، قد جعل الله لك فرجًا ومخرجًا". فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي، عز وجل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلوا إليها".
__________
(1) في ف، أ: "في شرعه".
(2) في ف: "خرجتم".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في أ: "فيما شرعه".
(5) زيادة من ف، أ، والمسند.
(6) في ف: "فقالت".
(7) في هـ: "ويبطل شهادته في الناس" والمثبت من ف، أ، والمسند.
(8) في ف: "فيما".
(9) في أ: "جلده".
(10) في ف، أ: (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله).
(6/15)


فأرسلوا إليها، فجاءت، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما، وذكرهما وأخبرهما أن عذابَ الآخرة أشدّ من عذاب الدنيا. فقال هلال: والله -يا رسول الله -لقد صَدَقتُ عليها . فقالت: كذب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاعنوا بينهما" . فقيل لهلال: اشهد. فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كان في الخامسة قيل له: يا هلال، اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبةُ التي توجب عليك العذاب. فقال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها. فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم قيل [لها: اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل] (1) لها: اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبةُ التي توجب عليك العذاب. فتلكأت ساعة، ثم قالت: والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى ألا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد، وقضى ألا [بيت لها عليه ولا] (2) قوت لها، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا مُتَوَفى عنها. وقال: "إن جاءت به أصَيْهِب أرَيسح حَمْش الساقين فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جَعدًا جَمَاليًّا خَدلَّج الساقين سابغ الأليتين، فهو الذي رميت به" فجاءت به أورق جعدا جماليًّا خدلج الساقين سابغ الأليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن".
قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرًا على مصر، وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب.
ورواه أبو داود عن الحسن بن عليّ، عن يزيد (3) بن هارون، به نحوه مختصرًا (4) .
ولهذا الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة. فمنها ما قال البخاري: حدثني محمد بن بَشَّار، حدثنا ابن أبي عَدِيّ، عن هشام بن حسان، حدثني عِكْرِمَة، عن ابن عباس؛ أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشَرِيك بن سَحْماء، فقال رسول الله (5) صلى الله عليه وسلم: " البينة أو حَدُّ في ظهرك" فقال: يا رسول الله، إذا أري (6) أحدنا على امرأته رجلا ينطلقُ يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "البينة وإلا حدّ في ظهرك". فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن (7) الله ما يُبرئ ظهري (8) من الحد. فنزل جبريل، وأنزل (9) عليه: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } ، فقرأ حتى بلغ: { إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الله يشهد أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب"؟ ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وَقَّفُوها وقالوا: إنها مُوجبة. قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم. فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبْصِرُوها، فإن جاءت به أكحلَ العينين، سابغ الأليتين، خَدَلَّج الساقين، فهو لشَرِيك بن سَحْمَاءَ". فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن" .
__________
(1) زيادة من ف، أ، والمسند.
(2) زيادة من ف،أ، والمسند.
(3) في ف: "زيد".
(4) المسند (1/238) وسنن أبي داود برقم (2256).
(5) [في ف، أ: "النبي".
(6) في ف، أ: "رأى".
(7) في ف: "ولينزل".
(8) في ف: "ما يطهرني".
(9) في ف: "فأنزل".
(6/16)


انفرد به البخاري من هذا الوجه (1) وقد رواه من غير وجه، عن ابن عباس وغيره.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الزيادي (2) حدثنا يونس بن محمد، حدثنا صالح -وهو ابن عمر -حدثنا عاصم -يعني: ابن كُلَيْب -، عن أبيه، حدثني ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله، فرمى امرأته برجل، فكره ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يُرَدّده حتى أنزل الله: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ [إِلا أَنْفُسُهُمْ ] } (3) [فقرأ] (4) حتى فرغ من الآيتين، فأرسل إليهما فدعاهما، فقال: "إن الله، عَزّ وجل، قد أنزل فيكما". فدعا الرجل فقرأ عليه، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه، فقال له:"كل شيء أهون عليه من لعنة الله". ثم أرسله فقال: { لَعْنتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } ثم دعاها بها، فقرأ عليها، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها، وقال: "ويحك. كل شيء أهون من غضب الله". ثم أرسلها، فقالت: { غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله لأقضينّ بينكما قضاء فصلا". قال: فولدت، فما رأيت مولودًا بالمدينة أكثر غاشية منه، فقال: "إن جاءت به لكذا وكذا فهو كذا، وإن جاءت به لكذا وكذا فهو لكذا". فجاءت به يشبه الذي قُذفت به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال: سمعت سعيد بن جُبَير قال: سُئلْتُ عن المتلاعنين أيفرّق بينهما -في إمارة ابن الزبير؟ فما دَرَيتُ ما أقول، فقمت من مكاني إلى منزل ابن عمر فقلتُ: أبا عبد الرحمن، المتلاعنان أيفرق بينهما؟ فقال: سبحان الله، إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان فقال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يرى امرأته على فاحشة فإن تَكَلَّم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك. فسكت فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: الذي سألتك عنه قد ابتُليت به. فأنزل الله عز وجل هذه الآيات (5) في سورة النور: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } حتى بلغ: { أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } . فبدأ بالرجل فوعظه وذكَّره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، فقال: والذي بعثك بالحق ما كَذَبْتُك. ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذَكَّرها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: والذي بعثك بالحق (6) إنه لكاذب. قال: فبدأ بالرجل، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فَرَّقَ بينهما.
رواه النسائي في التفسير، من حديث عبد الملك بن أبي سليمان، به (7) وأخرجاه في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس (8) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عَوَانة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4747)
(2) في أ: "الرمادي".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "الآية".
(6) زيادة من ف، أ. في ف، أ: "والذي بعثك بالحق ما كذبتك".
(7) المسند (2/19) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11357).
(8) صحيح البخاري برقم (5312) وصحيح مسلم برقم (1493).
(6/17)


علقمة، عن عبد الله قال: كنَّا جلوسًا عشية الجمعة في المسجد، فقال رجل من الأنصار: أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت عن غيظ؟ والله لَئن أصبحت صالحًا لأسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فسأله. فقال: يا رسول الله، إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ؟ اللهم احكم. قال: فأنزل آية اللعان، فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به.
انفرد بإخراجه مسلم، فرواه من طُرُق، عن سليمان بن مِهْران الأعمش، به (1) .
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو كامل: حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سهل بن سعد، قال: جاء عُوَيْمر إلى عاصم بن عَدِيّ فقال: سَلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت رجلا وجد رجلا مع امرأته فقتله، أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعابَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم المسائل. قال: فلقيه عُوَيمر فقال: ما صنعْتَ؟ قال: ما صنعت! إنك لم تأتني بخير؛ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب المسائل فقال عُوَيمر: والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلأسألنه. فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيهما. قال: فدعا بهما فَلاعَن بينهما. قال عُوَيمر: لئن انطلقتُ بها يا رسول الله لقد كذبت عليها. قال: ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة المتلاعنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبصروها، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين، فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وَحَرَة فلا أراه إلا كاذبًا" . فجاءت به على النعت المكروه.
أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا الترمذي، من طرق، عن الزهري، به (2) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إسحاق بن الضيف، حدثنا النضر بن شُمَيْل، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن زيد (3) بن يُثَيْع، عن حذيفة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به؟ قال: كنت والله فاعلا به شرًا. قال:"فأنتَ يا عمر؟". قال: كنتُ والله فاعلا كنت أقول: لعن الله الأعجز، وإنه خبيث. قال: فنزلت: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ }
ثم قال: لا نعلم أحدًا أسنده إلا النَّضر بن شُميْل، عن يونس بن أبي إسحاق، ثم رواه من حديث الثوري عن [أبي] (4) أبي إسحاق، عن زيد بن يُثَيْع مرسلا فالله أعلم (5) .
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجَرْمي، حدثنا مُخَلَّدُ بن الحسين، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: لأول لعان كان في الإسلام أن شَرِيكَ بن سَحْمَاء قذَفه هلال بن أمية بامرأته، فرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أربعة شهود وإلا فَحَدٌّ في ظهرك" ، فقال: يا رسول الله، إن الله يعلم إني لصادق، ولينزلن الله عليك ما يبرئ به ظهري من الجلد. فأنزل الله آية اللعان: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ } إلى آخر الآية. قال: فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى" فشهد بذلك أربع
__________
(1) المسند (1/421) وصحيح مسلم برقم (1495).
(2) المسند (5/334) وصحيح البخاري برقم (4745) وصحيح مسلم برقم (1492) وسنن أبي داود برقم (2245) وسنن النسائي (6/143) وسنن ابن ماجه برقم (2066).
(3) في أ: "يزيد".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) مسند البزار برقم (2237) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/74): "رجاله ثقات".
(6/18)


شهادات، ثم قال له في الخامسة: "ولعنة الله عليك إن كنتَ من الكاذبين فيما رميتها به من الزنى"، ففعل. ثم دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قومي فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنى". فشهدت بذلك أربع شهادات، ثم قال لها في الخامسة: "وغَضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنى" ، فقالت: فلما كانت الرابعة أو الخامسة سكتت سكتة، حتى ظنوا أنها ستعترف، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم. فمضت على القول، ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقال: "انظروه، فإن جاءت به جَعْدًا حَمْشَ الساقين، فهو لشَرِيك بن سَحْماء، وإن جاءت به أبيض سبطا فَضيء (1) العينين فهو لهلال بن أمية". فجاءت به آدَمَ جَعَدًا حَمْش الساقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا ما نزل فيهما من كتاب الله، لكان لي ولها شأن" (2) .
__________
(1) في أ: "قضي قصير".
(2) مسند أبي يعلى (5/207) ورواه مسلم في صحيحه برقم (1496) من طريق هشام، عن محمد، به
===================







النور - تفسير القرطبي




















تفسير سورة النور
...
سورة النور
الآية: 1 {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة: "علموا نساءكم سورة النور". وقالت عائشة رضي الله عنها: "لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور والغزل". {وَفَرَضْنَاهَا} قرئ بتخفيف الراء؛ أي فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام. وبالتشديد: أي أنزلنا فيها فرائض مختلفة. وقرأ أبو عمرو: {وَفَرَضْنَاهَا} بالتشديد أي قطعناها في الإنزال نجما نجما. والفرض القطع، ومنه فرضة القوس. وفرائض الميراث وفرض النفقة. وعنه أيضا {فَرَضْنَاهَا} فصلناها وبيناها. وقيل: هو على التكثير؛ لكثرة ما فيها من الفرائض. والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة؛ ولذلك سميت السورة من القرآن سورة. قال زهير:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
وقد مضى في مقدمة الكتاب القول فيها. وقرئ {سُورَةٌ} بالرفع على أنها مبتدأ وخبرها {أَنْزَلْنَاهَا} ؛ قاله أبو عبيدة والأخفش. وقال الزجاج والفراء والمبرد: {سُورَةٌ} بالرفع لأنها خبر الابتداء؛ لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع، أي هذه سورة. ويحتمل أن يكون قوله {سُورَةٌ} ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك، ويكون الخبر في قوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} . وقرئ "سورةً" بالنصب، على تقدير أنزلنا سورة أنزلناها. وقال الشاعر
(12/158)


والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أو تكون منصوبة بإضمار فعل أي اتل سورة. وقال الفراء: هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه.
الآية: 2 {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
فيه اثنان وعشرون مسألة:-
الأولى: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} كان الزنى في اللغة معروفا قبل الشرع، مثل اسم السرقة والقتل. وهو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها. وإن شئت قلت: هو إدخال فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا؛ فإذا كان ذلك وجب الحد. وقد مضى الكلام في حد الزنى وحقيقته وما للعلماء في ذلك. وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة "النساء" باتفاق.
الثانية: قوله تعالى: {مِائَةَ جَلْدَةٍ} هذا حد الزاني الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية البالغة البكر الحرة. وثبت بالسنة تغريب عام؛ على الخلاف في ذلك. وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وهذا في الأمة، ثم العبد في معناها. وأما المحصن من الأحرار فعليه الرجم دون الجلد. ومن العلماء من يقول: يجلد مائة ثم يرجم. وقد مضى هذا كله ممهدا في "النساء" فأغنى عن إعادته، والحمد لله.
الثالثة: قرأ الجمهور {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} بالرفع. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي {الزَّانِيَةُ} بالنصب، وهو أوجه عند سيبويه؛ لأنه عنده كقولك: زيدا اضرب. ووجه الرفع عنده:
(12/159)


خبر ابتداء، وتقديره: فيما يتلى عليكم [حكم] الزانية والزاني. وأجمع الناس على الرفع وإن كان القياس عند سيبويه النصب. وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه، والخبر في قوله: {فَاجْلِدُوا} لأن المعنى: الزانية والزاني مجلودان بحكم الله وهو قول جيد وهو قول أكثر النحاة. وإن شئت قدرت الخبر: ينبغي أن يجلدا. وقرأ ابن مسعود {والزان} بغير ياء.
الرابعة: ذكر الله سبحانه وتعالى الذكر والأنثى، والزاني كان يكفي منهما؛ فقيل: ذكرهما للتأكيد كما قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. ويحتمل أن يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظان أن الرجل لما كان هو الواطئ والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حد فذكرها رفعا لهذا الإشكال الذي أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعي. فقالوا: لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان؛ لأنه قال جامعت أهلي في نهار رمضان؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "كفر" . فأمره بالكفارة، والمرأة ليس بمجامعة ولا واطئة.
الخامسة: قدمت {الزَّانِيَةُ} في الآية من حيث كان في ذلك الزمان زنى النساء فاش وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات، وكن مجاهرات بذلك. وقيل: لأن الزنى في النساء أعر وهو لأجل الحبل أضر. وقيل: لأن الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب فصدرها تغليظا لتردع شهوتها وإن كان قد ركب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله. وأيضا فإن العار بالنساء ألحق إذ موضوعهن الحجب والصيانة فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما.
السادسة: الألف واللام في قول {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} للجنس، وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة. ومن قال بالجلد مع الرجم قال: السنة جاءت بزيادة حكم فيقام مع الجلد. وهو قول إسحاق بن راهويه والحسن بن أبي الحسن، وفعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه بشراحة وقد مضى في "النساء" بيانه. وقال الجمهور: هي خاصة في البكرين، واستدلوا على أنها غير عامة بخروج العبيد والإماء منها
(12/160)


السابعة: نص الله سبحانه وتعالى على ما يجب على الزانيين إذا شُهد بذلك عليهما على ما يأتي وأجمع العلماء على القول به. واختلفوا فيما يجب على الرجل يوجد مع المرأة في ثوب واحد فقال إسحاق بن راهويه: يضرب كل واحد منهما مائة جلدة. وروي ذلك عن عمر وعلى وليس يثبت ذلك عنهما. وقال عطاء وسفيان الثوري: يؤدبان. وبه قال مالك وأحمد على قدر مذاهبهم في الأدب. قال ابن المنذر: والأكثر ممن رأيناه يرى على من وجد على هذه الحال الأدب. وقد مضى في "هود" اختيار ما في هذه المسألة، والحمد لله وحده.
الثامنة: قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} دخلت الفاء لأنه موضع أمر والأمر مضارع للشرط. وقال المبرد: فيه معنى الجزاء، أي إن زنى زان فافعلوا به كذا، ولهذا دخلت الفاء؛ وهكذا {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
التاسعة: لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ناب منابه. وزاد مالك والشافعي: السادة في العبيد. قال الشافعي: في كل جلد وقطع. وقال مالك: في الجلد دون القطع. وقيل: الخطاب للمسلمين لأن إقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين، ثم الإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود.
العاشرة: أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب. والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطا بين سوطين. لا شديدا ولا لينا. وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: "فوق هذا" فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال: "دون هذا" فأتي بسوط قد ركب به ولان. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد..." الحديث. قال أبو عمر: هكذا روى الحديث مرسلا جميع
(12/161)


