دعاء الاموات لمشاري

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate

الجمعة، 3 مارس 2023

ملامح السعادة في تربية الطفل



ملامح السعادة في تربية الطفل على العبادة إعداد الدكتور عبد المجيد البيانوني عضو رابطة الأدب الإسلاميّ العالميّة المشرف العلميّ على موقع الميثاق التربويّ/ 1426 هـ

تصدير قال الله تعالى :

{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) } ابراهيم .

{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ، رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) } إبراهيم .

{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ، وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) } الفرقان .

الإهداء إلى الوالدين المؤمنين ، اللذين يتطلّعان إلى أولادهم أن يكونوا قرّة أعين لهم في الدارين .

إلى الأسرة المسلمة التي عرفت هدف حياتها ، وغاية وجودها .

إلى أمّة الحقّ والهدى ، التي لا يضرّها من خالفها أو خذلها ..

أمّة العبادة والقيادة والشهادة .

أهدي هذه المقالات نبراساً وذكرى ..

الحمد لله القائل في كتابه المبين : {الذاريات ، والقائل أيضاً : من سورة } الحجر ، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على سيّد العابدين ، وأشرف الأنبياء والمرسلين ، وسيّد الخلق أجمعين ، القائل : ( أفَلا أكُونُ عَبداً شَكُوراً ) ([1]) ، وعلى آله وأصحابه والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد ؛

فإنّ أولويّةَ البدء بتربية الأطفال تفرض نفسها بصورة أكبر عندما نعلم أنّ الأطفال والناشئة يشكّلون من جهةٍ شريحةً واسعةً من المجتمع ، وهم من جهةٍ أخرى يشكّلون بقيّة الشرائح في المستقبل .. ولاشكّ أنّ تأسيس التربية على أصولها الراسخة خير من إهدار القوى والطاقات في معالجة النتائج السلبيّة للإهمال والتفريط .

وأيّهما أولى بالاهتمام والتقديم : إعداد أجيال صحيحة النشأة قويمة البنيان ، أم بذل الجهود في إصلاح الراشدين .؟ وإذا كان كلا الأمرين ضروريّاً ، فإنّ أولويّة التربية للأطفال والناشئين تفرض نفسها ، لأنّ مسئوليّة الآباء والمربّين عن تربيتهم ورعايتهم أكبر وآكد ، ولأنّ مَا يقدّم لهم كالبذر في الأرض الطيّبة يحسُن نباته ، ويعظم خيره بإذن الله ، ويكثر ثمره .

وإنَّ التربية على العبادة من أعظم مقاصد التربية الإسلاميّة وأهدافها ، وهي تحتاج إلى عناية المربّي ورعايته ، وجهد مقصود منه ، يتعهّد به الطفل منذ نعومة أظفاره ، يحبّب له العبادة ، ويرغّبه بها ، ويشوّقه بحاله وقاله إلى اليوم الذي يكون فيه كبيراً ، فيؤدّيها مثل الكبار ..

وإنّ الخطأ الذي يقع فيه كثير من الآباء والأمّهات أنّهم لا يمهّدون للطفل سبيل العبادة منذ مرحلة مبكّرة ، حتّى إذا أصبح في سنّ السابعة أمروه بالصلاة ، فرآها ثقيلة على نفسِه ، لأنّه لم يمهّد له السبيل إليها .

على أنّ خير تمهيد للطفل ما يراه من والديه صباح مساء ، ومن إخوته الكبار ومعلّميه ، من أدائهم للصلاة ، وحرصهم عليها ، واهتمامهم بها ، وكذلك سائر العبادات .

وفطرة الطفل السويّة خير ما يعين المربّي على تحبيبه بالعبادة وترغيبه بها ، " وإنّ القلبَ الإنسانيَّ دائمُ الشعورِ بالحاجةِ إلى اللهِ تعالى ، وهوَ شعورٌ أصيلٌ صادقٌ ، لا يملأُ فراغَه شيءٌ في الوجودِ ، إلاّ حسنُ الصلةِ بربِّ الوجودِ ، وهذا ما تقومُ بهِ العبادةُ ، إذا أُديَت على وجهِها ، فكيف بقلب الطفل ، الذي هو صفحة بيضاء نقيّة .؟

وكلَّما أخلَصَ المرءُ العبوديةَ للهِ وجدَ نفسَه ، واهتدى إلى سرِّ وجودِه ، ووجدَ معَ ذلكَ سعادةً روحيةً لا تدانيها سعادةٌ ، تتمثلُ فيما سماهُ الرسولُ e : " حلاوةَ الإيمانِ " ([2]) .

والحديثُ عن " أطفالِنَا والعبادة " حديث للآباء والمربّين بالدرجة الأولى ، لأنّهم هم القائمون على شئون الأولاد ، المكلّفون بتربيتهم ورعايتهم ..

وإنّه على قدر وعي الآباء والمربّين بشئون التربية ومتطلّباتِها ينجحون في القيام بمسئوليّتهم وأدَائها على أحسَن وَجه .

وبعد ؛ فهذه مجموعة من المقالات في تربية الأطفال على العبادة ، أسأل الله تعالى بمنّه وفضله وكرمه ، أن تكون عوناً للمربّي على تحبيب الطفل بالعبادة وتنشئته عليها ، وأن ينفع بها ، ويتقبّلها منّي ، ويعظم لي بها الأجر والمثوبة ،  إنّه أكرم مسئول ، وأرجى مأمول ، وهو حسبي ونعم الوكيل .

وصلّى الله وسلّم وبارك ، على عبده ونبيّه الأمّيّ ، الطاهر الزكيّ ، وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، والحمد لله ربّ العالمين .

 

جدّة في 17/1/1426 هـ     وكتبه                               د. عبد المجيد البيانوني

 

 

      

 

 

M

أهمّ  الأهداف التربويّة العامّة من العبادات

 

إنّ العبوديّة لله تعالى سمة تطبع الحياة الإنسانيّة من أوّلها إلى آخرها ، وفي كبير الأمور وصغيرها ، ومثلها كمثل الأوراق الرسميّة التي تتّخذها الوزارات والإدارات الحكوميّة ، تحمل صفتها ، وتذيّل بختمها ، فلا يشكّ أحد في نسبتها إليها .

1 ـ تحقيق العبوديّة لله تعالى ، وشكره على ما أنعم به وتفضّل .

2 ـ تهذيب النفس ، وتحقيق اتّصالها بالله سبحانه .

3 ـ تحقيق التوازن في شخصيّة الإنسان وسلوكه .

4 ـ تربية الإنسان على حسن الاتّصال بالجماعة والتعاون معها .

5 ـ اعتدَال صحّة الإنسان وسلامة جسمه .

6 ـ تهذيب الأخلاق ، وتربية الضمير على المكارم ، وغرس الشمائل الطيّبة .

7 ـ تقوية إرادة الإنسان ورفع همّته .

 

بدهيّات في التربية الإسلاميّة

 

هناك بدهيّات في التربية الإسلاميّة ينبغي ألاّ تغيب عن فكر كلّ مسلم فضلاً عن المربّي ، وأهمّها :

1 ـ لابدّ من إشاعة أركان الإيمان وحقائقه ، بدلائلها وبراهينها بين العامّة والخاصّة ، بصورة ينتفي فيها الجهل ، ويعمّ العلم .

2 ـ لابدّ من تأسيس التربية على الإيمان بالله واليوم الآخر وحقائق الإيمان وثمراته .

3 ـ ضرورة الربط بين الإيمان والعمل الصالح ، فكما أنّ العمل بغير الإيمان هباء منثور ، فإنّ الإيمان بغير عمل شجرة بدون ثمرة .

4 ـ الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته هو الأصل الأكبر ، الذي تقوم عليه العقيدَة الحقّة ،

5 ـ لابدّ من اعتماد الوسائل الصحيحة الفعّالة في غرس الإيمان وتعهّده ، وألاّ يقوم ذلك على مجرّد التلقين والحفظ .

6 ـ ضرورة الربط بين الإيمان وحقائقه ، وبين علوم الكون ودلائله التي لا تحصى ، على أركان الإيمان وحقائقه وأسسه .

الأسرةُ العابدَةُ

 

الأسرةُ العابدَة أمنية دعا بها الأنبياء والصالحون ، وتطلّع إليها المصلحون ، واشرأبّت إليها أعناق المتّقين ، إذ إنّها تحقّق غاية الوجود الإنسانيّ ، عدا عمّا فيها من بقاء الحقّ يتسلسل في الأجيال التالية ، يتوارثه الأبناء عن الآباء ، ويكون سبب سعادة الأبناء في الآخرة ، وعزّهم وسيادتهم في الدنيا ، وهي مائدة ممدودة ، وباب من الأجر والمثوبة مفتوح للآباء ، بما يدعو لهم الأبناء ، ومَا كانوا فيه سبباً للخير والهدى ..

فقد وصف الله تعالى بعض أنبيائه بقوله : { .. وكانوا لنا عابدين (73) } الأنبياء ، وصيغة الجمع تشير إلى ما يمثّلونه من أسرٍ صالحة قام بنيانها على الإيمان بالله والحرص على مرضاته وتقواه .. وحدّثنا القرآن عن خليل الله إبراهيم عليه السلام أنّه دعا ربّه : { ربّ اجعلني مقيم الصلاة ، ومن ذرّيّتي ، ربّنا وتقبّل دعاء (40) } إبراهيم . ووصف الله نبيّه إسماعيل عليه السلام بقوله سبحانه : { وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ، وكان عند ربّه مرضيّاً (55) } مريم . وجاء في دعاء عباد الرحمن : { والذين يقولون : ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرّيّاتنا قرّة أعين ، واجعلنا للمتّقين إماماً (74) } الفرقان .

والعبادة لله تعالى مظهر التحقّق بالعبوديّة الصادقة ، التي يشكر الأنبياء الكرام ربّهم عليها ، ويتمنّى المؤمنون الصادقونَ أن تستمرّ في أولادهم وذرّيّتهم منْ بعدهم ، فمن دعاء سليمان عليْه السلام ، الذي قصّه علينا القرآن : { قال : ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ ، وعلى والديّ ، وأن أعملَ صالحاً ترضاه ، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين (19) } النمل ، وحدّثنا القرآن عن حال الرجل الصالح ، كيف يدعو ربّه ويرجوه : { قال : ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ ، وعلى والديّ ، وأن أعملَ صالحاً ترضاه ، وأصلح لي في ذرّيّتي ، إنّي تبت إليك ، وإنّي من المسلمين (15) } الأحقاف .

وأمر الله تعالى المؤمنين أن يأمروا أهليهم بالصلاة ويصبروا عليها ، والصلاة أهمّ العبادات العمليّة ، وأرفعها درجة ومنزلة ، فقال تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة ، واصطبر عليها ، لا نَسألك رزقاً ، نحنُ نرزقك ، والعاقبة للتقوى (132) } طه .

فالأسرة العابدَة أسرة عرفت غايتها في الحياة ، فانْطلقت نحوها بهمّة عالية ، وعزيمة صادقة راسخة ، لم تقف في طريقها عقبة ، ولم يثنها عنْ سبيلها شيء ، لقد تحلّت بجلباب العبوديّة لله تعالى ، فكانت منارة لأهل الأرض ، يمتدّ فضلها في كلّ باب من أبواب الخير والمعروف ، وذكراً حسناً في الملأ الأعلى في السماء ، لا تعرف في حياتها عكراً ولا كدراً ..

الأسرة العابدَة تعيش الانسجام الأسريّ فيما بينها بأسْمى صوره ومعانيْه ، فهي كالجسد الواحد ، والروح الواحدة .. إنّها تعيش في حبّ ووئام ، وأمنٍ وسلام ، وأنسٍ وبشر ، تتنزّل عليها السكينة ، وتغشاها الرحمة ، وتحفّها الملائكة ، وتكلؤها بالليل والنهار ، والغدوّ والآصال ، ويغمرها الرضا والسعادة في جميع الأحوال .. وتقوم علاقاتها الاجتماعيّة كذلك على الإخلاص والنصح ، والاحترام والتقدير ، والشفقة وحبّ الخير ..

عرفت أنّ الحياة جدّ ، ليست لعباً ولا عبثاً ، وأنّ هذه الدار دار ابْتلاء ، فشمّرت عن ساق العزم والجدّ ، ووفّت لله بالعهْد ، فجاءتها الدنيا خادمة راغمة ، سهلة ميسّرة ، ونالت سعادة الآخرة راضية مرضيّة ، وعبّاد الشهوات حولها في غيّهم سادرون ، وخوضهم يلعبون ، وشكّهم يتردّدون ، يلهثون خلف السراب الكاذب ، والبرق الخالب ، ويشقون في خدمة الدنيا آناء الليل وأطراف النهار ، ويفنون فيها الأعمار ، ثمّ يرحلون عنها ، ولم يقضوا منها لبانة ولا وطراً ، فتشتدّ ندامتهم ، وتطول حسراتهم ، حيث لا ينفع الندم ، ولا تغني الحسرَات ، ويتمنّون العودة إلى الدنيا ، وهيهات ! هيهات ! لا يقبل منهم التمنّي والرجاء ..

الأسرةُ العابدَةُ تهب المجتمع الأبناء الأسوياء النفّاعين ، الذين لا يكونون عبئاً ولا بلاء ، يبشّرون ولا ينفّرون ، ويجمعون ولا يفرّقون ، وييسّرون ويرغّبونَ .. فهي مصدر أمن المجتمع وطمأنينته ، وسرّ نجاحه وسعادته ..

الأسرةُ العابدَةُ هبة الرحمن لمن صدق العهد ، وأخلص الودّ ، إنّها تقوم على دعائم ، وتتميّز بمعالم ، ودون الوصول إليها مجاهدات ومكابدات ، ومحكّ الصدق فيها الالتزام بالمنهج بلا عوج ، والاستقامة على الصراط بلا تقصير ولا شطط ، لا تنفع فيها الظنون والأوهام ، ولا الدعاوى بغير برهان ، يحظى فيها الآباء بالسعادة العاجلة ، عندما تقرّ أعينهم بأبنائهم في هذه الدار ، ولدار الآخرة خير للمتّقين الأبرار .

وما أروع تلخيص القرآن الكريم لمنهجها في بيانه المعجز ، ولفظه الموجز ، بقوله تعالى : { .. قُوا أنفُسَكُم وَأهلِيكُم نَاراً .. (6) } التحريم ، إنّها أربع كلمات ، جمعت حقائق المنهج من أطرافها ، وأحكمت علاقاتها ، وشادت بنيانها ..

 

 

      

 

الإسلام في حقيقته وشموله

 

الإسلام حقيقة ضَخمة تملأ حياة الإنسان كلّها ، وصبْغة ربّانيّة يصطبغ بها كيانه ، ومن أحسن من الله صبغة ، وصف الله تعالى بها أنْبيَاءَه ورسلَه ، وأثنى عَلَيْهِم بتحقّقهم بها ، ودعوة الناس إليها ، ووصيّتهم بهَا ، فقال تَعالى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ، وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ : أَسْلِمْ ، قَالَ : أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ : يَابَنِيَّ ! إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ ، فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ ، إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ : مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ؟ قَالُوا : نَعْبُدُ إِلَهَكَ ، وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ، إِلَهاً وَاحِداً ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) } البقرة .

والإسلام حقيقة كونيّة كبرى ، تهيمن على الوجود من أصغر ذَرّة فيه إلى أكبر مجرّة ؛ فكلّ ما في السموات والأرض عبد مُطيع لله ، خاضع لأمره ، مُسَبّح بحَمده ، لا يخرج عن طاعته ، ولا يستنكف عَن عبادته : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ .؟ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) } آل عمران .

{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ ، وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) } الإسراء .

{ ويُسَبِّحُ الرعدُ بحَمدِهِ وَالمَلائِكَةُ مِن خِيفَتِهِ .. (13) } الرعد .

والإسلام في حقيقته العمليّة هو الخضوع لله تعالى في كلّ شأن ، والاستسلام لأحكَامه في كلّ موقف ، فالمسلم الحقّ يعْمل بأمر الله تعالى ، ويجتنب مَا نهى اللهُ عنه ، ويخضع لأحكام الله ، ويحتَكم إليه في جميع شئونه ، يقول الله تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) } النساء .

ويقول سبحانه : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، وَأُوْلَئِكَ هُمْ المُفْلِحُونَ (51) } النور .

وعلى هذَا درج الصحابة والتابعون ، وسلف هذه الأمّة الصالح y ، فتخلّوا عن أهوائهم وحظوظ أنفسهم لله ، وأطاعوا الله ورسوله e في المنْشطِ والمكره ، وفي العسر واليسر ، وتلقّوا الأوامرَ للتنفيذ ، وتَعلّموا العلمَ للعمل ، وحرصوا على رضوان الله في كلّ موقف ..

فما أمروا بشيء إلاّ استَجابوا ، ولا نُهُوا عن شيء إلاّ اجتنبوا ، وما نَزل فيهم حكم منَ الله ورسوله e إلاّ استَسلموا إليه مطيعين ، وَعملوا به راضين ..

أمروا بالتوحيد ، فهَدموا الأصنام ، وعبدوا اللهَ وحده ، وتخلّوا عن كلّ مظهر من مظاهر الشرك بالله ..  وفرضت عليهم الصلاة فأقاموها ، وأمروا بالزكاة فأدّوها ، وبالإمساك عن شهوات النفس في الصيامِ فأمسَكوا ، وبالتجرّد لله تعالى في الهجرة والحجّ فتجرّدوا ، وببذل الأموال والأنفس في سبيل الله في الجهاد فتنافسوا في ذلك وبذلوا ..

ونهاهم الله عن الخمر فأراقوها ، وعن الفحشاء فاجتنبوها ، وعن الربا فتركوه ، وعن الميْسر فمنعوه .. لم يَعتذروا عن شيء من ذلك بما ألفوه من عوج ، ولم يجدوا في امتثال الأمر ، واجتناب النهي من حرج ..

وفي سيرة سلف هذه الأمّة الصالح ، جماعات وأفراداً ، وولاة ورعايا ، نماذج رائعة ، ومواقف مشرقة من ذلك كلّه ، تْشهد أنّهم كَانوا المثل الأعلى في الالتزام الصادق بدين الله تعالى ، والتمسّك به في كلّ شَأن ..

ـ رأى رسول الله e خاتماً من ذهب في يد رجل ، فنزعه فطرحه ، وقال : ( يعمد أحدكم إلى جمْرة من نَار ، فيجعلها في يده ؟! ) .

فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله e : خذْ خاتمك انتفع به ، قال : لا والله ، لا آخذه ، وقَد طرحه رسول الله e " ([3]) .

ـ ولمّا كان يوْم أحد ، أقبلت امرأة تسعى ، حتّى كادت أن تشرف على القتلى ، فكره النبيّ e أن تراهم ، فقال : ( المرأة ! المرأة ) أي أدركوا المرأة ، ولا تتركوها تقترب من القتلى ، شفقة عليها ..

قال الزبير بن العوّام t : فتوسّمْت أنّها أمّي صفيّة ـ أي بلغها أنّ المشْركين قتلوا أخاها حمزة t ، ومثّلوا به ، فهي تريد أنْ تراه ..

قال الزبَير t : فخرجت أسعى إليْها ، فأدركتها قبل أن تنتهيَ إلى القتلى ، فلدمَت في صدري ، أي دفعتني دفعاً شديداً ، وكانت امرأة جلدة ـ أي قوّية شديدة ـ وقالت : إليك عنّي لا أرض لك .! فقلت : إنّ رسول الله e عزم عليك أن لا تذهبي .. قال : فوقفَت .. ([4]) .

ـ وتخلّف كعب بن مالك وصاحباه y عن غزوة العسرة بغير عذر ، فنهى رسول الله e المسلمين عن كلامهم ، فما كلّمهم أحد طيلة أربعين يوماً .. ثمّ أمرهم بعد الأربعين أن يعتزلوا نساءهم ، فاعْتزلوهنّ عشرة أيّام ، وتحمّلوا هجرَ المسلمين خمسين يوماً ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، حتّى تاب الله عليهم ، ففرحوا بذلك أشدّ الفرح ، وفرح بهم المسلمون ، وأقبلوا عليهمْ يكلّمونهم ، ويهنّئونَهم بتوبة الله تعالى ..

هكذا كان انقيَاد سلف هذه الأمّة الصالح لأمر الله تعالى ، وأمْر رسوله e ، عملوا بالإسلام كَاملاً ، فقطفوا ثماره يانعة ، عزّةً وسيادةً ورفعَة ..

والإسلام الذي عزّ به المسلمون الأوّلونَ دين شامل لحياة الإنْسان ، كامل تامّ .. لم يترك جانباً من جوانب الحياة ، من عقيدَة وعبادات ، وتشريع وأخلاق ، وسياسة واقتصاد ، واجتماع وعمران ، وما يتّصل بذلك ، وما يتفرّع عنه إلاّ ووضع له المنْهجَ الحكيم ، والخطّةَ الرشيدة ..

راعى الإسلام جانب الروح ، فشرع لها عبادات تغذّيها وتزكّيها ، وتصلهَا بربّها تبارك وتعالى ، وتسمو بها ..

وراعى الإسلام جانب الجسد ، فأمر بالعناية به ، ورعاية غذائه وكسائه ، ونظافته وصحّته ، ومصالحه وحاجاته ، ونهَى أن يحمّلَ ما لايطيق ، وحرّم كلّ ما يؤذيه ، منْ طعام وشراب ، وجرحٍ وقتل ..

ووثّق روابط الأسرة : فأوجب برّ الوالدين ، وصلة الأرحَام ، وبنى كيان المجتمع على دعائم قويّة من الأخلاق الكريمة ، والسيرة المستقيمة ، فندب إلى التحابّ والتراحم والتعاطف ، والمواساة والإيثار ، والإحسَان وإغاثَة اللهْفان ..

وأمرَ بالصدق والأمانة ، والنصح والاستقامة ومعالي الأمور ، ومَكارم الأخلاق ..

وأحْكم الصلة بين الراعي والرعيّة ، بما أوجبه من الطاعة لوليّ الأمر في غير معصية ، والشعور بالمسئوليّة ، والسهر على مصَالح الأمّة ..

وأمر الإسلام بالوفاء بالوعد ، وحفظ العهْد ، حتّى مع غير المسلمين ..

فالمسلم الحقّ يلتزم بدينه في كلّ شأن ، ويتحلّى بفضائل الإسلام كلّها ، بلا إفراط ولا تفريط .. فلا يوغل في جانب ، ويهمل جانباً آخر .. لا ينْصرف إلى جانب الروح ، فيَلزم المسجدَ والعبادة مثلاً ، ويهْمل جانب الجسد ، فيقعد بغير عمل وكسب للرزق ممّا أحلّ الله ..

والمسلم الحقّ ابن ديْن ، وابن دنيَا : متعبّد بالليل ، فارس بالنهار ، زاهد في الدنيا بقلبه ، عامل لها بقالبه ، ملتمس لمرضاة الله تعالى في كلّ شأن .. لا تشغله دنيَا عن دين ، ولا روْح عن جسد ، ولا عَمل فرديّ عن عمل اجتماعيّ ، يخدم الأمّة ، ويحرص على تقديم ما يعود عليها بالخير والنفع ..

هذا هو الإسلام في حقيقته ومجْمله .. إنّه هوّيّة المسلم وانتماؤه ، ومَصدر عزّته وسعادته ، والبدهيّة الكبرى التي تقوم عليها حياته ، فأيْنَ المسلمون منها .؟! وأيْن منها أبناءُ المسلمين .؟! الفاقدونَ لهوّيّتهم وانتمائهم ، المفتونون بسراب التيه والتغريب .؟!

إنّ على الآباء والمرَبّين مسئوليّة عظيمة ، أن يورّثوا الأبناءَ الإسلامَ بحقيقته الشاملة الكاملة ، وأنْ يملئوا قلوبَهم بمحبّته وصدق الولاء له ، وأنْ يعلّموهم أَنَّهم من خير أمّة أخرجت للناس ، فليذكروا نعمةَ الله عليهم ، وليؤَدّوا شرطَ الخيريّة والاجتباء ..

إنّ على الآباء والمرَبّين أن يورّثوا أبناءَهم الاعتزاز بالإسلام ، والتمسّكَ بمبادئه وقيمه والحرص على نصرته ، والدعوة إلى سبيله ، ليعودَ لهذه الأمّة عزّها الذاهب ، ومجدها الغابر ..

ويوْمَ يخرج جيْل من أبنَاء الإسلام كذلكَ فارتقب عزّاً للأمّة وسيَادة ، ورفعة وريادة .. ويقولون متى هوَ .؟ قل : عسى أن يكونَ قريباً ..

 

 

 

      

* أثر الإيمان بالآخرة في تحقيق السعادة

للفرد والأسرة والمجتمع

 

إنّ عقيدة الإيمان بالآخرة هي أعظم أساس لسعادة الإنسان في حياته الفرديّة والأسريّة والاجتماعيّة ، وهي أصل جميع فضائل الإنسان وكرامته وكمالاته . ولننظر في بيان ذلك بشيء من التفصيل فنقول :

ـ إنّ الأطفال الذين يمثّلون نصف البشريّة تقريباً لا يمكنهم أن يتحمّلوا تلك الحالات التي تبدو أمامهم مؤلمةً مفجعةً من حالات الأمراض الشديدة ، والموت وفراق الأحبّة إلاّ بما يجدونه في أنفسهم وكيانهم الغضّ الرقيق من القوّة المعنويّة ، الناشئة عن الإيمان بالآخرة والجنّة .. ذلك الإيمان الذي يفتح لهم باب الأمل المشرق أمام طبائعهم الرقيقة التي لا تتمكّن من المقاومة والصمود ، وتبكي لأدنى سبب .. فيتمكّنون بالإيمان بالآخرة من العيش بهناء وفرحٍ وسرور .. فيحاور الطفل نفسه ، أو يحاوره والده أو المربّي : " إنّ أخاك الصغير أو صديقك الحميم الذي توفّي قد أصبح الآن طيراً من طيور الجنّة .. وهو يسرح الآن في الجنّة حيث يشاء ، ويعيش أفضل من حياته هنا وأهنأ .. وستراه بإذن الله عندما تنتقل إليها .. " .

ولولا هذا الإيمان بالجنّة لهدم الموت الذي يصيب أطفالاً أمثاله ، وكذلك يصيب الكبار تلك القوّة المعنويّة لهؤلاء الذين لا حيلة لهم ولا قوّة ، ولحطّم نفسيّاتهم ، ودمّر حياتهم ونغّصها ، فإمّا أن تموت أحاسيسهم ، وتغلظ مشاعرهم ، أو تحطّم نفسيّاتهم ، وتشوّه شخصيّاتهم ، وتدمّر حياتهم ، ويصبحوا عناصر في المجتمع مشلولة العزيمة والإرادة ..

فيا أيّها الوالد المربّي .!

حدّث طفلك عن الآخرة والجنّة بما يتناسب مع سنّه ومداركه ، فذلك خير ما يعدّه لتحمّل شدائد الحياة ولأوائها .

ـ والشباب المراهقون الذين يمثّلون محور الحياة الاجتماعيّة وعمودها الفقريّ ، لا يهدّئ فورة مشاعرهم وسورتها ، ولا يمنعهم من تجاوز الحدود إلى الظلم والتخريب ، والعبث والفوضى ، ولا يمنع طيش أنفسهم والانطلاق وراء نزواتها ، ولا يدفعهم إلى السير الأفضل في علاقاتهم الاجتماعيّة إلاّ الخوف من نار جهنّم ، وغضب الله تعالى ونقمته .. ولولا هذا الخوف لقلب هؤلاء المراهقون الطائشون الثملون بأهوائهم ، وغرور قوّتهم وعافيتهم .. لقلبوا الدنيا إلى جحيم من الشرّ والفوضى ، والبغي والأذى ، ولحوّلوا الحياة الإنسانيّة الكريمة إلى حياة حيوانيّة سافلة ، تعجّ بالشرّ والفساد ، وكانوا شرّاً على أنفسهم ومجتمعهم والإنسانيّة كلّها ..

ـ والشيوخ والعجائز الذين أدبرت عنهم مباهج الدنيا ومتع الحياة ، وأصبحوا كلّ يوم من أيام حياتهم القليلة الباقية على موعد مع الآلام والأمراض والمفاجآت ، ويحسّون بالاغتراب عن الدنيا ، وأنّهم ينتقلون من ضعفٍ إلى ضعف ، ويقتربون من قبورهم رويداً رويداً ، إنّهم أحوجُ ما يكونون في مثل هذه الحال إلى الشفقة والرحمة ، والطمأنينة والسكينة ، والشعور بالحياة الهادئة الهانئة .. لقد عادوا كالأطفال في ضعف القوّة وفتور الإرادة ، مرهفي الحسّ والشعور ، قد ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت ، وربّما تمادى بهم وضعف النفس والقوى إلى درجة من المرض واليأس لم يعودوا معها يطيقون البقاء في هذه الحياة ، فيفكّرون بالانتحار ، للتخلّص ممّا هم فيه من حال .. ولكنّ الإيمان بالآخرة ، وما عند الله تعالى من النعيم والتكريم ، وجزاء المؤمنين المتّقين ، يأتي على أرواحهم كالبلسم الشافي ، فيقوّي رجاءهم بالله تعالى ، ويسمو بأرواحهم عن هذه الدنيا المدبرة الفانية ، ويوطّد علاقتهم بالآخرة المقبلة المزدهرة ، ويعقد آمالهم بالله تعالى ، فيقوى تعلّقهم بالله سبحانه ، وتوكّلهم عليه ، وحسن ظنّهم بفضله وكرمه ، وجوده وإحسانه ، وهو القائل سبحانه كما في الحديث القدسيّ : " أنا عند ظنّ عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني .. " .

ـ والأسرة التي هي دائرة الفرد وحصنه الحصين ، ومحور المجتمع وركنه المتين ، لا سعادة لأحدٍ فيها إلاّ بالاحترام الجادّ المتبادل ، والوفاء الودود ، والمحبّة الصادقة ، والرحمة الدائمة والمودّة ، التي يلقاها من الطرف الآخر .. ولا أمل في ذلك إلاّ أن تقوم على علاقة إيمانيّة تتّصل بالله تعالى ودينه وشرعه بأوثق العرا وأزكاها ، وأجملها وأسماها ، وأن تتّصل بالآخرة دار النعيم المقيم ، والجزاء العظيم ، فيحدّث الزوج نفسه : " إنّ زوجتي هذه رفيقة حياتي ، وستكون زوجتي في عالم الخلد والأبد ، فلا ضير عليها إن أصبحت الآن عجوزاً ضعيفة ، ما دامت تزداد بالله إيماناً وعملاً صالحاً ، فإنّها تستوجب منّي كلّ رعاية وتكريم ، ووفاء ورأفة .. " وتحدّث الزوجة نفسها : " إنّ زوجي هذا رفيق حياتي ، وسيكون زوجي في عالم الخلد والأبد ، فلا ضير عليه إن أصبح اليوم شيخاً كبيراً ضعيفاً ، ما دام يزداد إيماناً بالله تعالى وعملاً صالحاً ، فإنّه يستوجب منّي كلّ رعاية وتكريم ، وخدمة وعناية ، ووفاء ورأفة .. " وهكذا لا تزداد العلاقة بين الزوجين على تطاول الأيّام والسنين إلاّ وثوقاً ورسوخاً .. بخلاف أولئك البهائميّين الذين لا يعرفون العلاقة الزوجيّة إلاّ علاقة جنسيّة شهوانيّة ، فإذا ضعف أحد الطرفين أو مرض تخلّى عنه الطرف الآخر ، وتنكّر له ، وذهب يبحث عن سبل أخرى لقضاء لذّاته ونزواته ، ونسي ما كان يدّعي من المحبّة والمودّة .. وربمّا كان من أحد الطرفين من البغي على الطرف الآخر والغدر به ، ما تأباه الحيوانات العجماوات ، وتأنف عنه .. إنّها الأنانيّة القاتلة التي تفرضها الحياة المادّيّة ، التي لا تعرف حياة الروح ولذّتها وأشواقها ، بل إنّها تحاربها ، ولا تؤمن بها ..

وهكذا ترشح سعادة الحياة الأسريّة على علاقة الرحم والقرابة ، وتتضوّع أنسام المودّة والرحمة في أرجاء المجتمع المسلم وأنحَائه ، وتتقلّب الأمّة في بحبوحة السعادة الوارفة وظلالها ، ونسمات الجنّات ورياضِها ، وتِلكَ عاجل سعادة المؤمنين في هذه الحياة ، قبل الانتقال إلى الدار الآخرة وما فيها من النعيم والتكريم ..

أفليس في هذه الحياة الكريمة المطمئنّة ما يقدّم للعقلاء ذوي الألباب والبصائر دليلاً على الحياة الآخرَة أشبه بالدليل المادّيّ المحسوس .؟! { إنّ في ذَلِكَ لَذِكرَى لمَن كَانَ لَه قَلبٌ ، أو ألقَى السمعَ وَهُو شَهِيدٌ (37) } ق .

فليلق السمعَ علماءُ الاجتماع والسياسة والأخلاق ، من المعنيّين بشئون الإنسان وأخلاقه واجتماعه ، وليبيّنوا لنا :

بماذا سيملأون هذا الفراغ القاتل .؟

وَمَاذا قدّموا لإسعاد الإنسان ، وإنقاذه من شقوته وحلّ مشكلاته .؟

وماذا ينتَظرون من البلاء الداهم على البَشريّة .؟!

وبماذا سيداوون هذه الجروح الغائرة العميقة ، التي لا تزداد مع الأيّام إلاّ تقيّحاً وعمقاً .؟!

 

      

* الإسلام شريعة الحنيفيّة السمحَة

 

الإسلام هوّيّة المسلم وانتماؤه ، والبدهيّة الكبرى التي تقوم عليها حياته ، ولكنّها في الوقْت نفسه هوّيّة غَائبة أو مغيّبة ، وبدهيّة مجهولة أو مشوّشة ، عندَ كثير من المسلمين الذينَ أخذوا دينهم بالوراثة والتقليد ، سوَاء على مسْتوى الفهم ، أو على مستوى السلوك والممارسة .. وكذلك عندَ أولئك الذين يقفون منْ دين الله موقفَ الرفض للاحتكام إليه ، والعداوةِ له والصدّ عنه .. ومن ثمّ فإنّ حقيقة الإسلام وهوّيّته بحاجة إلى توضيح مفْهومَها وتعميقه ، وتبيين معانيها وتفصيلها ، وكشف ما يعارضها ، ويخرج عن حدودها وحقيقتها ، ليهلك من هلك عن بَيّنة ، ويحيا منْ حيَّ عن بيّنة ..

ـ فالإسلام هو الديْن الذي ارتضاهُ الله للبشريّة منْ لدن آدم عليه السلام ، إلى خاتم الأنبياء والمرسلين سيّدنا محمّد e : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ .. (19) } آل عمران ، { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الخَاسِرِينَ (85) } آل عمران .

ـ وحقيقة الإسلام : الاستسلام لأمر الله تعالى ونهيه ، وطاعته في شئون الحياة كلّها ، يقول الله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ، ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ، لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ، قَالَ : أَأَقْرَرْتُمْ ، وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ، قَالُوا : أَقْرَرْنَا ، قَالَ : فَاشْهَدُوا ، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ ، وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، طَوْعاً وَكَرْهاً ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) } آل عمران .

ولا تُقْبَلُ دعوَى الإيمان بغير الاستسلام لحكْم الله ورسوله e ، والرضا بكلّ ما جاء عن الله ورسوله e : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) } النساء .

إنّ الاجتهاد ساحته كبيرة مفتوحة ، لمن كان أهلاً له ، ولكنّه لا يدْخل في القطعيّات ، والبدهيّات المسلّمات ، إنّه يدخل في كلّ ما لا يضرّ اختلاف التنوّع فيه ، وما يختلف الموقف منه على حسب اختلاف العادات والأعراف ، لأنّه بُنيَ في الأصل على العرف والعادة ، وما كان سبيله كذلك يغيّره العرف والعادة ..

وإذا لم يسلم الإنسان وجهه لله وهو محسن ، ويستجيب لطاعته واتّباع شرعه .. فلمن يستجيب .؟! ما البديل له عن ذلكَ .؟!

لقد عرفت الإنسانيّة بدائل كثيرة توجّه الإنسان إليها بالحبّ والرجاء ، والخوف والرهبةِ .. فهل كانت خيراً للإنسان من توجّهه إلى الله وحدَه .؟!

لقد عبد الإنسان الخارج عن طاعة الله الحجر والشجر ، والشمس والقمر ، وتذلّل للحيوان والجماد ، وأتفه الأشياء وأسخفها وأخسّها ، ممّا يُستحيا من ذكره ، وتَأباه كرامته .. ومنهم من ألحد في الله وعبد هواه ، أو عبد الطواغيت ، وأهواء الظالمين الكُبراء .. فهل أغنى ذلك عن الإنسان شيئاً ، أو حقّق له سعادة وأمناً .؟!

