دعاء الاموات لمشاري

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate

السبت، 4 مارس 2023

تفسير سورة النور الايات من 21 الي27.

تفسير سورة النور الايات من 21 الي27.

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27

النور - تفسير ابن كثير 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) }

يقول تعالى: { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي: لولا هذا لكان أمر آخر، ولكنه تعالى رؤوف بعباده، رحيم بهم. فتاب على من تاب إليه من هذه [القضية] (1) وطَهَّر من طَهَّر منهم بالحد الذي أقيم عليه.

ثم قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } يعني: طرائقه ومسالكه وما يأمر به، { وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } : هذا تنفير وتحذير من ذلك، بأفصح العبارة وأوجزها وأبلغها وأحسنها.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } : عمله. وقال عكرمة: نزغاته. وقال قتادة: كل معصية فهي من خطوات الشيطان. وقال أبو مِجْلَز: النذور في المعاصي من خطوات الشيطان.

وقال مسروق: سأل رجل ابن مسعود فقال: إني حرمت أن آكل طعامًا؟ فقال: هذا من نزعات الشيطان، كَفِّر عن يمينك، وكُل.

وقال الشعبي في رجل نَذَر ذَبْح ولده: هذا من نزغات الشيطان، وأفتاه أن يذبح كبشًا.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا حسان بن عبد الله المصري، حدثنا السريّ بن يحيى، عن سليمان التيمي، عن أبي رافع قال: غضبت عليَّ امرأتي فقالت: هي يومًا يهودية، ويومًا نصرانية، وكل مملوك لها حر، إن لم تطلق امرأتك. فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من نزغات الشيطان. وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة، وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة، وأتيت عاصم بن عمر، فقال مثل ذلك.

ثم قال تعالى: { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } أي: لولا هو يرزق من يشاء التوبة والرجوع إليه، ويزكي النفوس من شركها وفجورها ودسها وما فيها من أخلاق رديئة، كل بحسبه، لما حصل أحد لنفسه زكاة ولا خيرا { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } أي: من خلقه، ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال والغي.

وقوله: { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } أي: سميع لأقوال عباده (2) { عليم } بهم، مَنْ يستحق منهم الهدى والضلال.

__________

(1) زيادة من ف،أ.

(2) في ف: "العباد". 

== وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)

 

{ وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) }

يقول تعالى: { وَلا يَأْتَلِ } من الأليَّة، [وهي: الحلف] (1) أي: لا يحلف { أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ } أي: الطَّول والصدقة والإحسان { وَالسَّعَة } أي: الجِدَةَ { أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي: لا تحلفوا ألا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين. وهذه (2) في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام؛ ولهذا قال: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } أي: عما تقدم منهم من الإساءة والأذى، وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم.

وهذه الآية نزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال، كما تقدم في الحديث. فلما أنزل الله براءةَ أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على مَن كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على مَن أقيم عليه (3) -شَرَع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يعطفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه، وهو مِسْطَح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر، رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد وَلَق وَلْقَة (4) تاب الله عليه منها، وضُرب الحد عليها. وكان الصديق، رضي الله عنه، معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر (5) عن المذنب إليك نغفر (6) لك، وكما تصفح نصفح (7) عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب -يا ربنا -أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا (8) أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصدّيق هو الصديق [رضي الله عنه وعن بنته] (9) .

{ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) }

هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات -خُرِّج مخرج الغالب -المؤمنات.

فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق، رضي الله عنهما.

وقد أجمع العلماء، رحمهم الله، قاطبة على أن مَنْ سَبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به [بعد هذا

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) في ف: "وهذا".

(3) في ف، أ: "من أقيم الحد عليه".

(4) في ف: "زلق زلقة".

(5) في ف: "يغفر".

(6) في ف: "يغفر".

(7) في ف: "يصفح".

(8) في ف: "ما".

(9) زيادة من ف، أ

الذي ذكر] (1) في هذه الآية، فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن. وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي، والله أعلم.

وقوله تعالى: { لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } كقوله: { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } [الأحزاب : 57] (2) .

وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة، فقال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبد الله بن خِرَاش، عن العَوَّام، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [قال] (3) : نزلت في عائشة خاصة.

وكذا قال [سعيد بن جبير و] (4) مقاتل بن حيان، وقد ذكره ابن جرير عن عائشة فقال:

حدثنا أحمد بن عَبْدَة الضَّبِّي، حدثنا أبو عَوَانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال: قالت عائشة: رُميت بما رميت به وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك. قالت: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عندي (5) إذ أوحي ، (6) إليه. قالت: وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السُّبات، وإنه أوحي إليه وهو جالس عندي، ثم استوى جالسا يمسح على وجهه، وقال: "يا عائشة أبشري". قالت: قلت: بحمد الله لا بحمدك. فقرأ: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } ، حتى قرأ: (7) { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } [النور : 26] (8) .

هكذا أورده، وليس فيه أن الحكم خاص بها، وإنما فيه أنها سبب النزول دون غيرها، وإن كان الحكم يعمها كغيرها، ولعله مراد ابن عباس ومن قال كقوله، والله أعلم.

وقال الضحاك، وأبو الجوزاء، وسلمة بن نُبَيْط: المراد بها أزواج النبيّ خاصة، دون غيرهن من النساء.

وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } الآية: يعني أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، رماهن أهل النفاق، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب، وباؤوا بسخط من الله، فكان (9) ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل بعد ذلك: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إلى قوله: { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، فأنزل الله الجلد والتوبة، فالتوبة تقبل، والشهادة تُرَدّ.

وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا العوام بن حوشب، عن شيخ (10) من بني أسد، عن ابن عباس -قال: فسر سورة النور، فلما أتى على هذه الآية: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا } الآية -قال: في شأن عائشة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مبهمة، وليست لهم توبة، ثم قرأ: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إلى قوله: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } الآية [النور : 4 ، 5] ، قال: فجعل

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) في ف: "والآخرة ولهم عذاب مهين" وهو خطأ.

(3) زيادة في ف، أ.

(4) زيادة في ف، أ.

(5) في ف، أ. "عندي جالس".

(6) في ف، أ. "أوحى الله تعالى إليه".

(7) في ف، أ: "بلغ".

(8) تفسير الطبري (18/82).

(9) في ف: "وكان".

(10) في ف، أ: "العوام بن حوشب عن حوشب عن شيخ". 

لهؤلاء توبة ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة، قال: فهمّ بعضُ القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه، من حسن ما فسَّر به سورة النور (1) .

فقوله: "وهي مبهمة" ، أي: عامة في تحريم قذف كل محصنة، ولَعْنته في الدنيا والآخرة.

وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا في عائشة، ومن صنع مثل هذا أيضًا اليوم في المسلمات، فله ما قال الله، عز وجل، ولكن عائشة كانت إمامَ ذلك.

