دعاء الاموات لمشاري

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate

السبت، 4 مارس 2023

جامع الآثار في مولد النبي المختار صلى الله عليه وسلم ج1وج2. جامع الآثار في مولد النبي المختارلى الله عليه وسلم ج 2.-الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الله بن محمد القيسي الدمشقي المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي المتوفى سنة 842 هـ

جامع الآثار في مولد النبي المختار

صلى الله عليه وسلم

ج 1.

تأليف الإمام الحافظ

شمس الدين محمد بن عبد الله بن محمد القيسي الدمشقي

المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي

المتوفى سنة 842 هـ

رحمه الله تعالى

 

 

اعتنى بنشره

حسين محمد علي شكري

 

 

دار الكتب العلمية

الطبعة الأولى

2010

 

 

المجلد الأول

 


#237#

وابنه زرعة أسلم وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا. انتهى ملخصا.

وكذلك ذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي عبد الله محمد بن منده في كتابه: "المستخرج من كتب الناس للتذكرة" في قسم الألقاب من الكتاب، وقد نسبه بعضهم فقال: هو النعمان بن قيس بن سيف بن ذي يزن.

وجاء عن أبي عطية عبد الرحيم بن محرز بن عبد الله بن محرز بن سعيد بن حيان بن مدرك الفزاري: حدثنا أحمد بن تبوك بن خالد أبو الميمون السلمي، عن هشام بن محمد بن السائب؛ حدثني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في حديث الأولين لعجبا، حدثني حاضني أبو كبشة عن مشيخة خزاعة: أنهم أرادوا دفن سلول بن أبي حبشية وكان سيدا معظما شريفا-، فأتوا مقبرتهم فحفروا له، فوقعوا على باب مغلق، ففتحوه، فإذا فيه سرير وعليه رجل عليه حلل عدة، وعند


#238#

رأسه كتاب فيه: أبو شمر ذو النون، مأوى المساكين، مستعاذ الغارمين، ورأس مشابة المستصرخين، أخذني الموت غصبا، وأورثني بقوته أرضا، وقد أعيا الملوك الجبابرة، والأبالجة والقساورة".

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكان ذو النون سيف بن ذي يزن".

إسناده تالف جدا، وأبو عطية عبد الرحيم راوي هذا؛ جده مدرك بن زياد الصحابي، قدم مع أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما الشام فتوفي بدمشق في قرية يقال لها: راوية، وكان أول مسلم دفن بها.

قاله أبو بكر أحمد بن عبد الكريم بن يعقوب الحلبي المؤدب بحمص، عن أبي عمير عدي بن أحمد بن عبد الباقي الأذني، وهو الراوي عن أبي عطية المذكور هذا الحديث.


#239#

$أمر الأوس والخزرج$

وقال أبو بكر الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان": حدثنا عبد الله بن أبي سعد، حدثنا حازم بن عقال بن حبيب بن المنذر بن أبي الحصن بن السموأل بن عادياء، حدثني جامع بن خيران بن جميع بن عثمان بن سماك ابن أبي الحصن بن السموأل بن عادياء قال:

لما حضرت الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر الوفاة، اجتمع إليه قومه من غسان فقالوا: إنه قد حضر من أمر الله ما ترى، وقد كنا نأمرك بالتزويج في شبابك فتأبى، وهذا أخوك الخزرج له خمسة بنين وليس لك غير مالك.

فقال: لن يهلك هالك؛ ترك مثل مالك، إن الذي يخرج النار من الوثيمة؛ قادر أن يجعل لمالك نسلا، ورجالا بسلا، وكل إلى موت.

ثم أقبل على مالك فقال: أي بني! المنية ولا الدنية، العقاب ولا العتاب، التجلد ولا التلدد، القبر خير من الفقر، إنه من قل ذل، ومن كرم الكريم الدفع عن الحريم، والدهر يومان، فيوم لك ويوم عليك، فإن كان لك فلا تبطر، وإن كان عليك فاصطبر، وكلاهما سينحسر، ليس يفلت منهما الملك المتوج، ولا اللئيم المعلج، سلم ليومك حياك ربك.