إنّ مزايا هذا الدين وخصائصه أكثر وأضخم من أن يتناولَها مقال ، أو يحيطَ بها بحث ، ولكنّ هناك مزيّة كبرى ، ينبغي أن لا يغفل الوالد والمربّي عن غرسها وتعهّدها والتأكيد علَيها ، وهي أنّ الإسلام شريعة الحنيفيّة السمحَة ، كما جاءَ نصّ ذلك في الحديث عن ( إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلا بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ) ([5]) .

" فهيَ حنيفيّة في العقيدة ، سمحة في التكاليف والأحكام ، وإنّما خصّها الله بالسمَاحة والسهولة واليسر لأنّه أرادها رسالة للناس كافّة ، والأقطار جميعاً ، والأزمان قاطبة ، ورسالة هذا شأنها من العموم والخلود ، لابدّ أن يجعل الله الحكيم في ثناياها من التيسير والتخفيف والرحمة ما يلائم اختلاف الأجيال ، وحاجات العصور ، وشتّى البقاع " ([6]) .

وإذا كانت وجهة الإسلام التيسير ورفع الحرج ، فكلّ من يبغي التشديد والتعنّت ، إنّما يعاند روح الإسلام ، ومآله إلى هلاك وبوار ، وقد دعا عليه النبيّ e بذلك ، فقال e : ( ألا هلك المتنطّعون .! ألا هلك المتنطّعون .! ألا هلك المتنطّعون .! ) ([7]) ، قالها ثلاثاً ، ليدلّ على اهتمامه بخطر هذا الأمر وآثاره السلبيّة على دين الله تعالى ..

وجاء في الحديث عن ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعاً : ( إيّاكم والغلوّ .! فإنّما أهلك من قبلكم الغلوّ ) ([8]) .

وكان من شمائله الكريمة e : " أنّه مَا خُيّر e بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس عنه " ([9])  .

وعندما بعث معاذ بن جبل ، وأبا موسى الأشعريّ أميرين إلى اليمن أوصاهما e بقوله : ( يسّرا ولا تعسّرا ، وبشّرا ولا تنفّرا ، وتطاوعا ولا تختلفا ) ([10])  .

ويحذّر النبيّ e أمّته من مَغِبّة التشديد على النفس بغير ما كلّف الله به عباده فيقول e : ( لا تشدّدوا على أنفسكم ، فيشدّد عليكم ، فإنّ قوماً شدّدوا على أنفسهم ، فشدّد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار : { .. وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا .. (27) } الحديد ([11]) .

قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله : " وهذا ذمّ لهم من وجهين : أحدهما : الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله ، والثاني : في عدم قيامهم بما التزموه ، ممّا زعموا أنّه قربة تُقَرّبهم إلى الله عزّ وجلّ " .

" وقوله : ( لا تشدّدوا يشدّد عليكم ) إخبَار بأنّ تشديد الإنسان على نفسه سبب لتشديد الله عليه . وتشديد الله إمّا تشْريعيّ تكليفيّ ، وإمّا تشديد كوْنيّ قدريّ وفقاً لنظَام الله في الأسبَاب والمسبّبات ، فالتشديد بالشرعِ ، كمن يشدّد على نفسه بالنذر الثقيل فيلزمه الشرع الوفاء بِه . والتشديد بالقَدر ، كفعل أهل التزمّت والوسوسة ، شدّدُوا على أنفسهم ، فشدّد القدر عليهم ، حتّى استحكم ذلك فيهم ، وصار صفة لازمة لهم ، وما ظلمهم الله ، ولكن ظلموا أنفسهم " ([12]) .

فعلى الوالد والمربّي أن يَغرسَ هذه الحقائق في نفس الطفل والناشئ ، ويتعهّدها بالتوجيه والرعاية ، ويؤكّد عليها في كلّ مناسبة ، لينشأ الطفل نشأة سويّة ، بعيداً عن الغلوّ والتطرّف ، يأخذ من دين الله بما كلّف الله به عباده دون تنطّع ، ولا تشديد ..

 

      

من أحكام الحنيفيّة السمحة

 

التكاليف الإلهيّة كلّها أمانات ، يكلّف الإنسان بحسن رعايتها ، وسيُسأل عنها يوم القيامة ، ووجه عدّها أمانات : أنّها تشْترك مع الأمانة المادّيّة المعروفة في وجوب المحافظة عليها كما هي ، وعدم التغيير أو التبديل في شيء منها ، وأدائها متى طلبها صاحبها ، كاملة غيرَ منقوصة ، وأن يراعي المكلّف الأحوال الخاصّة لها ، كما يريد الله تعالى من عباده ، وكما يحبّ الله تعالى ويرضى ..

وَإذ كانت التكاليف الإلهيّة أمانات ، فهي ثقيْلة على النفس شديدة ، وَإذ كانت شريعة الله تعالى حنيفيّة سمحة فهي ميسّرة على كلّ مكلّف لا حرج فيها ، ولا إعنات ، ولا تكليف فيها فوق الطاقة ، وهذا ما يطبع شريعة الله كلّها ويميّزها ..

وإذا أردتُّ أن أقدّم نمَاذج عن سماحة أحكام الشريعَة لضاق بي رحب القول والوقتِ والورق ، ولكنّني ألمح إلماحات سريعة إلى بعضها ، وقبل أن أقدّمَ بعض الأمثلة أحبّ أن أذكّرَ ببعض القواعد الأساسيّة ، والحقائق المهمّة في هذا الباب ، وهي ممّا امتنّ الله به على عباده ، ومن خصائص هذا الدين ومزاياه :

1 ـ شمول التيسير ورفْع الحرج جميع جوانب الشريعة وأبوابها ، وعدم اقتصاره على جانب دون آخر ، والنصّ القرآنيّ : {.. هو اجتباكم ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .. (78) } الحج ، يشمل الدين كلّه .

2 ـ ليس في شريعتنا تحريم شيء من الطيّبات عقوبة للناس ، كما كان ذلك في شرائع سابقة ، لظروف خاصّة .

3 ـ إنّ الله يحبُّ أن تُؤتَى رُخصُه ، كما يكره أن تُؤتَى معْصيته .

4 ـ الأصل في التكاليف الإلهيّة أنّها معقولة المعنى ، بيّنة الحكم والأهداف والمقاصد .

5 ـ أنّ التكليف الشرعيّ يدور مع الوسع والاستطاعة وُجوداً وَعدماً .

فمن النماذج في دين الله على التيسير ورفع الحرج :

1 ـ مشروعيّة قصر الصلاة ، والجمع بين الصلاتين في السفر .

2 ـ مشروعيّة التيمّم ، عند فقد الماء ، أو العجز عن استعماله .

3 ـ صلاة المريض على حسب استطاعته .

4 ـ بناء أحكام الطهارة ، والحكم بالنجاسة على اليقين ، والتيسير ورفع الحرج .

5 ـ مشروعيّة المسح على الخفّين ، وعلى العصابة والجبيرة .

6 ـ الترخيص في الفطر في رمضان للمريض والمسافر ، والمرضع والحامل .

7 ـ لا تكليف بالحجّ مع عدم الاستطاعة ، وهي القدرة الماليّة والبدنيّة .

8 ـ التيسير في المعاملات الماليّة ، وقيامها على تحقيق المصالح الشرعيّة الحقيقيّة للمكلّفين ، ودفع المفاسد عنهم ، والتيسير  ورفع الحرج .

9 ـ والقاعدة العامّة في دين الله أنّ الأصل براءة الذمّة ، والأصل في الأشياء الإباحة .

10 ـ ومن أعظم ما تتجلّى فيه رحمةُ الإسلام وتيسيره ، ورفعه للحرج عن العباد : ما شرع من أحكام للرفق والرحمة بالنساء ، إذ لم يكلّفهنّ الله تعالى بقضَاء ما يفوتهنَّ من صلوات بسبب الحيض أو النفاس ، بينما كلّفن بقضاء الصيام ، لأنّه لا يتكرّر كالصلاة ، ورخّص لهنّ بالفطر في رمضان في حال الحمل أو الرضاع ، إذا خفن على أنفسهنّ ، أو الطفلِ أو الجنين ، كما كفل الإسلام لهنّ العيش الكريم بما أوجب على الرجل من النفقة على المرأة ، ولم تكَلّفْ بالنفقة على الرجل ولَو كانت غنيّة .

وعلى قَدرِ ما يفقه الإنسان دين الله وشرعه يزداد يقيناً وبصيرة أنّ هذه الشريعة مبناها على التيسير على العباد ، ورفع الحرج عنهم ، فلا يرضى التشديد على نَفسِه ، ولا على أحدٍ من عباد الله ، إذ ليس في التشديد مزيدُ تقوى أو استقامة ، وإنّما هو التنطّع الذي يقود صاحبه إلى الغلوّ ، وقد نهى النبيّ e عن ذلك أشدّ النهي فقال : ( هلك المتنطّعون ) قالها ثلاثاً ([13]) ، وقد قام هدي النبيّ e في كلّ شأن من الشئون على اختيار أيسر الأمرين مَا لم يكنْ إثماً ، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس عنه .. ([14]) .

وكان e يأمر بالرفق ، ويحثّ عليه ، وينهى عن العنف ، وينفّر منه ، ويقول : ( إنّ الرفق ما وضع في شيء إلاّ زانه ، وما نزع من شيء إلاّ شانه ) ([15]) .

فعلى الوالد والمرَبّي أن يغرس في نفس الطفل والناشئ هذا الفهم لسماحة الإسلام فيما شرع من التكاليف الإلهيّة والأحكام ، وأنّها في طاقة المكلّف ووسعه ، ولا يقصد بها إرهاقه ولا إعناته ، وإنّما هي سرّ إصلاح الحياةِ الإنسانيّة ورقيّها وتهذيبها ، وهي سرّ سعادة الفرد وفلاحه في الدنيا ، وفوزه ونجاته في الآخرة ..

ومن ثمّ فليس من تقوى الله والتمسّك بدينه أن يشقّ المكلّف على نفسه ، ويكلّفها ما لا طاقةَ لها به .. ويظنّ أن ذلك يقرّبه إلى الله أكثر : { مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ، وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) } النساء .

 

      

لماذا بُني الإسلام على هذه الأركان الخمسة .؟

 

إنّه سؤال قَد يَرد على فكر الإنسان فلا يَعلم له جَواباًَ ، وحدّثني بعض الإخوة المعلّمين أنّه سئل هذا السؤال من قبل بعض طلاّبه ، فلم يستطع أن يقدّم الإجابة المقنعة المناسبة .. والحَقّ أنّه هذه الأركَان الخمسة أركان جامعة للدين كلّه ، وكلّ ركن منها بمثابة باب من أبوَاب الإسلام ، مَن دخله دَخل إلى جانب منْ هذا الدين وأحكامه وآدابه ، ومن عطّله عطّل جانباًُ من الدين بمَا فيه من أحكَام وآداب ..

فإعلان الشهادتين أصلٌ لأركان الإيمان ، ومَا يتّصل بهَا منْ حقائق الإيمان القَلبيّة ، من حبّ الله وَخشيته ، والإنابة إليه والتوكّل عليه ، والخوف منْه والرجَاء ، والشوق والرضا ، وما أشْبه ذلك ..

وركن الصلاة أصل عَمليّ لتحقيق الصلة بين العبْد وربّه ، وعبادة الله تعالى ، التي هي حَقّ العبوديّة على العباد : أنْ يعبدوا الله ولا يشرِكوا به شَيئاً ، والصلاة هي الترجمة العملِيّة لركن الشهَادتين ، ومن ثمّ فقَد كانتْ عماد الدين ، مَن أقَامها فقدْ أقَام الدين ، ومن هدمها فقد هدم الدين .. ويدخُلُ في الصلاة ، وجزء منها : الذكر والدعَاء وتلاوة القرْآن ..

وركن الزكاة أصلٌ لتَحقيق الصلَة بيْن الإنسان وأخيه الإنسَان ، وهي الصلةُ التي أراد لها الإسلامُ أنًْ تقوم على المودّة والرحْمة ، والتعَاطف والتعَاون ، وأن يحبَّ المؤْمن لأخيه المؤمن ما يحبُّ لنفسه ، ويكره له مَا يكْره لنَفسِه ، وأنْ يشعرَ بحاجات المسْلمين ، ويسعى في مَصالحهم ، ويؤدّيَ حقوقَهم ، ويكفّ الأذى عنهم ..

وركن الصوم أصلٌ لتهْذيب النفس َوتربية الضمير ، ورقيّ الروح ، وإعطائها حقّها من العبادة ، وذوق لذّة الطاعة ، وهو أصل لهذه المعاني ، كما أنّه  يتّصل بحقائق الإيمان اتّصالاً وثيقاً ؛ فرمضان شهر الصبر ، وشهر الشكر ، وترقّي المؤمن في معارج التقوى .

وهذه الأركان الثلاثة تجمع من جهةٍ أخرى أنواع الحقوق ، التي تتّصل بحياة الإنسان ؛ فحقّ الله على الإنسان يتمثّل بالصلاة ، وحقّ الإنسان على أخيه الإنسان يتمثّل بالزكاة ، وحقّ الإنسان على نفسه ، أو حقّ نفسه عليه يتمثّل بالصوم ..

وركن الحجّ يعدّ عبادة جامعة ، ففيه التنسّك والتعبّد ، والذكر والدعاء ، بما يشبه الصلاة ، وفيه بذل المال وإنفاقه في سبيل الله ، بما يشبه الزكاة ، وفيه تهذيب النفس ، ورقيّ الروح بما فيه من صلة بالله تعالى ، وتجرّد عن الدنيا وما فيها بما يشبه الصيام .. ويزيد الحجّ عن ذلك كلّه أنّه عبادة على مستوى الأمّة كلّها ، وهو أصل للجهاد في سبيل الله تعالى واجتماع المؤمنين على نصرة دينهم ، وفعل الخير، والتعاون على البرّ والتقوى ..

وفي كلّ ركن من هذه الأركان حظّ ممّا في الأركان الأخرى ، ولكنّ الجانب الذي أشرت إليه أبرز فيها من غيره وأظهر ؛ فالصلاة فيها تواصل بين المؤمنين ، كما في صلاة الجماعة ، وفيها تهذيب للنفس كما أشار إلى ذلك قوله تعالى : ] وَأَقِمْ الصَّلاةَ ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) [ العنكبوت .

والزكاة فيها الصلة بالله تعالى ، إذ هي عبادة تؤدى بنيّة التقرّب إلى الله تعالى وابتغاء مرضاته ، وفيها جانب نفسيّ ، وهو تطهير نفس المزكّي ، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى : ) خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم ، وتزكّيهم بها .. ( التوبة .

والصيام فيه الصلة بالله تعالى ، إذ هو عبادة خفيّة عن الخلق ، تؤدى بنيّة التقرّب إلى الله تعالى وابتغاء مرضاته ، وفيه الصلة بالآخرين ، إذ يصوم المؤمن مع الناس ، ويفطر معهم ، فيحسّ بانتمائه للأمّة ، وحال إخوانه من الفقراء والمساكين ، فتمتدّ يده بالإحسان إليهم ..

وأهمّ النتائج التي نخلص إليها أنّ من أتقن هذه الأركان ، وأدّاها بأحكامها وحدودها ، وسننها وآدابها أتقن إسلامه كلّه ، وكانت عوناً له على ذلك ، ومن فرّط بواحد من هذه الأركان ، فقد فرّط بأنواع كثيرة من الصالحات التي تدخل تحتها ، وعرّض إسلامه للخطر .. فمن الخطأ البيّن أن يظنّ ظانّ أنّ الخلل ينحصر في الركن الذي يترك أو يقصّر فيه فحسب ، وإنّما كلّ ركن من هذه الأركان يتّصل به من بناء الإسلام وأحكامه ما يشدّ عراه ، ويوثّق أجزاءه .. فأتقن أخي المؤمن هذه الأركان ، بشروطها وأركانها ، وواجباتها وسننها ، وحكمها وآدابها ، تكن عوناً لك على إتقان إسلامك ، وسرّ سعادة أيّامك ..

وفي ظلّ هذا الفهم لأركان الإسلام الخمسة ، وعلاقتها بأحكام الشريعة كلّها ، ينبغي أن نفهم الأحاديث النبويّة الشريفة ، التي تؤكّد على أهمّيّة التمسّك بهذه الأركان ، وأنّ من أقامها دخل الجنّة ، ونجا من النار ، ومنها ما جاء في الحديث الصحيح عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ t قال : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ e مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ، ثَائِرُ الرَّأْسِ ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ ، وَلا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ ، حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ e ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e : خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، فَقَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ؟ قَالَ : لا ، إِلاّ أَنْ تَطَّوَّعَ ، وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَقَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ ؟ فَقَالَ : لا ، إِلاّ أَنْ تَطَّوَّعَ ، وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ e الزَّكَاةَ ، فَقَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ قَالَ : لا إِلاّ أَنْ تَطَّوَّعَ ، قَالَ : فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ : وَاللهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا ، وَلا أَنْقُصُ مِنْهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e : أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ ) . وفي رواية عَنِ النَّبِيِّ e أَنَّهُ قَالَ : ( أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ ، أَوْ دَخَلَ الجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ ) ([16]) .

فعلى الآباء والمربّين أن يلاحظوا في تربية الأطفال على هذه الأركان الخمسة ارتباطها الوثيق بأحكام الإسلام كلّها ، كيْلا نرى سلوك الناشئ في مستقبل أيّامه يعاني من التناقُض الصارخ بين موقفه من هذه الأركان ، وسلوكه ومواقفه من سائر الأحكام ..

 

      

علوّ الهمّة في العبادة

 

الإسلام يربّي المسلم على علوّ الهمّة في كلّ شيء من أمر الدين أو الدنيا ، وعُلوّ الهمّة يقتضي أن يحرصَ المؤمن على حسن العمل وكماله ، والرغبة بفعله في أوّل وقته ، والاجتهاد في تجويده وإتقانِه ، كما يحرص على الاستزادة منه ، فيما يقبلُ الاستزادة ، ويأخذ بالعزيمة في أغلب أحواله .

ومن أهمّ ميادين ذلك : العبادة بمفهومها الخاصّ والعامّ ، وحياة المؤمن وعمره كلّ ميدان رحب للعبادة .. والمسلم الفاقه بدينه يوازن دائماً بين الفضائل ، ويختار أرجحها في ميزان الله ، وأحبّها إليه سبحانه .

وعلوّ الهمّة في العبادة لا يخرج المسلم عن التوازن والاعتدال ، وتقديم الأهمّ على المهمّ ، وترجيح المصالح العليا على ما دونها .. كمَا أنّ الاجتهاد في العبادة لا يعني الغلوّ في الدين ، وفرق بين المفهومين بعيد .

ومنْ يطالع حياة الصحابة والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان يجد نمَاذج لا تحصى كثرة وعدّاً من شغفهم بالعبادة ، واجتهادهم فيها ، وعلوّ هممهم في الأخذ من كلّ غنيمة من أبواب العبادات بسهم ، فمن نماذج ذلك ما روي عن الحارث بن مالك الأنصاريّ t أنّه مرّ بالنبيّ  e فقال له : كيف أصبحت يا حارثة ؟ قال : أصبحت مؤمناً حقّاً ، قال : انظر ما تقول ، فإنّ لكلّ قول حقيقة ، فما حقيقة إيمانك .؟ قال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأنّي أنظر عرش ربي بارزاً ، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنة ، يتزاوَرُون فيها ، وكأنّي أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها ، قال : يا حارثة ! عرفت فالزم ) ([17]) .

وعن أنسٍ t أنّ النبيَّ e لقيَ رجلاً يقال له : حارثةُ ، في بعضِ سِككِ المدينةِ ، فقالَ : كيفَ أصبحتَ يا حارثةُ ؟ قال : أصبحتُ مؤمناً حقّاً ، قالَ : إنّ لِكلِّ إيمانٍ حقيقةً ، فما حقيقةُ إيمانِكَ ؟ قالَ : عزفَتْ نفسِي عن الدنيا ، فأظمأتُ نَهارِي ، وأسهرتُ ليلي ، وَكأنّي بعَرشِ رَبّي بارزاً ، وكأنّي بأهلِ الجنّةِ في الجنّةِ ، يَتنَعّمُونَ فيها ، وكأنّي بأهلِ النارِ في النارِ ، يُعذّبُون ، فقال النبي e : أصبتَ فالزم ، مُؤمنٌ نَوّرَ اللهُ قلبَه ) ([18]) .

وعنْ أنسٍ t قال : أُصِيبَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَهُوَ غُلامٌ ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى النَّبِيِّ e ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ، قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي ، فَإِنْ يَكُنْ فِي الجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ ، وَإِنْ تَكُ الأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ . فَقَالَ : وَيْحَكِ أَوَهَبِلْتِ ! أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ ! إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ ، وَإِنَّهُ فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ ) ([19]) .

ومن توازن المسلم وعلوّ همّته في العبادة أن يحسن الجمع بين نوافل العبادات بمفهومها الخاصّ ، وبين الواجبات الاجتماعِيّة ، وهي من شعب العبادات بمفهومها العامّ ..

إذ كثير من الناس عندما يولع بنوع من العبادة بمفهومها الخاصّ يهمل أنواعاً أخرى من العبادات بمفهومها العامّ ، وقد تكون في حكم الواجبات الكفائيّة ، فهي أرجح منزلة ممّا يولع به من نوافل الأعمال .

ومن أروع النماذج في حياة الصحابة عن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : ( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ اليَوْمَ صَائِماً ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ t : أَنَا . قَالَ : فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ t : أَنَا . قَالَ : فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِيناً ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ t : أَنَا . قَالَ : فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضاً ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ t : أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e : ( مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الجَنَّةَ ) ([20]) .

فانظر إلى علوِّ همّة أبي بَكر t كَيف جمع فِي يوم واحد بين هذه الفَضائل والأعمال الصالِحة ، ولم تَمنعه فضيلة عن أخرى ، كما لم يحرص على باب من أبواب الخير ، ويزهد في غيره ، كما يفعل بعض الناس .

لقد كان أصحاب رسول الله e رهباناً بالليل ، فرساناً في النهار ، أصحاب همم رفيعة في عبادة الله ، والتقرّب إليه بما يحبّ سبحانه ، ولم يفهموا العبادة على نوع وَاحد من أنواعها أو مجالاتها ، وإنّما ضربوا في غنيمة كلّ بسهم ، وكان لهم في كلّ باب سبق ، فكانوا خيرَ هذه الأمّة بعد نبيّها e ، وأسوة حسنة للناس منْ بعدهم .

فعلى الوالدين والمربّين أن يحبّبوا الأطفال بالعبادة ، ويغرسوا فيهمْ علوّ الهمّة فيها ، والحرْص على أن تؤدّى على أحسن وجوهها ، وألاّ يَقْتصرَ اجتهادهم على نوْع واحد منها ، ليكونوا من العابدين الذين  ينالُهم مدح الله تعالى وثناؤه في محْكمِ كتابه ، ولير منهم الطفْل في ذلك كلّه الأسوة الحسنة له ، التي تؤثّر في عقله وقلبه وسلوكه ما لا تؤثّره الكلمات وأبلَغُ المواعظ ..

 

 

      

* الإيمانُ والعبَادة .!

 

الإيمان هبة إلهيّة كريمة ، تمْنحُ العبد القوّةَ والعزيمةَ ، والسعادةَ والسكينةَ ، وراحةَ القلب والطمأنينة .. والعبادة مظهَرُ الإيمان وعُنوَانُه ، وروحُه وحقيقتُه وبرهانُه ، وهو الدافع إليها ، الباعث القويّ على الاجتهاد فيها ، والحرص عليها .. وكمَا لا يُتصوّر للإنسان وجود بغير روحه وجسده ، فكذلك لا يتصوّر للإيمان وجود بغير العبادة ، بمفهومهَا الشامل الجامع ..

وإنّ مَن يتدبّر كتاب الله تعالى يجد أنّ الله جلّ وعلا ربط بين الإيمان والعمل الصالح في كلّ مناسبة ، فلا يذكر الذين آمنوا إلاّ ويعقبهم وصفُ : " وعملوا الصالحات " ، ولا يذكر الإيمان إلاّ وتربط به بعض الأعمال الصالحة ، وقد تكرّر ذلك في القرآن أكثر من خمسين مرّة ، ممّا يؤكّد هذه الحقيقة ، ويقدّم لها أوضحَ برهان ..

وقد جاء ذكر العمل الصالح في القرآن الكريم مطلقاً بغير قيد ، ليشملَ كلّ عمل قام بِه الإنسان وفق دين الله تعالى وشرْعه مُبتغياً بذلك وجهَ الله ومرضاته ، يقول الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ، وَآتَوْا الزَّكَاةَ ، لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) } البقرة .

وهنا يجتمع مفهوم العبادة في دين الله تعالى بسعته وشموله ، مع مفهوم العمل الصالح ، ويحقّ للإنسان أن يجزم أنّهما مترادفان ..

والإيمان والعمل الصالح شَرط لنفي الحرج والجناح ، على المؤمن فيما يأكل ويشربُ ، ممّا أحلّ الله وأباح لعباده ، يقول الله تَعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ، إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ، وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ (93) } المائدة .

وأهل الإيمان والعمل الصالح موعودون من الله بالتمكِين في الأرض ، كما يقول تعالى : { وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ، يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55) } النور .

وهمْ موعودون بتكفير السيّئات ، وأن يجزيَهم الله أحسن الجزاء ، كما يقول تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) } العنكبوت .

وهم قلّة في الناس نَادرة ، كما هي المعادن النفيسة الثمينة : { ... إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ .. (24) } ص .

وهم مَحلّ عناية الله ورعايته ، إذ يخرجهم في الدنيا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، ويدخلهم في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ، كما يقول تعالى : { رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ ، لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ، قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (11) } الطلاق .

والعلاقة بين الإيمان والعمل الصالح علاقة طرديّة لا تتخلّف ، فكلّما قوي الإيمان نَشِطَ الجسد إلى العمل الصالح ، وقويت رغبته ، وكلّما ضعف الإيمان فتر الجسد عن العمل الصالح ، وضعفت همّته ، وهذا ما يدعو الوالد والمربّي إلى أن يعتنيَ بإيمان الطفل والناشئ ، غرساً وتعهّداً ورعايةً ، لأنّ الإيمان هو المُرتكزُ الأوّل في بناء شخصيّة الإنسان وتقويم سُلوكه ، وعلّة أنواع الاختلالات الفكريّة والسلوكيّة في حياة شباب الأمّة اليوم ، إنّما هو ضعف الإيمان واليقين ، أو اعتلاله وفساد قصْده .

وقد طفحت آيات الكتاب العزيز ببَيان هذه الحقيقة وتأكيدها ، فمن ذلك قولُ الله تعالى فيمن ينكص عن العمل الصالح ، والالتزام بدين الله : { .. أفتؤمنون ببعض الكتاب ، وتكفرون ببعض ، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ في الحياة الدنيا ، ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب ، وما الله بغَافلٍ عمّا تعملون (85) } البقرة .

وعندما أخذ الله ميثاق بني إسْرائيل ، ورفع فوقهم الطور ، وقيل لهم : خذوا ما آتيناكم بقوّة واسمَعوا ، فقالوا : سمعنا وعصينا ، قال الله تعالى فيهم : { .. وأشربوا في قلوبهم العجلَ بكفرهم ، قل : بئسَما يأمركم به إيمانكم ، إن كنتم مؤمنين (93) } البقرة .

وبعد ؛ فإنّ على المربّي أن يركّز جهوده الصادقة المخلصة على أن يُترجَم الإيمان في حياة الطفل والناشئ إلى سلوك عمليّ صالح ، يعمّ خيره ، وتتّسع آفاقه ، ولا يقتصر على جانب من جوانب حياته ، وأن يعلّم الطفل والناشئ أنّ العمل الصالح عبادة ، وربّما كان أحبّ إلى الله من نافلة الصلاة والصيام ، لأنّه أنفع للعباد ، وأعظم أثراً في حياتهم .. وأن يحبّب بالأعمال الصالحة ، ويدرّب عليها ، حتّى له عادة راسخة ، وجزءاً من شخصيّته وسلوكه .

وممّا ينبغي أن يغرس في نفس الطفل والناشئ أنّ من اتّبع غير منهج الله تعالى معتقداً أنّه أحسن أو أعدل من منهج الله ، فقد أشرك في عبادة الله وتوحيده ، ونجد مصداق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ ، إذ يقول الله تعالى : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنّه لكم عدوّ مبين (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61) } يس ، ويقول تعالى : ( .. وإنْ أطعتُمُوهُم إنّكُم لَمُشرِكُون (121) } الأنعام .

فإذا أدّى الوالد والمربّي هذه الرسالة فإنّه يكون قد قام بمسئوليّة تحصينيّة للطفل تقيه من تيّارات المسخ والتشويه ، التي تستهدف كيان الأمّة ، وشخصيّة جيلها المعاصر ..

 

 

 

      

* العبادات أمانة !

 

التكاليف الإلهيّة كلّها أمانات ، يكلّف الإنسان بحفظها وحسن رعايتها ، وسيُسأل عنها يوم القيامة ، قال الله تعالَى : ] إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) [ الأحزاب .

وقال تعالى : ] لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً (8) [ الأحزاب .

ولقد كان النداء الأوّل في رسالة كلّ رسول عليهم الصلاة والسلام : ] يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [ (65) الأعراف ، وجاء الخطاب العامّ للإنسانيّة في الَقرآن الكَريم : ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ ، الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) [ البقرة .

فدلّ الجمع بين هذه النصوص على أنّ العبادات أمانات .. ووجه عدّ العبادات أمانات : أنّها تشْترك مع الأمانة المادّيّة المعروفة في وجوب المحافظة عليها كما هي ، وعدم التغيير أو التبديل في شيء منها ، وأدائها كاملة غيرَ منقوصة ، متى طلبها صاحبها ، أو أمر بها ، وهو الله تعالى جلّ جلاله ،  وتباركت أسماؤهُ..

والصلوات الخمس من أعظم الأمانات وَأجلّها ، لما فيها من بُرهان العُبُوديّة الصادق ، إذ تحتاج المحافظةُ عَليها إلى مغالبة الأهواء والتعلّقات الدنيويّة الشاغلة عن ذكر الله ، ولما فيها من أنواع الطهَارات الحسّيّة وَالمعنوِيّة ، والتكرار في أوقات دقيقةٍ محدّدة ، آناء الليل وأطرَاف النهار .

ولو نظرنا إلى الصيام من هذه الوجهة لرأيْنَا أنّ التعبيرَ عنه بالأمانة يحمل دلالات هي على درجة كبيرة من الأهمّيّة :

ـ فهو أمانةٌ ، تجب المحافظة عليها كما أمرَ صاحبها.

ـ وهو أمانةٌ يجب أداؤها كما أمرَ صاحبها كذلك ..

ـ وهو أمانةٌ كذلك من حيث هو سرّ بين العبد وربّه سبحانه ، لا يظهر لأحد من خلق الله ..

وأداء الزكاة من الأمانة ، لأنّ المالَ كلّه أمانَة بيد الغنيّ ، ومقدار الزكاة منه ليس مالَه على وجه الحقيقة ، فيدُه يد أمانةٍ عليه ، والله تعالى يقول : ]  وأنفقوا ممّا جعلَكم مستخَلفين فيه .. (7) [ الحديد .

ـ والحجّ كذلك أمانةٌ من أعظم الأمانات الشرعيّة ، يؤتمنُ فيه المؤمنُ على محظورات الإحرامِ فلا ينتهكها ، وعلى الوَاجبات والمناسك فلا يُقصّر فيها .. وفيه يجدّد توبته لله ، وعهده مع الله ، ألاّ ينحرف عَنْ شَرع الله ودينه ، مهما تعرّض للمحن والابتِلاءَات ..

فمن تربّى على حفظ أمانة العبادات ورعايتها ، وأداء حقّ الله فيها على أحسَن حال .. كان جديراً أن يحفظ سائر الأمانات ويرعاها .

ومن هنا كانت هذه العباداتُ أركاناً لدين الله يقوم عليها بُنْيانه ، وبها يُكتشف رسوخه في القلب وتمكّنه .. وكان حقّاً على الوالد والمربّي أن يتعهّد الطفل والناشئ بغرس محبّة هذه العبادات في قلبه ، والنشأة على المحافظة عليها وإتقانها ، وتعظيم شأنها وحرمتها ، واليقين أنّ من أتقنها بحقّ فهو أهل أن يستقيم في سائر شئون دينه ودنياه ، ومن فرّط بها أو ضيّعها فأنى له أن يؤتمن على ما سواها من أمانات .؟!

 

 

      

* الحياة ساحة للعبادة .!

 

إنّ أهمّ ما يترتّبُ على الفهْم الصحيح  الشامل للعبادة : أن تكونَ حياة الإنسان في كلّ جانب من جوانبها ، وكلّ نشاطٍ أو عمل عبادة ، يتقرّبُ بها الإنْسان إلى الله تعالى كما يتقرّب بأداء الصلاة ، والزكاةِ والصومِ والحجّ .. وهذا ما بيّنته الآية الكريمة ، وجعلته شعاراً للمسلم ، يعلنه ويعتزّ به : { قُلْ : إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ، وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ، وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (163) } الأنعام .

كما بيّنه هدي النبيّ e في مناسبات عديدة ، منها ما جاء في الحديث الصحيح عن ثَوْبَانَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : ( أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ ) قَالَ أَبُو قِلابَةَ : وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ ، ثُمَّ قَالَ أَبُو قِلابَةَ : " وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ ، يُعِفُّهُمْ ، أَوْ يَنْفَعُهُمُ اللهُ بِهِ ، وَيُغْنِيهِمْ " ([21]) .

ـ وما جاء في الحديث عن أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : ( دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ ) ([22]) .

ـ وما جاء في الحديث ، عن أَبِي مَسْعُودٍ t عَنِ النَّبِيِّ قَالَ : ( إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً ، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا ، فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ ) ([23]) .

والاحتساب هو طلب الأجر من الله تعالى .

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنَ عَمْرٍو t يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : ( أَرْبَعُونَ خَصْلَةً ، أَعْلاهُنَّ مَنِيحَةُ العَنْزِ ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا ، رَجَاءَ ثَوَابِهَا ، وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلاّ أَدْخَلَهُ اللهُ بِهَا الجَنَّةَ ) قَالَ حَسَّانُ : فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ العَنْزِ ، مِنْ رَدِّ السَّلامِ ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ، وَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ، وَنَحْوِهِ ، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً " ([24]) .

وإنّي لألمحُ نُكتَة تربويّة في هذا الحديث عميقة ، وهي لماذا لم يُعدّد النبيّ e هذه الخصال الأربعين .؟! ولماذا لم يستطع أحد رواة الحديث أن يعدّد هو ومن معه ، خمس عشرة خصلة منها .؟! إنّ السرّ في ذلك ـ والله تعالى أعلم ـ أن يبقى الباب مفتوحاً مع الزمن لما يجدّ في حياة الناس من أعمال خير صغيرة في نظر الناس ، ولكنّها في ميزان الله عظيمة ، ربّما تكون للعبد سببَ دخول الجنّة ، وكيلا يحتقر مسلم شيئاً من أعمال البرّ ، وخصال الخير ، فهي تجبر كسراً ، وتسدّ خللاً ، وتسعد أسرة ، وتنقذ نفساً ..

ويبلغ فضلُ العمل الصالح ، ولو كان تافهاً في نظر الناس مبلغاً عظيماً عند الله تعالى عندما يكون سبباً لمغفرة الله للعبد ودُخوله الجنّة ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : ( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ .. ) ([25]) .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : ( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ ، اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ ، فَوَجَدَ بِئْراً ، فَنَزَلَ فِيهَا ، فَشَرِبَ ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ بِي ، فَنَزَلَ الْبِئْرَ ، فَمَلأَ خُفَّهُ ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ، فَسَقَى الْكَلْبَ ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ ، فَغَفَرَ لَهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْراً ، فَقَالَ : نَعَمْ ، فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ ) ([26]) .

إنّ هذا الفهم للإسلام ممّا يحتاج المربّي إلى غرسه وتعميقه في نفس الطفل والناشئ ، وتدريبه العمليّ عليه في كلّ مناسبة ، كيلا يفهم الإسلام فهماً كَنَسِيّاً ، يعزل الدينَ عن الحياة ، والعبادة عن السلوك ، ويحصر الدينَ في زَاويةٍ ضيّقَة من الشعائر ، التي هي أشبَهُ بالرموز والطقوس ، تُؤَدّى بغير فهم لحكمها ، ولا وعيٍ بمقاصدها وإدراك لمواقعها .. ثمّ تكون متناقضةً مع سائر سلوك الإنسان ونشاطه ، ويكون نشاطه تائهاً عنها ، لا يلتقيها ولا تلتقيه ..

فعمل الخير في تصوّر المسلم وممارسته اليوميّة ليسَ قاصراً على شعائر العبادة ، يؤدّيها في أوقات مخصوصة ، ثمّ تكون الحياة شريعةَ غاب ، وتناطُحَ ذئاب .. وإنّما الأرض في تصوّر المسلم محراب للعبادة ، والحياة مَيدان لها رحب ، والعمل النافع الصالح هدف المسلم وهمّته وطموحه ، ممّا يجعل المسلم يتعامل مع الحياة والأحياء بإيجابيّة فاعلة ، ونظْرةٍ إيمانيّةٍ سامية ، إنّها زمن الجدّ والاجتهاد ، والتنافس في الأعمال الصالحة ، والاغتنام لها ، والادّخار للآخرة .. بما ينفع عندَ الله ، ويقرّب إليه .. وليست الحياة ملعب لهو ، ودار وزر ..