رواة الموطأ ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ بوجه من الوجوه، وقد روى معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء. وقد تقدم في {المائدة} ضرب عمر قدامة في الخمر بسوط تام. يريد وسطا.
الحادية عشرة: اختلف العلماء في تجريد المجلود في الزنى؛ فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: يجرد، ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب. وقال الأوزاعي: الإمام مخير إن شاء جرد وإن شاء ترك. وقال الشعبي والنخعي: لا يجرد ولكن يترك عليه قميص. قال ابن مسعود: لا يحل في الأمة تجريد ولا مد وبه فال الثوري.
الثانية عشرة: اختلف العلماء في كيفية ضرب الرجال والنساء؛ فقال مالك: الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء لا يقام واحد منهما؛ ولا يجزى عنده إلا في الظهر. وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال الليث وأبو حنيفة والشافعي: الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه. وحكاه المهدوي في التحصيل عن مالك. وينزع عنه الحشو والفرو. وقال الشافعي: إن كان مده صلاحا مد.
الثالثة عشرة: واختلفوا في المواضع التي تضرب من الإنسان في الحدود؛ فقال مالك: الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر، وكذلك التعزير. وقال الشافعي وأصحابه: يتقى الوجه والفرج وتضرب سائر الأعضاء؛ وروي عن علي. وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى. قال ابن عطية: والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل. واختلفوا في ضرب الرأس فقال الجمهور: يتقى الرأس. وقال أبو يوسف: يضرب الرأس. وروي عن عمر وابنه فقالا: يضرب الرأس. وضرب عمر رضي الله عنه صبيا في رأسه وكان تعزيرا لا حدا. ومن حجة مالك ما أدرك عليه الناس، وقوله عليه السلام: "البينة وإلا حد في ظهرك" وسيأتي.
(12/162)


الرابعة عشرة: الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلما لا يجرح ولا يبضع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه. وبه قال الجمهور، وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما. وأتي عمر رضي الله عنه برجل في حد فأتي بسوط بين سوطين وقال للضارب: اضرب ولا يرى إبطك وأعط كل عضو حقه. وأتي رضي الله عنه بشارب فقال: لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة فبعثه إلى مطيع بن الأسود العدوي فقال: إذا أصبحت الغد فاضربه الحد فجاء عمر رضي الله عنه وهو يضربه ضربا شديدا فقال: قتلت الرجل كم ضربته؟ فقال ستين؛ فقال: أقص عنه بعشرين. قال أبو عبيدة: "أقص عنه بعشرين" يقول: اجعل شدة هذا الضرب الذي ضربته قصاصا بالعشرين التي بقيت ولا تضربه العشرين. وفي هذا الحديث من الفقه أن ضرب الشارب ضرب خفيف. وقد اختلف العلماء في أشد الحدود ضرباوهي:
الخامسة عشرة: فقال مالك وأصحابه والليث بن سعد: الضرب في الحدود كلها سواء ضرب غير مبرح؛ ضرب بين ضربين. هو قول الشافعي رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: التعزير أشد الضرب؛ وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف. وقال الثوري: ضرب الزنى أشد من ضرب القذف، وضرب القذف أشد من ضرب الخمر. احتج مالك بورود التوقيف عل عدد الجلدات، ولم يرد في شيء منها تخفيف ولا تثقيل عمن يجب التسليم له. احتج أبو حنيفة بفعل عمر، فإنه ضرب في التعزير ضربا أشد منه في الزنى. احتج الثوري بأن الزنى لما كان أكثر عددا في الجلدات استحال أن يكون القذف أبلغ في النكاية. وكذلك الخمر؛ لأنه لم يثبت الحد إلا بالاجتهاد، وسبيل مسائل الاجتهاد لا يقوي قوة مسائل التوقيف.
السادسة عشرة: الحد الذي أوجب الله في الزنى والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي أن يقام بين أيدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم يختارهم الإمام لذلك. وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شيء من ذلك، رضي الله عنهم. وسبب ذلك أنه
(12/163)


قيام بقاعدة شرعية وقربة تعبدية، تجب المحافظة على فعلها وقدرها ومحلها وحالها، بحيث لا يتعدى شيء من شروطها ولا أحكامها، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة، فيجب مراعاته بكل ما أمكن. روى الصحيح عن حضين بن المنذر أبي ساسان قال: شهدت عثمان بن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان، أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ؛ فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها؛ فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده. فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها - فكأنه وجد عليه - فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده، فجلده وعلي يعد..." الحديث. وقد تقدم في المائدة. فانظر قول عثمان للإمام علي: قم فاجلده.
السابعة عشرة: نص الله تعالى على عدد الجلد في الزنى والقذف، وثبت التوقيف في الخمر على ثمانين من فعل عمر في جميع الصحابة - على ما تقدم في المائدة - فلا يجوز أن يتعدى الحد في ذلك كله. قال ابن العربي: وهذا ما لم يتابع الناس في الشر ولا احلولت لهم المعاصي، حتى يتخذوها ضراوة ويعطفون عليها بالهوادة فلا يتناهوا عن منكر فعلوه؛ فحينئذ تتعين الشدة ويزاد الحد لأجل زيادة الذنب. وقد أتي عمر بسكران في رمضان فضربه مائة؛ ثمانين حد الخمر وعشرين لهتك حرمة الشهر. فهكذا يجب أن تركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات. وقد لعب رجل بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغير ذلك مالك حين بلغه، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي، والتظاهر بالمناكر وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة، لمات كمدا ولم يجالس أحدا؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(12/164)


قلت: ولهذا المعنى - والله أعلم - زيد في حد الخمر حتى انتهى إلى ثمانين. وروى الدارقطني حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن أزهر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن عنده فضربوه بما في أيديهم. وقال: وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه التراب. قال: ثم أتي أبو بكر رضي الله عنه بسكران، قال: فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ؛ فضرب أربعين. قال الزهري: ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، قال فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير وهم معه متكئون في المسجد فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه؛ فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم. فقال علي: نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون؛ قال فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال. قال: فجلد خالد ثمانين وعمر ثمانين. قال: وكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الذلة ضربه أربعين، قال: وجلد عثمان أيضا ثمانين وأربعين. ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لو تأخر الهلال لزدتكم" كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. في رواية "لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم". وروى حامد بن يحيى عن سقيان عن مسعر عن عطاء بن أبي مروان أن عليا ضرب النجاشي في الخمر مائة جلدة؛ ذكره أبو عمرو ولم يذكر سببا.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي لا تمتنعوا عن إقامة الحدود شفقة على المحدود، ولا تخففوا الضرب من غير إيجاع، وهذا قول جماعة أهل التفسير. وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: {لا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} قالوا:
(12/165)


في الضرب والجلد. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة؛ ثم قرأ هذه الآية. والرأفة أرق الرحمة. وقرئ {رَأْفَةٌ} بفتح الألف على وزن فعلة. وقرئ {رآفة} على وزن فعالة؛ ثلاث لغات، هي كلها مصادر، أشهرها الأولى؛ من رؤوف إذا رق ورحم. ويقال: رأفة ورآفة؛ مثل كأبة وكآبة. وقد رأفت به ورؤفت به. والرؤوف من صفات الله تعالى: العطوف الرحيم.
التاسعة عشرة: {فِي دِينِ اللَّهِ} أي في حكم الله؛ كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] أي في حكمه. وقيل: {فِي دِينِ اللَّهِ} أي في طاعة الله وشرعه فيما أمركم به من إقامة الحدود. "إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر" قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله تعالى : {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. وهذا كما تقول لرجل تحضه: إن كنت رجلا فافعل كذا، أي هذه أفعال الرجال.
الموفية عشرين: قوله تعالى :{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قيل: لا يشهد التعذيب إلا من لا يستحق التأديب. قال مجاهد: رجل فما فوقه إلى ألف. وقال ابن زيد: لا بد من حضور أربعة قياسا على الشهادة على الزنى، وأن هذا باب منه؛ وهو قول مالك والليث والشافعي. وقال عكرمة وعطاء: لا بد من اثنين؛ وهذا مشهور قول مالك، فرآها موضع شهادة. وقال الزهري: ثلاثة، لأنه أقل الجمع. الحسن: واحد فصاعدا، وعنه عشرة. الربيع: ما زاد على الثلاثة. وحجة مجاهد قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122]، وقوله :{وَإِنْ طَائِفَتَانِ} [الحجرات: 9]، ونزلت في تقاتل رجلين؛ فكذلك قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. والواحد يسمى طائفة إلى الألف؛ وقاله ابن عباس وإبراهيم. وأمر أبو برزة الأسلمي بجارية له قد زنت وولدت فألقى عليها ثوبا، وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربة غير مبرح ولا خفيف لكن مؤلم، ودعا جماعة ثم تلا {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
(12/166)


الحادية والعشرون: اختلف في المراد بحضور الجماعة. هل المقصود بها الإغلاط على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس، وأن ذلك يدع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله، ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده، أو الدعاء لهما بالتوبة والرحمة؛ قولان للعلماء.
الثانية والعشرون: روي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معاشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال ثلاثا في الدنيا وثلاثا في الآخرة فأما اللواتي الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر وأما اللواتي في الآخرة فيوجب السخط وسوء الحساب والخلود في النار". وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعمال أمتي تعرض علي كل جمعة مرتين فاشتد غضب الله على الزناة". وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله على أمتي فغفر لكل مؤمن لا يشرك بالله شيئا إلا خمسة ساحرا أو كاهنا أو عاقا لوالديه أو مدمن خمر أو مصرا على الزنى".
الآية: 3 {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}
فيه سبع مسائل:-
الأولى: اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أوجه من التأويل:
الأول: أن يكون مقصد الآية تشنيع الزنى وتبشيع أمره، وأنه محرم على المؤمنين. واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ. ويريد بقوله: {لا يَنْكِحُ} أي لا يطأ؛ فيكون النكاح بمعنى الجماع. وردد القصة مبالغة وأخذا كلا الطرفين، ثم زاد تقسيم المشركة والمشرك من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنى؛ فالمعنى: الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين، أو من هي أحسن منها من المشركات. وقد روي عن ابن عباس وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطء. وأنكر ذلك الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا
(12/167)


بمعنى التزويج. وليس كما قال؛ وفي القرآن {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمعنى الوطء، وقد تقدم في "البقرة". وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة، ولكن غير مخلص ولا مكمل. وحكاه الخطابي عن ابن عباس، وأن معناه الوطء أي لا يكون زنى إلا بزانية، ويفيد أنه زنى في الجهتين؛ فهذا قول.
الثاني: ما رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقته، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله؛ أنكح عناق؟ قال: فسكت عني؛ فنزلت {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} ؛ فدعاني فقرأها علي وقال: "لا تنكحها". لفظ أبي داود، وحديث الترمذي أكمل. قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.
الثالث: أنها مخصوصة في رجل من المسلمين أيضا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها أم مهزول وكانت من بغايا الزانيات، وشرطت أن تنفق عليه؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ قاله عمرو بن العاصي ومجاهد.
الرابع: أنها نزلت في أهل الصفة وكانوا قوما من المهاجرين، ولم يكن لهم في المدينة مساكن ولا عشائر فنزلوا صفة المسجد وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور، مخاصيب بالكسوة والطعام؛ فهم أهل الصفة أن يتزوجوهن فيأووا إلى مساكنهن ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن؛ فنزلت هذه الآية صيانة لهم عن ذلك؛ قال ابن أبي صالح.
الخامس: ذكره الزجاج وغيره عن الحسن، وذلك أنه قال: المراد الزاني المحدود والزانية المحدودة، قال: وهذا حكم من الله فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة.
(12/168)


وقال إبراهيم النخعي نحوه. وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله". وروى أن محدودا تزوج غير محدودة ففرق علي رضي الله عنه بينهما. قال ابن العربي: وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا، وهل يصح أن يوقف نكاح من حد من الرجال على نكاح من حد من النساء فبأي أثر يكون ذلك، وعلى أي أصل يقاس من الشريعة.
قلت: وحكى هذا القول الكِيَا عن بعض أصحاب الشافعي المتأخرين، وأن الزاني إذا تزوج غير زانية فرق بينهما لظاهر الآية. قال الكيا: وإن هو عمل بالظاهر فيلزمه عليه أن يجوز للزاني التزوج بالمشركة، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك؛ وهذا في غاية البعد، وهو خروج عن الإسلام بالكلية، وربما قال هؤلاء: إن الآية منسوخة في المشرك خاص دون الزانية.
السادس: أنها منسوخة؛ روى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} قال: نسخت هذه الآية التي بعدها {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]؛ وقاله ابن عمرو، قال: دخلت الزانية في أيامى المسلمين. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول عليه أكثر العلماء. وأهل الفتيا يقولون: إن من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها. وهو قول ابن عمر وسالم وجابر بن زيد وعطاء وطاوس ومالك بن أنس وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي: القول فيها كما قال سعيد بن المسيب، إن شاء الله هي منسوخة. قال ابن عطية: وذكر الإشراك في هذه الآية يضعف هذه المناحي. قال ابن العربي: والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن يراد به الوطء كما قال ابن عباس أو العقد؛ فإن أريد به الوطء فإن معناه: لا يكون زنى إلا بزانية، وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة زنى من الجهتين؛ ويكون تقدير الآية: وطء الزانية لا يقع إلا من زان أو مشرك؛ وهذا يؤثر عن ابن عباس، وهو معنى صحيح.
(12/169)


فإن قيل: فإذا زنى بالغ بصبية، أو عاقل بمجنونة، أو مستيقظ بنائمة فإن ذلك من جهة الرجل زنى؛ فهذا زان نكح غير زانية، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم. قلنا: هو زنى من كل جهة، إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والآخر ثبت فيه. وإن أريد به العقد كان معناه: أن متزوج الزانية التي قد زنت ودخل بها ولم يستبرئها يكون بمنزلة الزاني، إلا أنه لا حد عليه لاختلاف العلماء في ذلك. وأما إذا عقد عليها ولم يدخل بها حتى يستبرئها فذلك جائز إجماعا. وقيل: ليس المراد في الآية أن الزاني لا ينكح قط إلا زانية إذ قد يتصور أن يتزوج غير زانية، ولكن المعنى أن من تزوج بزانية فهو زان، فكأنه قال: لا ينكح الزانية إلا زان فقلب الكلام، وذلك أنه لا ينكح الزانية إلا وهو راض بزناها، وإنما يرضى بذلك إذا كان هو أيضا يزني.
الثانية: في هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح. وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته؛ وهذا على أن الآية منسوخة. وقيل إنها محكمة. وسيأتي.
الثالثة: روي أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبي بكر رضي الله عنه فجلدهما مائة جلدة، ثم زوج أحدهما من الآخر مكانه، ونفاهما سنة. وروي مثل ذلك عن عمر وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم. وقال ابن عباس: أوله سفاح وآخره نكاح. ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط ثمرة ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرة فما سرق حرام وما اشترى حلال. وبهذا أخذ الشافعي وأبو حنيفة، ورأوا أن الماء لا حرمة له. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدا. وبهذا أخذ مالك رضي الله عنه؛ فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد لأن النكاح له حرمة ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح؛ فيختلط الحرام بالحلال ويمتزج ماء المهانة بماء العزة.
(12/170)