ثم أنشأ يقول:

شهدت السبايا يوم آل محرق ... وأدرك عمري صيحة الله في الحجر

فلم أر ذا ملك من الناس واحدا ... ولا سوقة إلا إلى الموت والقبر


#240#

فعلى الذي أردى ثمودا وجرهما ... سيعقب لي نسلا على آخر الدهر

تقربهم من آل عمرو بن عامر ... عيون لدى الداعي إلى طلب الوتر

فإن تكن الأيام أبلين جدتي ... وشيبن رأسي والمشيب مع العمر

فإن لنا ربا علا فوق عرشه ... عليما بما نأتي من الخير والشر

ألم يأت قومي أن لله دعوة ... يفوز بها أهل السعادة والبر

إذا بعث المبعوث من آل غالب ... بمكة فيما بين زمزم والحجر

هنالك فابغوا نصره ببلادكم ... بني عامر إن السعادة في النصر

ثم قضى من ساعته.

ومالك بن الأوس بن حارثة هذا؛ تفرقت منه قبائل الأوس وبطونها كلها، وحقق الله تعالى رجاء أبيه فيه.

وقال أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي: حدثنا محمد بن حسان بن خالد السمتي أبو جعفر سنة ثمان وعشرين ومئتين وفيها توفي-، حدثنا محمد بن الحجاج اللخمي، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيكم يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟".

قالوا: كلنا يا رسول الله نعرفه، قال: "فما فعل؟" قالوا: هلك؟

قال: "ما أنساه بعكاظ على جمل أحمر وهو يقول: أيها الناس! اجتمعوا، واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع،


#241#

وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، أقسم قس قسما حتما، لئن كان في الأرض رضا ليكونن سخطا، إن لله لدينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه" -وفي رواية غير البغوي: "ونبيا قد حان حينه-، فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه فعصاه".

قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية البغوي- قال: قال : "مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟".

ثم قال: "أيكم يروي شعره"، فأنشدوه:

في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر

لما رأيت موردا ... للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محالة ... حيث صار القوم صائر

تابعه أبو عثمان الصياد سعيد بن شبيب، عن مجالد، نحوه.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا محمد بن السري ابن مهران الناقد البغدادي؛ حدثنا محمد بن حسان السمتي؛ فذكره.

وهو حديث منكر مع اشتهاره وتداوله بين الناس، آفته والله أعلم- من أبي إبراهيم محمد بن الحجاج اللخمي، وهو متهم بالوضع.

قال يحيى بن معين: كذاب خبيث، كان يحدث: "أطعمني جبريل الهريسة".

قال ابن حبان: كان يروي الموضوعات عن الأثبات، لا تحل الرواية


#242#

عنه، ولا الاحتجاج به.

وقال ابن عدي: هو وضع حديث الهريسة. انتهى.

وحديث الهريسة ما قال محمد بن الحجاج هذا: حدثنا عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعا: "أطعمني جبريل الهريسة لأشد بها ظهري لقيام الليل". هذه رواية يحيى بن أيوب المقابري، عنه.

ورواه مرة عنه، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن أبي ليلى مرسلا، وعن ربعي، عن حذيفة رضي الله عنه، مرفوعا.

ورواه داود بن مهران الدباغ، عنه، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن أبي ليلى، وربعي بن حراش مرفوعا، به.

ورواه منصور بن المهاجر البزوري أبو الحسن، عن محمد بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير اللخمي، عن يعلى مرفوعا، به.

وهذا الحديث من وضع محمد بن الحجاج هذا كما تقدم، وإنما وضعه والله أعلم- لأنه كان هراسا، وكل من حدث به؛ فمنه سرقه، والله أعلم.

مات محمد بن الحجاج هذا سنة إحدى وثمانين ومئة، ومن أحاديثه المنكرة هذا الحديث؛ الذي صرح أنه موضوع غير واحد، فحكى بعض أصحاب الغريب من المتأخرين عن بعض الحفاظ ولم يسمه-أن حديث قس هذا موضوع.

قلت: وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في "تاريخه": حدثني أحمد بن محمد المستملي، أخبرنا محمد بن جعفر الوراق،


#243#

أخبرنا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي، وذكر حديث قس هذا فقال: موضوع لا أصل له.