وقد اختار ابن جرير عمومها، وهو الصحيح، ويعضد العموم (2) ما رواه ابن أبي حاتم:

حدثنا أحمد بن عبد الرحمن -ابن أخي ابن وهب -حدثنا عمي، حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد، عن أبي الغَيث (3) عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات". قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".

أخرجاه في الصحيحين، من حديث سليمان بن بلال، به (4) .

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عَمْرو بن خالد الحَذَّاء الحراني، حدثني أبي،(ح) وحدثنا أبو شُعَيب الحراني، حدثنا جدي أحمد بن أبي شُعَيب، حدثنا موسى بن أعين، عن ليث، عن أبي إسحاق، عن صِلَة بن زُفَر، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة" (5) .

وقوله { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن عمرو بن أبي قيس، عن مُطَرِّف، عن المِنْهَال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إنهم -يعني: المشركين -إذا رَأوا أنه لا يدخلُ الجنةَ إلا أهل الصلاة، قالوا: تعالوا حتى نجحد. فيجحدون فيختم [الله] (6) على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم، ولا يكتمون الله حديثًا.

وقال ابن جرير، وابن أبي حاتم أيضًا: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى عليه وسلم قال:"إذا كان يوم القيامة، عُرف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك. فيقول: كذبوا. فيقول: أهلك وعشيرتك. فيقول: كذبوا، فيقول: احلفوا. فيحلفون، ثم يُصمِتهم الله، فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم، ثم يدخلهم النار" (7) .

وقال ابن أبي حاتم أيضًا: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة الكوفي، حدثنا

__________

(1) تفسير الطبري (18/83).

(2) في ف، أ: "الصحيح".

(3) في أ: "المغيب".

(4) صحيح البخاري برقم (2766) وصحيح مسلم برقم (89).

(5) المعجم الكبير للطبراني (3/196) وقال الهيثمي في المجمع (6/279): "وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف وقد يحسن حديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح".

(6) زيادة من ف، أ.

(7) تفسير الطبري (18/105) ورواه أبو يعلى في مسنده برقم (1392) من طريق ابن لهيعة، عن دراج عن أبي الهيثم به، ودراج عن أبي الهيثم ضعيف

الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

 

مِنْجَاب بن الحارث التميمي (1) حدثنا أبو عامر الأسَدِيَ، حدثنا سفيان، عن عبيد المُكْتب، عن فُضَيل بن عمرو الفُقَيمي، عن الشعبي، عن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نَوَاجذُه، ثم قال: "أتدرون (2) مِمَّ أضحك؟" قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: يا رب ، ألم تُجِرْني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: لا أجيز عليَّ شاهدًا إلا من نفسي. فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام عليك شهودا (3) فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لَكُنّ وسُحْقًا، فعنكُنَّ كنتُ أناضل".

وقد رواه مسلم والنسائي جميعا، عن أبي بكر بن أبي النضر، عن أبيه، عن عُبَيد الله (4) الأشجعي، عن سفيان الثوري، به (5) ثم قال النسائي: لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن سفيان الثوري غير (6) الأشجعي، وهو حديث غريب، والله أعلم. هكذا قال.

وقال قتادة: ابن آدم، والله إن عليك لَشُهودًا غيرَ متهمة من بدنك، فراقبهم واتق الله في سرك (7) وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، والظلمة عنده ضوء (8) والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن، فليفعل ولا قوة إلا بالله.

وقوله: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ } قال ابن عباس: { دِينَهُمُ } أي: حسابهم، وكل ما في القرآن { دِينَهُمُ } أي: حسابهم. وكذا قال غير واحد.

ثم إن قراءة الجمهور بنصب { الْحَقَّ } على أنه صفة لدينهم، وقرأ مجاهد بالرفع، على أنه نعت الجلالة. وقرأها بعض السلف في مصحف أبي بن كعب: "يومئذ يوفيهم الله الحقّ دينهم" (9) .

وقوله: { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } أي: وعده ووعيده وحسابه هو العدل، الذي لا جور فيه.

{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) }

قال ابن عباس: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول. والطيبات من القول، للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول. قال: ونزلت في عائشة وأهل الإفك.

وهكذا رُوي عن مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، والشعبي، والحسن بن أبي الحسن البصري، وحبيب بن أبي ثابت، والضحاك. واختاره ابن جرير، ووجَّهَهُ بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم

__________

(1) في ف: "التيمي".

(2) في ف: "تدرون".

(3) في ف، أ: "شهيدا".

(4) في أ: "عبد الله".

(5) صحيح مسلم برقم (2969).

(6) في أ: "إلا".

(7) في أ: "سرائرك".

(8) في ف: "ضياء".

(9) في أ: "يوفيهم الله دينهم الحق".

 

(6/34)

 

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)

 

أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم؛ ولهذا قال: { أُولَئِكَ (1) مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.

وهذا -أيضًا -يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم، أي: ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة؛ لأنه أطيب من كل طيب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له، لا شرعا ولا قدرا؛ ولهذا قال: { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } أي: هم بُعَداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان، { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } أي: بسبب ما قيل فيهم من الكذب، { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي: عند الله في جنات النعيم. وفيه وعد بأن تكون زوجة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنة.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن مسلم، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار قال: جاء أسير (2) بن جابر إلى عبد الله فقال: لقد سمعت الوليد بن عقبة تكلم بكلام أعجبني. فقال عبد الله: إن الرجل المؤمن يكون في قلبه الكلمة غير طيبة (3) تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها، فيسمعها (4) رجل عنده يَتُلّها فيضمها إليه. وإن الرجل الفاجر يكون في قلبه الكلمة الطيبة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها، فيسمعها (5) الرجل الذي عنده يَتُلُّها (6) فيضمها إليه، ثم قرأ عبد الله: { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } .

ويشبه هذا ما رواه الإمام أحمد في المسند مرفوعا: "مثل الذي يسمع الحكمة ثم لا يُحدِّث إلا بشرِّ ما سمع، كمثل رجل جاء إلى صاحب غنم، فقال: أجْزِرني شاة. فقال: اذهب فَخُذ بأذُن أيها شئتَ. فذهب فأخذ بأذن كَلْب الغنم" (7) وفي الحديث الآخر: "الحكمة (8) ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها" (9) .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) }

__________

(1) في ف، أ: "فأولئك" وهو خطأ".

(2) في ف، أ: "أسيد".

(3) في أ: "طائل".

(4) في أ: "فسمعها".

(5) في أ: "فسمعها".

(6) في أ: "مثلها".

(7) المسند (2/353) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(8) في أ: "الكلمة".

(9) رواه الترمذي في السنن برقم (2687) وابن ماجه في السنن برقم (4169) من طريق عبد الله بن نمير، عن إبراهيم بن الفضل، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم ابن الفضل المدني المخزومي، يضعف في الحديث من قبل حفظه".