الرابعة: قال ابن خويز منداد: من كان معروفا بالزنى أو بغيره من الفسوق معلنا به فتزوج إلى أهل بيت ستر وغرهم من نفسه فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه؛ وذلك كعيب من العيوب واحتج بقوله عليه السلام: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله". قال ابن خويز منداد. وإنما ذكر المجلود لاشتهاره بالفسق، وهو الذي يجب أن يفرق بينه وبين غيره؛ فأما من لم يشتهر بالفسق فلا.
الخامسة: قال قوم من المتقدمين: الآية محكمة غير منسوخة، وعند هؤلاء: من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها. وقال قوم من هؤلاء: لا ينفسخ النكاح بذلك، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت، ولو أمسكها أثم، ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني، بل لو ظهرت التوبة فحينئذ يجوز النكاح.
السادسة: قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي نكاح أولئك البغايا؛ فيزعم بعض أهل التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله تعالى على أمة محمد عليه السلام، ومن أشهرهن عناق.
السابعة: حرم الله تعالى الزنى في كتابه؛ فحيثما زنى الرجل فعليه الحد. وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور. وقال أصحاب الرأي في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرت بأمان وزنى هنالك ثم خرج لم يحد. قال ابن المنذر: دار الحرب ودار الإسلام سواء، ومن زنى فعليه الحد على ظاهر قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
الآيتان: 4 - 5 {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(12/171)


فيه ست وعشرون مسألة:-
الأولى: هذه الآية نزلت في القاذفين. قال سعيد بن جبير: كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. وقيل: بل نزلت بسبب القذفة عاما لا في تلك النازلة. وقال ابن المنذر: لم نجد في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرا يدل على تصريح القذف، وظاهر كتاب الله تعالى مستغنى به دالا على القذف الذي يوجب الحد، وأهل العلم على ذلك مجمعون.
الثانية: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} يريد يسبون، واستعير له اسم الرمي لأنه إذاية بالقول كما قال النابغة:
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال آخر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطوي رماني
ويسمى قذفا ومنه الحديث: إن ابن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء؛ أي رماها.
الثالثة: ذكر الله تعالى في الآية النساء من حيث هن أهم، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس. وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى، وإجماع الأمة على ذلك. وهذا نحو نصه على تحريم لحم الخنزير ودخل شحمه وغضاريفه، ونحو ذلك بالمعنى والإجماع. وحكى الزهراوي أن المعنى: والأنفس المحصنات؛ فهي بلفظها تعم الرجال والنساء، ويدل على ذلك قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ}. [النساء: 24]. وقال قوم: أراد بالمحصنات الفروج كما قال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91] فيدخل فيه فروج الرجال والنساء. وقيل: إنما ذكر المرأة الأجنبية إذا قذفت ليعطف علها قذف الرجل زوجته؛ والله أعلم. وقرأ الجمهور {المحصَناتُ} بفتح الصاد، وكسرها يحيى بن وثاب. والمحصنات العفائف في هذا الموضع. وقد مضى في "النساء" ذكر الإحصان ومراتبه. والحمد لله.
(12/172)


الرابعة: للقذف شروط عند العلماء تسعة: شرطان في القاذف، وهما العقل والبلوغ؛ لأنهما أصلا التكليف، إذ التكليف ساقط دونهما. وشرطان في الشيء المقذوف به وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد، وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي. وخمسة من المقذوف وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها كان عفيفا من غيرها أم لا. وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف وإن لم يكونا من معاني الإحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الإذابة بالمضرة الداخلة على المقذوف، ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ؛ إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنى.
الخامسة: اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنى كان قذفا ورميا موجبا للحد فإن عرض ولم يصرح فقال مالك: هو قذف. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يكون قذفا حتى يقول أردت به القذف. والدليل لما قال مالك هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، فإذا حصلت المعرة بالتعرض وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم وقد قال تعالى مخبرا عن شعيب: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] أي السفيه الضال فعرضوا له بالسب بكلام ظاهر المدح في أحد التأويلات، حسبما تقدم في "هود". وقال تعالى في أبي جهل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]. وقال حكاية عن مريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم: 28]؛ فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء، أي الزنى، وعرضوا لمريم بذلك؛ ولذلك قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} [النساء: 156]، وكفرهم معروف، والبهتان العظيم هو التعريض لها؛ أي ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا، أي أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]؛ فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى، وأن الله تعالى ورسوله على الهدى ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه. وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لما قال
(12/173)


دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون. ولما سمع قول النجاشي:
قبيلته لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
قال: ليت الخطاب كذلك؛ وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة؛ ومثله كثير.
السادسة: الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم. وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم. وفيه قول ثالث: وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد. قال ابن المنذر: وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول، ولم أدرك أحدا ولا لقيته يخالف في ذلك. وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة؛ لا أعلم في ذلك خلافا.
السابعة: والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حرا يجلد أربعين؛ لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى. وروي عن ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة بن ذؤيب يجلد ثمانين. وجلد أبو بكر بن محمد عبد اً قذف حرا ثمانين؛ وبه قال الأوزاعي. احتج الجمهور بقول الله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. وقال الآخرون: فهمنا هناك أن حد الزنى لله تعالى، وأنه ربما كان أخف فيمن قلّت نعم الله عليه، وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه. وأما حد القذف فحق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف والجناية لا تختلف بالرق والحرية. وربما قالوا: لو كان يختلف لذكر كما ذكر من الزنى. قال ابن المنذر: والذي عليه علماء الأمصار القول الأول، وبه أقول.
الثامنة: وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما ولقوله عليه السلام: "من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال" خرجه البخاري ومسلم. وفي بعض طرقه: "من قذف عبد ه بزنى ثم لم يثبت أقيم
(12/174)


عليه يوم القيامة الحد ثمانون" ذكره الدارقطني. قال العلماء: وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى؛ ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة، واقتص من كل واحد لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم. وإنما لم يتكافؤوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين من مكافأتهم لهم، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة، وتبطل فائدة التسخير؛ حكمة من الحكيم العليم، لا إله إلا هو.
التاسعة: قال مالك والشافعي: من قذف من يحسبه عبد ا فإذا هو حر فعليه الحد؛ وقاله الحسن البصري واختاره ابن المنذر. قال مالك: ومن قذف أم الولد حد وروى عن ابن عمر وهو قياس قول الشافعي. وقال الحسن البصري: لا حد عليه.
العاشرة: واختلف العلماء فيمن قال لرجل: يا من وطئ بين الفخذين؛ فقال ابن القاسم: عليه الحد لأنه تعريض. وقال أشهب: لا حد فيه لأنه نسبة إلى فعل لا يعد زنى إجماعا.
الحادية عشرة: إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: ليس بقذف؛ لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها، ويعزر. قال ابن العربي: والمسألة محتملة مشكلة، لكن مالك طلب حماية عرض المقذوف، وغيره راعى حماية ظهر القاذف وحماية عرض المقذوف أولى؛ لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد. قال ابن المنذر: وقال أحمد في الجارية بنت تسع: يجلد قاذفها، وكذلك الصبي إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه. قال إسحاق: إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه الحد، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك. قال ابن المنذر: لا يحد من قذف من لم يبلغ؛ لأن ذلك كذب، ويعزر على الأذى. قال أبو عبيد: في حديث علي رضي الله عنه أن امرأة جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال: إن كنت صادق رجمناه وإن كنت كاذبة
(12/175)


جلدناك. فقالت: ردوني إلى أهلي غيرى نغرة. قال أبو عبيد: في هذا الحديث من الفقه أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحد.
وفيه أيضا إذا قذفه بذلك قاذف كان على قاذفه الحد؛ ألا تسمع قوله: وإن كنت كاذبة جلدناك. ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل جاهلا بما يأتي وبما يقول، فإن كان جاهلا وادعى شبهة درئ عنه الحد في ذلك كله.
وفيه أيضا أن رجلا لو قذف رجلا بحضرة حاكم وليس المقذوف بحاضر أنه لا شيء على القاذف حتى يجيء فيطلب حده؛ لأنه لا يدري لعله يصدقه؛ ألا ترى أن عليا عليه السلام لم يعرض لها.
وفيه أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذه الحاكم بالحد بسماعه ألا تراه يقول: وإن كنت كاذبة جلدناك وهذا لأنه من حقوق الناس.
قلت: اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين؛ وسيأتي. قال أبو عبيد: قال الأصمعي سألني شعبة عن قول: "غَيْرَى نَغِرة"؛ فقلت له: هو مأخوذ من نغر القدر، وهو غليانها وفورها يقال منه: نغرت تنغر، ونغرت تنغر إذا غلت. فمعناه أنها أرادت أن جوفها يغلي من الغيظ والغيرة لما لم تجد عنده ما تريد. قال: ويقال منه رأيت فلانا يتنغر على فلان أي يغلي جوفه عليه غيظا.
الثانية عشرة: من قذف زوجة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حد حدين؛ قاله مسروق. قاله ابن العربي: والصحيح أنه حد واحد؛ لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية، ولا يقتضي شرفهن زيادة في حد من قذفهن؛ لأن شرف المنزلة لا يؤثر في الحدود، ولا نقصها يؤثر في الحد بتنقيص والله أعلم. وسيأتي الكلام فيمن قذف عائشة رضي الله عنها، هل يقتل أم لا.
الثالثة عشرة: قوله تعالى : {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنى؛ رحمة بعباده وسترا لهم. وقد تقدم في سورة "النساء"
(12/176)


الرابعة عشرة: من شرط أداء الشهود الشهادة عند مالك رحمه الله أن يكون ذلك في مجلس واحد فإن افترقت لم تكن شهادة. وقال عبد الملك: تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين. فرأى مالك أن اجتماعهم تعبد؛ وبه قال ابن الحسن. ورأى عبد الملك أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها وقد حصل؛ وهو قول عثمان البتي وأبي ثور واختاره ابن المنذر لقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وقوله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} [النور: 13] ولم يذكر مفترقين ولا مجتمعين.
الخامسة عشرة: فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا؛ فكان الحسن البصري والشعبي يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود؛ وبه قال أحمد والنعمان ومحمد بن الحسن. وقال مالك: إذا شهد عليه أربعة بالزنى فإن كان أحدهم مسقوطا عليه أو عبد ا يجلدون جميعا. وقال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى: يضربون.
السادسة عشرة: فإن رجع أحد الشهود وقد رجم المشهود عليه في الزنى؛ فقالت طائفة: يغرم ربع الدية ولا شيء على الآخرين. وكذلك قال قتادة وحماد وعكرمة وأبو هاشم ومالك وأحمد وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: إن قال عمدت ليقتل؛ فالأولياء بالخيار إن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا عفوا وأخذوا ربع الدية، وعليه الحد. وقال الحسن البصري: يقتل، وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية. وقال ابن سيرين: إذا قال أخطأت وأردت غيره فعليه الدية كاملة، وإن قال تعمدت قتل وبه قال ابن شبرمة.
السابعة عشرة: واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما؛ الأول - قول أبي حنيفة. والثاني: قول مالك والشافعي. والثالث: قاله بعض المتأخرين. وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا له تعالى وبلغ الإمام أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنى. وإن كان حقا للآدمي فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف.
(12/177)


الثامنة عشرة: قوله تعالى: {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} قراءة الجمهور على إضافة الأربعة إلى الشهداء. وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بن جرير {بِأَرْبَعَةٍ} التنوين {شُهَدَاء}. وفيه أربعة أوجه: يكون في موضع جر على النعت لأربعة، أو بدلا. ويجوز أن يكون حالا من نكرة أو تمييزا؛ وفي الحال والتمييز نظر؛ إذ الحال من نكرة، والتمييز مجموع. وسيبويه يرى أنه تنوين العدد، وترك إضافته إنما يجوز في الشعر. وقد حسن أبو الفتح عثمان بن جني هذه القراءة وحبب على قراءة الجمهور. قال النحاس: ويجوز أن يكون {شهداء} في موضع نصب بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء.
التاسعة عشرة: حكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة يرون ذلك كالمرود في المكحلة على ما تقدم في "النساء" في نص الحديث. وأن تكون في موطن واحد؛ على قول مالك. وإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة؛ كما فعل عمر في أمر المغيرة بن شعبة؛ وذلك أنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع؛ وقال الزهراوي: عبد الله بن الحارث، وزياد أخوهما لأم وهو مستلحق معاوية، وشبل بن معبد البجلي، فلما جاؤوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم يؤدها، جلد عمر الثلاثة المذكورين.
الموفية عشرين: قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ} الجلد الضرب. والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود؛ ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره. ومنه قول قيس بن الخطيم:
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا ... كأن يدي بالسيف محراق لاعب
{ثَمَانِينَ} نصب على المصدر. {جَلْدَةً} تمييز. {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} هذا يقتضي مدة أعمارهم، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون؛ أي خارجون عن طاعة الله عز وجل.
الحادية والعشرون:قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} في موضع نصب على الاستثناء. ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل. المعنى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا وأصلحوا من بعد القذف {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف:
(12/178)


جلده، ورد شهادته أبدا، وفسقه. فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع؛ إلا ما روي الشعبي على ما يأتي. وعامل في فسقه بإجماع. واختلف الناس في عمله في رد الشهادة؛ فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسفيان الثوري وأبو حنيفة: لا يعمل الاستثناء في رد شهادته، وإنما يزول فسقه عند الله تعالى. وأما شهادة القاذف فلا تقبل البتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال. وقال الجمهور: الاستثناء عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته؛ وإنما كان ردها لعلة الفسق فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده، وهو قول عامة الفقهاء. ثم اختلفوا في صورة توبته؛ فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي وغيره، أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه. وهكذا فعل عمر؛ فإنه قال للذين شهدوا على المغيرة: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته؛ فأكذب الشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل فكان لا يقبل شهادته. وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة. وقالت فرقة - منها مالك رحمه الله تعالى وغيره -: توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب وحسبه الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله؛ وهو قول ابن جرير. ويروى عن الشعبي أنه قال: الاستثناء من الأحكام الثلاثة، إذا تاب وظهرت توبته لم يحد وقبلت شهادته وزال عنه التفسيق؛ لأنه قد صار ممن يرضى من الشهداء؛ وقد قال الله عز وجل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82] الآية.
الثانية والعشرون: اختلف علماؤنا رحمهم الله تعالى متى تسقط شهادة القاذف؛ فقال ابن الماجشون: بنفس قذفه. وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون: لا تسقط حتى يجلد، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته. وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي: شهادته في مدة الأجل موقوفة؛ ورجح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف، وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحد وبقي على عدالته.
(12/179)


الثالثة والعشرون: واختلفوا أيضا على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شيء تجوز؛ فقال مالك رحمه الله تعالى: تجوز في كل شيء مطلقا؛ وكذلك كل من حد في شيء من الأشياء؛ رواه نافع وابن عبد الحكم عن مالك، وهو قول ابن كنانة. وذكر الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حد فيه خاصة، وتقبل فيما سوى ذلك؛ وهو قول مطرف وابن الماجشون. وروى العتبي عن أصبغ وسحنون مثله. قال سحنون: من حد في شيء من الأشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه. وقال مطرف وابن الماجشون: من حد في قذف أو زنى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى، ولا في قذف ولا لعان وإن كان عدلا؛ وروياه عن مالك. واتفقوا على ولد الزنى أن شهادته لا تجوز في الزنى.
الرابعة والعشرون: الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك والشافعي وأصحابهما. وعند أبي حنيفة وجل أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور وهو الفسق؛ ولهذا لا تقبل شهادته، فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة.
وسبب الخلاف في هذا الأصل سببان: أحدهما: هل هذه الجمل في حكم الجملة الواحدة للعطف الذي فيها، أو لكل جملة حكم نفسها في الاستقلال وحرف العطف محسن لا مشرك، وهو الصحيح في عطف الجمل؛ لجواز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض، على ما يعرف من النحو.
السبب الثاني: يشبه الاستثناء بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة، فإنه يعود إلى جميعها عند الفقهاء، أو لا يشبه به، لأنه من باب القياس في اللغة وهو فاسد على ما يعرف في أصول الفقه. والأصل أن كل ذلك محتمل ولا ترجيح، فتعين ما قال القاضي من الوقف. ويتأيد الإشكال بأنه قد جاء في كتاب الله عز وجل كلا الأمرين؛ فإن آية المحاربة فيها عود الضمير إلى الجميع باتفاق، وآية قتل المؤمن خطأ فيها رد الاستثناء إلى الأخيرة باتفاق، وآية القذف محتملة للوجهين، فتعين الوقف من غير مين. قال علماؤنا: وهذا نظر
(12/180)