ووجدت بخط شيخنا الحافظ أبي بكر محمد بن المحب رحمه الله وإيانا، قال أبو علي صالح بن محمد جرزة الحافظ: هو عندي موضوع من قبل محمد بن الحجاج، وهو كوفي. انتهى.

وذكره أبو الفرج الجوزي في كتابه في "الموضوعات"، وعدة منها فقال: هذا الحديث من جميع جهاته باطل.

قال أبو الفتح الأزدي الحافظ: هو حديث موضوع لا أصل له. انتهى.

وقد تقدم في رواية السمتي المذكورة: "أيكم يروي شعره؟"، فأنشدوه.

وستأتي رواية مصرحة أن أبا بكر رضي الله عنه هو الذي أنشده، وقد وقع في كتاب "الروضة" لأبي الحسن محمد بن أحمد بن البراء العبدي: أن سلمان الفارسي رضي الله عنه هو الذي أنشده الأبيات المذكورة.

والحديث له طرق.

منها: ما رواه أبو عبد الله محمد بن نعيم: حدثنا علي عبد الله


#244#

الدارمي، حدثني أبو مسعود عبيد بن سميع، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

لما قدم وفد إياد، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل قس بن ساعدة؟" قالوا: مات يا رسول الله . وذكر الحديث نحو ما تقدم.

وفيه: "ما لله في الأرض دين أحب إليه من دين قد أظلكم زمانه، وأدرككم أوانه، طوبى لمن أدركه فتابعه، وويل لمن أدركه ففارقه". ثم ذكر الأبيات نحو ما تقدم.

وزاد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله قس بن ساعدة، إني لأرجو أن يأتي يوم القيامة أمة وحده".

فقال رجل من القوم: يا رسول الله! لقد رأيت من قس عجبا.

قال: "وما الذي رأيت؟".

قال: بينا أنا يوما بجبل في ناحيتنا يقال له: سمعان، في يوم قائظ شديد الحر، إذا بقس بن ساعدة في ظل شجرة عندها عين من الماء، فإذا حوله سباع كثيرة قد وردت وهي تشرب من الماء، فإذا زأر سبع منها على صاحبه؛ ضربه بيده وقال: كف حتى يشرب الذي ورد قبلك.

فلما رأيته وما حوله من السباع، هالني ذلك، ودخلني رعب شديد، فقال لي: لا تخف، لا بأس عليك إن شاء الله تعالى، وإذا أنا بقبرين بينهما مسجد.

فلما أنست به قلت له: ما هذان القبران؟ قال: هذان قبرا أخوين كانا لي، يعبدان الله في هذا الموضع، واتخذت فيما بينهما مسجدا أعبد الله فيه حتى ألحق بهما، ثم ذكر أيامهما وفعالهما فبكى، ثم قال:


#245#

خليلي هبا طالما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما

ألم تعلما أني بسمعان مفرد ... ومالي فيهما من حبيب سواكما

أقيم على قبريكما لست بارحا ... طوال الليالي أو يجيب صداكما

أبكيكما طوال الحياة وما الذي ... يرد على ذي لوعة أن بكاكما

كأنكما والموت أقرب غاية ... بروحي في قبريكما قد أتاكما

فلو جعلت نفس لنفس وقاية ... لجدت بنفسي أن تكون فداكما

سلام وتسليم وروح ورحمة ... ومغفرة المولى على مساكنيكما

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله قس بن ساعدة".

هذه الأبيات سوى البيتين الآخرين، ذكرها بنحوها أبو تمام حبيب بن أوس الطائي في كتابه المعروف بـ"الحماسة"، وعزاها إلى رجل من بني أسد، وزاد فيها بيتا بعد قوله: أو يجيب صادكما.

وللأبيات قصة رواها أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري في كتابه "الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي" فقال: حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدثني أبي، حدثنا أصحابنا: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج: أنفذ مع عبد الله بن كعب أربعة آلاف إلى خراسان، ففعل، فشخص في العسكر ثلاثة كانوا مسواحيين.