وممّا يؤَكّد هذه الحقيقة في نَفس المؤمن ، ويؤازرها ويعمّقها قوْلُ النبيّ e : ( وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصَلِّ .. ) ([27]) .

إنّ هذا الشمول في فهم العبادة والتعامل معها حريّ أن يمنحَ الطفلَ الجدّيّة والإيجابيّة ، منذُ نشأته ، وتكوّن عاداته وأنماط سلوكه ، ولا يمكن بعد ذلك أن يكون مصدر خطر أو ضرر على مجتمعه أوْ أمّته .. أو عضواً أشلّ في المجتمع ، عالة على الناس ..

 

      

* كيف يرعى المربّي مفهومَ العبادةِ .؟

 

العبادةُ في مفهومِها العامّ هي كلّ ما يحبّه الله تعالى ويرضاه ، من الأقوال والأفعال والأفكار ، الظاهرة والباطنة ، وهذا المفهوم الذي لا أعلم أحداً ممّن يعتدّ به يخالفه ، يعطي شموليّة في فهم الإسلام ، وفي التعامل مع مختلف شئون الحياة ، ويضع ذلك في منظور من التطلّع إلى الآخرة ، والرغبة في التقرّب إلى الله تعالى ، فهو ينتظم شئون الحياة كلّها ، ويجمع بين الدنيا والآخرة ، في تآلف وانسجام ، لا يعرف القطيعة ، أو التنافر والصراع ..

وقوام العبادة بهذا المفهوم أمران :

ـ الأوّل : نيّة التقرّبِ إلى الله تعالى ، وهو ما يعبّر عنه في بعض النصوص أيضاً بالاحتساب .

ـ والثاني : القيام بالعمل وفق منهج الله تعالى ، وما شرعه الله فيه .

ولا نريد أن نعالج في هذه الكلمة ألواناً من الفهم الخاطئ للعبادة ، والممارسات الكثيرة التي نتجت عنه ، وما تولّد من نتائج سلبيّة ، كان لها أكبرُ الأثر فيما وقعت فيه الأمّة منْ مظاهر الانحراف والتخلّف ، والتخلّي عن سدّةِ القيادة للبشريّة .. فلذلك موطن آخر ، ولعلّ بيان الحقيقة وتجليتها كفيل بتصحيح الخطأ ، وتقويم العوج ..

وإذا كانت العبادة في مفهومها العامّ كذلك ، فهي تقتضِي من المربّي أن يتعامل مع مَن يُربّيه من هذا المنطلق الشموليّ من خلال : غرس هذا الفهم الصحيح ، وأنّه هدف وجود الإنسان وغاية خلقه أوّلاً ، وربطه بواقع الحياة ثانياً ، ووضع هذا التصوّر الصحيح موضع التنفيذ ، في كلّ موقف إيجابيّ أو سلبيّ ثالثاً ، ثمّ القياس والتقويم لسلوك الطفل والناشئ ومواقفه ، على ضوء هذا المفهوم رابعاً ، ومتابعة ذلك بما يتناسب مع طبيعة كلّ مرحلة عمريّة ومتطلّباتها خامساً ..

هذا باختصار وإجمال منهج التربية على العبادة وخطّته ، وما يقتضيه ويستلزمه من مراحل ، ليكون هذا المنهج في بؤرة الواقع وحركة السلوك ..

والتفصيل المجمل لهذا المنهج يحتاج إلى شيء من البيان بعد الإجمَال :

1 ـ فالغرس لمفهوم العبادة الصحيح يقتضي أن يقدّم المربّي الأدلّة المناسبة : النصّيّة والعقليّة ، على أنّ العبادة هي هدف وجود الإنسان وغاية خلقه ، كقول اللهُ تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) } البيّنة .

وقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ، وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) } الذاريات .

وقوله تعالى : { قُلْ : إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ، وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ، وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (163) } الأنعام .

وقوله سبحانه : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً ، أَنْ اُعْبُدُوا اللهَ ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ، فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ (36) } النحل .

والطاغوت هو كلّ ما عُبد أو أطيع من دون الله برضَى منه ، ورأس الطواغيت إبليس ..

والفهم الصحيح لهذه الآيات وأمثالها يعدّ من الأدلّة العقليّة على هذه الحقيقة .. وإذا كان دين الله وشرعه قد بيّن للناس ما يكلّفهم الله تعالى به في كلّ جانب من جوانب الحياة ، منذ الميلاد وإلى ما بعد الوفاة .. أفليس أداء تلك التكاليف ، والالتزام بها عبادةً لله تعالى .؟ يثاب عليها الإنسان ، وتكون سبب مغفرة الله تعالى ورضوانه له ، فإن لم يكن أداء التكاليف عبادةً .؟ فماذا يكون إذن .؟! وإنّ غرس المفهوم الصحيح للعبادة يقتضي ثلاثة أمور :

أ ـ التكرار والتأكيد ، ليطمئنّ المربّي إلى تحقيق ما يريد .

ب ـ والتذكير بذلك بين الحين والآخر .

ج ـ وتقديم النماذج ، والتمثيل بالمواقف ، ويحسن أن تكون ممّا ذكر في النصوص النبويّة ، وهي كَثيرة متنوّعة ..

2 ـ وأمّا ربط مفهوم العبادة بواقع الحياة ، فهذا من البداهة بمكان ، إذ إنّ المفهوم الشموليّ للعبادة يجعل ميدانَها السلوك الإنسانيّ بمختلف جوانبه وآفاقه ، وهذا ما أشار إليه حديث النبيّ e عن شعب الإيمان ، فيما رواه أَبو هُرَيْرَةَ t عَن النبيّ e أنّه قَالَ : ( الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً ، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ : لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ) ([28]) .

فقد أشار ذكره لأعلى شعب الإيمان وَأَدْنَاهَا ، إلى أنّ ما بينهما من خصال الخير والبرّ هو ممّا يُتَقَرّب به إلى اللهِ تعالى ، وفي ذلكَ إشارةٌ أيضاً إلى شُمول مَفهُومِ العبادة لشتّى جوانب الحياة . وربط مفهوم العبادة بواقع الحياة يقتضي مِن المربّي :

أ ـ أنْ يرسّخ مفهوم الخير والشرّ ، والمعروف والمنكر ، وما يحبّه الله تعالى ويرضاه ، وما يكرهه لعباده ، ولا يرضاه .

ب ـ وأنّ ما يحبّه الله ويرضاه لا يخلو من : نفعٍ النفس ، أو نفعٍ الناسِ ، والإصلاحٍ في الأرض ، والله غنيّ عَن العالمين ، لا تنفعه طاعة الطائعين ، ولا تضرّه معصية العاصين .

3 ـ ووضع هذا التصوّر الصحيح موضع التنفيذ في كلّ موقف ، يتطلّب تركيز المربّي على عدّة أمور :

ـ الأمر الأوّل : أن يقصد الناشئ في سلوكه من العمل ما يحبّه الله ويرضاه ، ويبتعد عمّا سواه ، وأن يحاسب نفسه على ذلك .

ـ والأمر الثاني : أن يبتعد الناشئ عن التقليد الأعمى ، والتبعيّة بغير وعي ، حتّى في مجال الخير والبرّ ، وإنّما يفعل ما يفعل بدافع من رغبته وإرادته ، لا بدافع منْ تمجيد الأشخاص ، وتقْديس الكبار .

ـ والأمر الثالث : أن يجد الناشئ في الوالدين ، وكلّ من يتلقّى عنه قدوةً حسنةً له في سلوكه ، فالقدوة الحسنة تختصر نصف الطريق للناشئ ، ونصفه الآخر للمربّي .

4 ـ وممّا ينبغي على المربّي أن يلاحظه ، وهو يتعهّد مفهوم العبادة ، ويؤصّله في نفس الطفل والناشئ : القياس والتقويم لسلوك الطفل والناشئ ومواقفه ، على ضوء هذا المفهوم العامّ للعبادة ، ومدى انسجامه مع هذا المفهوم ، وهذا يتطلّب من المربّي ملاحظة ما يلي ، وقياسه بدقّة :

أ ـ مدى إتقان الطفل والناشئ للعبادة ، أو احتياجه للتذكير والمتابعة .

ب ـ مدى حبّ الطفل للعبادة ، وتقديمها على رغباته الخاصّة .

ج ـ مدى اندفاع الطفل أو الناشئ نحو العبادة ومظاهرها بمفهومها الخاصّ والعامّ بدافع ذاتيّ ، بعيداً عن تأثير المربّي ومتابعته .

د ـ قياس التطوّر النوعيّ ، والتطوّر الكمّيّ في سلوك الناشئ ومواقفه ، إيجاباً بالرغبة في السلوك المطلوب ، أو سلباً بالنفرة من السلوك غَير المرغوب ، والتفكير الجادّ في وسائل المعالجة وأساليبها .

5 ـ وآخر ما ينبغي على المربّي أن يتحلّى به ، وهو يتعهّد مفهوم العبادة ، ويؤصّله في نفس الطفل والناشئ : المتابعة الجادّة لما سبق ، بما يتناسب مع طبيعة كلّ مرحلة عمريّة ومتطلّباتها :

وإنّ إهمال المتابعة يجْعلُ الطفلَ ينْشأ نشأة معوَجّة ، ويعرّض الناشئ لخطر الانتكاس بعد الهدى ، والتخلّف عن ركب الخير ، بعد التقدّم والسموّ .

والنشأة الطيّبة الجادّة لا تعفي المربّي من المتابعة في كلّ مرحلة ، فلكلّ مرحلة غذاؤها ودواؤها ، وما ينفعها ويؤثّر فيها ..

والمتابعة الجادّة تقتضي من المربّي :

أ ـ تغيير أساليبه وتطويرها ، والتفنّن فيها ، فما يناسب سنّاً قد لا يناسب سنّاً أخرى ، وما ينفع في مرحلة قد لا ينفع في مرحلة أخرى .

ب ـ ألاّ يملّ المربّي ، ولا يستيئس ، ولا يتراجع ، ولا ينكص ، ولا يسأم ، ولا يعجز .. وتلك علّة العلل في كثير من الآباء والمربّين ، يهدمون بالتراخي ، ما شيّدوه من المباني ، ويقيمون بلا عمل ، مع أحلام الأمانيّ والتواني ..

وبعد ؛ فما أحرى المُربّي ، الذي يريد أن يكون في أسرته وأولاده للمتّقينَ إماماً ، أن يأخذ هذه الحقائق بقوّة وعزم ، وأن يعلمَ أنّ دون بلوغ سنام العزّ والمجد ، الجهدُ الدائبُ ، والحزمُ الغالب ، ليكونَ منْ أهل الآية الكريمة : { وكانوا لنا عابدين } .

والله تعالى وليّ التوفيق والسداد ، والحمد لله أوّلاً وآخراً .

 

      

* التربية على العبادة ..

 

العبادة لله وحده هي العهد القديم الذي أخذه الله على الإنسان ، وسجّله في فطرهم البشريّة ، وغرسه في طبائعهم الأصيلة ، منذ عهد إليهم بأمانة التكليف ، فوضع في رءوسهم عقولاً تعي ، وفي صدورهم قلوباً تخفق ، وفي الكون حولهم آيات تهدي : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) } يس .

هذا العهد الوثيق بين الله تعالى وعباده ، هو الذي صوّره القرآن في روعةٍ وبلاغةٍ حين قال سبحانه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى شَهِدْنَا ، أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ : إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا : إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ ، وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ، أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ (173) } الأعراف .

فلا عجب أن يكون المقصود الأعظم من بعثة النبيّين ، وإرسال المرسلين ، وإنزال الكتب المقدّسة هو تذكير الناس بهذا العهد القديم ، وإزالة ما تراكم على عهد الفطرة من غبار الغفلة أو الوثنيّة أو التقليد ، ولا عجب أن يكون النداء الأوّل لكلّ رسول : { .. يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ، مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) } الأعراف ، بهذا دعا قومه : نوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وموسى وعيسى ، عليهم الصلاة والسلام ، وكلّ رسول بعث إلى قومه ، كان هذا محور دعوته ولبّ رسالته .

قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً : أَنْ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ .. (36) } النحل ، وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ : أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) } الأنبياء ، وذكر الله تعالى قصص عدد من الأنبياء ، ثمّ قال : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) } الأنبياء ، وقال تعالى : { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) } المؤمنون .

فالأديان كلّها دعوة إلى عبادة الله تعالى وحده ، والأنبياء جميعاً أوّل العابدين لله ، وقد أثنى الله تعالى عليهم بقوله : { وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) } الأنبياء ، فعبادة الله وحده هي إذن مهمّة الإنسان الأولى في الوجود ووظيفته ، وغاية خلقه وحياته ، كما قال الله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (56) } الذاريات .

وعندَما أمرنا النبيّ e أنْ نأمرَ أولادنا بالصلاة وهم أبناء سبع ، ونضربهم وعليها إذا بلغوا عشر سنوات وقصّروا في أدائها ، فهذا يعني أنّ التربية على العبادة من أهمّ ما يعتني به الشرع ويوليه رعايته ، كما يعني ذلك أنّ الإسلام جعل التدريب على الصلاة على مرحلتين ، هما قبل سنّ البلوغ والتكليف :

ـ المرحلة الأولى : مرحلة الأمر والتعليم والترغيب ، وذلك عند بلوغ سنّ السابعة ، ويكون التهيّؤ لها والتهييئ : بالقدوة الحسنة ، عندما يرى الطفل والديه يؤدّون الصلاة وغيرها من العبادات ، فيقلّدهم ، ويحاكي أفعالهم ، فيرى منهم الاستحسان والتشجيع .

ـ والمرحلة الثانية : مرحلة التأديب والترهيب ، وذلك إذا وقع التقصير والتهاون ، أو التفريط عند بلوغ العاشرة ، وهذا ما يعدّ شاذّاً بعيد الوقوع إذا أحكمت المرحلة الأولى ، ونالت ما تستحقّ من الاهتمام والرعاية ..

فثلاث سنوات من التدريب والترغيب فرصة كافية للناشئ ، لتكون الصلاة نظاماً ، تتطبّع عليه حياته ، وتنشَط له أعضاؤه ، وتكون جزءاً من شخصيّته ، وبرنامج حياته ، وبخاصّة أنّه يرى من حوله من والديه وإخوته الأكبر منه وأخواته ، يؤدّون الصلاة كلّ يوم في أوقاتها بانتظام ، فإذا تهاون بها بعد ذلك أو فرّط ناسب أن يجد من المربّي الحزم والشدّة ، ليعلم أنّ الأمر جدّ ، وأنّ وراءه مسئوليّة في الدنيا قبلَ مسئوليّة الآخرة وجزائها ..

ومن ذاق لذّة العبادة للهِ تعالى استطاع أن يحبّب بنيه بالعبادة ، ويرغّبهم بهَا .. ولم يكن أمره لهم بلغة الأمر والتكليف ، وإنّما بلسَان الحبّ والرغْبة ، ومَا كان كذلك كان تأثيره دائماً بالغاً .. وبعد أداء الفرائض وإتقانها ينبغي على الوالد أن يرغّب الطفل أو الناشئ بأداء النوافل الرواتب وغير الرواتب ، لينشأ الطفل على حبّ التقرّب إلى الله تعالى ..

ولا يختلف الصيام عن الصلاة إلاّ بفارق واحد ، وهو مراعاة القدرة البدنيّة للناشئ ، فقد يبلغ السابعة أو العاشرة ، وجسمه ضعيف لا يحتمل الصيام ، فيمهل حتّى يشتدّ عوده ويَقوى ، إذ لا يُكلّف الله نفساً إلاّ وسعَها ، فكيف بمن لم يدخُل بعد مرحلة البلوغ والتكليف .؟

وقد كان الصحابة y يصوّمون صبيانهم وهم صغار ، حتّى كانوا يأتون لهم باللعب من العهن ـ أي الصوف ـ يلهّونهم بها ، حتّى يأتي وقت الإفطار .

وليس المطلوب من الناشئ أن يصوم الشهر مرّة واحدة ، فمن الممكن أن يصوم في أوّل سنة يومين أو ثلاثة أيّام مثلاً ، ثمّ يصوم بعدها أسبوعاً ، ثمّ أسبوعين .. حتّى يمكنَه بعد ذلك أن يصوم الشهر كلّه قبل أن يدخل سنّ البلوغ ..

وينبغي أن يلاحظ الوالدان تخفيف التكاليف علَى الناشئ وقت الصيام رحمةً به وترغيباً ، وذلك من الرفق الذي أمرنا به ، كما ينبغي عليهم أن يهتمّوا بالسحور ، وأن يكون مقارباً لطلوع الفجر ، ليكُون أعون لهم على طاعة الله تعالى وأقوى .

وأمّا الزكاة فجمهور أهل العلم على أنّها تجب في مال الصبيّ ، ولو لم يبلغ ، يخرجها من ماله وَليّه أو وصيّه ، وحبّذا أن يعرف الصبيّ ذلك عندما يكبر ويكون في سنّ التمييز ، ليستشعر مسئوليّة الأداء لهذا الركن من أركان الإسلام ، وليتدرّبَ نفسيّاً وعَمليّاً على البذل والإنفاق في سبيل الله عزّ وجلّ .

وعندما يكبر الطفل فيقارب سنّ البلوغ ، فينبغي على وليّه أن يحثَّه على الصدقة من ماله بيْن الحين والآخر ، ليتعوّد على فعل الخير ، وينشأ على الجود والكرم ..

وأمّا الحجّ وهو الركن الخامس من أركان الإسلام ؛ فلا نجد في الهدي النبويّ أمراً للأطفال به ، ويبدو أنّ طبيعة الحجّ الخاصّة ، التي يشترط فيها الاستطاعة ، والاستطاعة تشمل القدرة البدنيّة والماليّة ، والطفل في أغلب الأحوال مظنّة ضعف القدرة البدنيّة ، فمن رحمة الله تعالى بعباده أن لم يوجّه الأمر لأطفالهم بها .. { ومن تطوّع خيْراً فهوَ خيرٌ له } .

ولا يخفى أنّ الفرق بيْنَ الصلاة وسائر العبادات لا يحتاج إلى بيَان ؛ من حيث الأهمّيّة ، ومن حيث الأثر النفسيّ والاجتماعيّ ، ومن حيث الوقت والقدرة على الأداء ، ممّا يجعل لها تميّزاً في التكليف بها منذ السابعة ، والضرب على التقصير بها عندَ العاشرة ..

ومن التربية على العبادة تربية الطفل على ذكر الله تعالى ، وتسبيحه وتمجيده ، وتهليله وتعظيمه ، وتعويده على الأخذ بأذكار الصباح والمساء ، وما ورد في السنّة النبويّة من أدعية المناسبات وأذكارها ، وفي ذلك ترسيخ لحقائق العقيدة التي يعبّر عنها الركن الأوّل من أركان الإسلام ..

وإذ كان مفهوم العبادة شاملاً لما يحبّ الله ويرضى ، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، التي تؤدّى بنيّة التقرّب إلى الله تعالى ، فعلى المربّي أن يربط للطفل والناشئ كلّ عمل من أعمال الخير والبرّ بعبادة الله تعالى والتقرّب إليه ، والرغبة في مثوبته ، لينشأ على إخلاص العمل لله تعالى ، وابتغاء وجهه في جميع أعماله ..

ومن الخطأ الفادح الذي يرتكبُه بعض الآبَاء والأمّهات أنّهم يهملون أولادهم منذ الصغر ، فلا يدَرّبونهم على أداء الفرائض والطاعات لله تعالى ، فإذا وصلوا سنّ البلوغ كانت العبادة أثقل على أنفسهم من الجبال ، فلم يستجيبوا للأمر أو النهي ، وأنفوا عن طاعة الله تعالى وتمرّدوا ، وما أصدق قول الشاعر :

وينفع الأدب الأولاد في صغرٍ     وليس ينفع عند الشيبة الأدبُ

إنّ الغصون إذا قوّمتها اعتدلت   ولن تلين  إذا  قوّمتها الخشبُ

أيّها الآباء والمربون .! لقد قضَت حكمة الله تعالى أن يكون في الأطفال حافز فطريّ قويّ : أن ينظروا للكبار نظرة الاقتداء في كلّ شيء ، فهم يتشبّهون بهم ويقتدون ، ويريدون أن يُروا الكبار من أنفسهم القوّة والقدرة على أنّهم يفعلون ما يفعل الكبار ، ولا ينقصون عنهم في شيء .. وهذا الحافز الفطريّ خير عون للوالدين والمربّين على توجيه الأطفال والناشئين نحو ما فيه خيرهم وصلاح أمرهم من عبادة الله تعالى والحرص على التقرّب إليه ..

فلنتّخذ من أساليب الترغيب والتحبيب بالعبادة ، ما يجعل عبادة الله تعالى فطرة راسخةً مكينة في نفوس أبنائنا ، وطاعته أحبّ إليهم من كلّ شيء ، وآثر عندهم من كلّ متعة .. ولنعلم أنّ منهج الحقّ لا يستغني عن الأسلوب الطيّب  والوسيلة المحبّبة .. بل هو أحقّ بها وأهلها .. فهل نقدّر مسئوليّتنا حقّ قدرها .؟ فينشأ أبناؤنا على حبّ العبادة والتعلّق بها ، ويكونوا قرّة عينٍ لنا في الدنيا والآخرة ، فإنّ الخير عادة والشرّ عادة ، ويشيب المرء على ما شبّ عليه ، والتربية في الصغر كالنقش في الحجر ، ويقول الشاعر :

وينشَأ ناشئ الفتيان منّا       على ما كانَ عوّدهُ أبوهُ

اللهمّ أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك .

اللهمّ حبّب إلينا الإيمان ، وزيّنه في قلوبنا ، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، والحمد لله ربّ العالمين .

 

      

* ثمرات العبادة .!

 

الإيمانُ عقيدةٌ تعمُرُ القلبَ ، وتغمرُ الجوارحَ ، فتثمر الطاعةَ والفضائلَ والمكارم ، وحسن المعاملة ، وسموّ الأخلاق .. وليس الإيمانُ كلمةً تجري على اللسانِ ، أو يدّعيها الإنسَانُ بغير برهان .. بل هو عقيدةٌ راسخة ، وأخلاقٌ فَاضلة ، وأعمالٌ صالحة ..

فالإيمانُ دافع للمؤمن إلى الإكثار من الطاعات حبّاً لله ، وتقرّباً منه ، وطلباً لمرضاته .. وهذا ما يفسّر لنا اجتهاد النبيّ e في العبادة ، واجتهاد أصحابه الكرَام y ، بصُورة دفعت بعضهم إلى المبالغة ، فكانوا يحتاجون معها أنْ يدعوهم النبيّ e إلى الاعتدال ، والتخفيف عن أنفسهم ، وأن لا يكلّفوا أنفسهم ما لا يطيقون ، فإنّ الله لا يملّ حتّى يملّوا ..

وإنّ أعظمَ ثمرة من ثمرَات العبَادة أن يصل المؤمن إلى مرْتبة الإحسان ، التي هي أعلى مراتب الدين ، وقد عرّفها النبيّ e بقوله : ( أن تَعْبُدَ اللهَ كأنّكَ تَراهُ ، فإنْ لم تكُنْ تَراهُ فإنّهُ يَراكَ ) ([29]) ، ويَنبغي أن نفهم هنا العبادة بمعنى العمل أيّ عملٍ كان ـ ما دام مشروعاً ـ فكأنّ النبيّ e يقول : أن تعْملَ العملَ لله كأنّك تراه .. وهذا مَا يورّث المؤمن مراقبة الله تعالى في مهْنته ، في سوقه ، في تجارته ، في مدرسته ، في جامعته ، في أخذه وعطائه ، في جوْدِه ومنعه ، في حبّه وبغضه ، في كلّ شَأنٍ منْ شئون حياتِه ..

وإذا كان التعبير عَن حقائق الدين وأعمَاله ومفاهيمه بكلمة جامعة هي : " التقوى " ، فإنّ التقوى ليست في مفهوم الإسلام وحقيقتها ـ كما يفهمها بعض الناس ـ سلوكاً سلبيّاً ، يتمثّل في موقف ردّة الفعل عن الأمور السيّئة المكروهة ، ومجاهدة النفس على تركها .. وإنّما التقوى وقاية وقوّة ، وطاقة دافعة .. فالقوّة وقاية ، والوقاية قوّة ، والوقاية والقوّة تبعثان في الإنسانِ طاقة للجدّ النشِط ، والعمل الراشد .. فلا حقيقة للوقاية بغير قوّة ، ولا ثبات للقوّة بغير وِقاية .. إنّهما شرطان لقيام سوق الحقّ ، وارتفاع أعلامه في الخلق ..

والتقوى روح من نور الله ، وإشراقة الإرادة الخيّرة في النفس المؤمنة ، التي حلّقت بطهرها في سماء الإخلاص ، وتخلّصت بنقاء التوحيد من كلّ شائبة ، ورفرفت في معارج العبوديّة الصادقة ، فلم تأسرها ضرورة ، ولم تحدّ طموحها حاجة ..

وبقدر ما تحمل التقوى صاحبها على اجتناب ما ينهى عنه ، فإنّها تدفعه إلى فعل مَا يؤمر به ، والتقرّب إلى ربّه بمَا يحبّه ..

والإحسَانُ روح تقوى الله تعالى ، التي هي كلمة جامعة لحقائق الدين ومراتبِهَا كلّها ، الظاهرة والباطنة ، القوليّة والعمليّة والقلبيّة ، وهو يقود الإنسان إلى الالتزامِ الصادقِ بدينِ الله تعالى ومنهجه ، وهوَ من أهمّ ثمرات العبادة لله تعالى .

ـ ومن ثمرات العبادة لله تَعالى : إتْقان العملِ وتجويده ، وقد جاء في الحديث : ( إنّ الله يحبّ من العامل إذا عمل عملاً أن يتقنه ) ([30]) ، لأنّ المؤمنَ عنْدما يقوم بالعمل ابتغَاء مرضاة الله تعالى لابدّ أن يلاحظ أنّ الله تعالى طيّب ، لا يقبل إلاّ طيّباً ، ومنْ معنى الطيب أن يكون العمل متقناً جيّداً ..

ومن ثمرات العبادة : صلاح النفس واستقامتها وهداها ، وتلك ثمرة من أعظم ثمرات التكليف الإلهيّ ، يقول الله تعالى : { يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28) } النساء .

ويقول تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) } الأعلى .

ويقول سبحَانه : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) } الشمس .

وبعد ؛ فإنّ ثمرات العبادة أكثر من أن تحصى ، وهذا ما يفسّر لنا طرفاً من حكمة الله تعالى إذ جعل العبادات الخاصّة : من صلاة وزكاة ، وصوم وحجّ أركاناً للإسلام ، لما لهَا من تأثير واسع متشعّب في شتّى مناحي الحياة ..

ولكنّنا عندَما ننظر نظرة جامعة إلى ثمرات العبادة ، نراها تجتمع في ثلاثة جوانب :

ـ الجانب الأوّل : ثمرات للعبادة تتعلّق بصلة العبد بالله تعالى ؛ كحبّ الله تعالى وخشيته ، وخوفه ورجائه ، والتوكّل عليه ، والإنابة إليه ، وذكره تعالى وشكره ، والإخلاص لوجهه الكريم ، وكمال توحيده وتعْظيمه ..

ـ والجانب الثاني : ثمرات للعبادة تتعلّق بشخصيّة الإنسان ، وتكوينه وبنائه ؛ كقوّة الإرادة ، وسموّ الهِمّةِ ، وتزكية النفس ، والتحقّق بالصدق والأمانة ، والتمسّك بمكارم الأخلاق ، والبعد عن مساوئها .

ـ والجانب الثالث : ثمرات للعبادة تتعلّق بصلة الإنسان بالآخرين ، وعلاقتهم به ، كحفظ الذمم ، وأداء الحقوق ، وكفّ الأذى ، والتسامح ، وحسن التعامل مع الناس ، وحسن الظنّ وسلامة الصدر .

ولا شيء من ثمرات العبادة يخرج عَنْ هذه الجوانب الثلاثة ، وهي متّصلة متداخلة .

إنّ على الوالد والمربّي أن يربط للطفل والناشئ بين العبادة ، وما يتّصل بهَا منْ ثمرات وبركات وآثار ، فهذا خير ما يبعد العبادة عن أن تكون جسداً لا روح فيه ، وعادة لا ثمرة لها وصورة لا حقيقة لها ، ولا فائدة منها ..

 

      

* أثمنُ ثمرات العبادة

 

ثمرات العبادة لا يمكن أن يحيط بها وصف ، أو يقدر على التعبير عنها قلم ، ومهما كتب الكتـّاب ، واجتهد المفكّرون فسيبقى وراء ذلك زَاد لمستزيد .!

وإن أثمن ثمرات العبادة وأجلّها ما يتّصل بحقيقة العبادة ومفهومها ، أو يتّصل بحقائق الإيمان وثمراته ، فيزيدها قوّة ورسوخاً .. ومن هنا فإنّ أثمن ثمرات العبادة ما يتحقّق بها إن أدّيت على وجهها وكمالها من حبّ الله تعالى ، والأنس به ، والشعورِ بالحاجة والافتقار إليه ..

وإنّ القلبَ الإنسانيَّ دائمُ الشعورِ بالحاجةِ إلى اللهِ تعالى ، وهوَ شعورٌ أصيلٌ صادقٌ ، لا يملأُ فراغَه شيءٌ في الوجودِ ، إلاّ حسنُ الصلةِ بربِّ الوجودِ ، وهذا ما تقومُ بهِ العبادةُ ، إذا أُديَت على وجهِها .

وكلَّما أخلَصَ المرءُ العبوديةَ للهِ وجدَ نفسَه ، واهتدى إلى سرِّ وجودِه ، ووجدَ معَ ذلكَ سعادةً روحيةً لا تدانيها سعادةٌ ، تتمثلُ فيما سماهُ الرسولُ e : " حلاوةَ الإيمانِ " .. وإنَّه لا شيءَ أحبَّ إلى القلوبِ منْ خالقِها وفاطرِها ، فهوَ إلهُها ومعبودُها ، ووليُّها ومولاها ، وربُّها ومدبرُها ، ورازقُها ، ومميتُها ومحييها .

فمحبةُ اللهِ تعالى نعيمُ النفوسِ ، وحياةُ الأرواحِ ، وقوتُ القلوبِ ، وعمارةُ الباطنِ .. وليسَ عندَ القلوبِ السليمةِ ، والأرواحِ الطيبةِ ، والعقولِ الزكيةِ أحلى ولا ألذَّ ، ولا أطيبَ ولا أسرَّ ، ولا أنعمَ منْ محبةِ اللهِ تعالى ، والأنسِ بهِ والشوقِ إلى لقائِه ، والحلاوةُ التي يجدُها المؤمنُ في قلبِه بذلكَ فوقَ كلِّ حلاوةٍ ، والنعيمُ الذي يحصلُ له بذلكَ أتمُّ منْ كلِّ نعيمٍ ، واللذةُ التي تنالُه أعلى منْ كلِّ لذةٍ ، كما أخبرَ بعضُ السلفِ عنْ حالِه بقولِه : " إنَّه ليمرُّ بالقلبِ أوقاتٌ أقولُ فيها : " إنْ كانَ أهلُ الجنةِ في مثلِ هذا ، إنَّهم لفي عيشٍ طيبٍ " .

وقالَ آخرُ : " أهلُ الغفلةِ مساكينٌ ! خرجوا منْ الدنيا ، وما ذاقوا أطيبَ ما فيها . فقيلَ لهُ : وما هوَ ؟ قالَ : محبةُ اللهِ تعالى ، والأنسُ بهِ " .

وقالَ آخرٌ : " أطيبُ ما في الدنيا ، معرفةُ اللهِ تعالى ومحبتُه ، وأطيبُ ما في الآخرةِ ، رؤيتُه وسماعُ كلامِه بلا واسطةٍ " .

وقالَ آخرٌ : " لو علمَ الملوكُ وأبناءُ الملوكِ ما نحنُ فيهِ منْ النعيمِ ، لجالدونا عليهِ بالسيوفِ ! " .

ووجدانُ هذهِ الأمورِ وذوقُها ، إنَّما هوَ بحسبِ قوةِ المحبةِ وضعفِها ، وبحسبِ إدراكِ جمالِ المحبوبِ والقربِ منْه ، وكلَّما كانَت المحبةُ أكملَ ، وإدراكُ المحبوبِ أتمَّ ، والقربُ منْه أوفرَ ، كانَت الحلاوةُ واللذةُ ، والسرورُ والنعيمُ أقوى وأعظمَ .. وكلَّما ازدادَ العبدُ للهِ تعالى حُبّاً ازدادَ له عبوديةً وذلاً ، وخضوعاً لهُ ورقّاً ، وحريةً عنْ رقِّ غيرِه .

هذا والاشتغالُ بالعبادةِ انتقالٌ منْ عالمِ الغرورِ ، إلى عالمِ السرورِ ، ومنْ الاشتغالِ بالخلقِ إلى حضرةِ الحقِّ ، وذلكَ يوجبُ كمالَ اللذةِ والبهجةِ " ([31]) .

فعلى الوالد المربّي أن يجتهد في غَرس هذه الثمرات الطيّبات في نفس الطفل والناشئ ، ولا يكن أمره بالعبادة نوعاً من التكليف بمظاهر ورسوم ، بَعيدة عَن الحقائق والمعاني ..

 

      

أخطاء في فهم العبادة وممارستها

 

يكاد يكون الخطأ جزءاً من تركيبة الإنسان وتكوينه ، وليس ما يقلق أن يكون كذلك ، ولكنّ المقلق حقّاً أن يتحوّلَ الخطأ مع مرور الزمن إلى : " صواب مشهور " ، ويكون في نظر كثير من الناس خيراً من " الصواب المهجور " ، وأن يجد من المتحمّسين له من يدافع عنه ، فيبني له فلسفة ، ويضع له قواعد ، ويذمّ " الصواب المهجور " ، ويزري به ، ويعيب من يتمسّك به ، ويدافع عنه ..

ويَزدادُ الخطأ خطراً عندما يتّصل الأمر بدين الله ، فيخشى أن يكون الخطأ ، الذي يصرّ عليه المصرّون ـ لأنّهم ليسوا أهلاً للاجتهاد ـ نوعاً من التلاعب والتحريف لدين الله ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا منْ خلفه .. وهو غير الخطأ الاجتهاديّ المأذون به ، الذي يؤجر عليه صاحبه ، لأنّه في دائرة الفروع والظنّيّات ..

ـ فهناك إذن نوعان من الخطأ :

ـ خطأ مأذون به ، وهو الخطأ الاجتهاديّ ، نمية وتحقيق الصادر من أهله وفي محلّه ، ولا سبيل لنا إلى الإنكار على صاحبه ، لأنّنا لا نعلم الصواب على سبيل الجزم واليقين .

ـ وخطأ غير مأذون به ، وهو الخطأ المجزوم به ، وهو الخطأ الناتج عن سوءِ فهم ، أو قصور فهم ، ولا يتمارى أحد من أهل العلم الموثوق بعلمهم وفقههم بخطئه ، ومجانبته للحقّ .

ـ وهذا القسم من الخطأ في العبادة غير المأذون به يمكننا أن نميّز منه الأنواع التالية :

1 ـ القصور في فهم العبادة .

2 ـ الاقتصار على بعض جوانب العبادة ، والتضخيم لها وإهمال ما سواها .

3 ـ الإضافة إلى العبادة ما ليس منها .

والنوع الأوّل والثاني لا يقلاّن أهمّيّةً عن النوع الثالث ، الذي يهتمّ به كثير من الدعاة والمصلحين ، ويهملون ما عداه .

1 ـ فالقصور في فهم العبادة تدخل تحته صور عديدة ، منها :

أ ـ القصور في معرفة أحكام العبادة ومراتبها . فما أكثر الذين يؤدّون العبادة بجهل ، فلا يميّزون بين أركانها وواجباتها ، وسننها وآدابها ، ويقضون عشرات السنين من حياتهم وهم على ذلك .!

ب ـ القصور في فهم الحكم التشريعيّة من العبادة بوجه عامّ ، والحكم التشريعيّة لكلّ عبادة بوجهٍ خاصّ .

ج ـ القصور في فهم آثار العبادة وثمراتها ، على المستوى الفرديّ ، وعلى المستوى الاجتماعيّ .

2 ـ والاقتصار على بعض جوانب العبادة ، والتضخيم لها وإهمال ما سواها ، تدخل تحته كذلك صور عديدة ، أهمّها :

أ ـ الاقتصار على العبادات الفرديّة ، وإهمال العبادات الاجتماعيّة ، التي يتجلّى فيها الاتّصال بالمجتمع ، والتعاون معه ، والاندماج فيه ، أوْ عكس ذلك عند بعض الناس .

ب ـ الاقتصار على العبادة بمفهومِهَا الخاصّ ، وإهمال العبادة بمفهومها العامّ ، وقدْ تكون أحبّ إلى الله تعالى ، وفي ميزان العبد أرجح .