كلي أصولي. ويترجح قول مالك والشافعي رحمهما الله من جهة نظر الفقه الجزئي بأن يقال: الاستثناء راجع إلى الفسق والنهي عن قبول الشهادة جميعا إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له. وأجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الكفر، فيجب أن يكون ما دون ذلك أولى؛ والله أعلم. قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة؛ قال: وليس من نسب إلى الزنى بأعظم جرما من مرتكب الزنى، ثم الزاني إذا تاب قبلت شهادته؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى؛ مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن؛ منها قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] إلى قوله {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة:34]. ولا شك أن هذا الاستثناء إلى الجميع؛ وقال الزجاج: وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته. قال: وقوله: {أَبَداً} أي ما دام قاذفا؛ كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبدا؛ فإن معناه ما دام كافرا. وقال الشعبي للمخالف في هذه المسألة: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته! ثم إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام من الأصوليين فقوله: "وأولئك هم الفاسقون" تعليل لا جملة مستقلة بنفسها؛ أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم. ثم توبة القاذف إكذابه نفسه، كما قال عمر لقذفة المغيرة بحضرة الصحابة من غير نكير، مع إشاعة القضية وشهرتها من البصرة إلى الحجاز وغير ذلك من الأقطار. ولو كان تأويل الآية ما تأوله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبول توبة القاذف أبدا، ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب؛ فسقط قولهم، والله المستعان.
الخامسة والعشرون: قال القشيري: ولا خلاف أنه إذا لم يجلد القاذف بأن مات المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان، أو عفا المقذوف، فالشهادة مقبولة؛ لأن عند الخصم في المسألة النهي عن قبول الشهادة معطوف على الجلد؛ قال الله تعالى:
(12/181)


{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً}. وعند هذا قال الشافعي: هو قبل أن يحد شر منه حين حد؛ لأن الحدود كفارات فكيف ترد شهادته في أحسن حاليه دون أخسهما.
قلت: هكذا قال ولا خلاف. وقد تقدم عن ابن الماجشون أنه بنفس القذف ترد شهادته. وهو قول الليث والأوزاعي والشافعي: ترد شهادته وإن لم يحد؛ لأنه بالقذف يفسق، لأنه من الكبائر فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه.
السادسة والعشرون: قوله تعالى: {وَأَصْلَحُوا} يريد إظهار التوبة. وقيل: وأصلحوا العمل. {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} حيث تابوا وقبل توبتهم.
الآيات: 6 - 10 {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}
فيه ثلاثون مسألة:-
الأولى: قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} {أَنْفُسُهُمْ} بالرفع على البدل. ويجوز النصب على الاستثناء، وعلى خبر {يَكُنْ}. {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} بالرفع قراءة الكوفيين على الابتداء والخبر؛ أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حد القذف أربع شهادات. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو {أربعَ} بالنصب؛ لأن معنى {فَشَهَادَةُ} أن يشهد؛ والتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات، أو فالأمر أن يشهد أحدهم أربع شهادات؛ ولا خلاف في الثاني أنه منصوب بالشهادة. {وَالْخَامِسَةُ} رفع بالابتداء.
(12/182)


والخبر {أنّ} وصلتها؛ ومعنى المخففة كمعنى المثقلة لأن معناها أنه. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة وعاصم في رواية حفص {وَالْخَامِسَةَ} بالنصب، بمعنى وتشهد الشهادة الخامسة. الباقون بالرفع على الابتداء، والخبر في {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ} ؛ أي والشهادة الخامسة قول لعنة الله عليه.
الثانية: في سبب نزولها، وهو ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك" قال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "البينة وإلا حد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد؛ فنزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} فقرأ حتى بلغ {مِنَ الصَّادِقِينَ} الحديث بكماله. وقيل: لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد بن معاذ: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة والله لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني". وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة، هذا نحو معناها. ثم جاء من بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك بن سحماء البلوي على ما ذكرنا، وعزم النبي صلى الله عليه وسلم على ضربه حد القذف؛ فنزلت هذه الآية عند ذلك، فجمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وتلاعنا، فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت وقيل إنها موجبة؛ ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم؛ فالتعنت وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وولدت غلاما كأنه جمل أورق - على النعت المكروه - ثم كان الغلام بعد ذلك أميرا بمصر، وهو لا يعرف لنفسه أبا. وجاء أيضا عويمر العجلاني فرمى امرأته ولاعن. والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل، وأنها سبب الآية. وقيل: نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل؛ وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة
(12/183)


قال أبو عبد الله بن أبي صفرة: الصحيح أن القاذف لزوجه عويمر، وهلال بن أمية خطأ. قال الطبري يستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية: وإنما القاذف عويمر بن زيد بن الجد بن العجلاني، شهد أحدا مع النبي صلى الله عليه وسلم، رماها بشريك بن السحماء، والسحماء أمه؛ قيل لها ذلك لسوادها، وهو ابن عبد ة بن الجد بن العجلاني؛ كذلك كان يقول أهل الأخبار. وقيل: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الناس في الخطبة يوم الجمعة {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} فقال عاصم بن عدي الأنصاري: جعلني الله فداك لو أن رجلا منا وجد على بطن امرأته رجلا؛ فتكلم فأخبر بما جرى جلد ثمانين، وسماه المسلمون فاسقا فلا تقبل شهادته؛ فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء، وإلى أن يلتمس أربعة شهود فقد فرغ الرجل من حاجته فقال عليه السلام: "كذلك أنزلت يا عاصم بن عدي". فخرج عاصم سامعا مطيعا؛ فاستقبله هلال بن أمية يسترجع؛ فقال: ما وراءك؟ فقال: شر وجدت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة يزني بها؛ وخولة هذه بنت عاصم بن عدي، كذا في هذا الطريق أن الذي وجد مع امرأته شريكا هو هلال بن أمية، والصحيح خلافه حسبما تقدم بيانه. قال الكلبي: والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكا عويمر العجلاني؛ لكثرة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته. واتفقوا على أن هذا الزاني هو شريك بن عبد ة وأمه السحماء، وكان عويمر وخولة بنت قيس وشريك بني عم عاصم، وكانت هذه القصة في شعبان سنة تسع من الهجرة، منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة؛ قال الطبري. وروى الدارقطني عن عبد الله بن جعفر قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته، مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وأنكر حملها الذي في بطنها وقال هو لابن السحماء؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هات امرأتك فقد نزل القرآن فيكما" ؛ فلاعن بينهما بعد العصر عند المنبر على خمل. في طريقه الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن عمران بن أبي أنس قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول...... فذكره.
(12/184)


الثالثة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} عام في كل رمي، سواء قال: زنيت أو يا زانية أو رأيتها تزني، أو هذا الولد ليس مني؛ فإن الآية مشتملة عليه. ويجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء؛ وهذا قول جمهور العلماء وعامة الفقهاء وجماعة أهل الحديث. وقد روي عن مالك مثل ذلك. وكان مالك يقول: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيتك تزني؛ أو ينفي حملا أو ولدا منها. وقول أبي الزناد ويحيى بن سعيد والبتي مثل قول مالك: إن الملاعنة لا تجب بالقذف وإنما تجب بالرؤية أو نفي الحمل مع دعوى الاستبراء؛ هذا هو المشهور عند مالك، وقاله ابن القاسم. والصحيح. الأول لعموم قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}. قال ابن العربي: وظاهر القرآن يكفي لإيجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية؛ فلتعولوا عليه، لا سيما وفي الحديث الصحيح: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فاذهب فأت بها" ولم يكلفه ذكر الرؤية. وأجمعوا أن الأعمى يلاعن إذا قذف امرأته. ولو كانت الرؤية من شرط اللعان ما لاعن الأعمى؛ قاله ابن عمر رضي الله عنهم. وقد ذكر ابن القصار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول: لمست فرجه في فرجها. والحجة لمالك ومن اتبعه ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا، فرأى بعينه وسمع بأذنه فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلا، فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه؛ فنزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآية؛ وذكر الحديث. وهو نص على أن الملاعنة التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت في الرؤية، فلا يجب أن يتعدى ذلك. ومن قذف امرأته ولم يذكر رؤية حد؛ لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}.
الرابعة: إذا نفى الحمل فإنه يلتعن؛ لأنه أقوى من الرؤية ولا بد من ذكر عدم الوطء والاستبراء بعده. واختلف علماؤنا في الاستبراء؛ فقال المغيرة ومالك أحد قوليهما:
(12/185)


يجزى في ذلك حيضة. وقال مالك أيضا: لا ينفيه إلا بثلاث حيض. والصحيح الأول؛ لأن براءة الرحم من الشغل يقع بها كما في استبراء الأمة، وإنما راعينا الثلاث حيض في العدد لحكم آخر يأتي بيانه في الطلاق إن شاء الله تعالى. وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة: لا يُنفى الولد بالاستبراء؛ لأن الحيض يأتي على الحمل. وبه قال أشهب في كتاب ابن المواز، وقاله المغيرة. وقال: لا ينفى الولد إلا بخمس سنين لأنه أكثر مدة الحمل على ما تقدم.
الخامسة: اللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين كانا أو عبد ين، مؤمنين أو كافرين، فاسقين أو عدلين. وبه قال الشافعي. ولا لعان بين الرجل وأمته، ولا بينه وبين أم ولده. وقيل: لا ينتفي ولد الأمة عنه إلا بيمين واحدة؛ بخلاف اللعان. وقد قيل: إنه إذا نفى ولد أم الولد لاعن. والأول تحصيل مذهب مالك وهو الصواب. وقال أبو حنيفة: لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين؛ وذلك لأن اللعان عنده شهادة، وعندنا وعند الشافعي يمين، فكل من صحت يمينه صح قذفه ولعانه. واتفقوا على أنه لا بد أن يكونا مكلفين. وفي قوله: "وجد مع امرأته رجلا". دليل على أن الملاعنة تجب على كل زوجين؛ لأنه لم يخص رجلا من رجل ولا امرأه من امرأة، ونزلت آية اللعان على هذا الجواب فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ولم يخص زوجا من زوج. وإلى هذا ذهب مالك وأهل المدينة؛ وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور. وأيضا فإن اللعان يوجب فسخ النكاح فأشبه الطلاق؛ فكل من يجوز طلاقه يجوز لعانه. واللعان أيمان لا شهادات؛ قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة:107] أي أيماننا. وقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1]. ثم قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} [المجادلة: 16].
(12/186)


وقال عليه السلام: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن". وأما ما احتج به الثوري وأبو حنيفة فهي حجج لا تقوم على ساق؛ منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعة ليس بينهم لعان ليس بين الحر والأمة لعان وليس بين الحرة والعبد لعان وليس بين المسلم واليهودية لعان وليس بين المسلم والنصرانية لعان". أخرجه الدارقطني من طرق ضعفها كلها. وروي عن الأوزاعي وابن جريج وهما إمامان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قوله، ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. واحتجوا من جهة النظر أن الأزواج لما استثنوا من جملة الشهداء بقول: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} وجب ألا يلاعن إلا من تجوز شهادته. وأيضا فلو كانت يمينا ما رددت، والحكمة في ترديدها قيامها في الأعداد مقام الشهود في الزنى. قلنا: هذا يبطل بيمين القسامة فإنها تكرر وليست بشهادة إجماعا؛ والحكمة في تكرارها التغليظ في الفروج والدماء. قال ابن العربي: والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر.
السادسة: واختلف العلماء في ملاعنة الأخرس؛ فقال مالك والشافعي: يلاعن؛ لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه، إذا فهم ذلك عنه. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن؛ لأنه ليس من أهل الشهادة، ولأنه قد ينطق بلسانه فينكر السابعة: قال ابن العربي: رأى أبو حنيفة عموم الآية فقال: إن الرجل إذا قذف زوجته بالزنى قبل أن يتزوجها فإنه يلاعن؛ ونسي أن ذلك قد تضمنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} وهذا رماها محصنة غير زوجة؛ وإنما يكون اللعان في قذف يلحق فيه النسب، وهذا قذف لا يلحق فيه نسب فلا يوجب لعانا، كما لو قذف أجنبية.
(12/187)


الثامنة: إذا قذفها بعد الطلاق نظرت؛ فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه أو حمل يتبرأ منه لاعن وإلا لم يلاعن. وقال عثمان البتي: لا يلاعن بحال لأنها ليست بزوجة. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن في الوجهين؛ لأنها ليست بزوج. وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفا، بل هذا أولى؛ لأن النكاح قد تقدم وهو يري الانتفاء من النسب وتبرئته من ولد يلحق به فلا بد من اللعان. وإذا لم يكن هنالك حمل يرجى ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به وكان قذفا مطلقا داخلا تحت عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية، فوجب عليه الحد وبطل ما قال البتي لظهور فساده.
التاسعة: لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة، وهي أن يكون الرجل غائبا فتأتي امرأته بولد في مغيبه وهو لا يعلم فيطلقها فتنقضي عدتها، ثم يقدم فينفيه فله أن يلاعنها ها هنا بعد العدة. وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفي الولد لاعن لنفسه وهي ميتة بعد مدة من العدة، ويرثها لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما.
العاشرة: إذا انتفى من الحمل ووقع ذلك بشرطه لاعن قبل الوضع؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن إلا بعد أن تضع، لأنه يحتمل أن يكون ريحا أو داء من الأدواء. ودليلنا النص الصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن قبل الوضع، وقال: "إن جاءت به كذا فهو لأبيه وإن جاءت به كذا فهو لفلان" فجاءت به على النعت المكروه.
الحادية عشرة: إذا قذف بالوطء في الدبر [لزوجه] لاعن. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن؛ وبناه على أصله في أن اللواط لا يوجب الحد. وهذا فاسد؛ لأن الرمي به فيه معرة وقد دخل تحت عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وقد تقدم في "الأعراف والمؤمنون] أنه يجب به الحد.
(12/188)