وذكر القصة، وأنهم يقال لهم: أوس بن حارثة، وأنيس بن خالد، ونصر بن غالب، وأنهم وصلوا سجستان ونزلوا رزداق راوندان، أو


#246#

سامات أول ثم مات أنيس، فعظم حزن نصر عليه، وأنه جعل يجلس بين قبريهما وأنه قال:

خليلي هبا طالما قد رقدتما ... أجدكما ما تقضيان كراكما

أما تعلما أن ما براوند كلها ... لي صديق واكما

أصب على قبريكما من مدامة ... فإن لم تذوقا أرو منها ثراكما

مقيم على قبريكما لست بارحا ... طوال الليالي أو يجيب صداكما

أجدكما ما ترثيان بموجع ... حزين على قبريكما إذ بكاكما

جرى النوم بين اللحم والعظم معكما ... كأنكما كأسي عقار سقاكما

ألم ترحما في أنني صرت مفردا ... وأني مشتاق إلى أن أراكما

أناديكما بالجهر مني صبابة ... كأنكما لم تسمعا مني من دعاكما

فإن كنتما لا تسمعاني فمن ذا ... خليلي عن سمع الدعاء دعاكما

سأبكيكما حتى الممات وما الذي ... يرد على ذي لوعة أن بكاكما

وذكر: أنه لم يزل نصر عندهما حتى مات، فدفن إلى جانبهما، فقبورهم هناك تسمى: قبور الإخوة.

"وراوند" اسم بلدة من أعمال أصبهان.

وحديث قس رواه الحافظ أبو القاسم ابن السمرقندي، من حديث أبي عبد الله الدارسي، وقال عنه: كذا في كتاب شيخنا أحمد يعني: ابن النقور-، وكتاب شيخه الصيدلاني بخطه، وعندي في نسخة رواية أخرى اسمه الحسن بن عبد الله الدارسي، أبو علي.

ورواه أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين، عن محمد بن دريد


#247#

النحوي، عن السكن بن سعيد، عن ابن أبي عيينة المهلبي، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

لما قدم أبو ذر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر! ما فعل قس بن ساعدة الإيادي؟".

قال: مات يا رسول الله، وذكر الحديث.

ورواه الأموي في "المغازي" في ذكر وفد بكر بن وائل، عن الكلبي، عن أبي صالح.

ورواه القاسم بن عبد الله بن مهدي القاضي، عن أبي عبيد الله سعيد ابن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان بن عيينة، عن أبي حمزة الثمالي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي آخره بعد قوله في الأبيات: حيث صار القوم صآئر.

قال: ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفد إياد فقال: "هل وجد لقس بن ساعدة وصية؟".

فقالوا: نعم؛ وجد له صحيفة تحت رأسه مكتوب فيها:

يا ناعي الموت والأموات في ... عليهم من بقايا ثوبهم خرق

دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم ... كما ينبه من نوماته الصعق

منهم عراة وموتى في ثيابهم ... منها الجديد ومنها الأورق الخلق

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي بعثني بالحق؛ لقد آمن قس بالبعث".

ورواه أبو الشيخ ابن حيان في مجلس من "أماليه" من حديث ابن


#248#

إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ورواه أبو بكر محمد بن الطاهر بن داود بن علي بن خلف الأصبهاني في (الأديب الفقيه) في كتاب "الزهرة" الذي بدأ بتأليفه وهو في الكُتاب، عن أحمد بن عبيد بن ناصح، عن علي بن محمد، عن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:

قدم وفد ربيعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم عن قس ابن ساعدة الإيادي؛ وكان نازلا فيهم: "ما فعل؟".

فقالوا: هلك يا رسول الله، فقال: "والله لقد رأيته بعكاظ في الشهر الحرام"، وذكر الحديث.

ورواه أبو سعيد محمد بن علي بن عمرو بن مهدي النقاش الحافظ في كتاب "فنون العجائب" من حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه، عن أنس رضي الله عنه.

وخرجه الحافظ أبو بكر محمد بن سهل الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان" فقال: حدثنا علي بن داود القنطري، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو عبد الله المشرقي، عن أبي الحارث الوراق، عن ثور بن يزيد، عن مورق العجلي، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فذكره بنحوه.

تابعه المطلب بن شعيب المروزي، عن المشرقي.