 

 

 

 

 

=================

 

 

 

 

 

 

النور - تفسير القرطبي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الآية: 23 {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}

فيه مسألتان:-

الأولى: قوله تعالى: {الْمُحْصَنَاتِ} تقدم في "النساء". وأجمع العلماء على أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا، وقد بيناه أول السورة والحمد لله. واختلف فيمن المراد بهذه الآية؛ فقال سعيد بن جبير: هي في رماة عائشة رضوان الله عليها خاصة. وقال قوم: هي في عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن عباس والضحاك وغيرهما. ولا تنفع التوبة. ومن قذف غيرهن من المحصنات فقد جعل الله له توبة؛ لأنه قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ - إلى قوله - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فجعل الله لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك توبة؛ قاله الضحاك. وقيل هذا الوعيد لمن أصر على القذف ولم يتب. وقيل: نزلت في عائشة، إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة. وقيل: إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى؛ ويكون التقدير: إن الذين يرمون الأنفس المحصنات؛ فدخل في هذا المذكر والمؤنث؛ واختاره النحاس. وقيل: نزلت في مشركي مكة؛ لأنهم يقولون للمرأة إذا هاجرت إنما خرجت لتفجر.

 

(12/209)

 

 

الثانية: قوله تعالى: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} قال العلماء: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين من القذفة فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم لهم، وزوالهم عن رتبه العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين. وعلى قول من قال: هي خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبد الله بن أبيّ وأشباهه. وعلى قول من قال: نزلت في مشركي مكة فلا كلام، فإنهم مبعدون، ولهم في الآخرة عذاب عظيم؛ ومن أسلم فالإسلام يجب ما قبله. وقال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى؛ ويكون التقدير: إن الذين يرمون الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكر والمؤنث، وكذا في الذين يرمون؛ إلا أنه غلب المذكر على المؤنث.

الآية: 24 {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

قراءة العامة بالتاء، واختاره أبو حاتم. وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف {يَشْهَد} بالياء، واختاره أبو عبيد؛ لأن الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل، والمعنى: يوم تشهد ألسنة بعضهم على بعض بما كانوا يعملون من القذف والبهتان. وقيل: تشهد عليهم ألسنتهم ذلك اليوم بما تكلموا به. {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} أي وتتكلم الجوارح بما عملوا في الدنيا.

الآية: 25 {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}

أي حسابهم وجزاؤهم. وقرأ مجاهد {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقُّ} برفع {الحق} على أنه نعت لله عز وجل. قال أبو عبيد: ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع؛ ليكون نعتا لله عز وجل، وتكون موافقة لقراءة أبيّ، وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبيّ {يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ الحَقُّ دِينَهُمْ} . قال النحاس: وهذا الكلام من أبي عبيد غير

 

(12/210)

 

 

مرضي؛ لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم. ولا حجة أيضا فيه لأنه لو صح هذا أنه في مصحف أبيّ كذا جاز أن تكون القراءة: يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم، يكون "دينهم" بدلا من الحق. وعلى قراءة {دِينَهُمُ الْحَقَّ} يكون "الحقّ" نعتا لدينهم، والمعنى حسن؛ لأن الله عز وجل ذكر المسيئين وأعلم أنه يجازيهم بالحق؛ كما قال عز وجل: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17]؛ لأن مجازاة الله عز وجل للكافر والمسيء بالحق والعدل، ومجازاته للمحسن بالإحسان والفضل. {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} اسمان من أسمائه سبحانه. وقد ذكرناهما في غير موضع، وخاصة في الكتاب الأسنى.

الآية: 26 {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}

قال ابن زيد: المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون للخبيثات، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين: المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول. قال النحاس في كتاب معاني القرآن: وهذا أحسن ما قيل في هذه الآية. ودل على صحة هذا القول {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي عائشة وصفوان مما يقول الخبيثون والخبيثات. وقيل: إن هذه الآية مبنية على قوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] الآية؛ فالخبيثات الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الطيبون والطيبات. واختار هذا القول النحاس أيضا، وهو معنى قول ابن زيد. {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} يعني به الجنس. وقيل: عائشة وصفوان فجمع كما قال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] والمراد أخوان؛ قاله الفراء.

 

(12/211)

 

 

و {مُبَرَّأُونَ} يعني منزهين مما رموا به. قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن؛ فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان. وروي عن علي بن زيد بن جدعان عن جدته عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري، ولقد توفي صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفت الملائكة بيتي، وإن كان الوحي لينزل عليه وهو في أهله فينصرفون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه فما يبينني عن جسده، وإني لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة وعند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما؛ تعني قوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهو الجنة.

الآية: 27 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

فيه سبع عشرة مسألة:-

الأولى: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً} لما خصص الله سبحانه ابن آدم الذي كرمه وفضله بالمنازل وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج أو يلجوها من غير إذن أربابها، أدبهم بما يرجع إلى الستر عليهم لئلا يطلع أحد منهم على عورة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقؤوا عينه". وقد اختلف في تأويله فقال بعض العلماء: ليس هذا على ظاهره،

 

(12/212)

 

 

فإن فقأ فعليه الضمان، والخبر منسوخ، وكان قبل نزول قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} [النحل: 126] ويحتمل أن يكون خرج على وجه الوعيد لا على وجه الحتم، والخبر إذا كان مخالفا لكتاب الله تعالى لا يجوز العمل به. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام في الظاهر وهو يريد شيئا آخر؛ كما جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه قال لبلال: "قم فاقطع لسانه" وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئا، ولم يرد به القطع في الحقيقة. وكذلك هذا يحتمل أن يكون ذكر فقء العين والمراد أن يعمل به عمل حتى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره. وقال بعضهم: لا ضمان عليه ولا قصاص؛ وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لحديث أنس على ما يأتي.

الثانية: سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري وغيره عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل عليّ وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع ؟ فنزلت الآية. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن؛ فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [ النور: 29].

الثالثة: مد الله سبحانه وتعالى التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس، وهو الاستئذان. قال ابن وهب قال مالك: الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان؛ وكذا في قراءة أبيّ وابن عباس وسعيد بن جبير {حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلَّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} . وقيل: إن معنى {تَسْتَأْنِسُوا} تستعلموا؛ أي تستعلموا من في البيت. قال مجاهد: بالتنحنح أو بأي وجه أمكن، ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به، ويدخل إثر ذلك. وقال معناه الطبري؛ ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] أي علمتم. وقال الشاعر:

آنست نبأة وأفزعها القناص ... عصرا وقد دنا الإمساء

 

(12/213)

 

 

قلت: وفي سنن ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن واصل بن السائب عن أبي سورة عن أبي أيوب الأنصاري قال قلنا: يا رسول الله، هذا السلام، فما الاستئذان؟ قال: "يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح ويؤذن أهل البيت".