الثانية عشرة: قال ابن العربي: من غريب أمر هذا الرجل أنه قال إذا قذف زوجته وأمها بالزنى: إنه إن حد للأم سقط حد البنت، وإن لاعن للبنت لم يسقط حد الأم؛ وهذا لا وجه له، وما رأيت لهم فيه شيئا يحكى، وهذا باطل جدا؛ فإنه خص عموم الآية في البنت وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه.
الثالثة عشرة: إذا قذف زوجته ثم زنت قبل التعانه فلا حد ولا لعان. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأكثر أهل العلم. وقال الثوري والمزني: لا يسقط الحد عن القاذف، وزنى المقذوف بعد أن قذف لا يقدح في حصانته المتقدمة ولا يرفعها؛ لأن الاعتبار الحصانة والعفة في حال القذف لا بعده. كما لو قذف مسلما فارتد المقذوف بعد القذف وقبل أن يحد القاذف لم يسقط الحد عنه. وأيضا فإن الحدود كلها معتبرة بوقت الوجوب لا وقت الإقامة. ودليلنا هو أنه قد ظهر قبل استيفاء اللعان والحد معنى لو كان موجودا في الابتداء منع صحة اللعان ووجوب الحد فكذلك إذا طرأ في الثاني؛ كما إذا شهد شاهدان ظاهرهما العدالة فلم يحكم الحاكم بشهادتهما حتى ظهر فسقهما بأن زنيا أو شربا خمرا فلم يجز للحاكم أن يحكم بشهادتهما تلك. وأيضا فإن الحكم بالعفة والإحصان يؤخذ من طريق الظاهر لا من حيت القطع واليقين، وقد قال عليه السلام: "ظهر المؤمن حمى" ؛ فلا يحد القاذف إلا بدليل قاطع، وبالله التوفيق.
الرابعة عشرة: من قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا؛ هو لدفع الحد، وهي لدرء العذاب. فإن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدفع الحد ولم تلاعن هي لأنها لو أقرت لم يلزمها شيء. وقال ابن الماجشون: لا حد على قاذف من لم تبلغ. قال اللخمي: فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل.
الخامسة عشرة: إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى أحدهم زوجها فإن الزوج يلاعن وتحد الشهود الثلاثة؛ وهو أحد قولي الشافعي. والقول الثاني أنهم لا يحدون. وقال أبو حنيفة: إذا شهد الزوج والثلاثة ابتداء قبلت شهادتهم وحدت المرأة. ودليلنا قوله
(12/189)


تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية. فأخبر أن من قذف محصنا ولم يأت بأربعة شهداء حد؛ فظاهره يقتضي أن يأتي بأربعة شهداء سوى الرامي، والزوج رام لزوجته فخرج عن أن يكون أحد الشهود، والله أعلم.
السادسة عشرة: إذا ظهر بامرأته حمل فترك أن ينفيه لم يكن له نفيه بعد سكوته. وقال شريح ومجاهد: له أن ينفيه أبدا. وهذا خطأ؛ لأن سكوته بعد العلم به رضى به؛ كما لو أقر به ثم ينفيه فإنه لا يقبل منه، والله أعلم.
السابعة عشرة: فإن أخر ذلك إلى أن وضعت وقال: رجوت أن يكون ريحا يفش أو تسقطه فأستريح من القذف؛ فهل لنفيه بعد وضعه مدة ما فإذا تجاوزها لم يكن له ذلك؛ فقد اختلف في ذلك، فنحن نقول: إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام فهو راض به ليس له نفيه؛ وبهذا قال الشافعي. وقال أيضا: متى أمكنه نفيه على ما جرت به العادة تمكنه من الحاكم فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك. وقال أبو حنيفة: لا أعتبر مدة. وقال أبو يوسف ومحمد: يعتبر فيه أربعون يوما، مدة النفاس. قال ابن القصار: والدليل لقولنا هو أن نفي ولده محرم عليه، واستلحاق ولد ليس منه محرم عليه، فلا بد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه ويفكر، هل يجوز له نفيه أو لا. وإنما جعلنا الحد ثلاثة لأنه أول حد الكثرة وآخر حد القلة، وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر بها حال المصراة؛ فكذلك ينبغي أن يكون هنا. وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهم بأولى من اعتبار مدة الولادة والرضاع؛ إذ لا شاهد لهم في الشريعة، وقد ذكرنا نحن شاهدا في الشريعة من مدة المصراة.
الثامنة عشرة: قال ابن القصار: إذا قالت امرأة لزوجها أو لأجنبي يا زانيه - بالهاء - وكذلك الأجنبي لأجنبي، فلست أعرف فيه نصا لأصحابنا، ولكنه عندي يكون قذفا وعلى قائله الحد، وقد زاد حرفا، وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف:
(12/190)


لا يكون قذفا. واتفقوا أنه إذا قال لامرأته يا زان أنه قذف. والدليل على أنه يكون في الرجل قذفا هو أن الخطاب إذا فهم منه معناه ثبت حكمه، سواء كان بلفظ أعجمي أو عربي. ألا ترى أنه إذا قال للمرأة زنيت "بفتح التاء" كان قذفا؛ لأن معناه يفهم منه، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أنه لما جاز أن يخاطب المؤنث بخطاب المذكر لقوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} صلح أن يكون قول يا زان للمؤنث قذفا. ولما لم يجز أن يؤنث فعل المذكر إذا تقدم عليه لم يكن لخطابه بالمؤنث حكم، والله أعلم.
التاسعة عشرة: يلاعن في النكاح الفاسد زوجته لأنها صارت فراشا ويلحق النسب فيه فجرى اللعان عليه.
الموفية عشرين: اختلفوا في الزوج إذا أبى من الالتعان؛ فقال أبو حنيفة: لا حد عليه؛ لأن الله تعالى جعل على الأجنبي الحد وعلى الزوج اللعان، فلما لم ينتقل اللعان إلى الأجنبي لم ينتقل الحد إلى الزوج، ويسجن أبدا حتى يلاعن لأن الحدود لا تؤخر قياسا. وقال مالك والشافعي وجمهور الفقهاء: إن لم يلتعن الزوج حد؛ لأن اللعان له براءة كالشهود للأجنبي، فإن لم يأت الأجنبي بأربعة شهداء حد، فكذلك الزوج إن لم يلتعن. وفي حديث العجلاني ما يدل على هذا؛ لقوله: إن سكت سكت على غيظ وإن قتلتُ قُتلت وإن نطقتُ جُلدت.
الحادية والعشرون: واختلفوا أيضا هل للزوج أن يلاعن مع شهوده؛ فقال مالك والشافعي: يلاعن كان له شهود أو لم يكن؛ لأن الشهود ليس لهم عمل في غير درء الحد، وأما رفع الفراش ونفي الولد فلا بد فيه من اللعان. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنما جعل اللعان للزوج إذا لم يكن له شهود غير نفسه؛ لقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}.
الثانية والعشرون: البداءة في اللعان بما بدأ الله به، وهو الزوج؛ وفائدته درء الحد عنه ونفي النسب منه؛ لقوله عليه السلام: "البينة وإلا حد في ظهرك". ولو بدئ بالمرأة قبله لم يجز لأنه عكس ما رتبه الله تعالى. وقال أبو حنيفة: يجزى. وهذا باطل؛ لأنه
(12/191)


خلاف القرآن، وليس له أصل يرده إليه ولا معنى يقوى به، بل المعنى لنا؛ لأن المرأة إذا بدأت باللعان فتنفي ما لم يثبت وهذا لا وجه له.
الثالثة والعشرون: وكيفية اللعان أن يقول الحاكم للملاعن: قل أشهد بالله لرأيتها تزني ورأيت فرج الزاني في فرجها كالمرود في المكحلة وما وطئتها بعد رؤيتي. وإن شئت فلت: لقد زنت وما وطئتها بعد زناها. يردد ما شاء من هذين اللفظين أربع مرات، فإن نكل عن هذه الأيمان أو عن شيء منها حد. وإذا نفى حملا قال: أشهد بالله لقد استبرأتها وما وطئتها بعد، وما هذا الحمل مني، ويشير إليه؛ فيحلف بذلك أربع مرات ويقول في كل يمين منها: وإني لمن الصادقين في قولي هذا عليها. ثم يقول في الخامسة: علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين، وإن شاء قال: إن كنت كاذبا فيما ذكرت عنها. فإذا قال ذلك سقط عنه الحد وانتفى عنه الولد. فإذا فرغ الرجل من التعانه قامت المرأة بعده فحلفت بالله أربعة أيمان، تقول فيها: أشهد بالله إنه لكاذب أو إنه لمن الكاذبين فيما ادعاه علي وذكر عني. وإن كانت حاملا قالت: وإن حملي هذا منه. ثم تقول في الخامسة: وعلي غضب الله إن كان صادقا، أو إن كان من الصادقين في قول ذلك. ومن أوجب اللعان بالقذف يقول في كل شهادة من الأربع: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة من الزنى. ويقول في الخامسة: علي لعنة الله إن كنت كاذبا فيما رميت به من الزنى. وتقول هي: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنى. وتقول في الخامسة: علي غضب الله إن كان صادقا فيما رماني به من الزنى. وقال الشافعي: يقول الملاعن أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجي فلانة بنت فلان، ويشير إليها إن كانت حاضرة، يقول ذلك أربع مرات، ثم يوعظه الإمام ويذكره الله تعالى ويقول: إني أخاف إن لم تكن صدقت أن تبوء بلعنة الله؛ فإن رآه يريد أن يمضي على ذلك أمر من يضع يده على فيه، ويقول: إن قولك وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين موجبا؛ فإن أبى تركه يقول ذلك: لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنى. احتج بما رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا حيث أمر المتلاعنين أن يضع يده على فيه عند الخامسة يقول: إنها موجبة.
(12/192)


الرابعة والعشرون: اختلف العلماء في حكم من قذف امرأته برجل سماه، هل يحد أم لا؛ فقال مالك: عليه اللعان لزوجته، وحد للمرمي. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه قاذف لمن لم يكن له ضرورة إلى قذفه. وقال الشافعي: لا حد عليه؛ لأن الله عز وجل لم يجعل على من رمى زوجته بالزنى إلا حدا واحدا بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ، ولم يفرق بين من ذكر رجلا بعينه وبين من لم يذكر؛ وقد رمى العجلاني زوجته بشريك وكذلك هلال بن أمية؛ فلم يحد واحد منهما. قال ابن العربي: وظاهر القرآن لنا؛ لأن الله تعالى وضع الحد في قذف الأجنبي والزوجة مطلقين، ثم خص حد الزوجة بالخلاص باللعان وبقي الأجنبي على مطلق الآية. وإنما لم يحد العجلاني لشريك ولا هلال لأنه لم يطلبه؛ وحد القذف لا يقيمه الإمام إلا بعد المطالبة إجماعا منا ومنه.
الخامسة والعشرون: إذا فرغ المتلاعنان من تلاعنهما جميعا تفرقا وخرج كل واحد منهما على باب من المسجد الجامع غير الباب الذي يخرج منه صاحبه، ولو خرجا من باب واحد لم يضر ذلك لعانهما. ولا خلاف في أنه لا يكن اللعان إلا في مسجد جامع تجمع فيه الجمعة بحضرة السلطان أو من يقوم مقامه من الحكام. وقد استحب جماعة من أهل العلم أن يكون اللعان في الجامع بعد العصر. وتلتعن النصرانية من زوجها المسلم في الموضع الذي تعظمه من كنيستها مثل ما تلتعن به المسلمة.
السادسة والعشرون: قال مالك أصحابه: وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين، فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان، ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل زوج ولا بعده؛ وهو قول الليث بن سعد وزفر بن الهذيل والأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما؛ وهو قول الثوري؛ لقول ابن عمر: فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين؛ فأضاف الفرقة إليه، ولقوله عليه السلام: "لا سبيل لك عليها". وقال الشافعي: إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته، التعنت أو لم تلتعن. قال: وأما التعان المرأة فإنما هو لدرء الحد عنها لا غير؛ وليس لالتعانها في زوال الفراش معنى. ولما كان لعان الزوج ينفي
(12/193)


الولد ويسقط الحد رفع الفراش. وكان عثمان البتي لا يرى التلاعن ينقص شيئا من عصمة الزوجين حتى يطلق. وهذا قول لم يتقدمه إليه أحد من الصحابة؛ على أن البتي قد استحب للملاعن أن يطلق بعد اللعان، ولم يستحسنه قبل ذلك؛ فدل على أن اللعان عنده قد أحدث حكما. وبقول عثمان قال جابر بن زيد فيما ذكره الطبري، وحكاه اللخمي عن محمد بن أبي صفرة. ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة. واحتج أهل هذه المقالة بأنه ليس في كتاب الله تعالى إذا لاعن أو لاعنت يجب وقوع الفرقة، وبقول عويمر: كذبت عليها إن أمسكتها؛ فطلقها ثلاثا، قال: ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه ولم يقل له لم قلت هذا، وأنت لا تحتاج إليه؛ لأن باللعان قد طلقت. والحجة لمالك في المشهور ومن وافقه قوله عليه السلام: "لا سبيل لك عليها". وهذا إعلام منه أن تمام اللعان رفع سبيله عنها وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم وإنما كان تنفيذا لما أوجب الله تعالى بينهما من المباعدة، وهو معنى اللعان في اللغة.
السابعة والعشرون: ذهب الجمهور من العلماء أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدا، فإن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، ولم ترجع إليه أبدا. وعلى هذا السنة التي لا شك فيها ولا اختلاف. وذكر ابن المنذر عن عطاء أن الملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان لم يحد، وقال: قد تفرقا بلعنة من الله. وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، وكان خاطبا من الخطاب إن شاء؛ وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وسعيد بن جبير وعبدالعزيز بن أبي سلمة، وقالوا: يعود النكاح حلالا كما لحق به الولد؛ لأنه لا فرق بين شيء من ذلك. وحجة الجماعة قوله عليه السلام: "لا سبيل لك عليها" ؛ ولم يقل إلا أن تكذب نفسك. وروى ابن إسحاق وجماعة عن الزهري قال: فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما فلا يجتمعان أبدا. ورواه الدارقطني، ورواه مرفوعا من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان أبدا". وروي عن علي وعبد قالا: مضت السنة ألا يجتمع المتلاعنان. عن علي: أبدا.
(12/194)


الثامنة والعشرون: اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء:
عدد الألفاظ: وهو أربع شهادات على ما تقدم.
والمكان: وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان، إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه، إن كانا يهوديين فالكنيسة، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه.
والوقت: وذلك بعد صلاة العصر.
وجمع الناس: وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا؛ فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والزمان والمكان مستحبان.
التاسعة والعشرون: من قال: إن الفراق لا يقع إلا بتمام التعانهما، فعليه لو مات أحدهما قبل تمامه ورثه الآخر. ومن قال: لا يقع إلا بتفريق الإمام فمات أحدهما قبل ذلك وتمام اللعان ورثه الآخر. وعلى قول الشافعي: إن مات أحدهما قبل أن تلتعن المرأة لم يتوارثا.
الموفية ثلاثين: قال ابن القصار: تفريق اللعان عندنا ليس بفسخ؛ وهو مذهب المدونة: فإن اللعان حكم تفريق الطلاق، ويعطى لغير المدخول بها نصف الصداق. وفي مختصر ابن الجلاب: لا شيء لها؛ وهذا على أن تفريق اللعان فسخ.
==============







النور - تفسير الطبري




















سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
تفسير سورة النور
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:( سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا ) وهذه السورة أنزلناها. وإنما قلنا معنى ذلك كذلك؛ لأن العرب لا تكاد تبتدئ بالنكرات قبل أخبارها إذا لم تكن جوابا، لأنها توصل كما يوصل الذي، ثم يخبر عنها بخبر سوى الصلة، فيستقبح الابتداء بها قبل الخبر إذا لم تكن موصولة، إذ كان يصير خبرها إذا ابتدئ بها كالصلة لها، ويصير السامع خبرها كالمتوقع خبرها، بعد إذ كان الخبر عنها بعدها، كالصلة لها، وإذا ابتدئ بالخبر عنها قبلها، لم يدخل الشك على سامع الكلام في مراد المتكلم. وقد بيَّنا فيما مضى قبل، أن السورة وصف لما ارتفع بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله:( وَفَرَضْنَاهَا ) فإن القرّاء اختلفت في قراءته، فقرأه بعض قرّاء الحجاز والبصرة: "وفَرَضْناهَا" ويتأولونه: وفصَّلناها ونزلنا فيها فرائض مختلفة. وكذلك كان مجاهد يقرؤه ويتأوّله.
حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا ابن مهدي، عن عبد الوارث بن سعيد، عن حميد، عن مجاهد، أنه كان يقرؤها: "وَفَرَّضْناهَا" يعني بالتشديد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: "وَفَرَّضْنَاها" قال: الأمر بالحلال، والنهي عن الحرام.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. وقد يحتمل ذلك إذا قرئ بالتشديد وجها غير الذي ذكرنا عن مجاهد،
(19/86)


الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
وهو أن يوجه إلى أن معناه: وفرضناها عليكم وعلى من بعدكم من الناس إلى قيام الساعة. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والشأم( وَفَرَضْنَاهَا ) بتخفيف الراء، بمعنى: أوجبنا ما فيها من الأحكام عليكم، وألزمناكموه وبيَّنا ذلك لكم.
والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذلك أن الله قد فصلها، وأنزل فيها ضروبًا من الأحكام، وأمر فيها ونهى، وفرض على عباده فيها فرائض، ففيها المعنيان كلاهما: التفريض، والفرض، فلذلك قلنا بأية القراءتين قرأ القارئ فمصيب الصواب.
*ذكر من تأوّل ذلك بمعنى الفرض، والبيان من أهل التأويل.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله:( وَفَرَضْنَاهَا ) يقول: بيَّناها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ) قال: فرضناها لهذا الذي يتلوها مما فرض فيها، وقرأ فيها:( آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ).
وقوله:( وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) يقول تعالى ذكره: وأنزلنا في هذه السورة علامات ودلالات على الحقّ بينات، يعني واضحات لمن تأمَّلَها وفكَّر فيها بعقل أنها من عند الله، فإنها الحقّ المبين، وإنها تهدي إلى الصراط المستقيم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج:( وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) قال: الحلال والحرام والحدود( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) يقول: لتتذكروا بهذه الآيات البينات التي أنزلناها.
القول في تأويل قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) }
يقول تعالى ذكره: من زنى من الرجال أو زنت من النساء، وهو حرّ بكر غير محصن بزوج، فاجلدوه ضربا مئة جلدة، عقوبة لما صنع وأتى من معصية الله.( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره: لا تأخذكم بالزاني والزانية أيها المؤمنون رأفة،
(19/90)


وهي رقة الرحمة في دين الله، يعني في طاعة الله فيما أمركم به من إقامة الحد عليهما على ما ألزمكم به.
واختلف أهل التأويل في المنهيّ عنه المؤمنون من أخذ الرأفة بهما، فقال بعضهم: هو ترك إقامة حدّ الله عليهما، فأما إذا أقيم عليهما الحد فلم تأخذهم بهما رأفة في دين الله.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، عن نافع، عن ابن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، قال: جلد ابنُ عمر جاريةً له أحدثت، فجلد رجليها، قال نافع: وحسبت أنه قال: وظهرها، فقلت:( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) فقال: وأخذتني بها رأفة؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن جُرَيج، قال: سمعت عبد الله بن أبي مليكة يقول: ثني عبيد الله بن عبد الله بن عمر، أن عبد الله بن عمر حدّ جارية له، فقال للجالد، وأشار إلى رجلها، وإلى أسفلها، قلت: فأين قول الله:( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال: أفأقتلها؟ .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) فقال: أن تقيم الحدّ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال: لا تضيعوا حدود الله.
قال ابن جُرَيج: وقال مجاهد:( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ) : لا تضيعوا الحدود في أن تقيموها، وقالها عطاء بن أبي رباح.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا عبد الملك وحجاج، عن عطاء( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال: يقام حد الله ولا يعطل، وليس بالقتل.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني محمد بن فضيل، عن داود، عن سعيد بن جبير، قال: الجلد.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن المغيرة، عن إبراهيم، في قوله:( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال: الضرب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت عمران، قال: قلت
(19/91)


لأبي مجلز:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا )... إلى قوله:( وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل حدًّا، أو تقطع يده قال: إنما ذاك أنه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم الحدّ.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال: لا تقام الحدود.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ) فتدعوهما من حدود الله التي أمر بها وافترضها عليهما.
قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، أنه سأل سليمان بن يسار، عن قول الله:( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) أي في الحدود أو في العقوبة؟ قال: ذلك فيهما جميعا.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: ثنا يحيى بن زكريا، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء في قوله:( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال: أن يقام حد الله ولا يعطَّل، وليس بالقتل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن عامر في قوله:( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال: الضرب الشديد.
وقال آخرون: بل معنى ذلك:( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ) فتخفِّفوا الضرب عنهما، ولكن أوجعوهما ضربا.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن أبي بكر، قال: ثنا أبو جعفر، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب:( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال: الجلد الشديد.
قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن حماد، قال: يحدّ القاذف والشارب وعليهما ثيابهما. وأما الزاني فتخلع ثيابه. وتلا هذه الآية:( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) فقلت لحماد: أهذا في الحكم؟ قال: في الحكم والجلد.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: يجتهد في حدّ الزاني والفرية، ويخفف في حدّ الشرب. وقال قَتادة: يخفف في
(19/92)


الشراب، ويجتهد في الزاني.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا تأخذكم بهما رأفة في إقامة حدّ الله عليهما الذي افترض عليكم إقامته عليهما.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب، لدلالة قول الله بعده: "في دين الله"، يعني في طاعة الله التي أمركم بها. ومعلوم أن دين الله الذي أمر به في الزانيين: إقامة الحد عليهما، على ما أمر من جلد كل واحد منهما مئة جلدة، مع أن الشدّة في الضرب لا حدّ لها يوقف عليه، وكل ضرب أوجع فهو شديد، وليس للذي يوجع في الشدة حدّ لا زيادة فيه فيؤمر به. وغير جائز وصفه جلّ ثناؤه بأنه أمر بما لا سبيل للمأمور به إلى معرفته، وإذا كان ذلك كذلك، فالذي للمأمورين إلى معرفته السبيل، هو عدد الجلد على ما أمر به، وذلك هو إقامة الحد على ما قلنا. وللعرب في الرأفة لغتان: الرأفة بتسكين الهمزة، والرآفة بمدها، كالسأمة والسآمة، والكأبة والكآبة. وكأن الرأفة المرّة الواحدة، والرآفة المصدر، كما قيل: ضؤل ضآلة مثل فعل فعالة، وقبح قباحة.
وقوله:( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) يقول: إن كنتم تصدّقون بالله ربكم وباليوم الآخر، وأنكم فيه مبعوثون لحشر القيامة، وللثواب والعقاب، فإن من كان بذلك مصدّقا، فإنه لا يخالف الله في أمره ونهيه؛ خوف عقابه على معاصيه. وقوله:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول تعالى ذكره: وليحضر جلد الزانيين البكرين وحدّهما إذا أقيم عليهما طائفة من المؤمنين. والعرب تسمي الواحد فما زاد: طائفة.( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول: من أهل الإيمان بالله ورسوله.
وقد اختلف أهل التأويل في مبلغ عدد الطائفة الذي أمر الله بشهود عذاب الزانيين البكرين، فقال بعضهم: أقله واحد.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الطائفة: رجل.
حدثنا علي بن سهل بن موسى بن إسحاق الكنانيّ وابن القوّاس، قالا ثنا يحيى بن عيسى، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: الطائفة رجل. قال عليّ: فما فوق ذلك; وقال ابن القواس:
(19/93)


فأكثر من ذلك.
حدثنا عليّ، قال: ثنا زيد، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الطائفة: رجل.
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: قال ابن أبي نجيح:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال مجاهد: أقله رجل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن مجاهد، في قوله:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: الطائفة: الواحد إلى الألف.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد في هذه الآية:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: الطائفة واحد إلى الألف .( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد، قال: الطائفة: الرجل الواحد إلى الألف، قال:( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) إنما كانا رجلين.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: سمعت عيسى بن يونس، يقول: ثنا النعمان بن ثابت، عن حماد وإبراهيم قالا الطائفة: رجل.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: الطائفة: رجل واحد فما فوقه.
وقال آخرون: أقله في هذا الموضع رجلان.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن أبي نجيح، في قوله:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: قال عطاء: أقله رجلان.
حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: أخبرني عمر بن عطاء، عن عكرمة قال: ليحضر رجلان فصاعدا.
وقال آخرون: أقلّ ذلك ثلاثة فصاعدا.
(19/94)


*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، قال: الطائفة: الثلاثة فصاعدا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قَتادة، في قوله:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: نفر من المسلمين.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، مثله.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص بن غياث، قال: ثنا أشعث، عن أبيه، قال: أتيت أبا برزة الأسلمي في حاجة، وقد أخرج جارية إلى باب الدار، وقد زنت، فدعا رجلا فقال: اضربها خمسين! فدعا جماعة، ثم قرأ:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ).
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى، عن أشعث، عن أبيه، أن أبا برزة أمر ابنه أن يضرب جارية له ولدت من الزنا ضربا غير مبرح، قال: فألقى عليها ثوبا وعنده قوم، وقرأ:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا )... الآية.
وقال آخرون: بل أقلّ ذلك أربعة.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: فقال: الطائفة التي يجب بها الحدّ أربعة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أقل ما ينبغي حضور ذلك من عدد المسلمين: الواحد فصاعدًا؛ وذلك أن الله عمّ بقوله:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ ) والطائفة: قد تقع عند العرب على الواحد فصاعدا.
فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن الله تعالى ذكره وضع دلالة على أن مراده من ذلك خاص من العدد، كان معلوما أن حضور ما وقع عليه أدنى اسم الطائفة ذلك المحضر مخرج مقيم الحدّ مما، أمره الله به بقوله:( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) غير أني وإن كان الأمر على ما وصفت، أستحب أن لا يقصر بعدد من يحضر ذلك الموضع عن أربعة أنفس عدد من تقبل شهادته على الزنا; لأن ذلك إذا كان كذلك، فلا خلاف بين الجمع أنه قد أدّى المقيم الحدّ ما عليه في ذلك، وهم فيما دون ذلك مختلفون.
(19/95)


الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
القول في تأويل قوله تعالى : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في بعض من استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح نسوة كنّ معروفات بالزنا من أهل الشرك، وكن أصحاب رايات ، يكرين أنفسهنّ، فأنزل الله تحريمهن على المؤمنين، فقال: الزاني من المؤمنين لا يتزوج إلا زانية أو مشركة، لأنهن كذلك; والزانية من أولئك البغايا لا ينكحها إلا زان من المؤمنين أو المشركين أو مشرك مثلها، لأنهن كن مشركات.
( وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) فحرم الله نكاحهن في قول أهل هذه المقالة بهذه الآية.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: ثني الحضرمي، عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عمرو: أن رجلا من المسلمين استأذن نبي الله في امرأة يقال لها أم مهزول، كانت تسافح الرجل وتشترط له أن تنفق عليه، وأنه استأذن فيها نبي الله صلى الله عليه وسلم وذكر له أمرها، قال: فقرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم:( وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) أو قال: فأنزلت( الزَّانِيَةُ ).
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثني هشيم، عن التيمي، عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عمرو في قوله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال: كنّ نساء معلومات، قال: فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوج المرأة منهن لتنفق عليه، فنهاهم الله عن ذلك.
قال: أخبرنا سليمان التيمي، عن سعيد بن المسيب، قال: كنّ نساء موارد بالمدينة.
حدثنا أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أبي، قال: ثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية:( وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال: نزلت في نساء موارد كنّ بالمدينة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: ثنا معتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن سعيد، بنحوه.
(19/96)


حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن رجل، عن عمرو بن سعيد قال: كان لمرثد صديقة في الجاهلية يقال لها عناق، وكان رجلا شديدا، وكان يقال له دلدل، وكان يأتي مكة فيحمل ضعفة المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقي صديقته، فدعته إلى نفسها، فقال: إن الله قد حرّم الزنا، فقالت: أنَّى تبرز، فخشي أن تشيع عليه، فرجع إلى المدينة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كانت لي صديقة في الجاهلية، فهل ترى لي نكاحها؟ قال: فأنزل الله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال: كنّ نساء معلومات يدعون: القيلقيات. (1)
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن إبراهيم بن مهاجر، قال: سمعت مجاهدا يقول في هذه الآية:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال: كن بغايا في الجاهلية.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن عبد الملك، عمن أخبره، عن مجاهد، نحوا من حديث ابن المثنى، إلا أنه قال: كانت امرأة منهنّ يقال لها: أمّ مهزول; يعني في قوله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال: فكنّ نساء معلومات، قال: فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوّج المرأة منهن لتنفق عليه، فنهاهم الله عن ذلك. هذا في حديث التيمي.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً ) قال: رجال كانوا يريدون الزنا بنساء زوانٍ بغايا متعالمات، كنّ في الجاهلية، فقيل لهم هذا حرام، فأرادوا نكاحهن، فحرّم الله عليهم نكاحهن.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، بنحوه، إلا أنه قال: بغايا معلنات، كنّ كذلك في الجاهلية.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه وإسماعيل بن
__________
(1) كذا جاءت هذه الكلمة في الأصول . ولعل أصلها : القلقيات ، نسبة إلى القلق ، وهو ضرب من القلائد المنظومة باللؤلؤ ، كن يلبسنه يستهوين به الرجال . أو نسبة إلى القلق ، لكثرة اضطرابهن وتحركهن . ( انظر التاج : قلق )
(19/97)


أبي خالد، عن الشعبي وابن أبي ذئب، عن شعبة، عن ابن عباس، قال: كنّ بغايا في الجاهلية، على أبوابهنّ رايات مثل رايات البيطار يعرفن بها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: نساء بغايا متعالمات، حرّم الله نكاحهن، لا ينكحهنّ إلا زان من المؤمنين، أو مشرك من المشركين.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) قال: كانت بيوت تسمى المَواخير في الجاهلية، وكانوا يؤاجرون فيها فتياتهن، وكانت بيوتا معلومة للزنا، لا يدخل عليهنّ ولا يأتيهنّ إلا زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان، فحرّم الله ذلك على المؤمنين.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، في قوله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال: بغايا متعالمات كن في الجاهلية، بغيّ آل فلان وبغيّ آل فلان، فأنزل الله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) فحكم الله بذلك من أمر الجاهلية على الإسلام. فقال له سليمان بن موسى: أبلغك ذلك عن ابن عباس؟ فقال: نعم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول في ذلك: كن بغايا متعالمات، بغيّ آل فلان وبغيّ آل فلان، وكنّ زواني مشركات، فقال:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) قال: أحكم الله من أمر الجاهلية بهذا. قيل له: أبلغك هذا عن ابن عباس؟ قال: نعم.
قال ابن جريج: وقال عكرمة: إنه كان يسمِّي تسعا بعد صواحب الرايات، وكنّ أكثر من ذلك، ولكن هؤلاء أصحاب الرايات: أمّ مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وأم عُلِيط جارية صفوان بن أمية، وحنة القبطية جارية العاصي بن وائل، ومَرِية جارية مالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار، وحلالة جارية سهيل بن عمرو، وأمّ سويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي، وسريفة جارية زمعة بن الأسود، وفرسة
(19/98)