ج ـ الأخذ بنوافل العبادات ، وترك ما يجب منها ويتأكّد ، فكم من الناس من يشتغل بالنافلة عن الواجب ، وبالواجب الموسّع عن واجب الوقت المضيّق .

3 ـ وأمّا الإضافة إلى العبادة ما ليس منها فذلكَ من الابتداع في دين الله تعالى ، الذي ينبغي على المؤمن أن يحذر منه أشدّ الحذر ، لأنّه ينحرِف عن سبيل الحقّ والهدى ، ولا يدري ما يقوده إليه انحرافه من أودية الضلال ، ويتعب نفسه من غير ثمرة أو فائدة ، ويضيّع العبادة المطلوبة منه ، ويكون ممّن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً ..

ويتجلّى خطر الابتداع في الدين وسوء أثره مع مرور الزمن ، إذ تنطمس معالم الحقّ من حياة الناس ، ويصبح المعروف منكراً مستهجناً ، والمنكر معروفاً مألوفاً ، وهو ما أشرت إليه في بداية هذا المقال ، وينذر بأسوأ العواقب والآثار ..

فماذا على الوالد والمربّي أن يفعل كيلا ينشأ الطفل على الخطأ في فهم العبادة وممارستها .؟ هاهنا جملة أمور ينبغي أن ينتبه إليها المربّي :

1 ـ التدرّج في فهم العبادة ، وحكمِها ومقاصدها ، بما يتناسب مع المرحلة العمريّة ، التي يمرّ بها الطفل والناشئ ، وألاّ يقتصرَ الأمر على التلقينِ بدونِ فهم .

2 ـ أن يؤكّد على الطفل المفهوم الشموليّ للعبادة ، وتعقد له بينها المقارنة والمفاضلة المناسبة لسنّه .

3 ـ أن ينبّه الطفل في مرحلة الطفولة المتأخّرة على الأخطاء التي يقع فيها الناس في فهم العبادة وممارستها ، تحصيناً له عن ذلك ، مع التمثيل المناسب .

4 ـ أنّ العبادة كلّما تجرّدت عن هوى النفس ، وتحقّق صاحبها بصدق التأسّي والاتّباع كانت أقرب إلى قبول الله تعالى ورضاه .

وقبل ذلك كلّه ، وخير منه أن يكون الوالد والمربّي قدوةً حسنة في العبادة للطفل والناشئ ، فهماً وسمتاً وسلوكاً .. فلا يسع الطفل إلاّ أن يقتدي ويتأثّر .. والله الهادي إلى سواء السبيل .

 

      

 

 

* أطفالنا ونعم الله .!

 

لقد تكرّر في القرآن الكريم في مناسبات عديدة الأمرُ الإلهيّ بذكر نِعْمَة اللهِ تَعالى ، وهي لا يستطيعُ الإِنْسان أن يُحْصيَها عدّاً ، والمقصُود بهَا جنسُ نعم الله ، التي تَشملُ حياة الإنسان وكيانه كلّه ..

والإنسان منْ طبعه النسيان ، وإلفه للنعم ، وتقلّبه فيها يجعله لا يحسّ بقدرها وأهمّيّتها ، فكَان لابدّ له من التذكيرِ بها بين الحين والآخر .

وإنّ من فطرة الله في الإنسان حُبّ المحسن وَشْكره ، والاعتراف له بالفضل ، والثناء عليه في السرّ والجهر .

فما أحوجَنا إلى التذكير بنعم الله تعالى ، لأنّنا عندما ألفناها لم نعدْ نستشعر أهمّيّتَها وَعَظَمَتها .. ومَن مِنَ الناس مَن لا يتقلّب في نعم الله التي لا تعدّ ولا تحصى ، في جميع لحظَات حياته ، مهمَا عَظُمَ ابتلاؤه .؟!

ومَن منّا مَن يذكرُ هذه النعمِ ، ولا ينسَاها ، ويعرفُ قدْرَها ، ولا يغفلُ عنهَا .؟! ويؤدّي حقّ الله فيها كما يليق بجلال الله تعالى وعظمته .؟ إنّ الأعمارَ لتفنَى دونَ أدَاء حقّ الشكْر على نِعْمَةٍ من نِعمِ اللهِ عَلى العبد ..

ومن ثمّ فقد تكرّر في القرآن الكريم التذكير بنعم الله تعالى على عباده ، والحثّ على شكرها ، والتحذير من كفرها ، يقول الله تعالى : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا ، إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) } إبراهيم .

ويقول سبحانه : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا ، إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) } النحل . ويقول تعالى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) } النحل . ويحذّر الله عباده منْ كفر النعَم ، وأنّ عقوبته الشديدة تحيق بأولئك الذين لا يؤدّون حقّ الله فيها ، فيقول سبحانه : { .. وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) } البقرة .

ويبَيّنُ سنّتَه الثابتة في خلقه أنّه سبحانه لا يزيل النعمة عن قوم حتّى يسلكوا بها سبيل الفساد والانحراف ، فيقول سبحانه : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) } الأنفال .

وممّا يتنافى مع شكر نعم الله تعالى الاستهتار بنِعم اللهِ تعَالَى وإهدارهَا ، كما يفعلُ كثير منَ الناس في مناسباتِ الأفراح ، إِذْ يلقونَ مَا يزيد مِنْ طعامهِمْ في صناديق القمامَة ، وَحولهُمْ منْ يتضوّر جوعاً ، ويتلوّى فقراً .

ومن أهَمّ الحقائق التي يَنبغي أن يغرسها المربّي في نَفس الطفل :

ـ استشعار عظمة الله تعالى فيما أنعم على عباده وتَفضّل ، منْ نعم لا تعدّ ولا تحصى ، وأنّ العباد عاجزون عَجزاً مُطْلقاً عن أداء حَقّ شكره سبحانه .

ـ أنّ حقيقة الشكر إنّما هي استعمال النعمة فيما يرضي المنعم ، وهو عمل يشترِك فيه اللسان والقلب والجوارح .

ـ ينبَغي أن يعوّدَ الطفل الإكثار من ذكر الله تعالى وشكره ، وبخاصّة عند تجدّد نعم الله عليه ، وسؤال الله العون على حسن عبادته .

ـ أنّ شكر النعم كما أمر الله هو السبيل إلى دوامها ، ونيل المزيد منها ، كمَا قَالَ تعَالى : {وإِذْ تأذَّنَ رَبُّكُمْ لئن شكرتُمْ لأزيدَنَّكُمْ ، وَلَئن كفرتُم إنَّ عَذَابِي لَشديد (7)} إبراهيم .

 

      

 

* مَاذا قبْل : " مروا أولادَكم بالصلاة .؟! "

 

يظنّ بَعض الناس أنّ التربيةَ على العبادة تبدأُ حين نأمُرُ الطفلَ بالصلاة ، وهو ظنّ واهمٌ ، سببه الوقوف عند فهم سطحيّ لحديثِ : " مروا أولادَكم بالصلاة .. " ([32]) ، والحقّ أنّ مرْحلة الطفولة المبَكّرةَ هي مرحلة التمهيدِ لهذا الأمرِ والتكليف ، حتّى إذا آنَ الأوانُ لهذا الأمر كانَ ثمرة طبيعيّة لتلك المرحلة المهمّة من حياة الطفل ..

* فمَاذا قبْل : مروا أولادَكم بالصلاة .؟ وما المرحلة التمهيدِيّة لهذا الأمرِ .؟!

إنّ هناك حقائقَ مهمّة ، على الآباء والمربّين أنْ يغرسوها في نَفس الطفل ، ويتعهّدوها ، ليكون من آثارها إقبالُ الطفل على العبادة ، عندما يؤمرُ بها ، وأهمّ هذه الحقَائق :

1 ـ تحبيب الطفل بالله تعالى بتعداد نعمه سبحانه : { وَمَا بِكُم مِن نِعمَةٍ فَمِن اللهِ ... (53) } النحل ، والتذكير بهَا بينَ الحين والآخر ، وإثارةِ العطف والشفقة على من حرم منها ، فكيف نحفظ نعم الله .؟

2 ـ التربية على شكْر المنعم ، والثناء على منْ قدّم المعروف ، والله تعالى أعظم منعم على العَبد متفضّل ، فهل نستَطيعُ أن نؤدّيّ شُكرَ الله على نعمه .؟!

3 ـ تقديم القدوة العمليّة للطفْل ، وذلك بأن يرى والديه ، ومن هو أكبر منه سنّاً ، مهتمّين بالصلاة ، حريصين على أدائها في وقتها ..

وإنّ الأسرة المسلمة تقدّم صورة  مضيئة عن الاهتمام بالصلاة ، فمنذ الفجر تَرى الأسرة تنهض إلى الصلاة كباراً وصِغَاراً ، فيما يشبه استعداداً لاحتفالٍ بهيج ، فالبنون يخرجون مع أبيهم إلى المسجد لصلاة الجماعة ، والبناتُ يصلّينَ مع أمّهنّ .. والأطفال الصغار يشْهدونَ هذا الموقف المتكرّر كلّ يوم ، ويشاركون فيه بطريقتهم الخاصّة ..

وعلى قدر عظم الأمر وأهمّيّته يعظم التهييئ النفسيّ له والاستعداد ، فما دامت الصلاة أهمّ أعمال المسْلم فينبغي أن تحظى بأعلى درجات التهييئ النفسيّ ، الذي يجعلها تُؤدّى على أحْسن صورَة ، وأتقَنِ هيئة .. فلا يستوي من عاش في بيت لا يعرف الصلاة ، ولا يهتمّ بها ، كمن نشأ في جوّ مشحون بحبّ الصلاة ، والاهتمام بهَا ، والحرص على أدائها ، فلابدّ أن يتأثّرَ بهذا الجوّ ، ويرث عنه تعظيم الصلاة ، والاهتمام بها ، وهذا ممّا يشير إليه قول الله تعالى : { ربّ اجعلني مُقيمَ الصلاة ، ومن ذرّيّتي ، ربّنا وتقبّل دعاء (40) } إبراهيم .

هذا ومن أهمّ مظاهر التهييئ النفسيّ للصلاة :

1 ـ رؤيَة الكبار يصلّون ، كالوالدين والإخوة والأخوات ، وهذا ما يجعل الأطفال منذ السنوات المبكّرة يحاكون الكبار ، ويقلّدونهم في حركات الصلاة ، وعندما يكبر الأطفال يزدادون تعلّقاً بالصلاة ، وحبّاً لها .

2 ـ التحبيب بالصلاة وما فيها من فوائد ، بما يناسب سنّ الطفل واستعداده : فينْبغي أن يحدّثَ الوالدان الطفلَ بذلك بين الحين والآخر ، ليزداد شوقاً كلّما كبر إلى أداء الصلاة ، ليكون مثل الكبار ..

3 ـ أن يبيّن الوالدان للطفل ثمرات الصلاة وآثارها ، ومنْ أهمّها : مراقبة الله تعالى وخشيته ، وحسن معاملة الناس ، والبعد عن الفحشاء والمنكر : { إنّ الصلاةَ تَنهى عَنِ الفحشاءِ والمُنكَرِ ، ولذكرُ الله أكبر .. (45) } العنكبوت .

4 ـ أن يحدّث الوالدان الطفلَ عن صلاة النبيّ e : كيْف كانت .؟! بما يناسب سنّ الطفل ووعيه ، لينشأ متطلّعاً إلى أداء الصلاة كما كان النبيّ e يؤدّيها ..

فقد كان النبيّ e لا يشغله شأن عن الصلاة ، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، وكان يقول لبلال : أرحنا بهَا يا بلال ! أرحنا بهَا يا بلال ! وقام من الليل حتّى تورّمت قدماه ، وعنْدما قيل له في ذلك ، قال : أفلا أكون عبداً شكوراً .؟!

5 ـ بيان مكانة المصلِّين عنْد الله ؛ فالمصلّون تستغفر لهم الملائكة ، ويذكرهم الله في الملأ الأعلى ، ويستجيب الله لهم دعاءهم ، ويرفعهم عنده درجات عليا في الجنّة ، وهكذا فإنّ الصلاة مفتاح الخيرات في حيَاة المؤمن ..

6 ـ ومن التهييئ النفسيّ للصلاة : أن يُحَفّظَ الطفلُ بعضَ النصوص الشرعيَّة ، التي تبيّن فضل الصلاة وأهمّيّتها ، ويبيّن له معناها بما يناسب سنّه ، ومن ذلكَ قول الله تعالى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ، وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ، وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ (238) } البقرة .

وقوله سبحانه : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ، وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ ، وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) } البقرة .

وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) } البقرة .

وقول تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) }المُؤْمِنُونَ.

7 ـ ومن التهييئ النفسيّ للصلاة : تعليم أهمّ أحكام الطهارة والصلاة بصورة متدرّجَة مناسبة ، حتّى إذا وصل الطفل سنّ السابعة كان مدركاً بصورة جيّدة لأهمّ أحكام الصلاة ، مؤدّياً للطهارة المطلوبة كما ينبغي .. ولقد رأيت عدداً من الناشئة في أسرٍ متديّنة ، بلغوا سنّ التمييز ، وهم لا يعلمون شيئاً من أحكام الطهارة والصلاة .!

8 ـ ومن التهييئ النفسيّ للصلاة : الاحتفال بصلاة الطفل ، ودعوة الأقارب والأصدقاء لذلك ، وصلاة الطفل أمامهم ، وتَقديم الهدايا له بهذه المناسبة ، وكذلك الاحتفال بصلاة الفتاة وحجابها .. ([33]) .

ومثل هذا الاحتفال له أثر عميق في نفس الطفل ، وبخاصّة إذا سُجّل له وحفظ ، فكان التسجيل ذكرى لا تنسى ..

ومن بركات هذا الاحتفال : دعاءُ الحاضرين للطفل بحسن النشأة ، والثبات على الحقّ والخير ، وتشجيعهم له بالكلمات الطيّبة ، ممّا يكون له أعمق الأثر في نفسه ونشأته ..

فانظر أيّها الوالد المربّي ! رعاك الله : أإذا كان هذا كلّه قبلَ أن يبلغَ الطفلُ السابعةَ ، ويُؤمرَ بالصلاة ، فهل يعقلُ أن يتهاوَنَ بالصلاة ، ويستهترَ بها بعد ذلكَ .؟! هيهات هيهات .! ولكنّ " الأمر " عندما يقوم على غير قاعدة تربويّة راسخة ، وتمهيد مناسب ، فإنّما يكوْنُ أشبهَ بالنقشِ على الماء ، أو البناء في الهواء ، ولن نجنيَ من وراء ذلك إلاّ العناءَ .

 

 

      

 

* لا تهاون بالصلاة .!

 

ممّا لا يخفى على كلّ مؤمنٍ أنّنَا مأمورونَ بإقامة الصلاة .. وإقَامةُ الصلاة أداؤها على أكمل وجهٍ وأحسن صورة ، من إتقان طهارتها ، والالتزام بشروطها ، وأداء أرْكانِها ، والاهتمام بواجباتها وسننها وآدابها .. فإنْ لم تُؤَدّ الصلاة بهذه الصورة ، فإنّها تكون صورةً بغيْر حقيقة ، ضعيفةَ الفَائدةِ ، عديمةَ الأثر ، أشبهَ بالعادَةِ منها بالعبادة ، ويدخل مؤدّيها بهذه الصورة تحت قول الله تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) } الماعون . ومن السهو عن الصلاة تأخيرها عن وقتها ، أو التفريط بأحكامها وآدَابها ..

ومن الظواهر الاجتماعيّة الشائعة أنّنا نرى كثيراً من الآباء يتبرّمون من سلوك أبنائهم عندما يرونهم متساهلين بالصلاة ، لا يبالون بتأخيرها عن وقتها ، أو تضييعها والتفريط بها .. ويتضَايقون منْ سلوكهم ، وعنادهم لَهم في كثير من الأحيان .. ويقولون : إنّهم لم يقصّروا معهم ، فقدْ أمروهم بالصلاة منذُ الصغر ، وحثّوهم عليها ، وعندما كبروا أخذُوا يتهاونون بها ، ويسْتهترون .. فكيف حدث الخلل .؟ وما أسبَابُه ومقدّماته .؟

إنّنا لو لاحظنَا سلوك أمثال هؤلاء مع أبنائهم عندما أمروهمْ بالصلاة لرأينا أنّهم أمَروهم بهَا بتهاون ، ودعوهم إليهَا ، ولكنّهم لم تقترن دعوتهم بإظهَار أهمّيتها ، والتأكيد على خطَر التهاون بها .. بل كان سلوكُهم العمليّ أن يفرّط بالصلاة لأتفه الأسبَاب : فمع الانهماك في اللعب تضيع الصلاةُ .! وعند مشاهدة المباريات ، أو المسْلسلات ، أو أفلام الكرتون تضيع الصلاةُ .! وفي الخروج إلى المُتَنزّهات لا متابعة في أداء الصلاة .! وبالنوم تضيع الصلاةُ .! ولا إيقاظَ على صلاة الفجر شفقة على الطفل .! والكبار تضيع منهم الصلاةُ .! بأسبابٍ أو بأتفهِ الأسباب ، ويرى الأطفال منهم ذلك فيتكرّسُ في وعيهم : أن لا أهمّيّة للصلاة إذَا تعَارضت مع أدْنى مصلحة أو شبْهِ مصلحة ..

كلّ ذلك وأمثاله وأشباهه يغرس في نفس الطفل التهاونَ بالصلاة .! وأن لا أهمّيّة لها ، ما دام أيّ شيءٍ يشغل عنها ، ويؤخّرها عن وَقتها ..

والموقف الصحيح الذي ينبغي على الآباء والمربّين أن يأخذوا به ، هو أنّ الطفل ما دام يؤمر بالصلاة عندما يبلغ السابعة ، تدريباً له وتعويداً ، فكذلك ينبغي أن يؤمرَ بقضائها إذا فاتته لضرورة من الضرورات ، وأن يعلّم أن لا شيء يقدّم عليها ، ويعرّضها للخروج عنْ وقتها ، إلاّ ما كان من الضرورات الشرعيّة المعْتبرة ، وذلك ليرسخ في شعوره الأهمّيّةُ العظمى للصلاةِ ، فلا يمكن إذا كبر أن يستهترَ بهَا أو يفرّط ..

وإنّ مرضَ الطفلِ مُنَاسبة مهمّة لتعليمه أحكامَ صَلاةِ المريضِ ، أذكر أنّ أخي الأكبر مرض وهو طفل مرضاً شديداً ، فكان الوالدُ ـ رحمه الله ـ يذكّره بالصلاة ، كلّما صحا من شدّة الحمّى ، فلا يجيبه بشيء ، وعندما شفي من مرضه ، قال له : " إنّ الله تعالى جعل للمريض أحكاماً خاصّة، فيها تيسير عليه وتخفيف ، وكان بإمكانك أن تصلّي قاعداً ، أو مستلقياً ، وأن تتيمّم إن عجزت عن الوضوء ، ولا تتركَ الصلاةَ .. أما وقد شفيت الآن ، فاقضِ ما فاتك من الصلوات " ، فكان هذا الموقف درساً لنا جميعاً .

ولا تقتصر تربية الطفل على الاهتمام بالصلاة ، وعدم التهاون بها ، بل ينبغي على المربّي أنْ يغرس في نفسه آداب الصلاة ، وَيعَلّمَه أحكامَها ، وينتهز لذلك ما يلاحظُه عليه من بَعض الأخطاء ، أو يطرح عليه بعض الأسئلة ليفيده بما ينفعه من أحكام .

ومن المواقف النبويّة في ذلك ما روي عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ e : ( يَا بُنَيَّ ! إِيَّاكَ وَالالْتِفَاتَ فِي الصَّلاةِ ، فَإِنَّ الالْتِفَاتَ فِي الصَّلاةِ هَلَكَةٌ ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ ، فَفِي التَّطَوُّعِ لا فِي الفَرِيضَةِ ) ([34]) .

فانظر إلى تنزّل النبيّ e معه في الحكم ، بما يناسب سنّه ، تدريباً له على مراعاة هذا الأدب ، والالتزامِ به .

وحدّثني بعض الإخوة ، ولم يكن ملتزماً بدينه منذ نشأته ، فقال : لقد رأيتُ في طفولتي كلَّ من حولي من الرجال والنساء ، المعروفين ـ بين العامّة ـ بتمسّكهم بِدينِهم ، أنّهم يتركون الصلاةَ لأدنى سَببٍ : فيوم الغسيل ، ويوم الدعوة إلى وليمة ، ويوم النظافة العامّة في البيت ، وأمثال هذه الأمور وأشباهها .. كلّها أيّام لا صلاة فيها عندَ النسَاء ، إلاّ في آخر الليل ، فتقضى الصلوات إن بقيَ في المرأة عافية أو رمق لذلك ..

وإذا شُغل الرجلُ بأيّ عملٍ ، فالصلاة تُؤَخّر عن وقتها .. وقدْ تقضى بعد ذلك ، وقد لا تقضى .! فأيّ صورة عن الاهتمام بالصلاة تعطى من أمثال هؤلاء الآباء والأمّهات .؟!

وبعدُ ؛ فلعلّ أهمَّ ما يعمّق في نفس الطفل والناشئ مكانة الصلاة ، وينْأى به عن التهَاون بها : أن يُؤمَرَ بالسنن الروَاتب ، قبل الفرائض وبعدها ([35]) ، ويحثّ على الإكثار من النوافل ، كصلاة الضحى ، وقيام الليل ، وتحيّة المسجد ، ويعلّم صلاة الحاجة وصلاة الاسْتخارة ، وأن يرغّب بالمحافظة على الأذكار بعْد الصلاة ، وأنْ يعلمَ ما للمؤمنين المقيمين للصلاة من فضل ، وعلوّ منزلة عندَ الله ، ممّا يحبّبه بالصلاة ، ويجعله يحافظ عليها ، ويحرص على أدائها في أوقاتها .

نسْأل الله تعالى أن يجعلنَا من أهْل قوله سبْحانَه : { ربّ اجعلني مُقيمَ الصلاة ، ومن ذرّيّتي ، ربّنا وتقبّل دعاء (40) } إبراهيم .

وقوله تعالى : { وأمُر أهلَكَ بِالصلاةِ ، واصطَبِر عَلَيهَا ، لا نَسألُكَ رِزقاً ، نحنُ نَرزُقُكَ ، والعَاقِبَةُ للتقْوَى (132) } طه .

 

      

* أبناؤنَا وآداب المسجد .!

 

الأدب عنوان المسلم ، وهو رُوح سَارية في كلّ شيء من دين الله ، يضفي عليه مسحة الكمال ، وبهجة الجمال ، ويدلّ الأخذُ به على صدق التوجّه إلى الله والرغبة بمرضاته .

والمساجد بيوت الله تعالى شرّفها الله بالنسبة إليه ، وجعلها مثابة عباده ، ، ومهبط فضله ورحماته ، وهي أحبّ بقاع الأرض إليه ، فرض لها من الحقوق والآداب ما يؤكّد على المؤمن تعظيمها ، ويدلّ على مزيد خصوصيّتها ، فقال تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ ، وَآتَى الزَّكَاةَ ، وَلَمْ يَخْشَ إِلاّ اللهَ ، فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ المُهْتَدِينَ (18) } التوبة .

وقال تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ، وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ، يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ ، لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) } النور .

وهي من شعائر الله التي قال فيها : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) } الحجّ .

ولقد كان أوّل عمل قام به النَّبِيُّ e عندما وصل المدينة المنوّرة بناء مسجده الشريف ، ولم تكن مهمّة المسجد في الإسلام قاصرةً على أداء الصلوات فحسب .. بل كانت رسالةً شاملة للحياة الإنسانيّة ، والنشاطات الاجتماعيّة بمختلف ألوانها .. عرف ذلك المسلمون الأوّلون ، فعظّموا المساجد ، وأدّوا حقّها عليهم ، فكانت عامرةً بكلّ هدى ، ومنطلقاً لكلّ خير .. وكانت نقطة الدائرة في المدن التي يؤسّسونها ، وهي أوّل ما يبتدءون إنشاءه في المدن التي يفتحونها .. وكانت عمارة المساجد في تلك العصور بما شرع الإسلام من رسالتها العامّة الشاملة ، يعطي كلّ ناظر في أحوال المسلمين صورةً مصغّرة عن مستوى الحضارة الرفيع الذي بلغته أمّة الإسلام .

هذا ، ومن أهمّ آداب المسجد :

1 ـ عمارة المسجد بذكر الله تعالى وطاعته ، وتلاوة كتابه ومدارسته ، والحرص على حضور مجالس العلم فيه ، ففي الحديث الصحيح ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : ( .. وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ ، إِلاّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ ، وَحَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ) ([36]) .

2 ـ ومن آداب المسجد : تعلّق القلب به ، والحرص على زيارتِه مَا أمْكن ، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاّ ظِلُّهُ : الإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ ، فَقَالَ : إِنِّي أَخَافُ اللهَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصدقة فأَخْفَاها ، حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ) ([37]) .

3 ـ ومن آداب المسجد : ذكر الله تعالى عند دخوله ، وعند الخروج منه ، فقد كان رسول الله e إذا خرج إلى الصلاة قال : ( بسمِ اللهِ ، آمنتُ باللهِ ، تَوكّلتُ على اللهِ ، لا حَول ولا قُوّة إلاّ باللهِ ، اللهم إنّي أسألُك بحقّ السائلينَ عليكَ ، وبحقّ مخرجِي هذا ، فإنّي لم أخرجْه أشَراً ولا بطَراً ، ولا رِياءً ولا سُمعةً ، خَرجتُ ابتغاءَ مَرضاتِكَ ، واتّقاءَ سَخطِكَ ، أسألُكَ أن تُعيذَنِي مِن النارِ ، وتُدخِلَني الجنّةَ ) ([38]) .

ـ ويستحبّ أن يقول عند دخول المسجد : " أعُوذُ باللهِ العظيمِ ووجهِهِ الكريمِ ، وسُلطانِه القديمِ ، مِنَ الشيطانِ الرجيمِ ، باسمِ اللهِ ، والحمدُ للهِ ، اللهمّ صَلّ على سيّدِنا محمّدٍ ، وعلى آلِ محمّدٍ وسلِّمْ ، اللهمّ اغفِر لي ذُنُوبِي ، وافتَح لي أبوَابَ رحمتِكَ " ، وعند الخروج من المسجد يقول مثله ، إلا أنه يقول : " وافتَح لي أبوابَ فضلِكَ " ([39]) .

ـ ويسنّ أن يقدّم رجله اليمنى في الدخول ، ورجله اليسرى في الخروج .

4 ـ ومن آداب المسجد : صلاة ركعتين تحيّة المسجد ، فيسنّ لمن دخل المسجد ألاّ يجلس قبل أن يصلّي ركعتين لحديث أبي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأنْصَارِيِّ t قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ e : ( إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ) ([40]) .

5 ـ ومن آداب المسجد : الحرص على نظافة المسجد وطيب رائحته ، وتنزيهه عمّا لا يليق به من رفع صوتٍ ، أو إلقاء شيء من الفضلات ، ففي الحديث عن أنس t أنّ النبيّ e قال : ( البُصَاقُ في المسجِدِ خَطِيئةٌ ، وكَفّارَتُها دَفنُهَا ) ([41]) .

ـ ورأى النبيّ e في المسجد نخامة فغضب وحكّها .

فعلى المربّي أن يغرسَ هذه الآدابَ وما أشبهها في نفسِ الطفل والناشئ ، وخيرُ ما يُعينه على ذلكَ :

ـ أن يصحبَ مَعه الطفلَ إلى المسجدِ ، ويلاحظَ سلوكَه وأدبَه ، وينبّهه ويوجّهه .

ـ أنْ يرى الطفلُ في سلوك والده ومربّيهَ : محبّةَ المساجدِ ، والحرصَ على عمارةِ المساجدِ وإحياء رسالتِها إيمانيّاً وحسّيّاً ، وكيفَ يكونُ سلوكُ المؤمن في المساجدِ ؟ وكيْف يكونُ الالتزامُ بآدابِها ، وتعظيمُ حرماتِها ؟

 

      

* أبناؤنَا والصدَقة .!

 

إنّ منْ أعظم مقتضيات الإيمان بالله واليوم الآخر إنفاق المال في سبيل الله تَعالى وابتغاء مرضاته ، وسمّيَ : صدَقةً لأنّه يدلّ على صدق صاحبه ، وقوّة إيمانه بالله تعالى ويقينه ، ورغبته في مرضاة الله ومثوبته ، إذ إنّ حُبّ التملّك من أوثق العواطف الفطريّة ، التي لا يمكن نزْعُها من الإنسان ، أو الوقوف في وجهها ، والإسلام لم يقلّل منْ شأنها ، ولم ينظر إليها نظرة استهانة أو استخفاف ، وإنّما أقرّهَا ، ووضع لها ضوابط وحدوداً ، وهذّب أثرتها وجشعها ، وجعلها مضبوطة العلاقات ، موزونةَ الدوافع والرغبات : فراعى رغبتها الخاصّةَ ومصلحتها ، وحقّ الجماعة عليها ، ومسئوليّتها عن الآخرين ، وجمع لها بين تحقيق مصلحتها العاجلة في الدنيا ، وسعادتها الآجلة في الآخرة ..

وكان من أهمّ الأحكام التهذيبيّة التي شرعها الإسلام لتحقيق ذلك : الحثّ على الصدَقة ، والترغيب بإنفاق المال في سبيل الله ، وقد استفاضت آيات الكتَاب العزيز في بيان ذلك ، يقول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ، وَلا خُلَّةٌ ، وَلا شَفَاعَةٌ ، وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ (254) } البقرة .

ومثّل الله تعالى لعظم ثواب المنفق ماله في سبيل الله ، وما يناله من كريم الأجر والجزاء فقال سبحانه : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، كَمَثَلِ حَبَّةٍ ، أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ، وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ، وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً ، لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) } البقرة .

وفي الحثّ على ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ تعالى ومثوبته من وراء بذْل الصدَقة ، والإنفاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، يقول سبْحانه : { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ ، وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ، أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) } البقرة .

ويحذّر الله تعالى عباده من البخل ، فإنّ الإنسان لا يضرّ بذلك إلاّ نفسه ، والله غنيّ عن عباده ، فيقول تعالى : { هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) } سورة محمّد e .

والإسلام وهو دين الاعتدال والاتّزان ، يحثّ على الاعتدال في الإنفاق : فلا إسراف ولا تبْذير ، ولا بخلَ ولا تقتير ، يقول الله تعالى : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ، وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ، إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) } الإسراء .

ويقول سبحانه : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ، وَلَمْ يَقْتُرُوا ، وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) } الفرقان .

ويحذّر الله تعالى عباده من الاستجابة لوساوس الشيطان ، في صدّه عن الإنفاق في سَبِيلِ اللهِ تعالى ، وتخويفه من الفقر ، فيقول سبحانه : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ، وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً ، وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) } البقرة .

والصدَقة تدلّ على نموّ عاطفة التوافق الاجتماعيّ واستوائها ، وتجرّد الإنْسان عن الأثرة وتقديس الذات ، وهي تطفئ غضبَ الربّ ، وتُطفئُ الخطيئة كما تطفئ الماء النار وكلّ صدَقة زكاة ، وليست الزكاة صدَقة ، وقد قرن الله الزكاة بالصلاة في أكثر من عشرين موضعاً من كتاب الله ، ممّا يدلّ على أهمّيّتها وعلوّ منزلتها .

وأبواب الصدَقة ومفهومها الشرعيّ لا تقتصر على إنفاق المال في وجوه البرّ والمعروف ، وإنّما كلّ عمل من أعمال الخير يعدّ صدقةً لصاحبه ، يجزئ عن إنفاق المال في سبيل الله ، كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي ذَرٍّ t عَنِ النَّبِيِّ e أَنَّهُ قَالَ : ( يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ ؛ فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ ، وَأَمْرٌ بِالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى ) ([42]) .

وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ t عَنْ رَسُولِ اللهِ e قَالَ : ( كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ ، قَالَ : تَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا ، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ ، قَالَ : وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ) ([43]) .

ـ حقائق أساسيّة على المربّي أن يغرسها في نفس الطفل :

1 ـ الاهتمام بالصدَقة ، وإنفاق ما تيسّر من المال بين الحين والآخر في وجوه الخير .

2 ـ ترسيخ الاعتقاد أنّ الصدَقة لا تفريط فيها بالمال ، وإنّما يدّخر عند الله تعالى ، ويجده المؤمن ، وهو أحوج ما يكون إليه .

3 ـ أنّ على المؤمن أن يكون معتدلاً في إنفاقه ، فلا إسراف ولا تقتير .

4 ـ وكان من هدي النبيّ e تربيةُ الصحابة y على عفّة النفس ، والتنزّه عن أموال الصدقات ، إلاّ إذا كان الإنسان مضطرّاً إليها ، فاليد العليا خير من اليد السفلى ، والعمل لإعفاف النفس عن المسألة والحاجة عبادة لله ، وهو خير من كثير من نوافل العبادات .. والمؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيْف .. وعندما يأخذ الإنسان نفسه بعزيمة الجدّ والعمل ، يبارك الله له في كسب يمينه ، ويكون له تأثيرُه الإيجابيّ الفاعل في بناء المجتمع ورقيّه .

 

 

      

* كيفَ يستفيد أطْفالنا من رمضان .؟ ونحبّبهم بالصيام .؟

 

في كلّ عبادةٍ من العبادات نظام تربويّ دقيق ، يشمل كلّ فئات الأمّة ، ربّما اهتدى إلى جانب منه بعض الناس ، فنعموا بنفحاته وبركاته ، ولكنّ أكثر المسلمين عنه بعيدون وغافلون ، والعبادة تؤدّى كعادة من العادات ، ومن ثمّ فهم لا يقطفون ثمرات العبادة ، ولا تحقّق في حياتهم مقاصدها وأهدافها .. فمتى نتّخذ من تكرار العبَادة في حياتنا مناسبة للتفهّم لها ، وحسن الاستفادة منها .؟! وسبيلاً للغوص في أعماقها ، واكتشاف دررها ولآلئها .

وإنّه لينبغي على الوالدين أن يغرسَا في نفوس الأطفال المعاني التالية عن الصيام ، على حسب ما يتناسب مع سنّ الطفل واستعداده :

1 ـ أنّ صيام شهر رمضان ركن من أركان الإسلام ، لا يتمّ إسلام المسلم بدونه .

2 ـ فضل الله العظيم ، وثوابه الجزيل لمن يصوم رمضان إيماناً واحتساباً .

3 ـ أنّ الصوم يربّي في نفس المؤمن رقابة الله تعالى ، ومحبّته وخشيته ، وإخلاص العمل لوجهه الكريم .

4 ـ وعلى الصائم أن يتحلّى بآداب الصيام ، فيحفظ سمعه وبصره ممّا حرّم الله ، ويكفّ لسانه عن اللغو والغيبة والنميمة ، ولا يرفث ، ولا يفسق ، ويعمر أوقاته بتلاوة القرآن الكريم ، وذكر الله تعالى وطاعته ، وكثرة دعائه والتضرّع إليه .

5 ـ والصيام يعلّمنا ضبط الإرادة ، وتربيتها ، وتقويتها ، وتهذيب رغبات النفس ، فما كلّ ما تشتهي تستطيع الوصول إليه ، وما كلّ ما تحرص عليه من مصلحتها وخيرها أن تبلغه وتناله ..

6 ـ والصيام يربّي نفوسنا على أنّ في المأكولات والمشروبات والمشتهيات ما هو من الخبائث ، التي حرّمها الله على الإنسانِ ، فينبغي عليه أن يعفّ نفسه عمّا حرّم الله عليه ، ليكون عبداً لله خالصاً ، ومؤمناً بالله تعالى حقّاً ..

وإذا أردنا أن يستفيد أطفالنا من شهر رمضان ، وينشئوا على حبّ الصيام ، فعلينا أن نتّبع ما يلي :

1ً ـ أن نحسن استقبال شهر رمضان ، بما يتناسب مع قدره ومكانته ، ونبتهج بقدومه ، الابتهاجَ الشرعيّ الذي يحقّق أهدافَ الصيام ومَقاصده .

2ً ـ ألاّ نأمر أطفالنا بالصوم إلاّ إذا قدروا عليه ، فالأمر بالصوم يختلف عن الأمر بالصلاة ، وألاّ نتهاون بأمرهم بالصوم إذا قدروا عليه بدافع الحبّ والشفقة .

3ً ـ وأن نقدّم لهم الهدايا والجوائز اليوميّة المحبّبة بالصيام ، كما كان السلف يفعلون .

4ً ـ أن يكون للأسرة نظام محبّب للنفوس خاصّ برمضان ، يحقّق مقاصده وأهدافه ، من حيث العادات في المأكل والمشرب ، والنوم ، وحسن الاستفادة من الوقت بما يتلاءم مع فضل هذا الشهر وخصائصه ..