قلت: وهذا نص في أن الاستئناس غير الاستئذان؛ كما قال مجاهد ومن وافقه.

الرابعة: وروي عن ابن عباس وبعض الناس يقول عن سعيد بن جبير {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} خطأ أو وهم من الكاتب، إنما هو {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}. وهذا غير صحيح عن ابن عباس وغيره؛ فإن مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}، وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان، فهي التي لا يجوز خلافها. وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح عن ابن عباس؛ وقد قال عز وجل: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وقد روي عن ابن عباس أن في الكلام تقديما وتأخيرا؛ والمعنى: حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا حكاه أبو حاتم. قال ابن عطية. ومما ينفي هذا القول عن ابن عباس وغيره أن {تَسْتَأْنِسُوا} متمكنة في المعنى، بينة الوجه في كلام العرب. وقد قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: أستأنس يا رسول الله؛ وعمر واقف على باب الغرفة، الحديث المشهور. وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه وسلم، فكيف يخطّئ ابن عباس أصحاب الرسول في مثل هذا.

قلت: قد ذكرنا من حديث أبي أيوب أن الاستئناس إنما يكون قبل السلام، وتكون الآية على بابها لا تقديم فيها ولا تأخير، وأنه إذا دخل سلم. والله أعلم.

الخامسة: السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها. قال ابن وهب قال مالك: الاستئذان ثلاث، لا أحب أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع. وصورة الاستئذان أن يقول الرجل: السلام عليكم أأدخل؛ فإن أذن له دخل، وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن سكت عنه استأذن

 

(12/214)

 

 

ثلاثا؛ ثم ينصرف من بعد الثلاث. وإنما قلنا: إن السنة الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها لحديث أبي موسى الأشعري، الذي استعمله مع عمر بن الخطاب وشهد به لأبي موسى أبو سعيد الخدري، ثم أبيّ بن كعب. وهو حديث مشهور أخرجه الصحيح، وهو نص صريح؛ فإن فيه: فقال - يعني عمر - ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: أتيت فسلمت على بابك ثلاث مرات فلم ترد علي فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع". وأما ما ذكرناه من صورة الاستئذان فما رواه أبو داود عن ربعي قال: حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: ألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: "أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان - فقال له - قل السلام عليكم أأدخل" فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل. وذكره الطبري وقال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة: "قولي لهذا يقول السلام عليكم أدخل؟..." الحديث. وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء يوما فأتى فسطاطا لامرأة من قريش فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقالت المرأة: ادخل بسلام؛ فأعاد فأعادت، فقال لها: قولي أدخل. فقالت ذلك فدخل؛ فتوقف لما قالت: بسلام؛ لاحتمال اللفظ أن تريد بسلامك لا بشخصك.

السادسة: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما خص الاستئذان بثلاث لأن الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثا سمع وفهم؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه، وإذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا. وإذا كان الغالب هذا؛ فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن، أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه؛ فينبغي للمستأذن أن ينصرف؛ لأن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل، وربما يضره الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب حين استأذن عليه فخرج مستعجلا فقال: "لعلنا أعجلناك... " الحديث. وروى عقيل عن ابن شهاب قال: أما سنة التسليمات الثلاث فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سعد

 

(12/215)

 

 

بن عبادة فقال: "السلام عليكم" فلم يردوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السلام عليكم" فلم يردوا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما فقد سعد تسليمه عرف أنه قد انصرف؛ فخرج سعد في أثره حتى أدركه، فقال: وعليك السلام يا رسول الله، إنما أردنا أن نستكثر من تسليمك، وقد والله سمعنا؛ فأنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سعد حتى دخل بيته. قال ابن شهاب: فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك؛ رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال: سمعت يحيى بن أبي كثير يقول حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: "السلام عليكم ورحمة الله" قال فرد سعد ردا خفيا، قال قيس: فقلت ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ذره يكثر علينا من السلام... الحديث، أخرجه أبو داود وليس فيه قال ابن شهاب فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك. قال أبو داود: ورواه عمر بن عبد الواحد وابن سماعة عن الأوزاعي مرسلا لم يذكرا قيس بن سعد.

السابعة: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الاستئذان ترك العمل به الناس. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وذلك لاتخاذ الناس الأبواب وقرعها؛ والله أعلم. روى أبو داود عن عبد الله بن بسر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: "السلام عليكم السلام عليكم" وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور.

الثامنة: فإن كان الباب مردودا فله أن يقف حيث شاء منه ويستأذن، وإن شاء دق الباب؛ لما رواه أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حائط بالمدينة على قُف البئر فمد رجليه في البئر فدق الباب أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إيذن له وبشره بالجنة". هكذا رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد وتابعه صالح بن كيسان ويونس بن يزيد؛ فرووه جميعا عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن نافع

 

(12/216)

 

 

عن أبي موسى. وخالفهم محمد بن عمرو الليثي فرواه عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن نافع بن عبد الحارث عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك؛ وإسناده الأول أصح، والله اعلم.

التاسعة: وصفة الدق أن يكون خفيفا بحيث يسمع، ولا يعنف في ذلك؛ فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تقرع بالأظافير؛ ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في جامعه.

روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من هذا" ؟ فقلت أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أنا"! كأنه كره ذلك. قال علماؤنا: إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن قوله أنا لا يحصل بها تعريف، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو موسى؛ لأن في ذكر الاسم إسقاط كلفة السؤال والجواب. ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم أيدخل عمر؟ وفي صحيح مسلم أن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسى، السلام عليكم، هذا الأشعري... الحديث.

الحادية عشرة: ذكر الخطيب في جامعه عن علي بن عاصم الواسطي قال: قدمت البصرة فأتيت منزل شعبة فدققت عليه الباب فقال: من هذا؟ قلت أنا؛ فقال: يا هذا ما لي صديق يقال له أنا ثم خرج إليّ فقال: حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لي فطرقت عليه الباب فقال: "من هذا" ؟ فقلت أنا؛ فقال: "أنا أنا" كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره قولي هذا، أو قوله هذا. وذكر عن عمر بن شبة حدثنا محمد بن سلام عن أبيه قال: دققت على عمرو بن عبيد الباب فقال لي: من هذا؟ فقلت أنا؛ فقال: لا يعلم الغيب إلا الله. قال الخطيب: سمعت علي بن المحسن القاضي يحكي عن بعض الشيوخ أنه كان إذا دق بابه فقال من ذا؟ فقال الذي على الباب أنا، يقول الشيخ: أنا هم دق.

 

(12/217)

 

 

الثانية عشرة: ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة؛ كما رواه أبو بكر الخطيب مسندا عن أبي عبد الملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قال: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي، فلما قام بالباب قال: أندر؟ قالت أندرون. وترجم عليه باب الاستئذان بالفارسية. وذكر عن أحمد بن صالح قال: كان الدراوردي من أهل أصبهان نزل المدينة، فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل: أندرون، فلقبه أهل المدينة الدراوردي.