جارية هشام بن ربيعة بن حبيب بن حذيفة بن جبل بن مالك بن عامر بن لُؤَيّ، وقريبا جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر بن غالب بن فهر.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وقال الزهري وقتادة، قالوا: كان في الجاهلية بغايا معلوم ذلك منهنّ، فأراد ناس من المسلمين نكاحهنّ، فأنزل الله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ )... الآية.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وقاله الزهريّ وقَتادة، قالوا: كانوا في الجاهلية بغايا، ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن القاسم بن أبي بَزّة: كان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية التي قد علم ذلك منها يتخذها مأكلة، فأراد ناس من المسلمين نكاحهنّ على تلك الجهة، فنهوا عن ذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، قال: قال القاسم بن أبي بزّة، فذكر نحوه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا سليمان التيميّ، عن سعيد بن المسيب ، قال: كنّ نساء مَواردَ بالمدينة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جُبير: أن نساء في الجاهلية كنّ يؤاجرن أنفسهنّ، وكان الرجل إنما ينكح إحداهنّ يريد أن يصيب منها عَرَضا، فنهوا عن ذلك، ونزل:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) ومنهنّ امرأة يقال لها :أمّ مهزول.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن الشعبيّ، في قوله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال: كنّ نساء يكْرِين أنفسهن في الجاهلية.
وقال آخرون: معنى ذلك: الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك. قالوا: ومعنى النكاح في هذا الموضع: الجماع.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص ، عن حُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس،
(19/99)


في قول الله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال: لا يزني إلا بزانية أو مشركة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن يَعْلَى بن مسلم، عن سعيد بن جُبير أنه قال في هذه الآية:( وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال: لا يزني الزاني إلا بزانية مثله أو مشركة.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن شُبْرُمة، عن سعيد بن جُبير وعكرمة في قوله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قالا هو الوطء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد، عن معمر، قال: قال سعيد بن جُبير ومجاهد:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قالا هو الوطء.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم وشعبة، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، قوله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قالا لا يزني الزاني حين يزني إلا بزانية مثله أو مشركة، ولا تزني مشركة إلا بمثلها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال: هؤلاء بغايا كنّ في الجاهلية، والنكاح في كتاب الله الإصابة، لا يصيبها إلا زان أو مشرك، لا يحرم الزنا، ولا تصيب هي إلا مثلها.
قال: وكان ابن عباس يقول: بغايا كنّ في الجاهلية.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير، قال: إذا زنى بها فهو زان.
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال: الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا بزانية مثله أو مشركة، قال: والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزان مثلها من أهل القبلة أو مشرك من غير أهل القبلة. ثم قال:( وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ).
وقال آخرون: كان هذا حكم الله في كلّ زان وزانية، حتى نسخه بقوله:( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ ) ، فأحل نكاح كلّ مسلمة وإنكاح كل مسلم.
(19/100)


*ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، في قوله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) قال: يرون الآية التي بعدها نسختها:( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ ) قال: فهن من أيامى المسلمين.
حدثنا القاسم، قال ثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال: نسختها التي بعدها:( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ ) وقال: إنهن من أيامى المسلمين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: وذكر عن يحيى، عن ابن المسيب، قال: نسختها:( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ ) .
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: نسختها قوله:( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى ).
حدثني يونس، قال: أخبرنا أنس بن عياض، عن يحيى، قال: ذكر عند سعيد بن المسيب:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال: فسمعته يقول: إنها قد نسختها التي بعدها، ثم قرأها سعيد، قال: يقول الله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) ثم يقول الله:( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ ) فهنّ من أيامى المسلمين.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عنى بالنكاح في هذا الموضع الوطء، وأن الآية نزلت في البغايا المشركات ذوات الرايات; وذلك لقيام الحجة على أن الزانية من المسلمات حرام على كل مشرك، وأن الزاني من المسلمين حرام عليه كل مشركة من عبدة الأوثان، فمعلوم إذ كان ذلك كذلك، أنه لم يُعْن بالآية أن الزاني من المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات، ولا ينكح إلا بزانية أو مشركة، وإذ كان ذلك كذلك، فبين أن معنى الآية: الزاني لا يزني إلا بزانية لا تستحلّ الزنا أو بمشركة تستحله.
وقوله:( وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) يقول: وحرّم الزنا على المؤمنين بالله ورسوله، وذلك هو النكاح الذي قال جلّ ثناؤه:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً )
(19/101)


وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) }
يقول تعالى ذكره: والذين يَشْتمون العفائف من حرائر المسلمين، فيرمونهنّ بالزنا، ثم لم يأتوا على ما رمَوْهن به من ذلك بأربعة شهداء عدول يشهدون، عليهنّ أنهنّ رأوهن يفعلن ذلك، فاجلدوا الذين رموهن بذلك ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الذين خالفوا أمر الله وخرجوا من طاعته ففسقوا عنها.
وذُكر أن هذه الآية إنما نزلت في الذين رموا عائشة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم بما رموها به من الإفك.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب وإبراهيم بن سعيد، قالا ثنا ابن فضيل، عن خصيف، قال: قلت لسعيد بن جُبير: الزنا أشدّ، أو قذف المحصنة؟ قال: لا بل الزنا. قلت: إن الله يقول:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ) قال: إنما هذا في حديث عائشة خاصة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ )... الآية في نساء المسلمين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) قال: الكاذبون.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
اختلف أهل التأويل في الذي استثني منه قوله:( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ) فقال بعضهم: استثني من قوله:( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) وقالوا: إذا تاب القاذف قُبلت شهادته وزال عنه اسم الفسق، حُدّ فيه أو لم يحدّ.
(19/102)


*ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن حماد الدّولابي، قال: ثني سفيان، عن الزهري، عن سعيد إن شاء الله، أن عمر قال لأبي بكرة: إن تبت قبلت شهادتك، أو رَدَّيْت شهادتك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب ضرب أبا بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كَلَدة حَدّهم. وقال لهم: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب شبل نفسه ونافع، وأبَى أبو بكرة أن يفعل. قال الزهريّ: هو والله سنة، فاحفظوه.
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد بن زُرَيع، قال: ثنا داود، عن الشعبيّ، قال: إذا تاب، يعني: القاذف، ولم يعلم منه إلا خير، جازت شهادته.
حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا داود، عن الشعبي، قال: على الإمام أن يستتيب القاذف بعد الجَلْد، فإن تاب وأونس منه خير جازت شهادته، وإن لم يتب فهو خليع لا تجوز شهادته.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا داود، عن عامر، أنه قال في القاذف: إذا تاب وعلم منه خير، إن شهادته جائزة، وإن لم يتب فهو خليع لا تجوز شهادته، وتوبته إكذابه نفسه.
قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن الشعبيّ، نحوه.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، قال في القاذف: إذا تاب وأكذب نفسه، قُبلت شهادته، وإلا كان خليعا لا شهادة له; لأن الله يقول:( لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ )... إلى آخر الآية.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبيّ أنه كان يقول في شهادة القاذف: إذا رجع عن قوله حين يُضرب، أو أكذب نفسه، قُبلت شهادته.
قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أنه كان يقول: يقبل الله توبته، وتردّون شهادته؛ وكان يقبل شهادته إذا تاب.
قال: أخبرنا إسماعيل عن الشعبيّ أنه كان يقول في القاذف: إذا شهد قبل أن يُضرب
(19/103)


الحدّ، قُبلت شهادته.
قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبيدة، عن إبراهيم وإسماعيل بن سالم، عن الشعبي، أنهما قالا في القاذف: إذا شهد قبل أن يُجلد فشهادته جائزة.
حدثني يعقوب، قال: قال أبو بشر، يعني ابن عُلَية، سمعت ابن أبي نجيح يقول: القاذف إذا تاب تجوز شهادته، وقال: كنا نقوله. فقيل له: من؟ قال: قال عطاء وطاووس ومجاهد.
حدثنا ابن بشار، وابن المثنى، قالا ثنا محمد بن خالد بن عثمة، قال: ثنا سعيد بن بشير، عن قَتادة، عن عمر بن طلحة، عن عبد الله، قال: إذا تاب القاذف جلد، وجازت شهادته. قال أبو موسى: هكذا قال ابن أبي عَثْمة.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا ابن أبي عَثْمة، قال: ثنا سعيد بن بشير، عن قَتَادة، عن سليمان بن يسار والشعبي قالا إذا تاب القاذف عند الجلد جازت شهادته.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة أن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة جلد رجلا في قذف، فقال: أكذب نفسك حتى تجوز شهادتك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي الهيثم، قال: سمعت إبراهيم والشعبيّ يتذاكران شهادة القاذف، فقال الشعبيّ لإبراهيم: لم لا تقبل شهادته؟ فقال: لأني لا أدري تاب أم لا.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن مجالد، عن الشعبيّ، عن مسروق، قال: تُقبل شهادته إذا تاب.
قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن يعقوب بن القعقاع، عن محمد بن زيد، عن سعيد بن جبير، مثله.
قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن ابن جُرَيج، عن عمران بن موسى، قال: شهدت عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة القاذف ومعه رجل.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: قال الشعبيّ: إذا تاب جازت شهادته، قال ابن المثنى. قال: عندي، يعني في القذف.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا مسعر، عن عمران بن عمير: أن عبد الله بن عتبة كان يجيز شهادة القاذف إذا تاب.
(19/104)


حدثني يعقوب، قال: ثني هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قال: إذا تاب وأصلح قبلت شهادته، يعني القاذف.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة، عن ابن المسيب، قال: تقبل شهادة القاذف إذا تاب.
حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن المسيب، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد، عن معمر، قال: قال الزُّهريّ: إذا حدّ القاذف، فإنه ينبغي للإمام أن يستتيبه، فإن تاب قبلت شهادته، وإلا لم تقبل، قال: كذلك فعل عمر بن الخطاب بالذين شهدوا على المغيرة بن شعبة، فتابوا إلا أبا بكرة، فكان لا تقبل شهادته.
وقال آخرون: الاستثناء في ذلك من قوله:( وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ).
وأما قوله:( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ) فقد وصل بالأبد ولا يجوز قبولها أبدا.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا أشعث بن سوّار، قال: ثني الشعبي، قال: كان شريح يجيز شهادة صاحب كلّ عمل إذا تاب إلا القاذف، فإن توبته فيما بينه وبين ربه، ولا نجيز شهادته.
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا أشعث بن سوار، قال: ثنا الشعبيّ، عن شريح بنحوه، غير أنه قال: صاحب كلّ حدّ إذا كان عدلا يوم شهد.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية عن الأعمش. عن إبراهيم، عن شريح، قال: كان لا يجيز شهادة القاذف، ويقول: توبته فيما بينه وبين ربه.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، عن مُطَرّف، عن أبي عثمان، عن شريح في القاذف: يقبل الله توبته، ولا أقبل شهادته.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا أشعث، عن الشعبيّ، قال: أتاه خصمان، فجاء أحدهما بشاهد أقطع، فقال الخصم: ألا ترى ما به؟ قال: قد أراه. قال: فسأل القوم، فأثنوا عليه خيرا، فقال شريح: نجيز شهادة كل صاحب حدّ، إذا كان يوم شهد عدلا إلا القاذف، فإن توبته فيما بينه وبين ربه.
(19/105)


حدثنا أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا أشعث، عن الشعبيّ، قال: جاء خصمان إلى شُرَيح، فجاء أحدهما ببينة، فجاء بشاهد أقطع، فقال الخصم: ألا ترى إلى ما به؟ فقال شريح: قد رأيناه، وقد سألنا القوم فأثنوا خيرا، ثم ذكر سائر الحديث، نحو حديث أبي كريب.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا الشيبانيّ، عن الشعبيّ، عن شريح أنه كان يقول: لا تُقبل له شهادة أبدا، توبته فيما بينه وبين ربه، يعني القاذف.
قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا الأشعث، عن الشعبيّ، بأن ربابا قطع رجلا في قطع الطريق، قال: فقطع يده ورجله. قال: ثم تاب وأصلح، فشهد عند شريح، فأجاز شهادته، قال: فقال المشهود عليه: أتجيز شهادته عليّ وهو أقطع؟ قال: فقال شريح: كل صاحب حدّ إذا أقيم عليه ثم تاب وأصلح؛ فشهادته جائزة إلا القاذف.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني المغيرة: ، قال: سمعت إبراهيم يحدّث عن شريح، قال: قضاء من الله لا تقبل شهادته أبدا، توبته فيما بينه وبين ربه، قال أبو موسى: يعني القاذف.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، قال: قال شريح: لا يقبل الله شهادته أبدا.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد، عن قَتادة، عن سعيد ابن المسيب، قال: لا تجوز شهادة القاذف، توبته فيما بينه وبين الله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قَتَادة، عن الحسن، أنه قال: القاذف توبته فيما بينه وبين الله، وشهادته لا تُقبل.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: لا تجوز شهادة القاذف، توبته فيما بينه وبين الله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، عن الحسن، أنه قال: القاذف توبته فيما بينه وبين الله، وشهادته لا تُقبل.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم أنه قال في الرجل يجلد الحدّ، قال: لا تجوز شهادته أبدا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان لا يقبل
(19/106)


له شهادة أبدا، وتوبته فيما بينه وبين الله، يعني القاذف.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجُوزُ شَهادَةُ مَحْدُودٍ فِي الإسْلامِ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن:( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ) قال: كان يقول: لا تقبل شهادة القاذف أبدا، إنما توبته فيما بينه وبين الله. وكان شريح يقول: لا تقبل شهادته.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ) ثم قال: فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل.
والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الاستثناء من المعنيين جميعا، أعني من قوله:( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ) ومن قوله:( وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن ذلك كذلك، إذا لم يحدّ في القذف حتى تاب، إما بأن يرفع إلى السلطان بعفو المقذوفة عنه، وإما بأن ماتت قبل المطالبة بحدّها، ولم يكن لها طالب يطلب بحدّها، فإذ كان ذلك كذلك وحدثت منه توبة صحت له بها العدالة.
فإذ كان من الجميع إجماعا، ولم يكن الله تعالى ذكره شرط في كتابه أن لا تقبل شهادته أبدا بعد الحدّ في رميه، بل نهى عن قبول شهادته في الحال التي أوجب عليه فيها الحدّ، وسماه فيها فاسقا، كان معلوما بذلك أنّ إقامة الحدّ عليه في رميه، لا تحدث في شهادته مع التوبة من ذنبه، ما لم يكن حادثا فيها قبل إقامته عليه، بل توبته بعد إقامة الحدّ عليه من ذنبه أحرى أن تكون شهادته معها أجوز منها قبل إقامته عليه; لأن الحدّ يزيد المحدود عليه تطهيرًا من جرمه الذي استحقّ عليه الحدّ.
فإن قال قائل: فهل يجوز أن يكون الاستثناء من قوله:( فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ) فتكون التوبة مسقطة عنه الحد، كما كانت لشهادته عندك قبل الحد وبعده مجيزة، ولاسم الفسق عنه مزيلة؟ قيل: ذلك غير جائز عندنا، وذلك أن الحدّ حقّ عندنا للمقذوفة، كالقصاص الذي يجب لها من جناية يجنيها عليها مما فيه القصاص، ولا خلاف بين الجميع أن توبته من ذلك لا تضع عنه الواجب لها من القصاص منه، فكذلك توبته من القذف لا تضع عنه الواجب لها من الحدّ، لأن ذلك حقّ لها، إن شاءت عفته،
(19/107)