5ً ـ أن يتمّ إعْلانُ شعارات في رَمضان على مسْتوى الأسرة ، تتناسب مع قدسيّة هذَا الشهر وعظيم فضائله ، وأن نحرص على تربية أنفسنا وأولادنا عليها ، ومن ذلك : الجود والإحسان والصدقة على الفقراءِ والمساكين ، واغتنام الوقت والاجتهاد في العبادة ، وكثرة التلاوة للقرآن الكريم ، وحفظ اللسانِ من اللغو والغيبة والنميمة ، وحسن الخلق ، والتحلّي بالصبر وسعة الصدر .

أما والله لو علم الوالدان ما في شهر رمضان من العون لهم على تربية أولادهم ، وسموّ بنائهم النفسيّ والاجتماعيّ لكانَ لهم مع هذا الشهر شأن آخر ..

أخي الوالد المربّي ! ربّما سألك طفلك هذا السؤال : لماذا نصوم .؟ وربّما لم يتجرّأ فلم يسألك ، فلا مانع أن تسأله أنت هذا السؤال ، وتجيبه بما يناسب سنّه واستعداده ، ليؤدّي العبادة لله تعالى بوعي لمقاصدها ، وفقه لحكمها وآدابها ، وليكون له من ثمراتها في نفسه ، وآثارها في سلوكه وعلاقاته مَا يدفعه إلى التمسّكِ بها وعدم التخلّي عنها .

فهل نعي ما في هذا الشهر الكريم من الخيرات والبركات ، والثمرات الطيّبات .؟ وهل نحسن استثمارها في تربية نفوسنا وأولادنا .؟

إنّا لنرجو ذلك بتوفيق الله ونتمنّاه ، والله الموفّق والهادي إلى سواءِ السبيل ..

 

      

* أطفالُنَا على مائدة القرآن !

 

أثر القرآن الكريم في تكوين الأمّة : إنّ القرآن الكريم هو حبل الله المتين ، الذي جذب العرب المتفرّقين في البوادي ، المختلفين في الطبع والعادة ، وسَلكهم في أمّة واحدة ، وجمعهم على دين واحد ، وشريعة واحدة ، ولسان واحد ، وألّف بينهم على خلق واحد ، ونهج في الحياة واحد ، فكوّن منهم دولة بعد أن حقّق فيهم عناصرها .

وبالقرآن خرج العرب من بلادهم غازين : يفتحون الشرق والغرب ، وتسْتسلم لهم قلاع الروم وحصون فارس .

وبالقرآن دخل الناس في دين الله أفواجاً ، وعلى القرآن أقامَ المسلمون دولتهم ، وأسّسوا علومهم .. فلمّا وهنت صلتهم بالقرآن وهنت دولتهم ، وضعف شأنهم ، ثمّ ذهبت ريحهم ، وقويت شوكة أعداء الله عليهم ، واستذلّهم من كان في يوم من الأيّام يعيش تحت عطفهم ورحمتهم .!

ولا يصلح آخرنا إلاّ بما صلح به أوّلنا ، ولا ملجأ لنا إنّ أردنا النهضة والرفعة في حياتنا الاجتماعيّة والتعليميّة والتشريعيّة والاقتصاديّة إلاّ بالعودة إلى القرآن العظيم .. فالقرآن هو النعمة العظمى التي اختصّ الله بها الأمّة الإسلاميّة : فيه نظام الحياة كلّها : فيه الصلة ما بين الإنسان وربّه ، وتنظيم ما بين المرء وأسرته ، وفيه حدود العلاقة بين الفرد ومجتمعه ودولته ، وفيه منهجُ الحكم والسياسة ، كما أنّ فيه الأخلاق والفضائل ، وفيه نظام علاقة الدولة المسلمة بغيرها من الدول ، في السلم والحرب ..

والقرآن الكريم هو الكتاب القادر على أن يجمع شمل الأمّة على تباعد أقطارها ، واختلاف لغاتها وأجناسها ، وتباين تقاليدها وعاداتها ، ويصهرها في بوتقة الحقائق والمبادئ التي جاء بهَا .. لقد نشر القرآن لغة العرب فامّحت أمامها لغات باختيار أهلها ورضاهم ، في الوقت الذي حاولت أنظمة قاهرة ، وأمم غالبة أن تطمس حضارات أمم أخرى ، ولغاتها وثقافاتها ، فلم تقدر على ذلك ، ولم تستطعه ، بل ازدادت تلك الأمم تمسّكاً بثقافاتها ولغاتها ، وأصرّت على مجافاتها للأمم الغالبة لها ، بينما كانت الأمّة المسلمة الفاتحة محبوبة من أمم الأرض قاطبةً ، يشهد بذلك القاصي والداني ، والعدوّ والصديْق على حدّ سواء ..

وليس مثل القرآن الكريم منهجاً وكتاباً ، يحثّنا على الأخذ بأسباب السبق في ميادين الحياة كلّها ، ويدفعنا إلى ارتياد مناكب الأرض ، وسبر أغوارها ، واكتشاف أسرارها ، ويأبى علينا إلاّ أن نكون قادة وسادة ، في مقدّمة الركْب ..

فأين تذهب العقول من بعض قومنا .؟! وهم يدبرون عن هدي القرآن الكريم ، ويجافون منهجه ، ويتسكّعون ذات اليمين وذات الشمال ، ويولّون وجوههم قبل المشرق تارةً ، وقبل المغرب أخرى ، يبحثون عن المناهج ، ويتيهون وراء السبل ، وفي أيديهم النور المبين ، وأمام أبصارهم الصراط المستقيم .. والله تعالى يقول : ] وإنّه لذكرٌ لكَ ولقومِكَ ، وسوفَ تُسألُونَ (44) [ الزخرف .

والمخرج من هذا الواقع المجافي للقرآن أن يُنشّأَ أطفالنا على مائدة القرآن العظيم ، يغترفون من حياضه ، وينهلون من معينه ، ولا يخلطون شيئاً من هديه بغيره ..

هذا ، وأهمّ الحقائق والمعاني التي ينبغي أن يُنشّأَ عليها الأطفال :

1 ـ حبّ القرآن وتعظيمه وتكريمه ، والأدب مع المصحف .

2 ـ أنّ القرآن الكريم منهج حياة المسلم ودستورها .

3 ـ الحرص على تلاوة القرآن وتدبّره .

4 ـ الاهتمام بحفظ القرآن الكريم ومراجعته .

5 ـ معرفة هدي النبيّ e مع القرآن الكريم ، والحرص على اتّباعه .

6 ـ قصص من معرفة هدي السلف مع القرآن الكريم ، والحرص على اتّباعهم .

7 ـ الحرص على اتّباع هداية القرآن الكريم ، في كلّ شأن من شئون الحياة .

وعلى الوالد المربّي أن يأخذَ بالوصايا التالية في تعامله مع الطفل ، لتنشئته على حبّ القرآن الكريم وحسن التعامل معه :

1 ـ حبّب ولدَك بحفظ القُرآنِ ، ورغّبه بذلك بمختلف الأساليب التربويّة الحكيمة .

2 ـ احذر من تنفير ولدك من حفظ القرآن الكريم ، بأن تكرهه على الحفظ ، أو تكلّفه فوق طاقته ، أو تتّخذ معه أساليب في العقوبة غير تربويّة .

3 ـ عوّد ولدَك على الاهتمَام بمُراجعة ما يحفظ من القرآن الكريم بصفة دوريّة ، كيلا يتفلّتَ منه .

4 ـ اغرس في نفس طفلك الحرص على فهم القرآن وتدبّر معانيه ، بما يناسب سنّه ونموّه ، وفسّر له من القرآن ما يناسب سنّه .

5 ـ عوّد ولدَك على أن يكونَ له ورد يوميّ من تلاوة القرآن الكريم ، لا ينشغل عنه بشيء .

أيّها المرَبِّي .! إنّ تربية الطفل على حبّ القرآن والقرب من مائدته ، يختصر لك طريقاً طويلاً من جهد التربية وأعبائِها .. وأظنّ أنّك لا تستغني عن ذلك ، فاصدق في الأمر ، واعزم على الرشد ، ولا ترضَ لنفسك بالعجز ، والله وليّ التوفيق والسداد .

 

      

أثر حلقات تحفيظ القرآن الكريم في تربية النشء

 

يقول الله تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) } الإسراء .

أخي الوَالِد ! أختي الوالدة ! إنّ جزءاً أساسيّاً من مسئوليّة الوالدين عن أولادهم أن يُهيّئوا لهم النشْأة الطيّبة ، والأجواء الإيمانيّة النقيّة ، التي يجدون فيها القدوة الحسنة ، وينعمون بالصحبة النافعة الصالحة ، ويتنسّمون الروح الخالية من أيّ عكرٍ أوْ كدَر .

ولا شكّ أنّ حلقات تحفيظ القرآن الكريم المنتشرة في جميع الأحياء هي خيرُ ما يتحقّق فيه ذلك على أكمل وجهٍ وأتمّه ، فهي محْضن إيمانيّ تربويّ ، يحقّق للفتى والفتاة الناشئين مزايا كثِيرة ، وينمّي شخصيّتهم نموّاً سويّاً متوازناً ، ونحن نعدّد هنا أهمّ هذه المزايا ، ولا نسْتطيع إحصاءها :

1ً ـ فهي تهيّئ لهم القدوة الحسنة ، والتوجيه السليم ، والتربية الإيمانيّة على يد أساتذة ومربّين من أهل القرآن الذينَ هم أهل اللهِ تعالى وخاصّتهُ .

وما أحوج الناشئ والناشئة إلى أن يروا أخلاق القرآن وآدابه ، تتجسّد فيمن يتلقّون عنهم القرآن ، ليأخذوا عنهم العلم والعمل معاً ..

2ً ـ وحلقات القرآن تهيّئ للفتى والفتاة الصحبة الصالحة ، لأتراب لهم ينشئون النشأة الصالحة التي يبْحث عنها الآباء والأمّهات ، وقد لا يجدونها في كثير من الأوساط الاجتمَاعيّة ، وإنّ كثيراً من الآباء والأمّهات يحارون كيف يهيّئون لأبنائهم وبناتهم تلك الصحْبة ، ولكنّها بحمد الله تعالى متوفّرة في أجواء حلقات القرآن الكريم على أحسن صورة بإذن الله تعالى .

3ً ـ وحلقات القرآن تهيّئ للناشئين العلم الشرعيّ بأحكَام دين الله تعالى ، فلا تتسرّب إليهم المفاهيم والأفكار المنحرفة عن دين الله عزّ وجلّ ، التي تغزو بلاد المسلمين بلا هوادة .. وقلما ينجو منها الناس ، فكيف بالبعيدين عن العلم والعلماء .؟

4ً ـ وحلقات تحفيظ القرآن الكريم هي المحضن التربويّ لغرس قيم الإسلام ومبادئه وآدابه ، فحفظ القرآن الكريم والتربية على أخلاق القرآن وآدابه صنوان ، لا ينفكّ أحدهما عن صاحبه ، فأيّ والد أو والدة لا يريد أن يرى في سلوك أولاده البرّ به وحسن المعاملة ، والبعد عن العقوق ، ومظاهره الكثيرة المتفشّية .؟!

وما أكثر ما نسمع الشكاوى المريرة من الآباء والأمّهات عن عقوق أولادهم ، وإساءاتهم التي قد تبلغ حدّ الضرب والإهانة ، مع أنّهم يحسنون إليهم كلّ الإحسان ، ثمّ لم يرَوا منهم إلاّ الإساءة والعُقُوق .. وعندما يلتفتون بدقّة إلى أسباب ذلك يرون : إهمال التربية القويمة منذ الصغر من جهة ، وترك الأولاد إلى رفاق السوء يعيثون بهم فساداً وإفساداً من جهة أخرى ..

5ً ـ وانتساب الناشئ إلى حلقات القرآن الكريم وانتظامه فيها سببٌ من أهمّ أسباب تفتّح مداركه العقليّةِ ، ونموّه المعرفيّ المبكّر ، وظهور طاقاته الإبداعيّة ، وتفوّقه الدراسيّ على أقرانه ، وهذا أمر ملاحظ مشهود ، بخلاف ما يظنّه خطأ بعض الآباء والأمّهات من خلاف ذلك ، فيمنعون أبناءهم وبناتِهم عن الالتزام بحلقات القرآن ، وهي سرّ نجاحهم وتفوّقهم ، فيخسرون بذلك دينهم ودنياهم ..

إنّ القرآن الكريم كتاب هداية معجز ، وهو منزّل بلسان عربيّ مبين ، وفيه من العلوم والمعارف الدينيّة ، والأخلاقيّة ، والاجتماعيّة ، والحضاريّة ما لا يعرف لكتاب غيره ، فمن أراد النموّ اللغويّ المبكّر، والذوق اللغويّ السليم فدونه كتاب الله تعالى ، ومن أراد العلوم والمعارف ، والثقافات والآداب على اختلاف أنواعها ، وتعدّد مناحيها واتّجاهاتها فدونه كتاب الله ، ومن أراد أن يتّصل أوّلاً وآخراً بسبب من عناية الله تعالى وثيق ، وباب لا يغلق من أبواب العطاء والتوفيق ، فليصل سببه وسبب من يلوذ به ، ويريد له الخير من أبنائه وبناته بكتاب الله تعالى . ألم يقل النبيّ e : ( خيرُكُم مَن تَعلّمَ القُرآنَ وعلّمَه ) ([44]) .

ولا ينبغي أن تفهم هذه الخيريّة على نحو واحد من أنحائها ، فتكون قاصرة على جانب الأجر والمثوبة ، معزولة عن الخيريّة في الجوانب الأخرى التي منها مصالح الدنيا ومطالبها .

ومثل ذلك أيضاً قوله e : ( أهلُ القُرآنِ هُم أهلُ اللهِ وَخَاصّتُهُ ) ([45]) .

ولكنّ ذلك رهن بتلقّي القرآن الكريم للفهم والعمل ، والحرص على التأدّب بآدابه والالتزام بهديه في كلّ شأن ..

6ً ـ وحلقات القرآن تربّي الناشئ على الجدّ وعلوّ الهمّة ، وتعوّده على تنظيم حياته وحفظ أوقاته ، وتربّي فيه الشعور بالمسئوليّة ، والقدرة المبكّرة على تحمّلها ، فلا عجب أن كان شباب القرآن رجالاً مكتملين ، وهم في أعمار الزهور ، وفتياناً ناضجين ، وهم أبناء بضع سنين .. ومن ثمّ فإنّ جماعات تحفيظ القرآن الكريم في كلّ بلد من بلاد المسلمين هم حماة حصون الأمّة من داخلها ، وإنّ العمل الذي تضطلع به لهو العمل الرائد المبرور ، الذي تستحقّ عليه كلّ شكر وتقدير ، وإنّ للقائمين عليها من الله تعالى من المثوبة والأجر ما لا يدخل تحت تصوّر أو حصر ..

وبعد ؛ فإِنَّ هدايةَ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ تفرض على كلّ مؤمن ومؤمنة أن يجعلَ أولاده قريبين من هَذه الهدَاية الإلهيّة يحظون ببركاتها وخيراتها ، وتفيض عليهم أنوارها وأسرارها ..

نسأل الله تعالى أن يوفِّق الآباء والأمّهات والمربّين إلى أن يولوا كتاب الله تعالى ما يليق به من العناية والاهتمام ، ليتحقّق انبعاث هذه الأمّة من جديد ، وأن يجعل أبناءنا وبناتنا ببركة القرآن العظيم قرّة عين لنا في الدارين ، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه .

وصلّى الله على عبده ونَبيّه سيّدنا محمّد ، وعَلى آله وصحبه وسَلّم ، والحمد لله ربّ العالمين

 

 

      

تحفيظ القرآن الكريم تقويم ومراجعة

 

ينظر كلّ مؤمن إلى حفظ القرآن الكريم أنّه نعمة من أعظم نعم الله تعالى على العبد ، ويتمنّى أن يكرمه الله تعالى بها في أبنائه وبناته ، لما فيها من الخيرات والبركات في الدنيا والآخرة .. ومنذ جيل مضى كان الناس ينظرون إلى حفظ القرآن الكريم أنّه صنعة العميان للتلاوة في المآتم ، وعلى المقابر .. وقد تطوّر هذا الأمر ، ونظّم ليكون للمقرئين المحترفين طريقاً إلى الثراء الفاحش ، تحجز فيه الأدوار ، وتدفع المبالغ الطائلة ، ويقدّم من يدفع أكثر ، ويسعى الناس وراء الأصوات النديّة ، والأنغام الموزونة ..

ثمّ كان من بركات صحوة الناس على دينهم ، أن صحّح هذا المفهوم ، ورُدّ للقرآن العظيم اعتباره ، فأصبح الاهتمام بحفظ القرآن الكريم روحاً سارية في أبناء الأمّة ، وأمنية عزيزة غالية ، يتطلّع إليها الكبار والصغار ، والرجال والنساء ، ويرعاه المسئولون وولاة الأمور في كثير من البلاد الإسلاميّة بكلّ تأييد وعناية .. ولعمر الحقّ ذلك من أسرار قول الله تعالى : { إنّا نحنُ نزّلنا الذكرَ ، وإنّا لهُ لحافِظُونَ (9) } الحجر .

ومع ذلك الاهتمام والحرص ، ففي العالم الإسلاميّ اليوم ظواهر عديدة ، لا تلتقي مع الاهتمام الحقّ بحفظ القرآن الكريم كما يريد الله تعالى ، ولا تتناسب مع ثمراته المرجوّة :

ففي بعض البلاد الإسلاميّة لا يتعلّم الطالب في المدرسة النظاميّة إلاّ بعد أن يختم القرآن حفظاً من أوّله إلى آخره .. ثمّ تراه في مستقبل أيّامه إنساناً آخر : قد نسي القرآن فلم يعد يذكر منه حرفاً ، ولا ترى شيئاً من سلوكيّاته يلتقي مع القرآن ومبادئه .. فقد يكون تارك صلاة ، وقد يكون علمانيّاً في مفاهيمه وأفكاره ، وقد يكون مقترفاً للكبائر .. وقد يكون .. وقد يكون ..

وكما يمرّ الناس بمرحلة الطفولة قبل مرحلة البلوغ والنضج ، ففي بعض البلاد الإسلاميّة يمرّ الناس بمرحلة حفظ القرآن الكريم قبل كلّ شيء في حياتهم .. ثمّ لا ترى في مجتمعهم أثراً للقرآن أو خبراً : فمجتمعهم مجتمع احتراب وسفك للدماء ، والجهل والتخلّف ، والفقر والمرض ، عناوين بارزة في حياة الناس .. وأنواع العلل الاجتماعيّة تنخر في بنيان الأمّة من جميع الأطراف .. بصورة لا تجد فيها مكاناً للقرآن ، ولا لآية واحدة ..

ورأيت فيما رأيت رجلاً من التجّار كان يحفظ القرآن في طفولته ، ثمّ اشتغل بالتجارة ، ولم يعد يصله بالقرآن ودينه شيء .. وهو اليوم يحارب أولاده لتمسّكهم بدينهم ، ومحافظتهم على صلاتهم ، وإقبالهم على طاعة ربّهم .!

ورأيت فيما رأيت أيضاً رجلاً يحفظ القرآن ، وهو على حظّ من الثقافة الإسلاميّة غير قليل ، ويرأس مؤسّسة تجارية ، ولكنّ تعامله مع الناس ، ومع مرءوسيه على وجه الخصوص لا يلتقي مع أخلاق القرآن ، وآداب القرآن .! يظلم الناس ، وينتقص حقوقهم ، ويعتدي على أموالهم .. ولا يبالي في سبيل مصالح دنياه الموهومة بشيء من مبادئ القرآن وأحكامه ..

ورأيت بعض الشباب من يتباهى بحفظه للقرآن ، وهو لا يتورّع عن عقوق الوالدين ، ويستهتر بالصلاة ، وبعضهم لا يبالي بالمحافظة على صلاة الجماعة ، ومنهم من لا ترى في أخلاقه وسلوكه ، ما يلتقي مع القرآن أو يقاربه ..

ولعلّ كثيراً من القرّاء يتّفق معي في الرأي حول وجود هذه الظواهر ، ويرى أنّها نشاز في التعامل مع القرآن الكريم : حفظاً ، وتدبّراً ، وتأدّباً وعملاً ..

ولكنّ السؤال المهمّ : هل يتناسب الاهتمام بحفظ القرآن الكريم وتجويده مع الاهتمام بغرس أخلاقيّات القرآن ، والتعامل الصادق مع مبادئه وقيمه .؟ وهل تلاحظ ذلك الجمعيّات الخيريّة ، والمؤسّسات القرآنيّة .؟ وما تفسيرها لهذه الظواهر .؟ وأين يكمن الخلل في عملها ، وهي تنفق جهوداً مضنية في تحفيظ القرآن ، وتتنافس فيما بينها لتخريج أكبر عدد ممكن من الحفّاظ عاماً بعد عام .؟!

إنّ الخلل يكمن في البعد عن منهج السلف في حفظ القرآن الكريم ، وتلقينه وتلقّيه .. هذا المنهج الذي كان بيّناً واضحاً منذ عهد الصحابة y إلى عهد التابعين ، وإلى عهد تابعيهم ، ثمّ تراخى الناس في الالتزام بالطريقة المثلى لحفظ القرآن الكريم ، وتلقينه وتلقّيه .. وغلب النظر إلى الكمّ والمظهر على حساب النوعيّة والكيف ، ووقع ما حذّر منه المصطفى أمّته من أقوام يتلون القرآن لا يجاوز حناجرهم ..

وقد حَدّثَنا الإمامُ عبدُ اللهِ بنُ حبيبٍ ، أبو عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيّ رحمهُ اللهُ عن طريقة السلف في تلقّي القرآن الكريم وتلقينه فقَالَ : " حدّثَنا الذينَ كَانُوا يُقرِئُونَنا القُرآنَ ، كعُثمانَ بنِ عَفّانَ ، وعبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ ، وغيرِهما y ، أنّهُم كَانُوا إذا تَعلّمُوا مِنَ النبيِّ e عَشرَ آياتٍ لم يُجاوِزُوهَا حتّى يَتعلّمُوا ما فِيها مِنَ العِلمِ والعَمَلِ ، قَالُوا : فتَعلّمْنا القُرآنَ والعِلمَ والعَمَلَ جميعاً " ([46]) .

إنّه منهج دقيق متوازن يجمع بين قوّة التلقّي وقوّة العمل ، وجدّيّة الأخذ وجدّيّة التفاعل ، ولا يغفل واحداً منها على حساب الآخر .!

وإنّ التنافس الذي نلحظه اليوم في تخريج الحفّاظ فحسب ، لا يعدو أن يكون عملاً يتشابه مع استنساخ أجهزة مسجّلة صمّاء ، تقرأ القرآن ولا تعي معانيه ، وترتّله ولا تتدبّره ، وتقف عند حروفه ولا تفقه حدوده ، وربّما استجرّتها مغانم الدنيا إلى اتّخاذ القرآن حرفة وتكسّباً ، فيطالها عندئذ الوعيد الإلهيّ المخيف : { أفلا يَتدبّرُونَ القُرآنَ أم علَى قُلُوبٍ أقفَالُها } .!؟

فهل هذه رسالة القرآن الكريم في الحياة .؟ وهل بهذا المنهج يرتجى للأمّة أن تبلغ عزّاً ، أو تنهض من كبوة .؟!

إنّ النهضة القرآنيّة الحقّة هي التي يتواكب فيها الاهتمام بالحفظ والتجويد ، مع الاهتمام بالتدبّر والعمل ، والحرص على تحويل هدي القرآن إلى سيرة تصطبغ بها حياة الإنسان وسيرته .

وإنّنا مدعوون لتحقيق ذلك إلى أن نعيد النظر  في طريقة تعاملنا مع القرآن الكريم ، وأسلوب توريثه للجيل من بعدنا ، وليس من شأن أولي العزم من الرجال أن يتهرّبوا من تبعات التكاليف ، وجلائل الأعمال ، ويركنوا إلى ما هو أسهل وأخفّ على قلوبهم ، وأحظى لنفوسهم ، وأظهر لهم بين الناس ، ولو لم يكن من ورائه كبير فائدة أو جدوى .!

وبعد ؛ فإنّنا نتمنّى على الله تعالى أن يأتي يوم نرى فيه أخلاق القرآن الكريم وقيمه ، تهيمن على أهل القرآن ، وتحكم حياتهم وسلوكهم ، وتنظر فيه الأجيال إلى هذه الظواهر السلبيّة التي تعود إلى الخلل في منهج التلقّي ، كما ننظر اليوم ونعجب إلى ما كان عليه الناس منذ جيل مضى ، وما ذلك على الله بعزيز .

 

      

 

من آداب طالب القرآن

 

الأدب شعار المسلم في حياته ، مع الكبير والصغير والقريب والبعيد ، لأنّ الشريعة الإسلاميّة كلّها آداب : إذ هي عقيدة وعبادة ، وتشريع وأخلاق ، وهي تئول بعمومها إلى الأخلاق بمفهومها العامّ . فالعقيدة والعبادة ، والتشريع كلّها أنواع من الأدب مع الله تعالى ، ومع النفس ومع الآخرين .

ومن ثمّ فإنّ الإمام ابن القيّم رحمه الله يقول : " الأدب هو الدين كلّه " ([47]) .

مفهوم الأدب ومعناه العامّ والخاصّ :

جاء في المصباح المنير : " قال أبو زيد الأنصاريّ : " الأدب يقع على كلّ رياضة محمودة ، يتخرّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل " .

وقال بعض العلماء : " الأدب كلمة تجمع خصال الخير كلّها " . أو هو اجتماع خصال الخير في العبد " ([48]) .

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " الأدب استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً " ، وعبّر بعضهم بأنّه الأخذ بمكارم الأخلاق " .

وقيل : " هو تعظيم من فوقك ، والرفق بمن دونك " ([49]) .

ـ فضل الأدب في الدنيا والآخرة :

قال إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ـ وهو وأبوه من الثقات الأثبات ـ : قال لي أبي : " يا بنيّ ! ائت الفقهاء والعلماء ، وتعلّم منهم ، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم ، فإنّ ذاك أحبُّ إليّ لك من كثير من الحديث " .

وقال الإمام ابن المبارك رحمه الله : " نحن إلى قليل من الأدب أحوج منّا إلى كثير من العلم " .

وروى أبو نعيم في ترجمة الإمام مالك أنّه قال لفتىً من قريش : " يا ابن أخي تعلّم الأدب قبل أن تتعلّم العلم " .

وحكى صنيع أمّه معه فقال : " كانت أمّي تعمّمني ، وتقول لي : " اذهب إلى ربيعة ، فتعلّم من أدبه قبل علمه " .

وقال الإمام ابن المبارك رحمه الله : " من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن ، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض ، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة " .

ومن كلام علماء التربية : " ما فاز من فاز إلاّ بالأدب ، وما سقط من سقط إلاّ بسوء الأدب " ([50]) .

وجاء عن بعض السلف : أنّ أهل الجنّة يدخلون الجنّة بعد فضل الله تعالى بأعمالهم ، ويرثون درجاتها ومنازلها على حسب أدبهم " .

ومن مواقف السلف في أخذ طلاّبهم بالأدب قبل العلم : ما ذكره البرهان البقاعيّ أنّه سأله بعض الأعاجم أن يقرأ عليه ، فأذن له ، فجلس متربّعاً ، فامتنع عن إقرائه ، وقال له : " أنت أحوج إلى الأدب منك إلى العلم الذي جئت تطلبه " ([51]) .

قصّة أستاذنا الشيخ عبد الرحمن زين العابدين رحمه الله مع بعض الذين يحملون الألقاب العلميّة ، ولم يتأدّبوا بآداب العلماء ، فرفض إقراءهم للنحو .

وعندما سئلت السيّدة عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله e قالت : " كان e خلقه القرآن " ، وفي رواية زيادة : يرضى لرضاه ، ويغضب لغضبه " .

فلو نظرنا إلى الأحكام والآداب التي جاء بها الإسلام ، وحثّنا على التحلّي بها ، لرأينا أنّها جمال الحياة وزينة الإنسان ، وسرّ قبوله بين الناس ومحبّة الناس له .

ـ فضل حفظ القرآن الكريم بشهادة بعض المعاصرين :

ـ فمن أهمّ آداب طالب القرآن :

1 ـ الإخلاص لوجه الله تعالى ، وابتغاء مثوبته .

2 ـ الامتثال والعمل . { واتّقُوا الله ويُعلّمُكُم الله } ومن كلام عيسى ابن مريم عليه السلام : " من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم " .

ـ منهج السلف في تلقّي القرآن وأخذه : وقد حَدّثَنا الإمامُ عبدُ اللهِ بنُ حبيبٍ ، أبو عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيّ رحمهُ اللهُ عن طريقة السلف في تلقّي القرآن الكريم وتلقينه فقَالَ : " حدّثَنا الذينَ كَانُوا يُقرِئُونَنا القُرآنَ ، كعُثمانَ بنِ عَفّانَ ، وعبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ ، وغيرِهما y ، أنّهُم كَانُوا إذا تَعلّمُوا مِنَ النبيِّ e عَشرَ آياتٍ لم يُجاوِزُوهَا حتّى يَتعلّمُوا ما فِيها مِنَ العِلمِ والعَمَلِ ، قَالُوا : فتَعلّمْنا القُرآنَ والعِلمَ والعَمَلَ جميعاً " ([52]) .

3 ـ الوقوف عند حدود القرآن والتأدّب بآدابه . فممّا وصف به عمر بن الخطّاب t : " أنّه كان وقّافاً عند كتاب الله " .

ـ أثر التأدّب بآداب القرآن في حياة الشابّ وعلاقاته :

1 ـ أن ذلك يكون برهان صدقه وإخلاصه : وكثير من الناس يلتبس عليهم أمر الإخلاص ، وتخدعهم نفوسهم ، وهذا ميزان لا يخدع .

2 ـ توفيق الله تعالى له إلى المزيد من الخير ، لأنّ ذلك نوع من الشكر : { لئِن شكَرتم لأزِيدَنّكُم } .

3 ـ تأثّر الناس بسلوكه ودعوته ، واستجابتهم لنصحه وتذكيره .

وعن عبد الله بن مسعود t قال : " ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ، وبنهاره إذا الناس مفطرون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون " .

وعن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنّه قال : " إنّ من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربّهم ، فكانوا يتدبّرونها بالليل ، وينفّذونها في النهار " .

وعن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال : " ينبغي لحامل القرآن ألاّ يكون له حاجة إلى أحد ، من الخلفاء فمن دونهم " .

وعنه أيضاً قال : " حامل القرآن حامل راية الإسلام ، لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو ، ولا يسهو مع من يسهو ، ولا يلغو مع من يلغو ، تعظيماً لحقّ القرآن " .

وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى : " من آداب حامل القرآن أن يكون على أكمل الأحوال ، وأكرم الشمائل ، وأن يرفع نفسه عن كلّ ما نهى القرآن عنه إجلالاً للقرآن ، وأن يكون مصوناً عن دنيء الاكتساب ، شريف النفس ، مرتفعاً على الجبابرة ، والجفاة من أهل الدنيا ، متواضعاً للصالحين وأهل الخير والمساكين ، وأن يكون متخشّعاً ذا سكينة ووقار " .

فقد جاء عن عمر بن الخطّاب t أنّه قال : " يا معشر القرّاء ! ارفعوا رؤوسكم فقد وضح لكم الطريق ، فاستبقوا الخيرات ، ولا تكونوا عيالاً على الناس " ([53]) .

وأختم حديثي بكلمات جامعة لحقائق الأدب ، وصفات المؤمن المتأدّب للإمام الحارث المحاسبيّ رحمه الله يقول فيها : " واعلم أنّ في كلّ فكرة أدباً ، وفي كلّ إشارة علماً ، وإنّما يميّز ذلك من فهم عن الله عزّ وجلّ مراده ، وجنى فوائد اليقين من خطابه .

وعلامة ذلك في الصادق : إذا نظر اعتبر ، وإذا صمت تفكّر ، وإذا تكلّم ذكر ، وإذا مُنِع صبر ، وإذا أُعطيَ شكر ، وإذا ابتُلي استرجع ، وإذا جُهِل عليه حلُم ، وإذا علِم تواضع ، وإذا علّم رفق ، وإذا سُئل بذل .

شِفاءٌ للقاصدِ ، وعونٌ للمسترشِدِ ، حليفُ صدقٍ ، وكهفُ برّ ، قريبُ الرضا في حَقّ نفسِه ، بعيدُ الهمّةِ في حقّ الله تعالى ، نيّته أفضل من عمله ، وعمله أبلغ من قوله ، موطنه الحقّ ، ومعقله الحياء ، ومعلومه الورع ، وشاهده الثقة ، له بصائر من النور يبصر بها ، وحقائق من العلم ينطق منها ، ودلائل من اليقين يُعبّر عنها " ([54]) .

وختاماً ؛ فإنّ صورة الأدب قد تحدّها الكلمات ، وتنبئ عنها الإشارات ، ولكنّ حقيقته لا تحيط بها العبارات ، ولا تحصرها الكلمات ، وإنّما هو سرّ باطن ، وسلوك حميد ظاهر ، ينتظمّ كلّ شأن ويجمّل كلّ حال ..

وينبغي أن يعلم كلّ طالب للقرآن أنّ الآداب العالية لا تنبت في النفس جملة واحدة ، وإنّما هي كالغرسة الطيّبة ، يتعهّدها الزارع يوماً بعد يوم ، ويكون شديد الحرص عليها ، والحماية لها من كلّ ما يضرّ بها ، حتّى يقوى ساقها ، ويشتدّ عودها .. ولا شيء يبلّغ الطالب مراده ، ويصل به إلى غايته كصدقه وإخلاصه ، يقول الله تبارك وتعالى : { والذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنهدِيَنّهُم سُبُلَنا ، وإنّ الله لمَعَ المحسِنِينَ (69) } العنكبوت .

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

 

      

الدعاء مخّ العبادة

 

إنّ اسْتجابة الله تعالى لدعاء عباده منْ دلائل وحدانيّة الله تعالى ، وقربه منْ عباده ، يقول الله سبحانه : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ، وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) } البقرة .

ويقول سبْحانه : { أَمَّنْ يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ .؟ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) } النمل .

وإنّ أعظَمَ تعبير نبويّ عن أهمّيّة الدعاء في دين الله ومكَانته ، هو قول النبيّ e : ( الدعاء مُخُّ العبادة ) ([55]) ، وفي حديث آخر : ( الدعاء هو العبادة ) ([56]) .

وحديث النبيّ e مستوْحى منْ قول الله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمْ : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) } غافر ، إذ ربطَ الله تعالى بين الدعاء والعبادة ربطاً وثيقاً ، فجعل الإعراضَ عن دعاء الله تعالى تكبّراً عَن عبادَتِه ، وأنّ جزاء من يكون كذلك أن يدخل النار ذليلاً صاغراً .

علينا أن نثير في نفسِ الطفل أسئلة متنوّعة تتّصل بالدعاء : لماذا ندعو الله .؟ وما معنى ذلك .؟ لأنّ الله تعالى يملك كلّ شيء ، ونحن فقراء إلى الله في كلّ شيء .. وإنّ من محبّة الله تَعالى لعباده ، ورحمته ورأفته بهمْ ، وهو الغنيّ عنهم أن فتح لهم أبواب فضله وكَرمه بالليل والنهَار ، وكلّما ازداد عباده رغبَةً إليه زادهم منْ فضله وكَرمه ..

وينبغي أن يحفّظ الطفل جوامع الدعاء ، التي كان النبي e يحبّها ويَدعُو بها ، وهي كثيرة متنوّعة ، فمنها :

{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) } البقرة .

{ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا ، رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) } الحشر .

{ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) } آل عمران .

{ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ، رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ، وَاعْفُ عَنَّا ، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ، أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) } البقرة .

{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الخَاسِرِينَ (23)}الأعراف .

ربّ اغفر لي ولوالديّ ، ربّ ارْحمهما كما ربّياني صغيراً .

اللهمّ إنّي أسألكَ الهدى والتقى والعفاف والغنى .

اللهمّ إنّي أسألكَ العفوَ والعافيةَ في الدين والدنيا والآخرة .

اللهمّ اغفر لي وارْحمني ، واهدني ، وعافني ، وارزقني .

اللهمّ إنّي أعوذ بك من منكرات الأخْلاق والأعمال والأهواء .

اللهمّ ألهمني رشدي ، وأعذني من شرّ نفسي .

يا مقلّبَ القلوب ثبّت قلبي على دينك .

وينبغي على الوالدين أن يرى الطفل فيهم القدوةَ العمليّة ، في دعاء الله تَعالى في كلّ منَاسبة .. وعليهم أنْ يعلّموا الطفل من الدعاء ما يناسب سنّه .

فارفع أخي الوالد المربّي صوتَك بالدعاء أمامَ طفلك : على مائدة الطعَام ، وعند دخول المسجد ، وعند الخروج منه ، وفي ركوب السيّارة ، وعلّمه دعاء دخول الحمّام ، والخروج منه .

ـ ومنْ أهمّ ما يتّصل بالدعاء : التربية على اللجوء إلى الله بالدعاءِ قبل الأخذ بالأسباب المادّيّة ، فالدعاء منْ أقوَى الأسْباب وأهمّها .