الثالثة عشرة: روى أبو داود عن كلدة بن حنبل أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فدخلت ولم أسلم فقال: "ارجع فقل السلام عليكم" وذلك بعدما أسلم صفوان بن أمية. وروى أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له". وذكر ابن جريج أخبرني عطاء قال: سمعت أبا هريرة يقول: إذا قال الرجل أدخل؟ ولم يسلم فقل لا حتى تأتي بالمفتاح؛ فقلت السلام عليكم؟ قال نعم. وروي أن حذيفة جاءه رجل فنظر إلى ما في البيت فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال حذيفة: أما بعينك فقد دخلت وأما باستك فلم تدخل.

الرابعة عشرة: ومما يدخل في هذا الباب ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رسول الرجل إلى الرجل إذنه" ؛ أي إذا أرسل إليه فقد أذن له في الدخول، يبينه قوله عليه السلام: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن". أخرجه أبو داود أيضا عن أبي هريرة.

الخامسة عشرة: فإن وقعت العين على العين فالسلام قد تعين، ولا تعد رؤيته إذنا لك في دخولك عليه، فإذا قضيت حق السلام لأنك الوارد عليه تقول: أدخل؟ فإن أذن لك وإلا رجعت.

 

(12/218)

 

 

السادسة عشرة: هذه الأحكام كلها إنما هي في بيت ليس لك، فأما بيتك الذي تسكنه فإن كان فيه أهلك فلا إذن عليها، إلا أنك تسلم إذا دخلت. قال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم. فإن كان فيه معك أمك أو أختك فقالوا: تنحنح واضرب برجلك حتى ينتبها لدخولك؛ لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها. وأما الأم والأخت فقد يكونا على حالة لا تحب أن تراهما فيها. قال ابن القاسم قال مالك: ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما. وقد روى عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أستأذن على أمي؟ قال "نعم" قال: إني أخدمها؟ قال: "استأذن عليها" فعاوده ثلاثا؛ قال "أتحب أن تراها عريانة" ؟ قال لا؛ قال: "فاستأذن عليها" ذكره الطبري.

السابعة عشرة: فإن دخل بيت نفسه وليس فيه أحد؛ فقال علماؤنا: يقول السلام علينا من ربنا التحيات الطيبات المباركات، لله السلام. رواه ابن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسنده ضعيف. وقال قتادة: إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فإنه يؤمر بذلك. قال: وذكر لنا أن الملائكة ترد عليهم. قال ابن العربي: والصحيح ترك السلام والاستئذان، والله أعلم.

قلت: قول قتادة حسن.

 

 

 

 

 

================

 

 

 

 

 

 

النور - تفسير الطبري

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)

 

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (21) }

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لا تسلكوا سبيل الشيطان وطرقه، ولا تقتفوا آثاره، بإشاعتكم الفاحشة في الذين آمنوا وإذ اعتكموها فيهم وروايتكم ذلك عمن جاء به، فإن الشيطان يأمر بالفحشاء، وهي الزنا، والمنكر من القول.

وقد بَيَّنَّا معنى الخطوات والفحشاء فيما مضى بشواهده، ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

(19/134)

 

 

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) }

يقول تعالى ذكره: ولولا فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته لكم، ما تَطَهَّر منكم من أحد أبدا من دنس ذنوبه وشركه، ولكن الله يطهرُ من يشاء من خلقه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا ) يقول: ما اهتدى منكم من الخلائق لشيء من الخير ينفع به نفسه، ولم يتق شيئا من الشرّ يدفعه عن نفسه.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا ) قال: ما زكى: ما أسلم ، وقال: كلّ شيء في القرآن من زكى أو تَزكى، فهو الإسلام.

وقوله:( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) يقول: والله سميع لما تقولون بأفواهكم، وتَلَقَّوْنه بألسنتكم، وغير ذلك من كلامكم، عليم بذلك كله وبغيره من أموركم، محيط به، محصيه عليكم، ليجازيكم بكل ذلك.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) }

يقول تعالى ذكره: ولا يحلف بالله ذوو الفضل منكم، يعني: ذوي التفضل والسَّعة، يقول: وذوو الجِدَه.

واختلف القرّاء في قراءة قوله:( ولا يَأْتَلِ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار.( وَلا يَأْتَلِ ) بمعنى: يفتعل من الألَيَّة، وهي القسم بالله، سوى أبي جعفر وزيد بن أسلم، فإنه ذكر عنهما أنهما قرآ ذلك "وَلا يَتألّ" بمعنى: يتفعل، من الألِية.

 

(19/135)

 

 

والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ:( ولا يَأْتَلِ ) بمعنى: يفتعل من الألية، وذلك أن ذلك في خطّ المصحف كذلك، والقراءة الأخرى مخالفة خطّ المصحف، فاتباع المصحف مع قراءة جماعة القرّاء وصحّة المقروء به أولى من خلاف ذلك كله، وإنما عُنِي بذلك أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه في حلفه بالله لا ينفق على مِسْطَح، فقال جلّ ثناؤه: ولا يحلف من كان ذا فضل من مال وسعة منكم أيها المؤمنون بالله ألا يُعْطُوا ذَوي قَرابتهم، فيصلوا به أرحامهم، كمِسْطح، وهو ابن خالة أبي بكر( والمسَاكِين ) يقول: وذوي خَلَّة الحاجة، وكان مِسْطح منهم؛ لأنه كان فقيرا محتاجا( وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) وهم الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم في جهاد أعداء الله، وكان مِسْطَح منهم; لأنه كان ممن هاجر من مكة إلى المدينة، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا( وَلْيَعْفُوا ) يقول: وليعفوا عما كان منهم إليهم من جُرم، وذلك كجرم مِسطَح إلى أبي بكر في إشاعته على ابنته عائشة ما أشاع من الإفك ،( وَلْيَصْفَحُوا ) يقول: وليتركوا عقوبتهم على ذلك، بحرمانهم ما كانوا يؤتونهم قبل ذلك، ولكن ليعودوا لهم إلى مثل الذي كانوا لهم عليه من الإفضال عليهم ،( أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ) يقول: ألا تحبون أن يستر الله عليكم ذنوبكم بإفضالكم عليهم، فيترك عقوبتكم عليها( واللهُ غَفُورٌ ) لذنوب من أطاعه واتبع أمره،( رَحِيمٌ ) بهم أن يعذبهم مع اتباعهم أمره، وطاعتهم إياه على ما كان لهم من زلة وهفوة قد استغفروه منها، وتابوا إليه من فعلها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهريّ، عن عَلقمة بن وقاص الليثيّ، وعن سعيد بن المسيب، وعن عروة بن الزبير، وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة، قال: وثني ابن إسحاق، قال: ثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، قال: وثني ابن إسحاق، قال: ثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، قالت: لما نزل هذا، يعني قوله:( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) في عائشة، وفيمن قال لها ما قال قال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا، ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال، وأدخل عليها

 

(19/136)

 

 

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)

 

ما أدخل، قالت: فأنزل الله في ذلك( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ )... الآية. قالت: فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجَّع إلى مسطح نفقته التي كان يُنْفِق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.