وإن شاءت طالبت به، فتوبة العبد من ذنبه إنما تضع عن العبد الأسماء الذميمة، والصفات القبيحة، فأما حقوق الآدميين التي أوجبها الله لبعضهم على بعض في كل الأحوال فلا تزول بها ولا تبطل.
واختلف أهل العلم في صفة توبة القاذف التي تقبل معها شهادته، فقال بعضهم: هو إكذابه نفسه فيه. وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى قبل، ونحن نذكر بعض ما حضرنا ذكره مما لم نذكره قبل.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن ليث، عن طاووس، قال: توبة القاذف أن يكذّب نفسه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، قال: رأيت رجلا ضُرب حدّا في قذف بالمدينة، فلما فُرغ من ضربه تناول ثوبه، ثم قال: أستغفر الله وأتوب إليه من قذف المحصنات، قال: فلقيت أبا الزناد، فذكرت ذلك له، قال: فقال: إن الأمر عندنا هاهنا أنه إذا قال ذلك حين يفرغ من ضربه، ولم نعلم منه إلا خيرا قُبلت شهادته.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا )... الآية، قال: من اعترف وأقرّ على نفسه علانية أنه قال البهتان، وتاب إلى الله توبة نصوحا، والنصوح: أن لا يعودوا، وإقراره واعترافه عند الحدّ حين يؤخذ بالجلد، فقد تاب، والله غفور رحيم.
وقال آخرون: توبته من ذلك صلاح حاله، وندمه على ما فرط منه من ذلك، والاستغفار منه، وتركه العود في مثل ذلك من الجرم، وذلك قول جماعة من التابعين وغيرهم، وقد ذكرنا بعض قائليه فيما مضى، وهو قول مالك بن أنس.
وهذا القول أولى القولين في ذلك بالصواب؛ لأن الله تعالى ذكره جعل توبة كل ذي ذنب من أهل الإيمان تركه العود منه، والندم على ما سلف منه، واستغفار ربه منه، فيما كان من ذنب بين العبد وبينه، دون ما كان من حقوق عباده ومظالمهم بينهم ، والقاذف إذا أُقيم عليه فيه الحدّ، أو عُفي عنه، فلم يبق عليه إلا توبته من جرمه بينه وبين ربه،
(19/108)


وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)
فسبيل توبته منه سبيل توبته من سائر أجرامه، فإذا كان الصحيح في ذلك من القول ما وصفنا، فتأويل الكلام: وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من جُرمهم الذي اجترموه بقذفهم المحصنات من بعد اجترامهموه( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول: ساتر على ذنوبهم بعفوه لهم عنها، رحيم بهم بعد التوبة أن يعذّبهم عليها، فأقبلوا شهادتهم ولا تسموهم فسقة، بل سموهم بأسمائهم التي هي لهم في حال توبتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) }
يقول تعالى ذكره:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ ) من الرجال( أَزْوَاجِهِمْ ) بالفاحشة، فيقذفونهنّ بالزنا،( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ ) يشهدون لهم بصحة ما رموهنّ به من الفاحشة،( فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ).
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: "أرْبَعَ شَهاداتٍ" نصبا، ولنصبهم ذلك وجهان: أحدهما: أن تكون الشهادة في قوله:( فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ ) مرفوعة بمضمر قبلها، وتكون "الأربع" منصوبا بمعنى الشهادة، فيكون تأويل الكلام حينئذ: فعلى أحدهم أن يشهد أربعَ شهادات بالله. والوجه الثاني: أن تكون الشهادة مرفوعة بقوله:( إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) و"الأربع" منصوبة بوقوع الشهادة عليها، كما يقال: شهادتي ألف مرة إنك لرجل سَوْء، وذلك أن العرب ترفع الأيمان بأجوبتها، فتقول: حلف صادق لأقومنّ، وشهادة عمرو ليقعدنّ. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين:( أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ ) برفع "الأربع"، ويجعلونها للشهادة مرافعة، وكأنهم وجهوا تأويل الكلام: فالذي يلزم من الشهادة، أربعُ شهادات بالله إنه لمن الصادقين.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ: "فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين" بنصب أربع، بوقوع "الشهادة" عليها، و "الشهادة" مرفوعة حينئذ على ما وصفت من الوجهين قبل. وأحبّ وجهيهما إليّ أن تكون به مرفوعة بالجواب، وذلك قوله:( إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) وذلك أن معنى الكلام:( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن
(19/109)


الصادقين) تقوم مقام الشهداء الأربعة في دفع الحدّ عنه. فترك ذكر: تقوم مقام الشهداء الأربعة، اكتفاء بمعرفة السامعين بما ذكر من الكلام، فصار مرافع "الشهادة" ما وصفت.
ويعني بقوله:( فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ) : فحلف أحدهم أربع أيمان بالله، من قول القائل: أشهد بالله إنه لمن الصادقين فيما رمى زوجته به من الفاحشة.( وَالْخَامِسَةُ ) يقول: والشهادة الخامسة،( أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ ) يقول: إن لعنة الله له واجبة وعليه حالَّة، إن كان فيما رماها به من الفاحشة من الكاذبين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت به جماعة من أهل التأويل.
ذكر الرواية بذلك، وذكر السبب الذي فيه أنزلت هذه الآية:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلية، قال: ثنا أيوب، عن عكرمة، قال: لما نزلت( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ) قال سعد بن عبادة: الله إن أنا رأيت لَكَاعِ متفخذَها رجل فقلت بما رأيت إن في ظهري لثمانين إلى ما أجمع أربعة قد ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا مَعْشَرَ الأنْصَار، ألا تَسْمَعونَ إلى ما يَقولُ سَيِّدُكُمْ؟ ". قالوا: يا رسول الله لا تَلُمْه، وذكروا من غيرته، فما تزوّج امرأة قط إلا بكرا، ولا طلق امرأة قطّ فرجع فيها أحد منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإنَّ الله يَأبَى إلا ذَاكَ" فقال: صدق الله ورسوله . قال : فلم يلبثوا أن جاء ابن عمّ له فرمى امرأته ، فشق ذلك على المسلمين، فقال: لا والله، لا يجعل في ظهري ثمانين أبدا، لقد نظرت حتى أيقنت، ولقد استسمعت حتى استشفيت، قال: فأنزل الله القرآن باللعان، فقيل له: احلف! فحلف، قال: قفوه عند الخامسة، فإنها موجبة، فقال: لا يدخله الله النار بهذا أبدا، كما درأ عنه جلد ثمانين، لقد نظرت حتى أيقنت، ولقد استسمعت حتى استشفيت فحلف، ثم قيل: احلفي، فحلفت، ثم قال: قفوها عند الخامسة، فإنها مُوجِبة، فقيل لها: إنها مُوجبة، فتلكأت ساعة، ثم قالت: لا أُخْزي قومي، فحلفت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ جاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِزَوْجها، وإنْ جاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ للَّذِي قِيلَ فِيهِ ما قِيلَ، قال: فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق، فكان بعد أميرا بمصر لا يُعرف نسبه، أو لا يُدْرَى من أبوه".
(19/110)


حدثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا عباد، قال: سمعت عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) قال سعد بن عبادة: لهكذا أنزلت يا رسول الله؟ لو أتيتُ لَكَاع قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحرّكه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله ما كنت لآتيَ بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا مَعْشَرَ الأنْصَار أما تَسْمَعونَ إلى ما يَقُول سَيدُكُمْ؟ "قالوا: لا تلمه فإنه رجل غَيُور، ما تزوّج فينا قطّ إلا عذراء ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوّجها؛ قال سعد: يا رسول الله، بأبي وأمي، والله إني لأعرف أنها من الله، وأنها حقّ، ولكن عجبت لو وجدت لَكَاعِ، قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، والله لا آتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته، فوالله ما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية من حديقة له فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، فأمسك حتى أصبح، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس مع أصحابه، فقال: يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء، فوجدت رجلا مع أهلي، رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه به وثقل عليه جدا، حتى عُرف ذلك في وجهه، فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به، والله يعلم أني صادق، وما قلت إلا حقا، فإني لأرجو أن يجعل الله فرجا، قال: واجتمعت الأنصار، فقالوا: ابتلينا بما قال سعد، أيجلد هلال بن أميَّة، وتبطل شهادته في المسلمين؟ فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضربه، فإنه لكذلك يريد أن يأمر بضربه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه، إذ نزل عليه الوحي، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ، فأنزل الله:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ )... إلى:( أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبْشِرْ يا هِلالُ، فإنَّ الله قدْ جَعَل فَرَجا " فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرْسِلُوا إلَيْها!" فجاءت، فلما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لها، فكذّبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكما كاذب، فَهَل مِنْكُما تائب؟ " فقال هلال:
(19/111)


يا رسول الله، بأبي وأمي لقد صدقتُ، وما قلت إلا حقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاعِنُوا بَيْنَهُما!" قيل لهلال: يا هلال اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فقيل له عند الخامسة: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الله أشدّ من عذاب الناس، إنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال هلال: والله لا يعذّبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهد الخامسة:( أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) ثم قيل لها: اشهدي، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فقيل لها عند الخامسة: اتقي الله، فإن عذاب الله أشدّ من عذاب الناس، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة:( أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ففرّق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقضى أن الولد لها، ولا يُدعى لأب، ولا يُرْمى ولدها.
حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا أبو أحمد الحسين بن محمد، قال: ثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: " لما قذف هلال بن أميَّة امرأته، قيل له: والله ليجلدنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانين جلدة ، قال: الله أعدل من ذلك أن يضربني ضربة وقد علم أني قد رأيت حتى استيقنت، وسمعت حتى استثبتُّ، لا والله لا يضربني أبدا، فنزلت آية الملاعنة، فدعا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت الآية، فقال: "الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ فقال هلال: والله إني لصادق. فقال له: "احلف بالله الذي لا إله إلا هو: إني لصادق" يقول ذلك أربعَ مرّات فإن كنتُ كاذبا فعليّ لعنة الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قِفُوه عِنْدَ الخامِسَة، فإنَّها مُوجِبه" ، فحلف، ثم قالت أربعا: والله الذي لا اله إلا هو إنه لمن الكاذبين، فإن كان صادقا فعليها غضب الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قِفُوها عِنْدَ الخامِسَة، فإنَّها مُوجِبة"، فتردّدت وهمَّت بالاعتراف، ثم قالت: لا أفضح قومي.
حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي، قالا ثنا عَبْدة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنا ليلة الجمعة في المسجد، فدخل رجل فقال: لو أن رجلا وجَد مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله آية اللعان، ثم جاء الرجل بعد، فقذف امرأته، فلاعن
(19/112)


رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، فقال: " عَسَى أنْ تَجِيء بِهِ أسْوَدَ جَعْدًا، فجاءت به أسود جعدا".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جُبير قال: سألت ابن عمر، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أيفرق بين المتلاعنين؟ فقال: نعم، سبحان الله، إن أوّل من سأل عن ذلك فلان، أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: أرأيت لو أن أحدنا رأى صاحبته على فاحشة، كيف يصنع؟ فلم يجبه في ذلك شيئا، قال: فأتاه بعد ذلك فقال: إن الذي سألت عنه قد ابتليتُ به، فأنزل الله هذه الآية في سورة النور، فدعا الرجل فوعظه وذكَّره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: والذي بعثك بالحق، لقد رأيت وما كذبتُ عليها، قال: ودعا المرأة فوعظها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، وما رأى شيئا؛ قال: فبدأ الرجل، فشهد أربع شهادات بالله: إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين; ثم إن المرأة شهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غَضَبَ الله عليها إن كان من الصادقين وفرق بينهما.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عامر، قال: لما أنزل:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ) قال عاصم بن عديّ: إن أنا رأيت فتكلمت جلدت ثمانين، وإن أنا سكت سكت على الغيظ، قال: فكأن ذلك شقّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: فأنزلت هذه الآية:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ ) قال: فما لبثوا إلا جمعة، حتى كان بين رجل من قومه وبين امرأته، فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ )... الآية، والخامسة: أن يقال له: إن عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين. وإن أقرّت المرأة بقوله رُجمت، وإن أنكرت شهدت أربع شهادات بالله: إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن يقال لها: غضب الله عليك إن كان من الصادقين، فيدرأ عنها العذاب، ويفرق بينهما، فلا يجتمعان أبدا، ويُلحق الولد بأمه.
(19/113)


وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عكرمة، قوله:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ) قال: هلال بن أميَّة: والذي رميت به شريك بن سحماء، والذي استفتى عاصم بن عديّ.
قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: أخبرني الزهريّ عن الملاعنة والسنة فيها، عن حديث سهل بن سعد أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يفعل؟ فأنزل الله في شأنه ما ذكر من أمر المتلاعنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قَضَى اللهُ فيكَ وفِي امرْأتِكَ، فتلاعنا وأنا شاهد" ثم فارقها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت السنة بعدها أن يفرّق بين المتلاعنين، وكانت حاملة، فأنكره، فكان ابنها يُدعى إلى أمه، ثم جرت السنة أن ابنها يَرثها، وترث ما فرض الله لها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ )... إلى قوله:( إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) قال: إذا شهد الرجل خمس شهادات، فقد برئ كل واحد من الآخر، وعِدَّتُها إن كانت حاملا أن تضع حملها، ولا يجْلد واحد منهما، وإن لم تحلف أقيم عليها الحدّ والرجْم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) }
يعني جلّ ذكره بقوله:( وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ ) : ويدفع عنها الحدّ.
واختلف أهل العلم في العذاب الذي عناه الله في هذا الموضع أنه يدرؤه عنها شهاداتها الأربع، فقال بعضهم: بنحو الذي قلنا في ذلك، من أن الحدّ جلد مئة إن كانت بكرا، أو الرجم إن كانت ثيبا قد أحصنت.
وقال آخرون: بل ذلك الحبس، وقالوا: الذي يجب عليها إن هي لم تشهد الشهادات الأربع بعد شهادات الزوج الأربع، والتعانه: الحبس دون الحدّ.
وإنما قلنا: الواجب عليها إذا هي امتنعت من الالتعان بعد التعان الزوج الحدّ الذي
(19/114)


وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
وصفنا، قياسا على إجماع الجميع على أن الحدّ إذا زال عن الزوج بالشهادات الأربع على تصديقه فيما رماها به، أن الحدّ عليها واجب، فجعل الله أيمانه الأربع، والتعانه في الخامسة مخرجا له من الحدّ الذي يجب لها برميه إياها، كما جعل الشهداء الأربعة مخرجا له منه في ذلك وزائلا به عنه الحدّ، فكذلك الواجب أن يكون بزوال الحدّ عنه بذلك واجبا عليها حدّها، كما كان بزواله عنه بالشهود واجبا عليها، لا فرق بين ذلك، وقد استقصينا العلل في ذلك في باب اللعان من كتابنا المسمى [لطيف القول في شرائع الإسلام]، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله:( أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ) يقول: ويدفع عنها العذاب أن تحلف بالله أربع أيمان: أن زوجها الذي رماها بما رماها به من الفاحشة، لمن الكاذبين فيما رماها من الزنا، وقوله:( وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا )... الآية، يقول: والشهادة الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان زوجها فيما رماها به من الزنا من الصادقين. ورفع قوله:( وَالْخَامِسَةُ ) في كلتا الآيتين، بأن التي تليها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) }
يقول تعالى ذكره: ولولا فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته بكم، وأنه عَوّاد على خلقه بلطفه وطوله، حكيم في تدبيره إياهم، وسياسته لهم، لعاجلكم بالعقوبة على معاصيكم وفضح أهل الذنوب منكم بذنوبهم، ولكنه ستر عليكم ذنوبكم وترك فضيحتكم بها عاجلا رحمة منه بكم، وتفضلا عليكم، فاشكروا نعمه وانتهوا عن التقدّم عما عنه نهاكم من معاصيه، وترك الجواب في ذلك، اكتفاء بمعرفة السامع المراد منه.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

والثمن الجنة لعبد الملك القاسم

سلسلة أين نحن من هؤلاء ؟  كتاب والثمن الجنة لعبد الملك القاسم  بسم الله الرحمن الرحيم  المقدمة  الحمد لله الذي وعد من أطاعه جنات عدن تجري ...