وينبغي أنْ يُعلّمَ الطفل التأدّبَ بآدَاب الدعاء وهي كثيرة ، ومن أهمّها :

1 ـ التحقّق بالذلّ والعبوديّة ، والافتقار إلى الله تَعالى .

2 ـ البدء بالحمد لله تعالى ، والثناء عليه سبحانه بما هو أهله ، والصلاة عَلى النبيّ e ، والختم بذلك .

3 ـ التماس أوْقات الإجابة وأماكنها ، وهي كثيرة ..

4 ـ التسليمُ لله بعدَ الدعاء ، وعدم استعجال الإجابة .

5 ـ أن لا يعْتدي في الدعاء ، ولا يدعوَ بإثمٍ أو قطيعة رحم ، ولا يدعو على أحدٍ بعَينه .

وينبغي أن يحدّث الطفلُ بما جاء في السنّة النبويّة من قصص استجابة الله تعالى لعباده ، وإكرامهم بكشف غمّاتهم ، وتفريج كرباتهم ، ونصْرهم على أعدائهم ، وما جرى لنبيّنَا e ، ولأصحَابه الكرام ، وللأمم السابقة من ذلك ..

وينبغي أن يُعلّمَ الطفلُ أنّ منْ بركات الدعاء رفع البلاء ، ودفعه عن المؤمن ، وأنّ ذلك نوع من استجابة الله تعالى لدعاء العبد ..

وأن يُعلّمَ أنّ منْ شروط استجابة الله للدعَاء أن يتحرّى المؤمن الحلالَ في كسْبه ومأكله ومشربه ، فلا يكسب ولا يأكل ولا يشرب إلاّ حلالاً ..

وينبغي أن يُعطى الطفلُ ما يناسب سنّه من كتب الأدعية والأذْكار ، ليعود إليها عند الحاجة ، ويحفظ منها ..

 

      

هذا عيدنا .!

 

بعد رمضان من كلّ عام ، يهلّ هلال العيد ، يحمل للصائمين العابدين المتّقين بسمة الأنس والرضا ، وتهنئة القبول والندى ، ورسالة الخير والهدى ، كما حمل هلال رمضان رسالة التربية والتغيير ، وترقية الإيمان والتجديد ، فشحذت الهمم والعزائم ، وفعلت فعلها في القلوب والضمائر ، وأحيت الأرواح ، وطهّرت السرائر ..

إنّ العيد مباركة سماويّة علويّة لمن سمت أرواحهم حتّى نافست الملائكة الأطهار في سموّها وشفافيّتها ، وتكرمة إلهيّة عاجلة ، لمن فاز في مدرسة الصيام ، فقوي إيمانه ، وازداد يقينه ، وتوقّدت عزيمته ، وسمت همّته ، وتحرّرت إرادته من أسر أهوائه وشهواته .. إنّه انتصار المعاني على المظاهر ، والحقائق على الصور والرسوم ..

لمّا قدم النبيّ e المدينة كان لهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : ( إنّ الله قد أبدلكم يومين خيراً منهما ؛ يوم الفطر ، ويوم الأضحى ) ([57]) .

فأبدل الله هذه الأمّة بيومي اللعب واللهو يومي الذكر والشكر ، والمغفرة والعفو . ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد : عيد يتكرّر كلّ أسبوع ، وعيدان يأتيان في كلّ عامٍ مرّة مرّة ، من غير تكرّر في السنة ، فأمّا العيد المتكرّر ، فهو يوم الجمعة ، وهو عيد الأسبوع ، وهو مترتّب على إكمال الصلوات المكتوبات ..

وأمّا العيدان اللذان يأتي كلّ واحدٍ منهما في العام مرّة واحدة ؛ فأحدهما : عيد الفطر من صوم رمضان ، ويأتي بعد أداء الركن الثالث من أركان الإسلام ، فإذا أدّى المسلمون ما افترض الله عليهم من صيام شهر رمضان ، واستوجبوا من الله بمنّه وفضله المغفرة والعتق من النار ، حقّ لهم أن يفرحوا بعيدٍ يجتمعون فيه على شكر الله تعالى وذكره ، وتكبيره على ما هداهم إليه ..

والعيد الثاني : عيد النحر ، وهو أكبر العيدين وأفضلهما ، وهو مرتّب على إكمال الحجّ ، الذي هو الركن الرابع من أركان الإسلام ومبانيه ، فإذا وقف الحجّاج بعرفة ، ومنّ الله عليهم بمغفرة ذنوبهم ، وعتق رقابهم من النار حقّ لهم أيضاً ، وحقّ لأهل الأمصار معهم أن يفرحوا بعيدٍ يجتمعون فيه على شكر الله تعالى وذكره ، وتكبيره على ما هداهم إليه ، والتقرّب إليه بالنسك ، وهو إراقة دماء القرابين ..

وفي كلا العيدين تتأكّد زيارة القبور للاعتبار والاتّعاظ ، وزيارة الأقَارب والأرحام ، والتواصل بين الأصحاب والجيران ..

لقد راد الله تعالى لأمّة الإسلام أن تكون متميّزة في كلّ شيء .. في عقيدتها وعباداتها ، وفي تشريعاتها وأحكامها ، وفي أخلاقها وعاداتها ، وفي ترويحها عن نفسها ولهوها ..

إنّ العيد في الإسلام عبادة يتقرّب بها المؤمنون إلى ربّهم ، ولكنّها عبادة  من لونٍ آخر ؛ إنّه عبادة تجمع بين استجمام الأرواح ، وبهجة النفوس ، ونشاط الأجساد ، وشكر الله على عظيم نعمه ومننه .. إنّه فرح بفضل الله ورحمته : { قُل : بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ، هو خير ممّا يجمعون (58) } يونس .

قال مخنف بن سليم t ، وهو معدود من الصحابة : " الخروج يوم الفطر يعدل عمرة ، والخروج يوم الأضحى حجّة " .

وعن سعد بن أوس الأنصاريّ t قال : قال رسول الله e : ( إذا كان يوم عيد الفطر ، وقفت الملائكة على أبواب الطرق ، فنادوا : اغدوا يا معشر المسلمين ! إلى ربّ كريم ، يمنّ بالخير ، ثمّ يثيب عليه الجزيل ؛ لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم ، وأمرتم بصيام النهار فصمتم ، وأطعتم ربّكم ، فاقبضوا جوائزكم ، فإذا صلّوا نادى منادٍ : إلا إنّ ربّكم قد غفر لكم ، فارجعوا راشدين إلى رحالكم ، فهو يوم الجائزةِ ، ويسمّى ذلك اليوم في السماء : يوم الجائزة ) ([58]) .

فهذه أعياد المسلمين في الدنيا وكلّها عند إكمال طاعة الله تعالى ، ونيلهم لما وعدهم الله تعالى من الفضل والمثوبة ..

ومن ثمّ فإنّ المؤمن حين يفرح بالعيد لا تستبدّ به الفرحة ، فينسى التنقيب عن أولئك البائسين المحرومين .. إنّه لا ينسى اليتيم المحروم من عطف الأبوّة الحانية ، ولا ينسى البائس الفقير ، وقد حرم سعة العيش ورغده ، ولا ينسى الأرملة التي حرمت من زوجها ، وتوالت عليها الشدائد والمحن ، ولا ينسى المريض الذي فقد العافية بعدما كان يرفل في بحبوحة ثيابها ، فأصبح حبيساً في سريره ، يتلوّى من مرضه ..

ولا ينسى قبل ذلك كلّه وبعده أولئك المضطهدين في دينهم من إخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، الذين لا جريرة لهم إلاّ أن يقولوا : ربّنا الله ..

إنّ العيد في الإسلام غبطة النفس في الدين والطاعة ، وبهجة الروح في الدنيا والحياة ، ومظهر القوّة والإخاء ، إنّه فرحة بانتصار الإرادة الخيّرة على الأهواء والشهوات ، وبالخلاص والتحرّر من إغواءات شياطين الإنس والجنّ وأحابيلهم ، وهو الرضا المستلذّ بطاعة المولى تبارك وتعالى ، والرجاء الواجف بوعده الكريم بمغفرة الذنوب ، والعتق من النار ..

وإنّ من أراد معرفة أخلاق الأمّة أيّة أمّة .. فلينظر إليها في أفراحها وأعيادها ، إذ تنطلق فيها على فطرتها وسجيّتها ، وتكشف عاداتها عن دخائلها وطبيعة تربيتها ، والأمّة الجادّة ذات الرسالة هي التي تكون في فرحتها سامية في أخلاقها إلى أرفع ذروة ، وتكون في بهجتها متحقّقة بالإخاء إلى أبعد مدى ، فيتجلّى في العيد من توادّها ، وتعاطفها ، وتراحمها ، وصفاء علائقها ما يضفي على العيد من المعاني ما يجلّ عن الوقوف عند المباهج الظاهرة ، والاهتمام بالزينة الفاخرة .. وإنّ الأمّة التي تنسى في غمرة أفراحها هؤلاء وأمثالهم ، لا يصدق عليها أنّها أمّة حيّة فتيّة ، يحقّ لها أن تتباهى بكيانها بين الأمم ، ولا يكتب لها أن تسبق في أيّ مضمار ..

أيّها المؤمنون الصائمون المتّقون الموفّقون ! هذا عيدنا ، وهذه بعض معانيه ، فهل رأيتم في الدنيا عيداً كعيدنا .؟!

 

      

أطفالنا والعيد .؟

 

ما أحوجنا نحن المسلمين أن نفهم أعيادنا فهماً صحيحاً ، يتجاوز الصورة الشكليّة المألوفة ، إلى الحقيقة الشرعيّة المرادة من العيد ، فالعيد هو المعنى الذي يكون في اليوم ، لا اليوم نفسه بما فيه من صباحٍ ومساء .. وكما يفهم الناس هذا المعنى يتلقّون هذا اليوم ..

والعيد في أهمّ معانيه إشعار الأمّة أنّ فيها قوّة تغيير الأيّام ، وملئها بمعانٍ جديدة ، لا إشعارها أنّ الأيّام تتغيّر وتتبدّل ، وهو يوم تَعرضُ فيه الأمّة جمال نظامها الاجتماعيّ ، فيكون يوم الشعور الواحد في نفوس الجميع ، والروح الواحدة في حياة الجميع ، والكلمة الواحدة على ألسنة الجميع : الشعور بالقدرة على تغيير الأيّام ، لا القدرة على تغيير الثياب ، والروح التي تقارب بين القلوب ، وتمحو الفروق بين أبناء المجتمع ، لا المظاهر التي تكسر قلوب الضعفاء ، وتصرخ في وجوههم أكثر من أيّ يومٍ في حياتهم ، والكلمة الطيّبة التي هي شعار الأمّة في جميع علاقاتها .. بدءاً من ذكر اسم الله على كلّ شيء ، وإلقاء السلام على كلّ مسلم ..

إنّ العيد يوم شعور كريم بالرضا والقبول ، يغمر الله به الأمّة بعد أن أكرمها بطاعته ، ومنّ عليها بالتوفيق إلى أداء الواجب كما أمرها ..

وهو يوم بهجة القلوب والأرواح .. يتجلّى فيه تقارب قلوب الأمّة ، ووحدة مشاعرها ، وصفاء علاقاتها ..

والعيد يعلّمنا شكر المحسن ومكافأته عقب ما يقوم به من عمل ، أو يؤدّي من واجب ..

وفيه تعليم للأمّة وتربية أن تتّسع روح الجوار وتمتدّ ، حتّى يرجع البلد العظيمُ ، وكأنّه لأهله دار واحدة ، يتحقّق فيها الإخاء بمعناه العمليّ ، وتظهر فضيلة الإخلاص مستعلنة للجميع ، ويهدي الناس بعضهم بعضاً هدايا القلوب المخلصة المحبّة ، التي لا يحول بينها وبين اتّصالها ببعضها شيء من أمر هذه الدنيا ..

وليس العيد لمن لبس الجديد ، إنّما العيد لمن خاف يوم الوعيد ، وكان ممّن طاعاته تزيد ..

ليس العيد لمن تجمّل بالثياب والركوب ، إنّما العيد لمن غفرت له الذنوب ..

ليس العيد لمن قتل أيّامه بالغفلات ، إنّما العيد لمن استعدّ لما هو آت ..

ولقد عرف سلف هذه الأمّة العيد بهذه المعاني .. فغرسوها في أطفالهم ، فكانت الأمّة أمّة الحقائق والمعاني السامية ، لا أمّة المظاهر العابثة والحياة اللاهية ..

رأى عمر بن عبد العزيز أحد أولاده ليلة العيد عليه ثياب خلقة ـ أي بالية ـ فدمعت عينه ، فانتبه الغلام لوالده ، فقال له : ما يبكيك يا أبتِ .؟ فقال له : رأيت عليك ثياباً خلقة ، وغداً عيد ، فخشيت أن ترى الأطفال في ثيابٍ جديدة ، فينكَسر قلبك .. فقال : " يا أبتِ إنّما ينكسر قلبك من أعدمه الله رضاه ، أو عقّ أمّه أو أباه ، وإنّي لأرجو أن يكون الله راضياً عني برضاكما عني .. فبكى والده فرحاً بجوابه ، واحتضنه ، وقبّل ما بين عينيه ، ودعا له بخير ، فكان من أزهد أولاده من بعده ..

دخل بعض أصحاب عليّ t عليه يوم عيد الفطر ، فرأوه يأكل خبز شعير ، فقالوا له : يا أمير المؤمنين خبز شعير يوم عيد .؟! فقال لهم t :

" اليوم عيد من قبل بالأمس صيامه وقيامه ، اليوم عيد من قبلت بالأمس طاعاته ، اليوم عيد ، وغداً عيد ، وكلّ يومٍ لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد .. " .

واليوم يستطيع الوالدان والمربّون بحكمتهم أنْ يغرسوا في نفس الطفل هذه المعاني الإيمانيّة الكريمة ، وما يشبهها ، كما يستطيعون تدريبه بطريقة عمليّة على تنفيذها بنفسه ، والالتزام بها .. ولابدّ للوالدين والمربّين من اتّباع خطّة عمليّة مدروسة بعناية لغرس هذه المعاني الإيمانيّة وما يشبهها ، وتعهّدها في نفوس الأطفال ورعايتها ، ليكون العيد ترويحاً للقلوب والنفوس أشبه بالجدّ ، وجدّاً في الحياة يزينه الترويح العذب ، والسموّ الرحب ..

ـ ما ضرّك أيّها الوالد الكريم ، وأنت تشتري لعبة العيد لطفلك أن تشتري له لعباً إضافيّة : اثنتين أو ثلاثاً ، ليهديها إلى من يختار من أطفال أقاربه أو جيرانه ..

ـ ما ضرّك أيّها الوالد الكريم ، أن تصحب طفلك لعيادة أطفال المسلمين المرضى في المستشفى ، وليكن معهم شيء من الحلوى أو الشوكولاتة ، أو الهدايا المعبّرة ، يقدّمها طفلك بيده لأولئك المرضى ، ويتذكّر ما هو فيه من نعمة العافية ..

ـ عوّد طفلك الأكبر أن يقدّم هديّة لأخيه الأصغر منه يوم العيد ، واحرص أن يختارها بنفسه ، ويدفع ثمنها للبائع بيده ..

ـ ذكّر أطفالك أيّها الوالد المربّي ! أنّ لهم أمثالاً من أطفال المسلمين ، في شتّى بقاع الأرض ، لا يعرفون للعيد أيّ معنى ، ويعيشون حياة البؤس والحرمان ، والقهر والإذلال ..

تغرّب الشيخ علي الطنطاويّ مرّة عن أسرته ، وأدركه عيد الفطر لأوّل مرّة في حياته ، وهو بعيد عن زوجته وأطفاله .. فأحسّ أنّ العيد يوماً للحزن والكآبة بعدما عرفه سنين عديدة يوماً للبهجة والسرور .. فقرّر أن يلزم بيته ويستسلم لأحزانه ، ويعيش مع ذكريات سالف أيّامه .. فتضاعف الحزن عليه ، وتوافدت الكآبة من كلّ الأطراف إليه .. فلم يرتضِ له إيمانه أن يستسلم لهذه الحال .. فخرج من بيته إلى بعض الحدائق العامّة حيث تكون الأسر مع أطفالها تبتهج بالعيد كما ألفت واعتادت .. فرأى الفرحة تعمّ الوجوه ، والبسمة ترتسم على الشفاه .. فتذكّر زوجته وأطفاله وهو بعيد عنهم ألوف الأميال ، فترقرقت الدمعة في عينيه ، واجتاحته موجة من الشوق والحزن لم يعرف لها طعماً من قبل .. فغرق في لجّة من أحزانه وأحْلامه .. وفجأة .. وقعت عيناه ثلاثة أطفال مع أمّهم ليسوا كسائر الأطفال ، ترنو أعينهم إلى الأطفال من حولهم ، وليس في أيديهم شيء من الحلوى التي يأكلونها ، أو الألعاب التي يبتهجون بها .. فما أشبه هؤلاء الأطفال مع أمّهم بأطفاله الثلاثة مع زوجته الصابرة المرابطة .. فتَوجّه بغير شعور منه إلى أمّهم ، وقدّم لها مبلغاً من المال كفاء ما يقدّمه لأطفاله في مثل هذا اليوم ، وقال لها : هل تقبلين يا سيّدتي هذا المال هديّة من أطفالي لهؤلاء الأطفال ! لتشتري لهم ما شئت من الحلوى والألعاب كسائر هؤلاء الأطفال .؟! فأخذته باستحياء ، وأخذت تشكره بكلمات ، لا يعرف شيئاً من معناها .. وغابت عنه قليلاً مع أطفالها ، ثمّ عادت والفرحة تملأ وجوههم ، وتهزّ أعطافهم ، في أيديهم بعض اللعب ، وفي أفواههم تتحرّك الحلوى ، ويسيل بها لعابهم ، وقد طال عهدهم بها .. فدمعت عيناه مرّة أخرى .. ولكنّها دمعة البهجة والغبطة .. وهو يرى أولئك الأطفال البائسين يفرحون بالعيد كما يفرح إخوانهم ، فيعوّضونه ما افتقد من قرب زوجته وأطفاله ..

إنّ الطفولة العذبة البريئة تضفي على العيد مسحة من الجمال لا يعرفها العيد بدونها .. ولكنّها أصبحت هذه الأيّام كسيفة باهتة ، وهي تعيش المآتم تلو المآتم ، تروي قصصها الأليمة الحزينة ، بمداد من دمها الطهور ، وهو يسفح كلّ حين على ثرى فلسطين الحبيبة المغتصبة ، ويمتزج بدموع اليتامى ، وأنّات المنكوبين والمشرّدين ، وتتردّد له أصداء مماثلة في شتّى بقاع الأرض .. إنّ عيداً بغير بهجة الطفولة هو يوْم بلا شمس السماء ..

 

      

* لَبّيكَ اللهمّ لَبّيكَ

 

سبحان من جعل في بيته الحرام من الآيات البيّنات ما يزيد المؤمنين إيماناً ، ويملؤهم حبّاً وقرباً ، وشوقاً لزيَارة بيته العتيق وحنيناً .. فلا تزال الأفئدة تهوي إليه وتهواه ، ولا يزال بيته العتيق عامراً بزوّاره وذكر الله ، ولا تزال أمّة الإيمان والتوحيد بخير وقوّة ما كان البيت قياماً للناس ، ومَثابة لهم وأمناً ..

ولقد روي أنّ إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام عندما أتمّ بناء البيت العتيق أمره الله تعالى أن يَدعوَ الناسَ إلى حجّه ، فقال له : يا ربّ وما يبلغهم صوتي أوْ ندائي .؟ فقال له الله تعالى : " عليك الدعاء ، وعلينا البلاغ " ، فقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام قريباً من البيت ، ونادى بأعلى صوته : " يا أيّها الناس ! إنّ الله تعالى بنى لكم بيْتاً فحجّوه " ، فلَبّى الناس نداءه بإذن الله تعالى ، وهم في أرحام الأمّهَات وأصلاب الآباء ، فمن لبّى مرّة حجّ مرّة ، ومن لبّى أكثر حجّ على عدد ما لبّى .. وذلك ما يشير إليه قول الله تعالى : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً ، وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) } الحجّ .

وتوارث الناس هذه التلبية والنداء ، وإعلان التوحيد الخالص من كلّ شائبة ، منذ عهد نبيِّ الله تعالى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، إلى ما شاء الله ، ثمّ حرّفت التلبية ، وعبث الشيطان بعقول أهل الجاهليّة ، فأدخل عليها الوَثنيّون كلمات الكفر ، وخلطوا التوحيد بالشرك ، ممّا جعلها متهافتة متناقضة ، ثمّ ردّها النبيّ المصطفى r إلى ما كانت عليه من مبدأ الحقّ وجلاله ، وصفاء التوحيد ونوره ، فكانت بهذه الجمل العذبة الجميلة : " لَبّيكَ اللهمّ لَبّيكَ ، لَبّيكَ لا شَريكَ لَكَ لَبّيكَ ، إنّ الحمدَ والنعمةَ لَكَ والمُلك ، لا شَريكَ لَكَ " ، شعاراً للإيمان ويقينه ، وتعبيراً عن منهج الحقّ ومضمونه ..

وأصبحت هذه الكلماتُ الإيمانيّةُ العذبةُ شعارَ الحجّاجِ والمعتمرين ، وعهداً لله يعلنونه عند بيته العتيق ، مِن لدن سيّد الأنبياء والمرسَلين إلى يومنا هذا ، وإلى ما يشاء الله تعالى ..

ولقد ثبت أنّ المصطفى e لزم هذه الصيغةَ من التلبية في حجّة الوداع ولم يخرج عنها ، بينما أثر عن بعض الصحابة y صيغ أخرى من التلبية ، مشابهة لها ، وزيادة عليها ، فأقرّهم النبيّ e عليها ، ولم ينكرها عليهم ..

وفي التلبية تتكرّر كلمة : " لبّيك " أربع مرّات ، أفهذا تكرار جاء للتوكيد ، أم أنّه مقصود مَحسوب ، وله في كلّ مرّة معنى جديد .؟ وما حقيقة هذه التلبية .؟ وماذا يحمل هذا التكرار منْ معانٍ ، تحت هذا النشيد الإيمانيّ العذب .؟!

وبالرجوع إلى المعاني اللغويّة التي يشملها فعل " لبّى " نجد أنّه يحمل جملة من المعاني الجميلة ، يشير إليها ، ويعبّر عنها ، وكلّها متّصلة متقاربة :

1 ـ فهو منْ لبّ بالمكان وألبّ أي : أقام به ، وألبّ على كذا إذا لزمه ولم يفارقه ، فإذا دعا الرجل صاحبه أجابه : " لبّيك " أي أنا مقيم عندك ، ثمّ وكّد ذلك : " بلبّيك " أي إقامة بعد إقامة ، ولم تستعمل " لبّيك " إلاّ بمعنى التكرار ، لأنّها في الأصل مثنّى أضيف إلى كاف الخطاب : أي إجابةً لك يا ربّ بعد إجابة ، وإقامةً على أمرك ، ومَا يرضيك بلا مفارقة .

2 ـ وهو بمعنى الاتّجاه والقصد ، من قولهم : داري تلبّ دارك ، أي تواجهها ، والمعنى على ذَلك في التلبية واضح ، أي أنا مواجهك بما تحبّ ، إجابة لك ورغبة ، فهو يعبّر عن وحدة التوجّه وصدقه وقربه .

3 ـ وهو بمعنى إخلاصي لك يا ربّ .! من قولهم : حَسَبٌ لُبَابٌ ، أي خالصٌ محْض ، ومنه اللبّ من كلّ شيء وهو خالصه وما ينتقى منه ، ولذلك سمّي العقْل لبّاً ، ورجل لبيب أي عاقل ، وخالص كلّ شيء لبابه .

4 ـ وهو بمعنى محبّتي لك يا ربّ .! وشوقي وودّي ، من قولهم : امرأة لَبّة ، إذا كانت محبّة لولدها ، عاطفة عليه ودودة ، ومحبّة لزوجها ثابتة على ودّه أبداً .

وقال بعض العرب : " لَبَّي يديك " بمعنى أطيعك ، وأتصرّف بإرادتك ، وأكون كالشيء الذي تصرّفه بيديك كيف شئت ..

فلبّيكَ اللهمّ ! لبّيك ! توحيداً خالصاً من كلّ شائبة من شوائب الشرك ما علمنا منها ، وما لم نعلم ..

ولبّيكَ اللهمّ ! طاعة واستجابة ، وعبوديّة تامّة ، خالصة من نزغات الهوى ، وشوائب العصيان .!

ولبّيكَ اللهمّ ! بكياننا كلّه : ذكراً وشكراً ، وحبّاً وشَوقاً ، ورغباً ورهباً ..

ولبّيكَ اللهمّ ! عهداً وولاءً .! وتوبة وإنابة ، ألاّ نحيدَ عن طاعتك .. وألاّ نخرج عن إجابة دعوتك ، والاستجابة لدينك ..

ولبّيكَ اللهمّ ! لا حول لنا إلاّ بحولك ، ولا قوّة لنا على طاعتك إلاّ بك .! تبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك .

 

      

* حقائق تربويّة في مشاعر الحجّ ومناسكه

 

 

إنّ لكلّ ركن من أركان الإسلام من الحقائق والأبعاد ما يجعل المؤمن المتدبّر ، الباحثَ المتفكّرَ يقف أمام عظمة الإسلام مشدوهاً ، لا ينقضي عجبه وانبهاره بهذا الدين العظيم ، حتّى يبدأ من جديد .. ثمّ لا يكاد يبدأ انبهاره مرّة أخرى حتّى يتعاظم من جديد ويتنامى ، ويتبدّى له منها جديد بعد جديد ، وكأنّه لم يعرف هذه الحقائق من قبل ، ولم يألفها ..

وكان حَسبُ الإنسان إذا أراد صلاح حياته وسعادته ، ورشْدَه وهدايته أنْ يكلّف بركن واحدٍ من هذه الأركان ، وهي تحمل له هذا الخير كلّه ، فكيف وقد منّ الله تعالى عليْه بهذه الأركان كلّها ، وأكرمه بما فيها من نفحات وأنوار ، وبركات وأسرار .؟! ثمّ العجب الذي لا ينقضي من حاله أنْ يلهث وراء السعادة في غير دين الله واتّباع منهجه ..

وإنّ كلّ عبادة من العبادات لهي أشبه بمائدةٍ منْ موائد الكرَم الإلهيّ ، قد مدّها الله تعالى لعباده ، ودعاهم إليها ، فكلٌّ ينال منها على قدر صدقه وإخلاصه ، وعزيمته واجتهاده ، وعطاء الله تعالى لا ينفد ولا يغيض : { كلاًّ نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك ، وما كان عطاء ربّكَ محظوراً (20) } الإسراء .

فلنقف عند بعض هذه الحقائق والمعاني ، التي يريد الله لنا أن نتربّى عليها ، وتنغرس في كياننا الذاتيّ ، وحياتنا الاجتماعيّة وعلاقاتنا ، ونحن نقرّر سلفاً أنّنا لا نملك إلاّ فكر المخلّ ، وجهد المقلّ ، ولكنّ القليل من رشفات الحقّ يحيي موات القلوب ، ويردّ غلّة المسغوب ، ولعلّ ما غفلت عنْه قد يكون أهمّ ممّا التفت إليه وذكرت ، وفوق كلّ ذي علمٍ عليم ، وسبحانك اللهمّ لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا ، إنّك أنت العليم الحكيم .

1 ـ ففي الحجّ ما يذكّر بالبعث والنشور : فثياب الناس البيضاء أشبه بأكفان الموتى ، وخروج الناس إلى عرفات أشبه بورودهم إلى أرض المحشر ، واشتغال كلّ امرئ بنفسه يذكّر بحال الناس في ذلك اليوم الرهيب : { يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) } عبس .

2 ـ وفي الحجّ : آيات بيّنَات ، ودروس نافعات ، وعظات بالغات ، تصل الحاضر بالماضي ، وتربط المؤمن بقافلة الإيمان الضاربة جذورَها في أعماق التاريخ الإنسانيّ ، فتجعل الماضي البعيد حاضراً مشهوداً ، ممّا يزيد المؤمن إيماناً ، ويملأ التقيّ خشية وشهوداً .

3 ـ وفي الحجّ : تتجلّى المساواة الإنسانيّة ، وهي في مبادئ الإسلام حقيقة من أجلى حقائقه ، لا تقبل الجدل أو المماراة : ولا تزال البشريّة تتطلّع إلى هذا الأفق السامي الذي بلغته أمّة الإسلام بمبادئ دينها ، فلا تقدر عليه ولا تستطيعه ، ولا تقاربه ولا تدانيه ، وهيهات لها ذلك ! لأنّها تريده بمنَاهج مبتوتة عن هداية الله ، أو أنّها تريده ممزوجاً بأهوائها ونزواتها كشأنها في كلّ ما تسعى وتريد ..

4 ـ وفي الحجّ : تربية للمؤمن على التأسّي بالنبيّ في أقواله وأفعاله وأحواله ، والحرص على دقّة الاتّباع ، يقول الله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، وذكر الله كثيراً (21) } الأحزاب ، وعندما حجّ النبيّ e قال لأصحابه وأمّته كلّها : ( خذوا عنّي مناسككم ) ([59]) ، ولقد أصبح كلّ مؤمن يخشى الله تعالى ويتّقيه يحرص على أن يترسّم هدي نبيّه t في كلّ شأن من شئون حجّه ومناسكه ، وذلك ما ينعكس على حياته كلّها بالخير والتوفيق والسداد .

5 ـ وفي الحجّ : يتجلّى وضوح الهدف في الحياة ، وهذا ما نلاحظه في التوجيه القرآنيّ في آيات الحجّ ، إذ يقول الله تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ (202) } البقرة .

ويقول سبحانه : { قُلْ : إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِين (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (163) } الأنعام .

وما أكثر الذين يخسرون آخِرتَهم ، لأنّهم عاشوا هذه الحياة ، ولا وضوح لهم في شيءٍ مِن أهدافها ومقاصدها ، فعاشوا لا يعرفون إلاّ اللهو واللعب ، وانقضت أعمارهم على ذلك ، وتناولهم وعيد الله تعالى في قوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } المؤمنون .

6 ـ وفي الحجّ : تتجلّى وحدة الأمّة ، ووحدة الهدَف والغاية ، وهو ما عبّر عنه النبيّ e في خطبَة حجّة الوداع فقال e : ( يا أيّها الناس ! إنّ ربّكم واحد ، وإنّ أباكم وَاحد .. ) .

7 ـ وفي الحجّ : دعوة جمَاعيّة عامّة إلى دين الله تعالى ، فمظهر الأمّة وهي تؤدّي المناسك بهذه الصورَة الجماعيّة التي يسودها الودّ والرحمة تفتقده الإنسانيّة في مجتمعاتها المعاصرةَ وعلاقاتها ، ولم تستطع الوصول إليه على الرغم ممّا ملكت من وسائل العلم والتقدّم المادّيّ .. وهذا المظهر يحمل رسالة الإسلام إلى الإنسانيّة كلّها .. وإنّ الناظر إلى الأمّة في حجّها يحسّ ـ كما عبّر بعض الغربيّين الذين أسلموا ـ أنّ السعادة تشعّ من كيانها الذاتيّ وداخلها ، فلا يملك نفسه إلاّ أن يتأثّر بها ، ولكنّ المخذول من خذله الله .

8 ـ وفي الحجّ : تؤجّج ذكريات المكان الحبَّ وتزيد الإيمان ، ففي كلّ بقعة من أرض المشاعر ذكرى كريمة من أنبياء الله ورسله الكرام عليهم الصلاة والسلام ، وبخاصّة من أبي الأنبياء إبراهيم الخليل e ، ثمّ خاتمهم سيّدنا محمّد e ، ممّا يحمل المؤمن على الحرص على التأسّي ، والطاعة والاتّباع ، وهذه الذكريات تثبّت قلوب المؤمنين ، وتزيدهم إيماناً ويقيناً ، وتؤجّج الحبّ والشوق العارم ، لزيارة هذه البقاع الطاهرة ، وأداء ّ المناسك لله .

9 ـ وفي الحجّ : تمحو بوتقة الإيمان وحقائقُ الإسلام الفوارق المصطنعة الكاذبة بين الناس ، ويتجلّى تساوي الناس في المسئوليّة والجزاء : ( فلا فضل لعربيٍّ على أعجميّ ، ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى ) إنّها حقيقة تتجسّد واقعاً يحسّه الناس ويعيشونه ، فيدفعهم إلى مراجعة مفاهيمهم وسلوكهم ومواقفهم .. وهو مبدأ التغيير في حياتهم ..

10 ـ وفي الحجّ : يتّصل بِرّ الحجّ ببِرّ الحياة : فالحجّ أشبه بالمادّة المكثّفة التي يتجمّع في كميّة قليلة منها ما يتفرّق في كمّ هائل .. وعندما يعيش المؤمن هذه المدّة ولو كانت وجيزة في جوّه ورحابه ، ويصطبغ به بمشاعره وكيانه كلّه ، تتّصل موجات برّ الحجّ وبركاته مع تجاوب النفس واستجابة مشاعرها ببرّ الإنسان في الحياة الاجتماعيّة ، وحسنِ سيرتِه ، ومن ثمّ فلا عجب أن يعود المؤمن خيراً ممّا كان عليه قبل الحجّ ، وهذا معيار الحجِّ المبرور وأهمّ مقاييسه .

11 ـ وفي الحجّ : تصطبغ الحياة بصبغة الاستسلام لله تعالى في كلّ شيء : وتتجلّى في كلّ شأن من شئون الحاجّ وسلوكه ؛ فالمواقيت تعلّمه أنّ لكلّ شيء حدّه الشرعيّ وميقاته ، وثياب الإحرام تخرجه عن عاداته في اللباس ، ومحظورات الإحرام تضبط سلوكه في ليله ونهاره ، والطواف حول البيت ، والسعي بين الصفا والمروة يعلّمه الوقوف الصادق بباب العبوديّة لله تعالى راغباً راهباً ، خائفاً راجياً ، وهكذا في كلّ شعيرة ونسك ..

12 ـ وفي الحجّ : يتجلّى الأمن الذي يحقّقه الإسلام للناس ، بأروع صوره وحقائقه فحرم الله آمن ، وعباد الله في رحابه آمنون ، وحتّى الحيوان والنبات يشملها أمن المكان والمُحرمين ، والمؤمن حياته كلّها مشتقّة من الأمن .. ممّا يطبع المؤمن على حبّ الأمن والسلام ، والحرص على تحقيقه في حياته وعلاقاته ، ويعلّمنا أنّ الأمن والسلام لا يكونان ولا يتحقّقان إلاّ في ظلّ دين الله وشرعه .

13 ـ وفي الحجّ : يصبح وفد الله على اختلاف فئاتهم ، وتنوّع ثقافاتهم ، وتباعد أقطارهم ، رسلاً للدعوة إلى دين الله تعالى ، وحمل رسالة الحقّ والهدى إلى العالمين : { ومَن أحسنُ قولاً ممّن دَعَا إلى اللهِ وعَمِلَ صَالحاً ، وقالَ : إنّني من المسلمين (33) } فصّلت .

14 ـ وفي الحجّ : لقاء الوحدة التعارف ، والتواصل والتآلف بين المؤمنين على اختلاف ألوانهم ، وتباعد أقطارهم تحقيقاً ، لقول الله تعالى : { .. وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا .. } الحجرات . والتعارف والتآلف مفتاح كلّ خير في حياة الأمّة ، وما فقدت الأمّة عزّتها ، وطمع بها عدوُّها إلاّ عندما تفرّقت كلمتها ، وتمزّقت وحدتها ، وتدابر أبناؤها ، ولعبت الأهواء بعقول رجالها ، ففقدت التعارف والتآلف ، وحلّت بينها العداوة والبغضاء والتدابر محلّ المودّة والوئام ، ففشا الضعف والخور في الأمّة ، وأصبحت غنيمة باردة لأعدائها ، فلم يجدوا من أكثر أبنائها مقاومة تذكر ، بل وجدوا من بعضهم طاعةً عمياء ، وتبعيّة وولاء ، حتّى كانوا عوناً لأعداء الأمّة على أخيارها وصالحيها ..!

15 ـ وفي الحجّ : دورة تعليميّة لكلّ مؤمن ومؤمنة ، تزيدهم علماً بدين الله تعالى وفهماً ، وبصيرة بواقع الأمّة ووعياً ، وفيه يتهيّأ للمؤمن أن يلتقي رجالاً من أهل العلم والفضل من شتّى أرجاء العالم الإسلاميّ المتباعدة ، فيتعرّف عليهم ويجالسهم ، ويتعلمّ منهم ، وينتفع بصحبتهم ممّا لا يتهيّأ له في سنين متطاولة ، وفي لقاء المؤمن بأهل العلم والفضل ما ينير قلبه ، ويشدّ أزره ، ويثبّت فؤاده على الحقّ والهدى .

وبعد ؛ فما أحوجَنا أن نتعلّم هذه الدروس التربويّة وغيرها وغيرها .. ونحن نؤدّي مناسك الحجّ والعمرة .! وما أحوجَنا أن تتمثّل في حياتنا العمليّة وسلوكنا ، وعلاقاتنا الاجتماعيّة وصلاتنا ، فنعود من أداء هذه الفريضة خيراً ممّا ذهبنا ، ونقطف الثمرات المباركة ، التي أرادها الله تعالى لنا .