حدثني عليّ، قال ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) يقول: لا تقسموا ألا تنفعوا أحدا.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ )... إلى آخر الآية، قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رَمَوا عائشة بالقبيح، وأفشَوا ذلك وتكلموا به، فأقسم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيهم أبو بكر، ألا يتصدّق على رجل تكلم بشيء من هذا ولا يصله، فقال: لا يُقْسِم أولو الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم، وأن يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك. فأمر الله أن يُغْفَر لهم وأن يُعْفَى عنهم.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) : لما أنزل الله تعالى ذكره عذر عائشة من السماء، قال أبو بكر وآخرون من المسلمين، والله لا نصل رجلا منهم تكلم بشيء من شأن عائشة ولا ننفعه، فأنزل الله( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) يقول: ولا يحلف.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى ) قال: كان مِسْطَح ذا قرابة.( وَالْمَسَاكِينَ ) قال: كان مسكينا( والمهاجرين في سبيل الله ) كان بدْريا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) قال: أبو بكر حلف أن لا ينفع يتيما في حِجْره كان أشاع ذلك، فلما نزلت هذه الآية قال: بلى أنا أحب أن يغفر الله لي، فلأكوننّ ليتيمي خيرَ ما كنت له قطُّ.

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ

 

(19/137)

 

 

الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) }

يقول تعالى ذكره:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ ) بالفاحشة( الْمُحْصَنَاتِ ) يعني العفيفات( الْغَافِلاتِ ) عن الفواحش( الْمُؤْمِنَاتِ ) بالله ورسوله، وما جاء به من عند الله،( لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) يقول: أبْعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة،( وَلَهُمْ ) في الآخرة( عَذَابٌ عَظِيمٌ ) وذلك عذاب جهنم.

واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي هذا حكمهنّ، فقال بعضهم: إنما ذلك لعائشة خاصة، وحكم من الله فيها وفيمن رماها، دون سائر نساء أمة نبينا صلى الله عليه وسلم

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا خَصِيف، قال: قلت لسعيد بن جُبير: الزنا أشدّ أم قذف المحصَنة؟ فقال: الزنا، فقلت: أليس الله يقول:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ )... الآية؟ قال سعيد: إنما كان هذا لعائشة خاصة.

حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: ثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سَلَمة، عن أبيه، قال: قالت عائشة: رُميت بما رُميت به وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك، قالت: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي جالس، إذ أوحي إليه، وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات، وأنه أُوحي إليه وهو جالس عندي، ثم استوى جالسا يمسح عن وجهه، وقال: يا عائشة أبشري، قالت: فقلت: بحمد الله لا بحمدك، فقرأ:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ )... حتى بلغ:( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ).

وقال آخرون: بل ذلك لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، دون سائر النساء غيرهنّ.

*ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ )... الآية، أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة.

 

(19/138)

 

 

وقال آخرون: نزلت هذه الآية في شأن عائشة، وعني بها كلّ من كان بالصفة التي وصف الله في هذه الآية، قالوا: فذلك حكم كلّ من رمى محصنة، لم تقارف سُوءًا.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا زيد، عن جعفر بن برقان، قال: سألت ميمونا، قلت: الذي ذكر الله:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ )... إلى قوله:( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فجعل في هذه توبة، وقال في الأخرى:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ )... إلى قوله:( لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) قال ميمون: أما الأولى فعسى أن تكون قد قارفت، وأما هذه، فهي التي لم تقارف شيئا من ذلك.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام بن حوشب، عن شيخ من بني أسد، عن ابن عباس، قال: فسَّر سورة النور، فلما أتى على هذه الآية( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ )... الآية، قال: هذا في شأن عائشة وأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهي مبهمة، وليست لهم توبة، ثم قرأ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ) ... إلى قوله:( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا )... الآية، قال: فجعل لهؤلاء توبة، ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة، قال: فهمّ بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن ما فسَّر سورة النور.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) قال: هذا في عائشة، ومن صنع هذا اليوم في المسلمات، فله ما قال الله، ولكن عائشة كانت إمام ذلك.

وقال آخرون: نزلت هذه الآية في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أوّل السورة فأوجب الجلد، وقبل التوبة.

*ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ )... إلى:( عَذَابٌ عَظِيمٌ ) يعني أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، رماهنّ أهل النفاق، فأوجب الله

 

(19/139)

 

 

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)

 

لهم اللعنة والغضب وباءوا بسخط من الله، وكان ذلك في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل بعد ذلك:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ )... إلى قوله:( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فأنزل الله الجلد والتوبة، فالتوبة تُقبل، والشهادة تردّ.

وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: نزلت هذه الآية في شأن عائشة، والحكم بها عامّ في كلّ من كان بالصفة التي وصفه الله بها فيها.

وإنما قلنا ذلك أولى تأويلاته بالصواب؛ لأن الله عمَّ بقوله:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) كلّ محصنة غافلة مؤمنة، رماها رام بالفاحشة، من غير أن يخصَّ بذلك بعضا دون بعض، فكلّ رام محصنة بالصفة التي ذكر الله جلّ ثناؤه في هذه الآية فملعون في الدنيا والآخرة، وله عذاب عظيم، إلا أن يتوب من ذنبه ذلك قبل وفاته، فإن الله دلّ باستثنائه بقوله:( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ) على أن ذلك حكم رامي كل محصنة، بأيّ صفة كانت المحصنة المؤمنة المرمية، وعلى أن قوله:( لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) معناه: لهم ذلك إن هلكوا ولم يتوبوا.

القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) }

يقول تعالى ذكره: ولهم عذاب عظيم( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ) فاليوم الذي في قوله:( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ) من صلة قوله:( وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) وعُني بقوله:( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ) يوم القيامة، وذلك حين يجحد أحدهم ما اكتسب في الدنيا من الذنوب، عند تقرير الله إياه بها فيختم الله على أفواههم، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.

فإن قال قائل: وكيف تشهد عليهم ألسنتهم حين يختم على أفواههم؟ قيل: عني بذلك أن ألسنة بعضهم تشهد على بعض، لا أنَّ ألسنتهم تنطق وقد ختم على الأفواه.

وقد حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ عُرِّفَ الكَافِرُ بعَمَلِه، فَجَحَدَ وَخَاصَمَ، فَيُقُالُ لَهُ: هَؤُلاءِ جِيرَانُك يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ، فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيَقُولُ: أهْلُكَ وعَشِيرتُكَ، فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيَقُولُ: أتَحْلِفُونَ؟

 

(19/140)

 

 

يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

 

فَيَحْلِفُون، ثُمَّ يُصْمِتُهُم اللهُ، وتَشْهَدُ ألْسِنَتُهُم ثُمَّ يُدْخلُهُم النَّارَ".

القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) }

يقول تعالى ذكره:( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يوفيهم الله حسابهم وجزاءهم الحقّ على أعمالهم.

والدين في هذا الموضع: الحساب والجزاء، كما حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله:( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ) يقول. حسابهم.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله:( الحَقَّ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار.( دِينَهُمُ الْحَقَّ ) نصبا على النعت للدين، كأنه قال: يوفيهم الله ثواب أعمالهم حقا، ثم أدخل في الحقّ الألف واللام، فنصب بما نصب به الدين. وذُكر عن مجاهد أنه قرأ ذلك: "يُوَفِيهمُ اللهُ دينَهُمُ الحَقُّ" برفع الحقّ على أنه من نعت الله.

حدثنا بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا يزيد، عن جرير بن حازم، عن حميد، عن مجاهد، أنه قرأها "الحق" بالرفع. قال جرير: وقرأتها في مصحف أُبيّ بن كعب " يُوَفِّيهمُ اللهُ الحَقُّ دِينَهُمْ".

والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار، وهو نصب الحقّ على اتباعه إعراب الدين؛ لإجماع الحجة عليه.

وقوله:( وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) يقول: ويعلمون يومئذ أن الله هو الحق الذي يبين لهم حقائق ما كان يعدهم في الدنيا من العذاب، ويزول حينئذٍ الشكُّ فيه عن أهل النفاق، الذين كانوا فيما كان يعدهم في الدنيا يمترون.

القول في تأويل قوله تعالى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) }

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول

 

(19/141)

 

 

للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول.

*ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ) يقول: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول.

وقوله:( وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ ) يقول: الطيبات من القول للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول، نزلت في الذين قالوا في زوجة النبيّ صلى الله عليه وسلم ما قالوا من البهتان، ويقال: الخبيثات للخبيثين: الأعمال الخبيثة تكون للخبيثين: والطيبات من الأعمال تكون للطيبين.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس، والطيبات من الكلام للطيبين من الناس.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، في قول الله:( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) قال: الطيبات: القول الطيب، يخرج من الكافر والمؤمن فهو للمؤمن، والخبيثات: القول الخبيث يخرج من المؤمن والكافر فهو للكافر( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) وذلك أنه برأ كليهما مما ليس بحقّ من الكلام.

حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) يقول: الخبيثات والطيبات: القول السيئ والحسن، للمؤمنين الحسن وللكافرين السيئ( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) وذلك بأنه ما قال الكافرون من كلمة طيبة فهي للمؤمنين، وما قال المؤمنون من كلمة خبيثة فهي للكافرين، كلّ بريء مما ليس بحقّ من الكلام.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن

 

(19/142)

 

 

مجاهد:( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ) قال: الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من الكلام.

حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، مثله.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ )... الآية، يقول: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول، فهذا في الكلام، وهم الذين قالوا لعائشة ما قالوا، هم الخبيثون، والطيبون هم المبرّءون مما قال الخبيثون.

حدثنا أبو زرعة، قال ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سلمة، يعني ابن نبيط الأشجعي، عن الضحاك:( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ) قال: الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس، والطيبات من الكلام للطيبين من الناس.

قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيع وعثمان بن الأسود، عن مجاهد:( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) قال: الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول.

قال: ثنا سفيان عن خصيف، عن سعيد بن جبير، قال:( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) قال: الخبيثات من القول للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول.

قال: ثني محمد بن بكر بن مقدم، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن عبد الملك، يعني ابن أبي سليمان، عن القاسم بن أبي بزّة، عن سعيد بن جبير، عن مجاهد:( وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ) قال: الخبيثات من القول للخبيثين من الناس.

قال: ثنا عباس بن الوليد النرسي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) يقول: الخبيثات من القول والعمل للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات

 

(19/143)

 

 

من القول والعمل.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، قال: الطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات، قال: الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول، والخبيثات من القول للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء.

*ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) قال: نزلت في عائشة حين رماها المنافق بالبهتان والفرية، فبرأها الله من ذلك. وكان عبد الله بن أُبيّ هو خبيث، وكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبا، وكان أولى أن تكون له الطيبة، وكانت عائشة الطيبة، وكان أولى أن يكون لها الطيب( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) قال: هاهنا برّئت عائشة( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ).

وأولى هذه الأقوال في تأويل الآية قول من قال: عنى بالخبيثات: الخبيثات من القول، وذلك قبيحه وسيئه للخبيثين من الرجال والنساء، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول، هم بها أولى؛ لأنهم أهلها. والطيبات من القول، وذلك حسنه وجميله للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول; لأنهم أهلها وأحقّ بها.

وإنما قلنا هذا القول أولى بتأويل الآية؛ لأن الآيات قبل ذلك إنما جاءت بتوبيخ الله للقائلين في عائشة الإفك، والرامين المحصنات الغافلات المؤمنات، وإخبارهم ما خصهم به على إفكهم، فكان ختم الخبر عن أولى الفريقين بالإفك من الرامي والمرمي به، أشبه من الخبر عن غيرهم.

وقوله:( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ ) يقول: الطيبون من الناس مبرّءون من خبيثات القول، إن قالوها فإن الله يصفح لهم عنها، ويغفرها لهم، وإن قيلت فيهم؛ ضرّت قائلها ولم تضرّهم، كما لو قال الطيب من القول الخبيث من الناس لم ينفعه الله به، لأن الله لا يتقبله،

 

(19/144)

 

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)

 

ولو قيلت له لضرّته؛ لأنه يلحقه عارها في الدنيا، وذلها في الآخرة.

كما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) فمن كان طيبا فهو مبرأ من كل قول خبيث، يقول يغفره الله، ومن كان خبيثا فهو مبرأ من كل قول صالح، فإنه يردّه الله عليه لا يقبله منه، وقد قيل: عُني بقوله:( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) عائشة وصفوان بن المعطل الذي رميت به، فعلى هذا القول قيل "أُولئِكَ"فجمع، والمراد ذانك، كما قيل:( وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً ) والمراد أخَوان.

وقوله:( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) يقول لهؤلاء الطيبين من الناس مغفرة من الله لذنوبهم، والخبيث من القول إن كان منهم( وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) يقول: ولهم أيضا مع المغفرة عطية من الله كريمة، وذلك الجنة، وما أعدّ لهم فيها من الكرامة.

كما حدثنا أبو زرعة، قال: ثنا العباس بن الوليد النرسي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة:( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ): مغفرة لذنوبهم ورزق كريم في الجنة.

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) }

اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: تأويله يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا.

*ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: "لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا" قال: وإنما "تستأنسوا" وهم من الكُتَّاب.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس في هذه الآية( لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) وقال: إنما هي خطأ من الكاتب حتى تستأذنوا وتسلموا.

 

(19/145)

 

 

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، بمثله. غير أنه قال: إنما هي حتى تستأذنوا، ولكنها سقط من الكاتب.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا معاذ بن سليمان، عن جعفر بن إياس، عن سعيد، عن ابن عباس( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) قال: أخطأ الكاتب، وكان ابن عباس يقرأ "حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا" وكان يقرؤها على قراءة أُبيّ بن كعب.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش أنه كان يقرؤها: "حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا" قال سفيان: وبلغني أن ابن عباس كان يقرؤها: "حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا" وقال: إنها خطأ من الكاتب.

حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) قال: الاستئناس: الاستئذان.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، قال: في مصحف ابن مسعود: "حَتَّى تُسَلِّمُوا على أهْلِها وَتَسْتَأْذِنُوا".

قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جعفر بن إياس، عن سعيد، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: "يأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تُسَلِّمُوا عَلى أهْلِها وتَسْتَأْذِنوا" قال: وإنما تستأنسوا وهم من الكتاب.

قال: ثنا هشيم، قال مغيرة، قال مجاهد: جاء ابن عمر من حاجة وقد آذاه الرمضاء، فأتى فسطاط امرأة من قريش، فقال: السلام عليكم، أدخل؟ فقالت: ادخل بسلام، فأعاد فأعادت، وهو يراوح بين قدميه، قال: قولي ادخل، قالت: ادخل فدخل.

قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن ابن سيرين، وأخبرنا يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد الثقفي، أن رجلا استأذن على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ألج أو أنلج؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة: "قُومِي إلى هَذَا فَكَلِّمِيهِ، فإنَّهُ لا يُحسِنُ يَسْتأذِنُ، فَقُولي لَهُ يَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أدْخُل؟ " فسمعها الرجل، فقالها، فقال: "اُدْخُل".

 

(19/146)

 

 

حدثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس، قوله:( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال: الاستئذان، ثم نسخ واستثني:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ) .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن المغيرة، عن إبراهيم، قوله:( لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ) قال: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة:( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال: حتى تستأذنوا وتسلموا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أشعث بن سوار، عن كردوس، عن ابن مسعود، قال: عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم، قال أشعت، عن عديّ بن ثابت: أن امرأة من الأنصار، قالت: يا رسول الله، إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها، والد ولا ولد، وأنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال؟ قال: فنزلت:( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا )... الآية.

وقال آخرون: معنى ذلك: حتى تؤنسوا أهل البيت بالتنحنح والتنخم وما أشبهه، حتى يعلموا أنكم تريدون الدخول عليهم.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، في قوله:( لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) قال: حتى تتنحنحوا وتتنخموا.

حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله:( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال: حتى تجرّسوا وتسلموا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله:( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال: تنحنحوا وتنخموا.

 

(19/147)

 

 

قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس، قال: ثلاث آيات قد جحدهنّ الناس، قال الله:( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) قال: ويقولون: إن أكرمهم عند الله أعظمهم شأنا، قال: والإذن كله قد جحده الناس، فقلت له: أستأذن على أخواتي، أيتام في حجري، معي في بيت واحد؟ قال: نعم (1) فرددت على من حضرني، فأبى، قال: أتحبّ أن تراها عريانة؟ قلت: لا قال: فاستأذن، فراجعته أيضا، قال: أتحبّ أن تطيع الله؟ قلت: نعم، قال: فاستأذن، فقال لي سعيد بن جُبير: إنك لتردد عليه، قلت: أردت أن يرخص لي.

قال ابن جُرَيج: وأخبرني ابن طاووس، عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إليّ أن أرى، كأنه يقول: عريتها أو عريانة، من ذات محرم، قال: وكان يشدّد في ذلك.

قال ابن جُرَيج، وقال عطاء بن أبي رباح: وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا، فواجب على الناس أجمعين إذا احتلموا أن يستأذنوا على من كان من الناس، قلت لعطاء: أواجب على الرجل أن يستأذن على أمه، ومن وراءها من ذات قرابته؟ قال: نعم، قلت: أبرّ وجب؟ قال قوله:( وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ) .

قال ابن جُرَيج: وأخبرني ابن زياد: أن صفوان مولى لبني زهرة، أخبره عن عطاء بن يسار: أن رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أستأذن على أمي؟ قال: "نَعَمْ" ، قال: إنها ليس لها خادم غيري، أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: "أتُحب أنْ تَراها عُرْيَانَةً؟ " قال الرجل: لا. قال: "فاسْتَأْذِنْ عَلَيْها".

قال ابن جُرَيج عن الزهري: قال: سمعت هزيل بن شُرَحبيل الأوْدي الأعمى، أنه سمع ابن مسعود يقول: عليكم الإذن على أمهاتكم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا.

حدثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن حازم، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن يحيى بن الجزّار، عن ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود، عن زينب قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه.

__________

(1) في ابن كثير: فرددت عليه ليرخص لي ، فأبى ، فلعله تصحيف عنه.

 

(19/148)

 

 

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال: الاستئناس: التنحنح والتجرس، حتى يعرفوا أن قد جاءهم أحد، قال: والتجرّس: كلامه وتنحنحه.

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الاستئناس: الاستفعال من الأنس، وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم، مخبرا بذلك من فيه، وهل فيه أحد؟ وليؤذنهم أنه داخل عليهم، فليأنس إلى إذنهم له في ذلك، ويأنسوا إلى استئذانه إياهم.

وقد حكي عن العرب سماعا: اذهب فاستأنس، هل ترى أحدا في الدار؟ بمعنى: انظر هل ترى فيها أحدا؟

فتأويل الكلام إذن إذا كان ذلك معناه: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تسلموا وتستأذنوا، وذلك أن يقول أحدكم: السلام عليكم، أدخل؟ وهو من المقدم الذي معناه التأخير، إنما هو حتى تسلموا وتستأذنوا، كما ذكرنا من الرواية، عن ابن عباس.

وقوله:( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ) يقول: استئناسكم وتسليمكم على أهل البيت الذي تريدون دخوله، فإن دخولكموه خير لكم، لأنكم لا تدرون أنكم إذا دخلتموه بغير إذن، على ماذا تهجمون؟ على ما يسوءكم أو يسرّكم؟ وأنتم إذا دخلتم بإذن، لم تدخلوا على ما تكرهون، وأدّيتم بذلك أيضا حقّ الله عليكم في الاستئذان والسلام. وقوله:( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) يقول: لتتذكروا بفعلكم ذلك أوامر الله عليكم، واللازم لكم من طاعته، فتطيعوه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

والثمن الجنة لعبد الملك القاسم

سلسلة أين نحن من هؤلاء ؟  كتاب والثمن الجنة لعبد الملك القاسم  بسم الله الرحمن الرحيم  المقدمة  الحمد لله الذي وعد من أطاعه جنات عدن تجري ...