اللهمّ إنّك سألتنا من أنفسنا ما لا نملكه إلاّ بك ، فأعطنا اللهمّ منها ما يرضيك عنّا .

وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ونبيّه سيّدنا محمّد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله ربّ العالمين .

 

      

من ثمرات الحجّ المبرور وبركاته

 

إنّ أداء هذا الركن الإسلاميّ العظيم ، يجب أن يكون نقطة تحوّل في حياة المؤمن ، يزداد به خيراً ، وتقىً وصلاحاً ، وإنّ المحروم من الخير كلّ الحرمان ، من كان همّه من الحجّ أن يقال : حجّ فلان .. أو أن يتباهى بالزينة والمظاهر الفارغة التي لا تغني عن الحقّ شيئاً ..

ولقد ختم الله تعالى الحديث عن الحجّ بقوله سبحانه : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ، وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ، وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ (202) } البقرة .

فبيّن سبحانه حال الحجّاج الذين يَفوزون بفضل الله ورحمته ، ومغفرته وقبوله :

ـ إنّهم الذين جمعوا بين خيري الدنيا والآخرة ، تحقيقاً لمنهج الله ودينه ، الذي يجعل الإنسان مستخلفاً في الأرض بمنهج الله ، ليعمرها وفق هديه ، وحدود تكليفه .

ـ إنّهم الذين تقوم حياتهم على التوازن والاعتدال في كلّ شأن ، فلا يطغى فيها جانب على آخر ، حتّى ولو كان أمر الآخرة : { وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنسَ نصيبَك من الدنيا .. } ، ( إنّ لعينك عليك حقّاً ، ولزوجك عليك حقّاً ، فأعطِ كلّ ذي حقٍّ حقّه ) .

ـ إنّهم الذين يعملون في الدنيا ، ولكنّ قلوبهم متعلّقة بالآخرة ، وما أعدّ الله فيها لعباده المؤمنين من المغفرة والتكريم ، فلم يغترّوا بمظاهر الدنيا الفارغة ، ولم تشغلهم عن ذكر الله والاستعداد للآخرة .

فعش أخي المؤمن ما تستقبل من حياتك ، في ظلّ ما أدّيت من مناسك الحجّ ومشاعره ومناسكه ؛ عش في ظلّ الطواف حول الكعبة ، وقلبك عاكف حول عرش ربّك ، وذكرى السعي بين الصفا والمروة ، فارّاً إلى الله من ذنوبك ، وفي ضراعة عرفات ، وأنت تستشعر ذلّك بين يدي ربّك واضطرارك ، وانكسارك وافتقارك ، وأنت تذكر إسرافك على نفسك ، وتفريطك في جنب الله ، وتذرف دموع الندم والتوبة ، وعش مع ذكريات مبيتك في منى ورمي الجمرات ، وتذكّر ما قطعت على نفسك من عهدٍ مع الله مراراً وتكراراً ، وأنت تقول : " لبّيك اللهمّ لبّيك .. " فقد أعلنت إجابة الله وطاعته ، إجابة متكرّرة ، دائمة مستمرّة ، فلا تكذّب نفسك اليوم ، فيما عاهدت عليه ربّك بالأمس .. تذكّر الطواف واستلام الحجر باليد أو بالإشارة ، فإنّ ذلك عقد مع الله ومبايعة ، وقد روي عن النبيّ e أنّه قال : ( الركنُ يمينُ اللهِ عزّ وجلّ ، يُصافِحُ بها خلقَه ) ([60]) ، فمن استلمه بحقّ كان له عند الله عهد ، فلا تنكث البيعة ، ولا تنقض العهد : { .. فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً (10) } الفتح .

وحُضّ الناس على أداء فريضة الحجّ ، وشوّقهم إليه ، ورغّبهم بثواب الله تعالى ، وعظيم فضله ، وهوّن عليهم ما يتوهّمونه من المصاعب ، ولاسيّما الشباب ، فإنّ الحجّ صيانة لهم ، وعصمة لدينهم ، تنل أجر من يحجّ بدعوتك ، أو ينتفع بتوجيهك ، كما قال النبيّ e : ( مَن دَلّ على خَيرٍ فله مِثلُ أجرِ فاعِلِه ) ([61]) .

أخي المؤمن الحاجّ .! هذا هو المقياس الصحيح للحجّ المبرور ، وتلك مظاهره ، فمن أراد أن يطمئنّ لقبول حجّه ، فليكن أثر الحجّ في قلبه أن يزيد اهتمامه بآخرته ، وأن يزداد بحجّه استقامة وتقوى ، فإنّ علامة الحجّ المبرور : أن يرجع الحاجّ خيراً ممّا كان عليه ، فذلك من علامات القبول والرضا : { إنّما يتقبّل اللهُ من المتّقين } المائدة .

اللهمّ اجعله حجّاً مبروراً ، وسعياً مشكوراً ، وذنباً مغفوراً ، وعملاً مقبولاً ، وتجارة لن تبور ، برحمتك يا أرحم الراحمين .

 

 

      

 

 

* أثر السيرة النبويّة

في تربية الفرد وبناء الأمّة (1)

 

قال والد مربّ لولده : ها أنت يا بنيّ كالزهرة المتفتّحة في روضة الربيع ، تشدو البلابل على أغصانها ، وتقبل عليها الفراشات تتراقص بجوارها ، وتأتيها النحلة ترشف من رحيقها ، ويتمتّع الإنسان ببديع ألوانها ، وعبق طيبها .. تقبل عليك الحياة كما تقبل العروس بأبهى حلّتها وأكرم بهجتها إلى عروسها ، فربّما التبست عليك المسالك ، وحار بصرك بين الموارد ، فإذا أردت الرشد في العقل ، والسداد في العمل ، وتمييز الحقّ من الباطل ، والصواب من الخطأ ، والتوفيق في جميع ما تُقدم عليه أو تحجم ، فاجعل من نبيّك المصطفى e ، ورسولك المجتبى أسوة لك في كلّ شأن .. فالتمس هديه ، وتعرّف على سنّته ، واحرص على أن تترسّم خطاه ، تكن مهديّاً راشداً ، مؤيّداً مسدّداً .. وتنل من رضوانك ربّك في الآخرة ما يجعلك في فراديس الجنان في صحبة المصطفى e ، فالنبيّ e هو الأسوة العظمى للمؤمنين في كلّ شأن من شئون الحياة .. فإذا كنت طفلاً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، فانظر إلى طفولة النبيّ e كيف كانت سامية عن الدنايا ، تبدو على صاحبها علائم النجابة وسُموّ الهمّة .

وإذا كنت يتيماً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، كيف كانت حياة هذا اليتيم مدعاة لعطف كلّ منْ عرفه ، فأحبّه وحرص على أن يتقدّم له بكلّ خير ..

وإذا كنت شابّاً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، كيف كانت حياة هذا الشابّ بعيدة عن أيّ صبوة من صبوات الشباب ونزواتهم ، وكيف كان e نموذجاً للشابّ العفّ الكريم ، ذي المروءة والشهامة ، التي جَعَلَت حكماء الرجال يحتكمون إليه ، ويجلّونه ..

وإذا كنت زوجاً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، كيف كان e زوجاً ودوداً وفيّاً ، يتواضع لنسائه ، ويرفق بأزواجه ، ويعدل بينهنّ ، ويداعبهنّ ويُمازحهنّ ، ويعينهنّ فيما يقمن به من خدمة ..

وإذا كنت أباً مُربّياً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، كيف كانت تربيته e هي التربية المثلى لأولاده ، ولأولاد أولاده ، ولأصحابه ، ولكلّ من اتّصل به بأيّ سبب ، وكان بالمؤمنين  رءوفاً رحيماً ، وكان له من أساليب التربية الفاعلة المؤثّرة ما لم يعرفه أحد في مثل عصرِه .!

وإذا كنت ملكاً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، الذي لم يكن رسولاً ملكاً ، وإنما كانَ رسولاً عبداً باخْتياره ورغبته ، ملك القلوب ، ودانت لعظمة شخصيّته رقاب العظماء ، ووقف ببابه الأمراء والكبراء ، ومع ذلك فلم يُر إلاّ خاشع القلب متواضعاً قد وهب نفسه ووقته لكلّ فرد من أمّته ..

وإذا كنت مديراً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، كيف كان يدير شئون الناس بالرفق والرحمة ، يرحم الغافل ، ويرفق بالجاهل ، ويعطِ كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا يرضى أن يظلم تحت رعايته أحد ..

وإذا كنت قائداً منتصراً وفاتحاً غالباً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، كيف لم يحمله انتصاره على أعدائه في مواطن كثيرة على أن ينتقم من أعدائه ، وينكّل بخصومه ، وإنّما كانت رحمته هي الغالبة ، وعفوه عند المقدرة هو الخليقة التي حكمت علاقته بخصومه وأعدائه ، حتّى استلّ من قلوبهم سخائم الحسد والحقد ، وأقبلوا إلى دينه ودعوته مسلمين مستجيبين ..

وإذا كنت قائداً مهزوماً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، كيف لم تلن له قناة ، ولم تهن قوّته ، أو تضعف عزيمته ، وإنّما كان رابط الجأش ، عظيم الثقة بالله تعالى ، والتوكّل عليه ، كثير الضراعة ، والتذلّل بين يدي ربّه ، كما كان شأنه كذلك في انتصاره وتمكّنه ..

وإذا كنت تاجراً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، كيف كان تاجراً بمال خديجة رضي الله عنها أميناً صادقاً ، وكيف مارس التجارة بعد نبوّته في مواقف مختلفة ، فكان كريماً سمحاً ، يجعل التجارة باباً من أبواب نصرة دينه ، ونشر دعوته ..

وإذا كنت غنيّاً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، يوم كانت تأتيه الأموال الكثيرة ، التي كان يسعه أن يختصّ بها أزواجه وأهله ، فيقسمها بين أصحابه ، ويؤثرهم بها على نفسه وأهله .. ويوم أعطى المؤلّفة قلوبهم من الأموال ما لا تطيب به نفوس الملوك ، ولا تقدر عليه .. ويوم كان حاله في فقره ، لا يختلف عن حاله في غناه ، لأنّه e علّمنا أنّ حقيقة الغنى هو غنى النفس ، وأنّ عفّة النفس أكرم صفات المؤمن وأعزّها ..

وإذا كنت عاملاً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، إذ كان e يحبّ العمل ، ويحثّ عليه ، ويدعو أمّته إلى إتقانه ، ويعمل مع أصحابه ولا يتميّز عنهم ..

وإذا كنت فقيراً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، يوم كان يجوع e فيعصب على بطنه الحجر والحجرين من شدّة الجوع ، ويطوي على الجوع ثلاثة أيّام صابراً محتسباً ، لا يذوق فيها شيئاً ، ويحمل أزواجه الكريمات على مثل زهده في الدنيا والتقلّل منها ..

وإذا كنت طالباً متعلّماً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، كيف كان عندما يتعلّم من جبريل عليه السلام ، ويتلقّى عنه ، يقبل عليه بكلّيّته ، وينصت إليه بمسامع قلبه ، وكيف كان ينصت لمشورة أصحابه ، ويتفهّم آراءهم ، وربّما أخذ ببعضها دون أن يجد في نفسه غضاضة أو حرجاً ..

وإذا كنت معلّماً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، فانظر إلى رفق النبيّ e في تعليمه ، وصبره على جهل الجاهل ، وجفوة الأعراب .. وانظر إلى ترغيبه في العلم ، وحثّه عليه ، وتشجيعه على الاستزادة منه .. وانظر إلى أساليبه في التعليم ، كيف فاقت أساليب عصره ، بل أتى e بأساليب في التربية والتعليم لم يعرفها الناس إلاّ في العصر الحديث ..

وإذا كنت خطيباً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، فانظر كيف كان النبيّ e يؤثر بليغ القول وجوامعه ، ويوجز في خطبته ، ويجمع فيها حقائق الدين ومبادئه ، ولا يطيل على الناس ولا يملّهم ، ولا يذكر أحداً ولا يعَيّنه ..

وإذا كنت مذكّراً واعظاً ، فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، فقد كان e الناصح الأمين ، والمرشد المبين ، يتخوّل أصحابه بالموعظة بين الحين والآخر كراهة السآمة عليهم ، ولا يكثر عليهم ، يجلّي لهم الحقائق ، ويضرب لهم الأمثال ، وكانت مواعظه تؤثّر في القلوب ، وتذرف منها العيون ، فيستجيب لها السعداء ، وتزيدهم هدىً إلى هداهم .

وإذا كنت قاضياً فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، فقد كان e يحرص على الصلح بين المتخاصمين ، ويطلب البيّنة ، ويتحرّى الحقّ ، ويحكم بالعدل ، ويحذّر من شهادة الزور وقول الزور .

وإذا كنت آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، فلتكن رحيماً رفيقاً ، واعياً حكيماً ، بعيداً عن الغلظة والتعنيف ، والاتّهام وسوء الظنّ ..

وإذا كنت داعياً إلى الله مرشداً ، فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، إذْ كان مبشّراً للمؤمنين ، ومنذراً للكافرين ، حريصاً على هداية الناس أجمعين ، صابراً على أذى الخلق ابتغاء وجه الخالق ، يتجاوز عن جفوة ذي الغلظة ، ويدعو له بالهداية ..

وإذا كنت عابداً لله متبتّلاً ، فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، إذْ كان يقوم من الليل حتّى تورّمت قدماه ، وعندما قيل له : أتفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ، قال : ( أفلا أكون عبداً شكوراً .؟! ) ، وكان يصوم حتّى يقول أهله : لا يفطر ، ويفطر حتّى يقولوا : لا يصوم ، وكان e في كلّ باب من أبواب العبادة لا يدرك شأوه أحد ، وكان ينهى عن التنطّع في الدين والغلوّ ، ويدعو أمّـته إلى التوسّط والاعتدال ، وألاّ يحمّلوا أنفسهم من العمل إلاّ ما يطيقون ..

وإذا كنت مدبّراً لشئون الدنيا فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، إذ كان e يحبّ إتقان العمل وإحسانه ، ويعدّ ذلك عبادة لله تعالى وقربة ، وكان يدعو بسنّته وسيرته إلى الأخذ بالأسباب وإحكامها ، والاجتهاد في عمارة الأرض وابتغاء طيّب الرزق ، ويرشد أمّته إلى ما فيه صلاح دينها ودنياها ..

وإذا كنت مقيماً لعلاقات اجتماعيّة بين الناس ، ومجالساً أو مصاحباً ، فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، إذ كان e يكرم جليسه ويؤثره ، ويقبل عليه بوجهه وحديثه ، حتّى يظنّ أنّه آثر الناس عنده ، ويؤلّف أصحابه ولا ينفرّهم ، ويعينهم فيما هم فيه ، ولا يتميّز على أحد منهم ..

وأيّاً من كنت ، وفي أيّ موقع من مواقع الحياة حللت ، وكيف أصبحت أو أمسيت ، وعلى أيّ حال بتّ أو أضحيت ، فلك في رسول الله e أسوة حسنة ، وقدوة مثلى ، تضيء لك بنورها ظلمات الحياة ، وتخرجك من متاهات الحيرة والضياع ، ولن تستطيع أن تجد في غير حياة المصطفى e ما يغنيك أو يجديك .. وانظر رعاك الله كم أصلحت حياته المباركة ، وسيرته الشريفة العطرة ، وهديه الممدود بوحي السماء ، ونور الله المبين : من حياة أمم وشعوب ، وأخرج الله بها أناساً من الظلمات إلى النور ، ومن الضلالة والعمى ، إلى الخير والهدى ، منذ أوّل البعثة النبويّة المباركة ، إلى يوم الناس هذا ، ومن مشرق الأرض إلى مغربها .!؟ وإلى ما شاء الله تعالى وأراد ..

وقلّب النظر والمقارنة تارة أخرى فهل ترى إنساناً آخر غير المصطفى e كان له مثل هذا التأثير ، أو عشره ، أو عشر عشره .. وصدق الله العظيم ، ومن أصدق من الله قيلاً : ] هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) .. ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) [ الجمعة .

 

      

 

* أثر السيرة النبويّة في تربية الفرد وبناء الأمّة (2)

 

إنّ عظمة العظماء في جميع منابتها تقوم على أسس هي أسباب لها ، كما ينبت جذع الشجرة من الجذور ، وبحسب ما يكون في تلك الأسس والأسباب من كثرة وقوّة ، تكون قيمة العظمة وشأنها وخلودها ، كالجَذع تكون قوّته وضخامته ، وثباته في وجه الرياح والأعاصير ورسوخه بقدر ما لجذوره من كثرةٍ تُغذّيه ، وقوّةٍ تحميه . هذا وأهمّ أسباب العظمة الحقيقيّة أربع :

1 ـ الصفات النفسيّة والأخلاق الشخصية .

2 ـ عظمة المبادئ والأعمال التي أتى بها .

3 ـ قوّته وكفايته ونجاحه في تنفيذ المبادئ التي أتى بها .

4 ـ مدى نجاحه في تكوين جيل قياديّ صالح ، مؤهّل لحمل المسئوليّة ، والمحافظة على المبادئ ، ومتابعة تنفيذها .

وقد جمع الله هذه الأسباب الأربعة للعظمة الحقيقيّة في شخص النبيّ e على أكمل صورة وأوفاها ، وأجلّها وأعلاها ، إذ تحقّقت فيها ثلاثة جوانب : شمولها واستيفائها ، وكمالها وسموّها ، ووضعها في مواضعها ، ومن ثمّ فقد وصفت أخلاق النبيّ e بقول الله تعالى :  ]وَإنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) [ القلم .

ولا توصف الأخلاق بالعظمة إذا اختلّ ركن من هذه الأركان الثلاثة ، فالشجاعة صفة كريمة مرغوبة ، ولكنّها عندما توضع في غير موضعها ، أو تكون في الإنسان في أمر دون آخر ، لا توصف بكمال ولا عظمة ..

والرحمة صفة كريمة مرغوبة ، ولكنّها عندما يعامل بها المجرم الآثم ، أو الباغي الظالم لا تقلّ شناعة عن البغي والظلم ، بل قد تكون سبباً لنشر الشرّ في الأرض .. وقس على ذلك بقيّة الأخلاق والصفات ..

ولقد شبّ رسول الله e محفوظاً من الله تعالى ، بعيداً عن أدناس الجاهليّة وعاداتها ، فكان أفضل قومه مروءة ، وأحسنهم خلقاً ، وأشدّهم حياءً ، وأصدقهم حديثاً ، وأعظمهم أمانة ، وأسماهم في اتّزان شخصيّته ، ونبل صفاته ، وأبعدهم عن الفحش والبذاءة ، حتّى أسموه في قومه : " الأمين " ، قد عصمه الله تعالى من أن يتورّط فيما لا يليق بشأنه ، من عادات الجاهليّة ، وما لا يرون به بأساً ، ولا يرفعون له رأساً ، وكان يصل الرحم ، ويحمل ما يثقل كواهل الناس ، مكرماً للضيف ، عوناً للضعيف ، يأكل من كدّه وعمله ، ويعفّ عمّا في أيدي الناس ، ويقنع بقوته . * وكان من أجمع ما وصف به e من الشمائل :

ـ أنّه e كان دائم البشر سهل الخلق ، ليّن الجانب ، ليس بفظّ ، ولا غليظ ، ولا صخّاب ، ولا فحّاش ، ولا عيّاب ، ولا مدّاح ، ولا يجزي بالسيّئة السيّئة ، ولكن يعفو ويصفح ، يتغافل عمّا لا يشتهي ، ولا يُقنط منه ، قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء ، والإكثار ، وما لا يعنيه ، وترك الناس من ثلاث : لا يذمّ أحداً ، ولا يعيّره ، ولا يطلب عورته .

ـ وكان e لا يتكلّم إلا فيما يرجو ثوابه ، وإذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير ، وإذا سكت تكلّموا ، لا يتنازعون عنده الحديث من تكلّم عنده أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم حديث أوّلهم ، يضحك مما يضحكون منه ، ويعجب مما يعجبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق ، ويقول : ( إذا رأيتم صاحب الحاجة فأرفدوه ) ، ولا يطلب الثناء إلاّ من مكافئ . هذا وقد تجلّى أثر السيرة النبويّة في تربية الفرد وبناء الأمّة في جوانب كثيرة أهمّها :

1 ـ قوّة الإيمان واليقين :

2 ـ الحبّ والتعظيم :

3 ـ الحرص على التأسّي والطاعة والاتّباع :

ولابدّ أنْ نرى أثر هذه النقاط من خلال علاقة الصحابة y بالنبيّ e ، ومواقف السيرة العطرة ، ونقدّم نماذج عنْ ذلك فيما يلي :

1 ـ قوّة الإيمان واليقين ، والثبات على الحقّ مهما اشتدّ الابتلاء : ومواقف السيرة النبويّة طافحة بنماذج ذلك من حياة النبيّ e وحياة أصحابه الكرام y ، فمن ذلك :

ـ موقف النبيّ e عندما هدّد المشركون عمّه أبا طالب : إن لم يكفّ النبيّ e عن دعوتهم إلى دينه ، وتسفيه دينهم ، وعيب آلهتهم ، أن يعلنوا له العداوة والحرب ، فقال e : ( والله ! يا عم لو وضعوا الشمسَ في يميني ، والقمر في يساري على أن أتركَ هذا الأمر ما تركته حتّى يظهره اللهُ ، أوْ أهلك دونه ) .

ـ موقفُ الصحابة في غزوة بدر :

وفي غزوة بدر عندما فوجئ الصحابة بالمعركة مع المشركين ، وقال لَهم النبيّ e : ( أشيروا عليّ أيّها الناس ! ) ، أجمعت كلمةُ المهاجرين والأنصار على المضيّ في طاعة الله ورسوله e دون تردّد أو تلكّؤ .. فجاءتهم بشائر النصر ، بأمداد من الملائكة يقودهم جبريل الأمين عليه السلام ..

ـ موقف زيد بن الدثنّة t عندما قدّم للقتل :

وعندما قدّم المشركون زيداً t للقتل في مكّة ، تقدّم منه أبو سفيان ، وكانَ مشركاً ، وقَال له : أنشدُك بالله يا زيد ! أتحبّ أنّ محمّداً مكانك نضرب عنقه ، وأنّك آمن في أهْلك .؟ فقالَ له : " والله ما أحبّ أنّ محمّداً تصيبه شوكة حيث هو ، وأنّي آمن في أهْلي " . فقالَ أبو سفيان : " والله ما رأيت أحداً يحبّ أحداً كحبّ أصحاب محمّدٍ محمّداً " .

ـ موقف ماعِز والغامديّة : جاء في الحديث الصحيحِ أن ماعز بن مالك الأسلمي t أتى رسول الله e فقال : " يا رسول الله ، إنّي ظلمت نفسي وزنيت ، وإني أريد أن تطهّرني " فردّه ، فلمّا كان من الغد أتاه فقال : يارسول الله إنّي قد زنيت "  فردّه الثانية ، فأرسل رسول الله e إلى قومه فقال : أتعلمون بعقله بأساً ، تنكرون منه شيئاً ؟ فقالوا : ما نعلمه إلا وفيَّ العقل من صالحينا فيما نرى ، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضاً فسأل عنه ، فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله ، فلما كانت الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم .

قال : فجاءت الغامدية فقالت : " يا رسول الله إني قد زنيت فطهّرني " وأنّه ردّها ، فلمّا كان من الغد قالت : يا رسول الله لم تردّني ؟ لعلّك أن تردّني كما رددت ماعزاً ، فوالله إنّي لحبلى . قال : إمّا لا ، فاذهبي حتّى تلدي . قال : فلمّا ولدت أتته بالصبيّ في خرقة فقالت : هذا قد ولدته . قال : فاذهبي فأرضعيه حتّى تطعميه ، فلمّا فطمته أتت بالصبيّ ، في يده كسرهة خبز ، فقالت : هذا يا نبيّ الله قد فطمته ، وقد أكل الطعام ، فدفع الصبيّ إلى رجل من المسلمين . ثمّ أمر فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها . فاستقبلها خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها ، فنضح الدم على وجه خالد فسبّها ، فسمع نبيّ الله سبّه إياها فقال : مهلاً ياخالد ، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " ، ثم أمر بها فصلَّى عليها ودفنت .

2 ـ الحبّ والتعظيم :

* ـ بعد غزوة أحد عاد المسلمون إلى المدينة فمرّوا بامرأة من بني دينار ، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله e ، فلمّا نُعوا لها ، قالت : فما فعل رسول الله e ؟ قالوا : خيراً يا أمّ فلان هو بحمد الله كما تحبّين ، قالت : أرونيه حتّى أنظر إليه ، فأشير لها إليه ، حتّى إذا رأته قالت : كلّ مصيبة بعدك جلل .

* ـ وحين رجع عثمان t من مكّة في صلح الحديبية قال له المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت ؟ فقال : بئسما ظننتم بي ، والذي نفسي بيده لو مكثت بها سنة  ورسول الله e مقيم بالحديبية ما طفت بها حتّى يطوف بها رسول الله e ، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت " .

* ـ ووصف عروة بن مسعود الثقفيّ أصحاب النبيّ e بقوله : أي قوم ! والله لقد وفدت على الملوك : على كسرى وقيصر والنجاشيّ ، والله ما رأيت ملكاً يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّداً ، والله ما تنخّم نخامة إلاّ وقعت في كفّ رجل منهم ، فدلك بها جلده ووجهه ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له .

* ـ وقدم أبو سفيان على رسول الله e المدينة ، ودخل على ابنته أمّ حبيبة زوج النبيّ e ، فلمّا ذهب ليجلس على فراش رسول الله e طوته عنه ، فقال : يا بنيّة ! ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عنّي .؟ قالت : بل هو فراش رسول الله e ، وأنت امرؤ نجس ، ولم أحبّ أن تجلس على فراش رسول الله e ، قال : والله لقد أصابك بعدي شرّ .

* ـ وبعد فتح مكّة همّ فضالة بن عمير أن يقتل رسول الله e وهو يطوف بالبيت ، فلمّا دنا منه قال له e : أي فضالة !؟ قال : نعم يا رسول الله ! فقال : ماذا كنت تحدّث به نفسك .؟! قال : لا شيء ! كنت أذكر الله ، فضحك النبيّ e ، ثمّ قال : أستغفر الله ، ثمّ وضع يده على صدره ، فسكن قلبه ، وكان فضالة يقول : والله ما رفع يده عن صدري حتّى ما خلق الله شيئاً أحبّ إليّ منه .

* ـ وعندما وجد الأنصار في أنفسهم بعد قسمة غنائم حنين ، جمعهم النبيّ e ، ثمّ قال لهم e : ( أوجدتم عليّ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا  تألّفت بها قوماً ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم .؟! )

( ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير ، وترجعون برسول الله e إلى رحالكم .؟! فوا الذي نفس محمّد بيده لما تنقلبون به خيرٌ ممّا ينقلبون به ، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً ووادياً ، وسلك الأنصار شعباً ووادياً لسلكت شعب الأنصار وواديها .. الأنصار شعار ، والناس دثار ، اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار ) .

فبكى القوم حتّى أخضلوا لحاهم ، وقالوا : رضينا برسول الله e قسماً وحظّاً .

3 ـ الحرص على التأسّي والاتّباع :

وكان من شدة طاعتهم له e أنه e نهى أهل المدينة عن كلام الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، فما كان من الناس إلا أن أطاعوه وأصبحت الدينة لهؤلاء كأنها مدينة الأموات ليس بها داع ولا مجيب . يقول كعب : ونهى رسول الله e عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، قال : فاجتنبنا الناس ، أو قال : تغيروا لنا ، حتى تنكرت لي نفس الأرض فما هي الأرض التي أعرف ، إلى أن قال : حتى إذا طال علي من جفوة المسلمين مشيت حتى نسورت جدار حائط أبي قتادة ـ وهو ابن عمي وأحب الناس إلي ـ فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام ، فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله ؟ فسكت ، فعدت فناشدته فسكت ، فعدت فناشدته فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيني ، ووليت حتى تسورت الجدار .

وكان من طاعته أيضاً وهو في موضع عتاب وجفوة أن رسولَ رسولِ الله e يأتيه ويقول له : إن رسول الله e يأمرك أن تعتزل امرأتك ، فقال أطلقها أم ماذا أفعل ؟ فقال : لا بل اعتزلها فلا تقربنها ، فقال لامرأته : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله من هذا الأمر .

وكان من حبه للرسول e وإيثاره على كل أحد في الدنيا ، أن ملك غسان يخطب وده ، ويستلحقة بنفسه ، وتلك محنة عظيمة في حال الجفوة والعتاب ولكنه يرفض ذلك ، قال : بينما أنا أمشي فيل سوق المدينة إذ نبطيٌّ من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدلني على كعب بن مالك ، فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جائني فدفع إلي كتاباً من ملك غسان ـ زكنت كاتباً فقرأته فإذا فيه : أما بعد : إنا قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك . فقلت حين قرأتها : وهذه أيضاً من البلاء ، فتيممت بها التنور فسجرتها .

ومن غرائب الطاعة وسرعة الانقياد ما حدث عند نزول النهي عن الخمر في مجلس شرب ، فعن أبي بريدة عن أبيه قال : بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلة ، إذ قمت حتى آتي رسول الله e فأسلم عليه ، وقد نزل تحريم الخمر : { ياأيها الذين آمنوا .... لعلكم تفلحون (90) } إلى قوله { فهل أنتم منتهون (91) } المائدة . قال : وبعض القوم شربته في يده شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ، ثم صبوا في باطيتهم فقالوا : انتهينا ربنا ! انتهينا ربنا .

وبعد ؛ فما أعظم الحقائق التي يجدها المربّي في رياض السيرة النبويّة ، يجد فيهَا حقائق الإسلام تتجَسّد في مواقف النبيّ e وشمائله وهديه ، وعلاقاته بأصحابه في جميع الأحوال ، وعلاقاته بأعدائه في السلم والحرب ، وهي خير مادّة لتنشئة الطفل على حُبّ الله ورسوله e ، والاعتزاز بالإسلام ومبادئه وأحكامه .

 

      

أطفالنا و الأسوة الحسنة

 

في الإنسان فطرة لا تقبل التحوير والتغيير ، وهي التطلّع إلى مَن يعجب بسلوكه ، ويتأسّى به ، يمنح ذلك أوّل ما يمنحه أمّه وأباه ، ثمّ كلّما كبر ونما ، وتعرّف على الناس من حولِه بحثَ بشكل فطريّ ، وبغير شعور منه عمّن يعجب به أكثر ، ويجد فيه أسوة له وقدوة ، تشبع نهمته ، وتبني كيانه ، وتحقّق له تطلّعاته ..

ومِن رحمة اللهِ بالإنسان أن حقّق له هذه النهمة الفطريّة والحاجة الضروريّة بما جعل له في سيرة الأنبياء والرسل وحياتهم عليهم الصلاة والسلام من أسوة حسنة ، وبخاصّة نبيّه محمّداً e ، سيّد الخلق ، وخاتم الأنبياء والرسل ، إذ جعله معصوماً عن الخطأِ ، منزّهاً عن اتّباع الهوى : ] وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى (4) [ النجم .

ويقول الله تعالى : ] لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ  لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (21) [ الأحزاب .

فهل عرفت الإنسانيّة فتىً أطهر سيرة ، وأزكى سريرة ، وأشرف نسباً ، وأكرم حسباً ، وأعظم خلقاً من محمّد بن عبد الله e .؟

لقد لقّبته قريش الأمينَ ، وأجمع على ذلك عقلاؤها ، ولو عَرَفَت أحد زعمائها بذلك لما ضنّت عليه بتلك الصفة ، واختصّت بها محمّداً e من دونه .

ووصفته زوجه العاقلة الحكيمة ، خديجة رضي الله عنها ، وقد عاشت معه خمس عشرة سنة قبل النبوّة ، خبرت خلالها شخصيّته وأخلاقه ، فقالت له أول عهده برسالة السماء ، وقد داخله الخوف مما جرى معه : " كلا ! والله لا يخزيك الله أبداً ؛ إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكلّ ، وتقري الضيف ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الحقّ " .

وكان e يعفو عمّن ظلمه ، ويصل من قطعه ، ويعطي من حرمه ، ولم يكن يغضب لنفسه ، ولا ينتصر لها ، وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله ، فإذا انتهكت حرمات الله تعالى لم يقم لغضبه شيء .

ولقد أوذي e في الله تعالى أشدّ الإيذاء ، فلم يدع على قومه ، ولم يتطلّع إلى الانتقام منهم ، وإنما كان يقول : ( اللهمّ اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون ) .

وعندما ناله e منهم أشدّ الأذى عُرض عليه عذابهم وهلاكهم ، فقال : ( لا ، بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ، لا يشرك به شيئاً ) .

إنّه e أعظم إنسان لبس جلباب العبوديّة لله تعالى ، ونعم بأكرم مراتبها ، قد شغف قلبه الشريف بعبادة ربّه ، والاستغراق في مناجاته وذكره ، فكان يجتهد في التعبّد عبادة خشوع وخضوع ، وخشية ودموع ، وإخلاص في التوجّه إلى الله تعالى وابتغاء مرضاته ، قام من الليل حتّى تفطّرت قدماه ، وعندما قيل له : أتفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر .؟! قال : أفلا أكون عبداً شكوراً .. ولم يمنعه اجتهاده في العبادة من أن يكون مبادراً إلى كل عمل في حينه ، بدون تأخير يفقد العمل قيمته ، أو تعجّل بالعمل قبل وقته ..

لقد جمع الرسول e جمعاً فريداً في التاريخ بين أعلى درجات النقاء الروحيّ بالاجتهاد في عبادة الله تعالى ، وأعْلى درجات العمل والنشاط ، دعوة إلى الله تعالى ، وتربية لأمّته ، وجهاداً في سبيل الله ، وبناءً لدولة الإسلام ، وتسييراً لشئونها وتنظيماً ..

ومن أبرز خصاله الشخصيّة النادرة بين العظماء ذوي السلطان : مزيد التواضع والحياء والإيثار ، وكان من تواضعه e بعده عن كلّ صور الأبهّة ومظاهر التعاظم ، التي يتميّز بها في العادة الحكّام والرؤساء ، ويحرصون عليها أشدّ الحرص ؛ فكان يتساوى مع أتباعه في المأكل والملبس ، والمظهر والمجلس ، وما يقوم به من الأعمال البدنيّة ، ويكره أن يتميّز عنهم في شيء .

وكان من إيثاره e وزهده أنّه قد يأتيه ما يملأ الوادي من الأموال والغنائم والهدايا ، فيوزّعه كلّه من فوره ، ويبيت ليس عنده منه شيء ..

ومن خصاله الشريفة النادرة e : إذعانه للحقّ على نفسه ، حتّى مع من يخالفه في الدين ، ويعلن له العداوة والخصومة ، ويدخل في هذه الخصلة الكريمة : صبره الجميل ، واحتماله للأذى ، وسعة صدره على إساءة الجهّال ، وجفوة الأعراب .

ـ ومن أهمّ ما يميّز سيرته المثاليّة e بين سائر العظماء : التزامه الشديد بتطبيق الأخلاق التي يدعو إليها ، التزاماً لا خروج عنه ولا استثناء ، حتّى مع أعدائه ، فلا تناقض ولا اختلاف بين الدعوة والسلوك ، فلم ينقض عهداً مع عدوّ ، ولم يحاول غدراً بخصم ، مهما كان يائساً منه ، ويخشى غدره .. وكان e قدوة للناس في كلّ ما يأمرهم به ، وأبعد الناس في هديه وسيرته عن كلّ ما نهى الناس عنه .. ولن يستطيع مقال عاجل أن يلمّ بشيء من جوانب العظمة في شخصيّة رسول الله e وأخلاقه ..

وبعد ؛ فإنّ حاجة الناشئ إلى مثل أعلى يتعلّق به قلْبُه ، ويطمح إليه نَظَرُه ، حاجة أكيدة ماسّة .. وإنّ ما نشكوه اليوم منْ ضياع شباب الأمّة وراء التعلّق بالنكِرات ، والافتتان بكلّ أفّاك أثيم .. سَببُه الأوّلُ والأكبر تقصير الآباء والمربّين في تقديم القدوة الحسنة لأبنَائهم ، من أنفسهم وسلوكهم ، والمثل الأعلى من شخصيّة النبيّ e وسيرته العطرة وهديه ..

وإنّنا بحاجة إلى إصلاح مناهج التعليم ، التي تقدّم السيرةَ النبويّةَ تاريخاً لدولة ، وعلاقات صراع وحروب ، أكثر ممّا تقدّمها مثلاً أعلى للإنسان ، ولا تبرز جانب الأخلاق والسلوك ، بِما يتناسبُ معَ أهمّيّته ، ويلائم نموّ الطفل ونشأته واهتمَاماته ، فلا تتّصل السيرة بهذه الطريقة بعاطفة الناشئ ووجدانه ، وقلبه وروحه ، وإنّما تأخذ حظّها مادّة من الموادّ العلميّة الجافّة ، التي قصارى ما يفكّر فيه الطالب تجاهها أن ينال درجة النجاح ، ثمّ لا يهمّه بعد ذلك أن يهملها ويتناساهَا .. وإنّ الصورة الوضيئة ، التي أراد الله تعالى لهذه الأمّة أن تتعامل بها مع نبيّها e هي صورة الأسوة الحسنة ، والقدوة المثلى ، كما قال تعالى : } لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ، لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (21) { الأحزاب .

فما أحسن أن يربط الآباء والمربّون الأبناء والناشئين بشخصيّة النبيّ e وسيرته العطرة ، حبّاً واتّباعاً ، وتدارساً واهتماماً ، لتمتلأ قلوبهم تعظيماً لشريعته ، وحبّاً لسنّته ، وتبتعد بقدر ذلك عن الافتتان بما سواها من المناهج والاتّجاهات .. وإنّا لنرجو ذلك ونتمنّاه ، والله وليّ التوفيق والسداد ..

 

      

* وإذا مَرضتّ فهو يَشْفِين ..

الابتلاء بالمرض باب من أبواب العبادة لله تعالى ، يغفل عنه كَثيرٌ منَ الناس ، وبخاصّةٍ في تَربية أولادهم .

وإنّ من أعظمِ دلائل ربوبيّة الله على عباده مَا يقدّر عليهم من الأمراض والابتلاءات يقول الله تعالى : ] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ .. (186) [ آل عمران . ويقول تعالى : ] .. وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) [ الانبياء .

وما يقدّر الله على عباده من أمراض وابتلاءات إنّما هو لحكمٍ جليلة كثيرة ، قد يظهر بعضُها للعبد ، وقد يخفى عليه كثير منها ، ويكفي المؤمن أن يعلمَ ويوقن أنّ اللهَ تعالى حكيم عليم ، وأنّ كلّ ما يقدّر له فهو له خير ، لأنّه إذا أصابته سرّاء شكر ، فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له .

ومن حكمة الابتلاء بالأمراض تحقّقُ العبد بصدقِ العبوديّة لله تعالى ، فالمريض المتألّمُ ، الخائفُ من عاقبة مرَضه تراه يدْعُو الله بتذلّل وانكسار ، ليسَ كحال الإنسان وهو في صحّته وعافِيتِه .

كما أنّ من حكمة الله تَعالى في الابتلاء بالأمراض تكفير السيّئات ، ورفع الدرجات ، فالأمْراض تكفّر السيّئات ما لا تكفّره الطاعات والأعمال الصالحة ، لكن شريطة أن يحتسب العبد ذلك عنْد الله ، وقد جاء في الحديث : ( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة ، في نفسه وولده وماله حتّى يلقى الله تَعالى ، وما عليه خطيئة ) ([62]) .

ومن حكمة الابتلاء بالأمراض نيل العبد محبّة الله تعالى ، كما جاء في الحديث : ( إنّ عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإنّ الله تعالى إذا أحبّ قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ) ([63]) .

ومن حكمة الابتلاء بالأمراض أن يتذكّرَ المؤمنُ الموتَ والآخرةَ ، ويعلمَ أنّ المرضَ مقدّمةُ الموت ، فيستعدّ للقاء الله بالجدّ والعمل الصالح .

فعلى الوالد والمربّي التأكيد على الطفل في كلّ مناسبة أنّه لا يأتي بالنعَم إلاّ الله ، ولا يدفع النقم والبلاء إلاّ الله ، وتكرار هذه الآية الكريمة على سمعه : ] وإذَا مَرِضتّ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) [ الشعراء ، وتعليمه الأدعية النبويّة المأثورة التي يدعو بها المريض ، عبوديّة لله تعالى ، واعتماداً عليه سبحانه .. وأنّ على المؤمن أن يأخذَ بأسباب الشفاء من مراجعة الطبيب ، وتنَاول الدوَاء وأن يعتقد أنّ الشفاء بيد الله وحده ..

 

      

 

 

* نظرات أوّليّة في ثقافة الطفلِ .!

 

تشمل التربيةُ الإسلاميّةُ جسدَ الإنسانِ وعقلَه وروحَه ؛ وقدْ شَرع الله لكلّ جانب من هذه الجوانب ما يصلحه ، ويرقى به ، ويسعده ، وأكثَرُ ما شرعه الله تعالى لعباده جعل فيه حظّاً لكلّ جانب من هذه الجوانب ، لأنّ الإسلام ينظر إلى الإنسان كياناً واحداً ، لا أجزاءاً متفرّقة .. وتبقى بعد ذلك لكلّ جانبٍ خصوصيّته ومطالبُه واحتياجاته .

وفيما يتعلّق بتربية عقل الإنسَان وفكره ؛ فالإسلامُ يربّي عقل الإنسَان وفكره بالعلمِ النافعِ ، والثقافةِ المنبثقة عن عقيدَة الإسلامِ ومبادئه وقيمِه وآدابه .

وقبل أن نتحدّث عن ثقافة الطفلِ المسلمِ علينا أن نحدّد مفهومنا عن الثقافة  ، من خلال النظر اللغويّ ، وما ذكر منْ مفهوم عامّ عن الثقافة .

قال في المعجم الوسيط : " ثقِف يثقَف وثقُف يثقُف ، صار حاذقاً فطناً ، والثقافة : العلومُ والمعارفُ والفنونُ التي يُطلب الحذق فيها " .

وعرّف مجمع اللغة الثقافة بقوله : " كلّ ما فيه استنارة للذهن ، أو تهذيب للذوق ، وتنمية لملكة النقد والحكم ، لدى الفرد والمجتمع " ، وهو تعريف يغفل الخصوصيّة الفكريّة لكلّ أمّة ، ويجعل الثقافة أقرب إلى العلم أو أشبه به .

وعلى ضوء التعريف اللغويّ، وهذا المفهوم العامّ للثقافة ، فإنّنا نَستطيع أنْ نَضعَ تعريفاً نرتضيه للثقافة الإسلاميّة ، نجعله مُرتَكَزاً لنا في هذه الكلمة ، فنقولُ :

" الثقافة في تصوّرنا هي تربيةُ الفكر ، وتَقويم السلوك ، بالقِيَم والمبادئ والآداب المنبثقة عن التصوّر الإسلاميّ لعلاقة الإنسان بالله ، والكون ، والحياة ، والإنسان " .

وأهمّ ما يلاحظ في هذا التعريف أنّ الثقافة تجمع بين العقيدة والعبادة ، والعلم والعمل ، والفكر والسلوك ، ومن هنا فهي تزيد على الفكر الجانبَ السلوكيّ ، الذي يتّصل بالتربية ، وتختلف عن العلم أنّها تعبّر عنْ هوّيّة الأمّة التي تتحدّث عنهَا ، فلكلّ أمّةٍ ثقافتها ، التي تنبثق عن قيمها ومبادئها ، وتصوّرها عن الحياة وفلسفتها ، أمّا العلم ؛ فمنْه ما يتّصل بثقافة الأمّة وهويّتها ، ومنه ما يكون من العلوم التجريبيّة التي لا علاقةَ لها بثقافة الأمّة وهويّتها ، ومن ثمّ فهو إرث إنسانيّ مشاع بينَ شتّى أمم الأرض ، على اختلاف قيمها وعقائدها ..

كما يلاحظ في هذا التعريف أنّ المحدّد الأساسيّ للثقافة الإسلاميّةِ ، يقوم على التصوّر الإسلاميّ لعلاقة الإنسان بالله ، والكون ، والحياة ، والإنسان .. وهو أيضاً المحدّد الأساسيّ لثقافة كلّ مجتمع وأمّة ..

وانطلاقاً من تعريفنا للثقافة الإسلاميّةِ ، فإنّ ثقافةَ الطفل المسلم تستَمدّ حقائقها من حقائق الثقافة الإسلاميّة وخصائصها ، ولكنّها تمتزج بها على حسب طبيعة المرحلة ، التي يمرّ بهَا الطفل ومتَطلّباتها .

وإذ ذكرنا في التعريف أنّ الثقافة تقوم على تربية الفكر ، وتَقويم السلوك ، فلابدّ أن نشيرَ هنا أنّ التربية في حقيقتها هي البناء المتدرّج للثقافة ، القائم على الالتزام بمنهجيّة خَاصّة ، ومتَابعة دقيقة ، للإنسان في كلّ مرحَلة يمرّ بها .

وإنّ واقِع الطفل الثقافيّ يتأثّر بالدرجة الأولى ويعتمد على ثقافة من يتلقّى عنه ، ومستوى تكوينه ، إذ إنّ الطفل يتأثّر في مرحلة طفولته المبكّرة ، وفي مرحلة نشأته إلى بلوغه ونضجه ، بمنْ يتلقّى عنه ، فما لم يكن الوَالد أو المربّي متمتّعاً بالصفات الثقافيّة الإيجابيّة ، والمستوى الراقي ، فمن العبث الحديث عن بناء ثقافيّ متميّز لطفلنا الواعدِ .

فعندما يكون المستوى الثقافيّ للوَالد أو المربّي متدنّياً ضعيفاً ، فإنه لن يتعامل مع الطفل بإيجابيّة ، ولن يكون له أثر في نمو الطفل ، ورقيّه النفسيّ والمعرفيّ ، بل ربّما كان معوّقاً لمواهبه ، ومدمّراً لإبداعه ، وسبباً لإهدار إمكاناتِه وطاقاته ..

والأمّة الواعية لثقافتها ، المعتزّة بهوّيّتها ، المخلصة لها توظّف كلّ إمكاناتها وطاقاتها ، وتسخّر كلّ أساليبها ووسائلها لخدمة ثقافتها ، وتعميم قيمها في المجتمع ومفاهيمها ..

ـ ثمّ إنّ الثقافة الإسلاميّة تقوم على أصول كلّيّة ، هي مصادر ثقافتنا ومرجعها ، وفروع لا تَتعارض مع الكُلّيّات والمصادر ، بل تستمدّ منها ، وهي تتّصل بالحياة العمليّة ، وما يحدث فيها من مستجدّات .

والأصول الكلّيّة العامّة للثقافة الإسلاميّة ، تشكّل أمصال المناعة ، التي لَو أحكِمَت في بناء الأمّة لما استطاعت قوّة من قوى الأرض أن تخترق حصونها ، أو تعبث بمقدّراتها ..

أهمّيّة الثقافة الإسلاميّة لأطفالنا : وتتجلّى أهمّيّة الثقافة الإسلاميّة لأطفالنا في جوانب عديدة أبرزها :

1 ـ أنّ الأمّة تعاني من الاختراق الثقافيّ ، والغزو الفكريّ على كلّ مستوى ، وما لم تحصّن أجيالها الصاعدة ، فلا أمل لها في نهضة أو رقيّ .

2 ـ وأنّ الاختراق الثقافيّ ، والغزو الفكريّ هو أخطر سبيل لإبقاء الأمّة في مستنقع التخلّف والتبعيّة .

3 ـ أنّ الثقافة الإسلاميّة الأصيلة هي السبيل للتحرّر من العادات والتقاليد الفاسدة ، والأوضاع الاجتماعيّة الدخيلة على قيم الإسلام ومبادئه وآدابه ، وكثيراً ما تلصق بالإسلام غفلة وجهلاً ، وتكون مدخلاً لمحاربة الإسلام وتشويه صورته ..

4 ـ أنّ وسائل الاختراق الثقافيّ في هذا العصر قد تعدّدت وتنوّعت ، وتطورّت ، واستخدمت فيها أحدث التقنيّات والأساليب ، ممّا يحتّم على الغيورين على دين الله تعالى أن يكونوا على مستوى العصر ، وأهلاّ لإدارة الصراع ، ومواجهة التحدّي .

والنظرة العامّة للثقافة الإسلاميّة تقتضينا الإشارة إلى أهمّ خصائصها ، التي هي من خصائص الإسلام العامّة ، وتتجلّى في كلّ جانب من جوانب الحياة .

 

فمن أهمّ خصائص الثقافة الإسلاميّة :

1 ـ أنّها ربّانيّة المصدر والغاية : فمصدر الثقافة الإسلاميّة هو الوحي المعصوم ، من كتاب الله تعالى ، وسنّة نبيّه e ، والغاية التي يتطلّع إليها المسلم هي الفوز بمرضاة الله تعالى ، ومن ثمّ فهو ينظر بثقة واطمئنان إلى كلّ ما يتلقّاه عن الكتاب والسنّة ، لأنّه يتلقّاه عن المصدر المعصوم الذي : لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه .. ولا يسعه أمام أيّ أمر أو تكليف إلاّ أن يقول : { سَمِعنا وَأَطَعنا ، غُفرانَكَ رَبّنا ، وَإليكَ المَصِيرُ (285) } البقرة .

2 ـ أنّها تقوم على الاجتهاد والحوار : ومع ربّانيّة مصدر الثقافة الإسلاميّة وأصولها وغايتها ، فإنّ من حكمة الله تعالى ورحمته بعباده أن ترك لهم مساحة واسعة للاجتهاد في الدين ، فيما لم يرد فيه نصّ خاصّ ، على ضوء النصوص العامّة ، والقواعد الشرعيّة ، والكلّيّات والمقاصد ، وفتحُ الباب للاجتهاد بشروطه وضوابطه ، يعني التشجيع على الحوار حول كلّ قضيّة ، وبخاصّة من المستجدّات ، وفق منهجيّة شرعيّة مضبوطة ، لتبادل الآراء ، وتفهّم وجهات النظر ، والأخذ بما هو أقرب إلى روح الشريعة ، ومقاصد الأحكام .

3 ـ ومن خصائص الثقافة الإسلاميّة : العدل والتوازن : فشريعة الله تعالى قامت على العدل في كبير الأمور وصغيرها ، وفي كلّ شيء ، وهي تأمر بالعدل في كلّ شيء ، وبالعدل قامت السموات والأرض ، والجنوح عن العدل والتوازن جور تأباه شريعة الله ، لأنّه يعني تعطيل جوانب من دين الله تعالى ، مطلوبة مهمّة ..

4 ـ الواقعيّة الإيجابيّة : والثقافة الإسلاميّة تتّسم بالإيجابيّة الواقعيّة ، فهي تتعامل مع الواقع بإيجابيّة ، فلا تجنح إلى المثاليّة البعيدة عن الواقع ، ولا تقف من الواقع وقفة سلبيّة ، فيتأبّى على الاستجابة لها ، وقبول إصلاحها ..

5 ـ العمليّة والتدرّج : والثقافة الإسلاميّة ثقافة عمليّة ، تقوم على المنهج العمليّ الواقعيّ ، ولا تقتصر على التنظير وطرح الشعارات ، شأن المناهج الوضعيّة ، وهي تعالج واقع الإنسان ومشكلاته ، وتنهض به ، بتدرّج ورحمة ورفق ، فلا عنت فيها ولا إحراج ، وهي لا تفرض على الإنسان التغيير دفعة واحدة .

6 ـ ومن خصائص الثقافة الإسلاميّة : المرونة والتطوير : فهي تجمع بين الثبات في الأصول والمبادئ ، والمرونة في الأساليب والوسائل ، ولا تقف من المستجدّات وقفة الرفض ، ما لم تكن متعارضة مع الأصول والمبادئ مجافية لها ، وتعدّ الحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها فهو أحقّ بها .

هذه نظرة موجزة عن أهمّ خصائص الثقافة الإسلاميّة ، وهي مبثوثة في جميع نظم الشريعة وأحكامها ، وينبغي على المربّي أن لا يغفل عنها في تربيته للطفل والناشئ ، ورعايته له بشريعة الله وأحكامه .

 

      

* ماذا قدّمت لعقلِ طفلك .؟!

 

أيّها المربّي .! مالم تكن حريصاً على بناء عقلك ، فلن تسهم في بناء عقل طفلك ، وربّما وضعت أمام عقله كتلاً من الأشواك والمعوّقات .. فانظر في بناء عقلك أوّلاً .!

 

التفكير عبادة أكرم بها منْ عبادة .! إذ هو روح كلّ عبادة ، وهو السبيل إلى بناء العقيدة على أسسٍ مكينة ، من منطق العقل ، وقوّة الحجّة ، ونَصاعة البيّنة ، يقول الله تعالى : ] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) [ آل عمران .

وإنّ بناء العقلِ على التفكير المنهجيّ السليم مهمّة تربويّة معقّدة شاقّة .. قصارى ما يستطيع المبدع أن يدّعيَه فيها أنّه يحاول ويجتهد ، أن يخطو خطوة في الطريق الصحيح .. ويتجلّى تعقيدها ومشقّتها أنّ الناشئ والبالغ الناضج تعترضه في تقلّبات الحياة الكثيرة مطبّات ومزالق ، تكشف له عن خلل في بناء عقله ، وطريقة اتّخاذ قراراته ، ممّا يدعوه دائماً إلى اكتشاف أخطائه ، ومراجعة نفسه ولومها ، وإعادة النظر في منطق معالجته للأمور ، ومنهجيّته فيما يتّخذ من قرارات ومواقف ..

وما لم تكن منهجيّة البناء العقليّ السليم حاضرة في يد الإنسان في كلّ موقف من مواقف حياته ، كما يستخدم الماشي في الظلماء النور الكاشف .. فإنّ مواقفه معرّضة لأن تخرج عن موازين العقل الصحيحة ، وتتيه وراء أوهام الأهواء والتحيّزات .

* وأهمّ معالم البناء العقليّ للطفل تتجلّى في النقاط التالية :

1 ـ تعليم القراءة والتحبيب بها :

2 ـ تعليم المحاكمة العقليّة الصحيحة ، ومنهجيّة تفسير المواقف واتّخاذ القرارات :

3 ـ التدريب على البحث ، واكتشاف الحقيقة والمعلومة بنفسه :

1 ـ تعليم القراءة والتحبيب بها ، والسبيل إلى تحقيق ذلك :

* أهمّ أهداف القراءة :

ـ تنمية المهارات اللغويّة .

ـ تنمية مهارات التفكير .

ـ العلم والمعرفة .

ـ إثارة المواهب ، وتحفيز الإبداع .

القواعد الأساسيّة لتعليم القراءة والتحبيب بها :

أ ـ اقرأ أمام طفلك بصوت مرتفع ، وتفاعل مع القراءة .

ب ـ قدّم له الكتاب أو القصّة بتشويق بالغ لموضوعها ، وتعريف مشوّق بمؤلّفها .

ج ـ اجعل البيت في أوقات معيّنة مكتبة عامّة ، وهيّئ الجوّ للقراءة الممتعة ، والبحث الجادّ .

2 ـ ويقوم تعليم المحاكمة العقليّة الصحيحة ، ومنهجيّة تفسير المواقف واتّخاذ القرارات على النقاط التالية :

أ ـ طرح الأسئلة على الطفل قبل إفادته بأيّة معلومة .

ب ـ تصدير الأسئلة المطروحة إليه .

ج ـ أن لا يقبل كلّ ما قرأ قبل البحث والمناقشة ، والمحاكمة الصحيحة ، بدون غلوّ أو غرور .

3 ـ التدريب على البحث ، واكتشاف الحقيقة والمعلومة بنفسه :

التفكير نشاط عقليّ راقٍ ، يعين الإنسانَ على فهم الواقع ، والتعامل معه بإبداع وابتكار ، ويميّزه عن سائر المخلوقات .

وهو بمعناه العامّ إمعان النظر في الأشياء أو الموضوعات أو الظواهر للوصول إلى الفهم أو الحكم ، أو تفسير الظواهر بصورة قطعيّة سديدة ، فهو يَقوم على إدراك طبيعة العلاقة بينَ الأشياء وتأثيرها ببعضها ..

ـ مراحل التفكير : تحتلّ عمليّة التفكير منزلة كبيرة في النشاط الإنسانيّ ، وبوجهٍ خاصّ في المجال التربويّ ، ممّا يؤكّد على الآبَاء والمربّين ضرورة تدريب الطفل والناشئ على الالتزام بالمنهج العلميّ الموضوعيّ الصحيح ، الذي يقوم على الملاحظة والمشَاهدة ، واكتشاف العلاقة الموضوعيّة بيْن الأشياء ، لتقديم التفسير العلميّ الصحيح لها ..

وفي سبيل الوصول إلى النتائج العلميّة الصحيحة ، واكتشاف سنن الله في النفس والآفَاق ، فإنّ التفكير يجب أنْ يمرّ بالمراحل التالية :

1 ـ الشعور بالمشكلة وتحديدها :

2 ـ وَضع الفروض العلميّة لتفسيرهَا:

3 ـ اختبار صحّة الفروض :

4 ـ اعتماد الحلّ في الأمثلة المشابهَة : وهو ثمرة التفكير السديد ، ويسمّى عند علماء أصول الفقه : " القيَاس " .

وينبغي أنْ يقتصر دور الوالد والمربّي على تقديم المُساعدة للطفل والناشئ ، ليمضي في الاتّجاه الصحيح للوصول إلى التفكير العلميّ الموضوعيّ الصحيح ، وأن لا يقوم عملهم بدور التلقين ، وتقديم المعلومات الجاهزة ، ممّا يغري الطفل والناشئ بالخمول والكسل العقليّ ، والاعتماد على غيره ، ليفكّر عنه ، ويقدّم له الحلول في كلّ موقف ..

 

عادات العقل " الستّ عشرة :

1 ـ المثابرة .

2 ـ التحكّم بالتهوّر

3 ـ الإصغاء بتفهّم وتعاطف

4 ـ التفكير بمرونة

5 ـ التفكير حول التفكير ( فوق معرفيّ )

6 ـ الكفاح من أجل الدقّة

7 ـ التساؤل وطرح المشكلات

8 ـ تطبيق المعارف الماضية على أوضاع جديدة

9 ـ التفكير والتوصيل بوضوح ودقّة

10 ـ جمع البياناتِ باستعمَال جميع الحواسّ

11 ـ الخلق التصوّر الابتكار

12 ـ الاستجابة بدهشة ورهبة

13 ـ الإقدام على مخاطر مسئولة

14 ـ إيجاد الدعابة

15 ـ التفكير التبادليّ

16 ـ الاستعداد الدائم للتعلّم المستمرّ

فاستخدم عقلك أيّها الإنسان ! ولا تعطّله ..

 

      

 

 

هذا والله تعالى أعلم

وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ونبيّه سيّدنا محمّد ،

وعلى آله وأصحابه أجمعين . والحمد لله ربّ العالمين .
* صدر للمؤلّف *

1 ـ ضرب الأمثال في القرآن أهدافه التربويّة وآثاره .

2 ـ وجوب وحدة المسلمين .

3 ـ رسالة المعلّم وآداب العالم والمتعلّم .

4 ـ اعرف نبيّك محمّداً e يا بنيّ .!

5 ـ ومضات من هدي النبيّ الخاتم e .

6 ـ البيّنات في تفسير سورة الحجرات .

7 ـ المنهج القويم للداعية الحكيم .

8 ـ مشاهد الأتقياء في الصبر على الابتلاء .

9 ـ رسالتان في التربية .

10 ـ قصص وعبر من لطائف القدر . المجموعة الأولى .

11 ـ قصص وعبر من عجائب القدر . المجموعة الثانية .

12 ـ حديث القلب .

13 ـ النصائح الذهبيّة لتربية الأولاد ورعايتهم .

14 ـ قبسات من نور النبوّة لصاحبي الفضيلة : الشيخ أحمد عزّ الدين البيانوني ،  والشيخ عبد الفتّاح أبو غدّة رحمهما الله تعالى . بعناية د. عبد المجيد البيانوني ، وفي ختامه رسالة : " ومضات من هدي النبيّ الخاتم e " .

15 ـ تذكرة العابد بحقوق المساجد .

16 ـ أساليب تربويّة ومفاهيم دعويّة من حياة الشيخ أحمد عزّ الدين البيانوني .

17ـ ركائز دعويّة من هدي النبيّ e في العلاقات الاجتماعيّة .

18 ـ القول المبين في تفسير سورة : " يس " .

19 ـ لمحات من حياة الشيخ أحمد عزّ الدين البيانوني وتعريف بمؤلّفاته .

20 ـ مواقف تربويّة من هدي النبيّ e مع الأطفال .

21 ـ خمس عشرة مهارة تجعلك مربّياً متميّزاً .

22 ـ خطوة خطوة نحو التربية الناجحة .

23 ـ أربع رسائل  في التربية .

24 ـ لئلاّ تضيع الطفولة : ثلاثون سبباً تمنعك من الطلاق .!

25 ـ الغائب المنتظر

26 ـ ملامح السعادة في تربية الطفل على العبادة

27 ـ معالم تربويّة

28 ـ رفقاً بالقوارير!

29 ـ أيّها الأمير رسَالتَان فِي النُّصح وَالرِّعَايَة

30 ـ إنّها الأنثَى .! رؤى نقديّة حول دعوى التمييز ضدّ المرأة

31 ـ كيف تنعم أسرنا بالأمن .؟

 

      

 

N

رقم الصفحة
    

الموضوع

 
    

* تصدير :

 
    

* الإهداء :

9
    

m :

9
    

M :

8
    

* الأسرةُ العابدَةُ

10
    

* الإسلام في حقيقته وشموله

14
    

* أثر الإيمان بالآخرة في تحقيق السعادة

17
    

* الإسلام شريعة الحنيفيّة السمحَة

20
    

* من أحكام الحنيفيّة السمحة

22
    

* لماذا بُني الإسلام على هذه الأركان الخمسة .؟

25
    

*علوّ الهمّة في العبادة

25
    

* الإيمانُ والعبَادة .!

27
    

* العبادات أمانة !

27
    

* الحياة ساحة للعبادة .!

30
    

* كيف يرعى المربّي مفهومَ العبادةِ .؟

34
    

* التربية على العبادة ..

38
    

* ثمرات العبادة .!

38
    

* أثمنُ ثمرات العبادة

41
    

* أخطاء في فهم العبادة وممارستها

43
    

* أطفالنا ونعم الله .!

45
    

* مَاذا قبْل : " مروا أولادَكم بالصلاة .؟! "

48
    

* لا تهاون بالصلاة .!

51
    

* أبناؤنَا وآداب المسجد .!

54
    

* أبناؤنَا والصدَقة .!

57
    

* كيفَ يستفيد أطْفالنا من رمضان .؟

60
    

* أطفالُنَا على مائدة القرآن !

61
    

* أثر حلقات تحفيظ القرآن في التربية

64
    

* تحفيظ القرآن الكريم تقويم ومراجعة

67
    

* من آداب طالب القرآن

71
    

* الدعاء مخّ العبادة

74
    

* هذا عيدنا .!

77
    

* أطفالنا والعيد .؟

80
    

* لَبّيكَ اللهمّ لَبّيكَ

82
    

* حقائق تربويّة في مشاعر الحجّ ومناسكه

87
    

* من ثمرات الحجّ المبرور وبركاته

89
    

* أثر السيرة النبويّة في تربية الفرد وبناء الأمّة (1)

93
    

* أثر السيرة النبويّة في تربية الفرد وبناء الأمّة (2)

95
    

* أطفالنا والأسوة الحسنة

97
    

* وإذا مَرضتّ فهو يَشْفِين ..

 
    

 

 
    

 

 
    

* نظرات أوّليّة في ثقافة الطفلِ .!

 
    

* ماذا قدّمت لعقلِ طفلك .؟!

 
    

 

 

 

      

 

([1]) ـ رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن 4460 ، ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار 5046 .

([2]) ـ من خطب الشيخ أحمد عزّ الدين البيانوني رحمه الله المكتوبة .

([3]) ـ رواه مسلم .

([4]) ـ رواه أحمد وأبو يعلى والبزار .

([5]) ـ رواه أحمد في المسند في باقي مسند الأنصار برقم /21260/ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ .

([6]) ـ العبادة في الإسلام ، للدكتور يوسف القرضاوي ص/195/ .

([7]) ـ رواه مسلم وأبو داود وأحمد عن ابن مسعود t .

([8]) ـ رواه مسلم .

([9]) ـ رواه البخاريّ .

([10]) ـ رواه البخاريّ .

([11]) ـ والحديث ذكره ابن كثير في تَفسيْر الآية الكريمة ، عن مسند أبي يعلى ، وهو في كتاب الأدب من سنن أبي داود : باب في الحسد ، انظر العبادة في الإسلام ص/197/ .

([12]) ـ العبادة في الإسلام ، للدكتور يوسف القرضاويّ ص/198/ .

([13]) ـ رواه مسلم وأبو داود وأحمد عن ابن مسعود t .

([14]) ـ رواه البخاريّ 6/419 و 420 ، ومسلم برقم /2327/ .

([15]) ـ رواه مسلم برقم /2594/ .

([16]) ـ رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم /12/ .

([17]) ـ رواه الطبراني في الكبير ، وفيه ابن لهيعة .

([18]) ـ رواه البزار وفيه يوسف بن عطية لا يحتج به ، كما قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 1/57 .

([19]) ـ رواه البخاري في كتاب المغازي برقم /3683/ .

([20]) ـ رواه مسلم في كتاب الزكاة 1707 .

([21]) ـ رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم /1660/ .

([22]) ـ رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم /1661/ .

([23]) ـ رواه البخاريّ في كتاب الإيمان برقم /53/ .

([24]) ـ رواه البخاريّ في كتاب الهبة برقم /2438/ .

([25]) ـ رواه البخاريّ في كتاب الأذان برقم /615/ .

([26]) ـ رواه البخاريّ في كتاب الأدب برقم /5550/ .

([27]) ـ رواه البخاريّ في كتاب التيمّم برقم /323/ ، ونصّه : عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : ( أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي ، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَأُحِلَّتْ لِيَ المَغَانِمُ ، وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً ) .

([28]) ـ رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم /51/ ، ويحسن في هذا المقام أن أنقل فائدة لطيفة تتعلّق بعدد هذه الشعب عن الإمام ابن حبّان رحمه الله ، فقد قال في كتاب : " الإحسان " 1/387/ : " وقد تتبّعت معنى الخبر مدّة ، وذلك أنّ مذهبنا أنّ النبيّ e لم يتكلّمْ قطّ إلاّ بفائدة ، ولا في سننه شيء لا يعلم معناه ، فجعلتُ أعدّ الطاعات من الإيمان فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئاً كثيراً ، فرجعْت إلى السنن فعددت كلّ طاعةٍ عدّها رسول الله e من الإيمان فإذا هي تنقص من البضع والسبعين ، فرجعت إلى ما بين الدفّتين من كلام ربنا ، وتلوته آيَة آية بالتدبّر ، وعددت كلّ طاعة عدّها الله جلّ وعلا من الإيمان ، فإذا هي تنقص من البضع والسبعين ، فضممت الكتاب إلى السنن ، وأسقطتُ المُعادَ منها ، فإذا كلّ شيْء عدّه الله جلّ وعلا من الإيمان في كتابه ، وكلّ طاعة جعلها رسول الله e من الإيمان في سننه تسع وسبعون شعبة ، لا يزيد عليها ، ولا ينقص منهَا شيء ، فعلمْت أنّ مراد النبيّ e كَان في الخبر : أنّ الإيمان بضْع وسبعون شعبة في الكتَاب والسنَنِ " ، انظر كتاب : " اللباب في أصول الفقه " للشيخ صفوان الداووديّ ص/218/ . ومع أهمّيّة ما حقّقه هذا الإمام عن عدد هذه الشعب ، فإنّها ينبغي أن تفهم على أنّها أنواع ، وليست أفراداً ، إذ إنّ النوع يشمل صوراً كثيرة لا تدخل تحت حصر ، وما ذكرته أعلى من إشارة الحديث أهمّ ، لأنّه يدلّنا على شمول شعب الإيمان لكلّ خصال الخير والبرّ ، وبالله تعالى التوفيق .

([29]) ـ جزء من حديث جبريل المشهور ، رواه مسلم برقم /8/ والترمذيّ برقم /2613/ وأبو داود /4695/ والنسائيّ 8/97/ .

([30]) ـ رواه أبو يعلى والعسكريّ عن عائشة ترفعه ، ورواه البيهقيّ والطبرانيّ ، انظر كشف الخفاء 1/286/ .

([31]) ـ من خطب الشيخ أحمد رحمه الله المكتوبة .

([32]) ـ رواه أبو داود برقم /495/ بإسناد حسن ، وأخرجه أحمد 2/180 و187/ .

([33]) ـ وهذا الأسلوب التربويّ كان يعمل به الشيخ أحمد عزّ الدين البيانونيّ رحمه الله في تربيته لأولاده ، ويدعو إليه إخوانه ، وقد أثمر أحسن النتائج والآثار في حياة أبنائه وإخوانه ، وبلغني أنّ الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله كان يعمل بذلك ، فانظر إلى تشابه أسلوب الرجلين .

([34]) ـ رواه الترمذيّ في كتاب الجمعة برقم /537/ ، وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .

([35]) ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللهِ e : ( مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنَ السُّنَّةِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ : أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ ) ، رواه الترمذيّ في كتاب الصلاة برقم /379/ وقَالَ : حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .

([36] ) ـ رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء عن أبي هريرة t /2699/ ، والترمذي وأبو داود وابن ماجة وأحمد .

([37]) ـ رواه البخاريّ في كتاب الأذان /620/ ، ومسلم في كتاب الزكاة /1712/ والترمذيّ ومالك وأحمد .

([38]) ـ رواه ابن السني بإسناد ضعيف ، وعزاه في " فقه السنّة " إلى أحمد وابن خزيمة وابن ماجة ، وقال : حسّنه الحافظ ، انظر 1/217 ، وحسّنه العراقيّ في تخريج أحاديث الإحياء 1/ 323 .

([39]) ـ وهي مجموع روايات ما جاء في صحيح مسلم ، وسنن أبي داود بإسناد جيّد ، وسنن النسائي .

([40]) ـ رواه البخاريّ في كتاب الجمعة /1097/ ومسلم والترمذيّ وأحمد .

([41]) ـ  البخاري 1/ 428 ، ومسلم ( 552 ) ، وأبوداود (474) والترمذي (572 ) والنسائي ( 2/50، 51 )

([42]) ـ رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم /1181/ .

([43]) ـ رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم /1677/ .

([44]) ـ رواه البخاري والترمذي عن علي t ، وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن عثمان t ، ورواه ابن ماجة عن سعد ، بلفظ خياركم .. انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس 1/472/ .

([45]) ـ رواه النسائيّ وابن ماجة وأحمد والدارميّ عن أنس t مرفوعاً ، وصحّحه الحاكم ، وقال : إنّه روي من ثلاثة أوجه عن أنس وهذا أمثلها . انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس 1/293/ .

([46]) ـ رواه الإمام عبد الرزّاق في مسنده عن معمر عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى .

([47]) ـ كما في " تهذيب مدارج السالكين " ص/445/ .

([48]) ـ المرجع السابق .

([49]) ـ الشيخ محمّد العوّامة " أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين " ص/61/ .

([50]) ـ المرجع السابق ص/168/ .

([51]) ـ ذكر ذلك العلاّمة المناويّ في فيض القدير 1/225/ نقلاً عن كتاب : " أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين " للشيخ محمّد العوّامة ص/167/ .

([52]) ـ رواه الإمام عبدالرزّاق في مسنده عن معمر عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى.

([53]) ـ الإمام النووي رحمه الله " التبيان في آداب حملة القرآن " ص/43/ .

([54]) ـ الحارث المحاسبيّ " رسالة المسترشدين " ص/102 ـ 103/ بتحقيق الشيخ عبد الفتّأح أبو غدّة .

([55]) ـ رواه الترمذي برقم /3293/ ، وقال : هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلاّ من حديث ابن لهيعة .

([56]) ـ رواه أبو داود برقم /1479/ والترمذي برقم /2973/ ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، وقال : حديث حسن صحيح ، وأخرجه ابن ماجة برقم /3827/ ، وابن حبّان وصحّحه ، والحاكم ووافقه الذهبيّ .

([57]) ـ رواه النسائيّ 3/179/ في العيدين ، وأحمد في المسند 3/103/ و 178 و235 و250 والحاكم في المستدرك ، وصحّحه على شرط مسلم ، ووافقه الذهبيّ ، وكلّهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه .

([58]) ـ رواه الطبرانيّ في الكبير ، كما في الترغيب والترهيب 2/153/ .

([59]) ـ جزء من حديث رواه البخاري في كتاب الحجّ .

([60]) ـ الحديث روي من طرق كثيرة مرفوعاً وموقوفاً ، ولم يخل شيء منها من قدح ، ولكن قال العجلونيّ في كشف الخفاء 1/346/ : له شواهد ، فالحديث حسن لغيره ، وإن كان ضعيفاً بحسب أصله .

([61]) ـ رواه مسلم في كتاب الإمارة باب فضل إعانة الغازي 6/41/ .

([62]) ـ رواه الترمذيّ وقالَ : حديث حسن صحيْح .

([63]) ـ رواه الترمذيّ وقال : حديث حسن .
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

والثمن الجنة لعبد الملك القاسم

سلسلة أين نحن من هؤلاء ؟  كتاب والثمن الجنة لعبد الملك القاسم  بسم الله الرحمن الرحيم  المقدمة  الحمد لله الذي وعد من أطاعه جنات عدن تجري ...