وأبو الحارث الوراق: نصر بن حماد بن عجلان البجلي البصري ذاهب الحديث، ضعفه غير واحد من الأئمة.


#249#

ورواه أبو لبابة محمد بن المهدي الأبيوردي، عن ربيعة، عن سعيد ابن هبيرة، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث.

ورواه مطولا بزيادات: أبو داود سليمان بن شرف بن يحيى بن درهم الطائي الحراني الحافظ: حدثنا أبو عمرو سعيد بن بزيع، عن محمد بن إسحاق، حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم، عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه قال:

كان الجارود بن المعلى بن حنش بن يعلى العبدي نصرانيا حسن المعرفة بتفسير الكتب وتأويلها، عالما بسير الفرس وأقاويلها، بصير بالفلسفة والطب، ظاهر الدهاء والأدب، كامل الجمال، ذا ثروة ومال، وأنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وافدا في رجال من عبد القيس، ذوي آراء وأسنان وفصاحة وبيان، وحجج وبرهان.

فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وقف بين يده وأشار إليه وأنشأ يقول:

يا نبي الهدى أتتك رجال ... قطعت قرددا وآلا فآلا

وطوت نحوك الصحاصح ... لا تعد الكلال فيك كلالا


#250#

كل يهماء قصر الطرف عنها ... أرقلتها قلاصنا إرقالا

وطوتها العتاق تجمح فيها ... بكماة كأنجم تتلالا

تبتغي دفع بأس يوم عظيم ... هائل أوجع القلوب وهالا

ومزادا المحشر الخلق طرا ... وفراقا لمن تمادى ضلالا

نحو نور من الإله وبرهان ... وبر ونعمة أن تنالا

خصك الله يا ابن آمنة الخير ... بها إذ أتت سجالا سجالا

فاجعل الحظ منك يا حجة ... جزيلا لا حظ خلف أحالا

قال: فأدناه النبي صلى الله عليه وسلم وقرب مجلسه وقال له: "يا جارود، لقد تأخر الموعود بك وبقومك".

فقال الجارود: فداك أبي وأمي، إنما من تأخر عنك؛ فقد فاته حظه منك، وتلك أعظم حوبة، وأغلظ عقوبة، وما كنت فيمن رآك وسمع بك فعداك واتبع سواك، وإني الآن على دين قد علمت به قبل جيئتك، وها أنا تاركه لدينك، أفذلك مما يمحص الذنوب والمآثم والحوب، ويرضي الرب عن المربوب؟

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، أنا ضامن لك ذلك، وأخلص الآن لله عز وجل الوحدانية، ودع عنك دين النصرانية".

فقال الجارود: فداك أبي وأمي، مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك محمد عبده ورسوله.

قال: فأسلم، وأسلم معه أناس من قومه، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وأظهر من إكرامهم ما سروا به، وابتهجوا له.


#251#

ثم أقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟".

فقال الجارود: فداك أبي وأمي؛ كلنا نعرفه، وإني من بينهم لعالم بخبره، وواقف على أثره. كان قس يا رسول الله-، سبطا من أسباط العرب، عمر ست مئة سنة، تقفر منها خمسة أعمار في البراري والقفار، يضج بالتسبيح على مثال المسيح، لا يقره قرار ولا تكنه دار، ولا يستمتع به جار، كان يلبس الأمساح ويفوق السياح، ولا يفتر من رهبانيته، يتحسى في سياحته بيض النعام، ويأنس بالهوام، ويستمتع بالظلام، يبصر فيعتبر، ويفكر فيزدجر، فصار لذلك واحدا يضرب بحكمته الأمثال، وتكشف به الأهوال، أدرك رأس الحواريين سمعان، وهو أول رجل تأله من العرب ووحد، وأقر وتعبد، وأيقن بالبعث والحساب، وحذر سوء المآب، تعبد وأمر بالعمل قبل الفوت، ووعظ بالموت، وسلم للقضاء على السخط والرضا، وزار القبور، وذكر النشور، وندب بالأشعار، وفكر في الأقدار، وأنبأ عن السماء والنماء، وذكر النجوم وكشف الماء، ووصف البحار، وعرف الآثار، وخطب راكبا، ووعظ دائبا ، وحذر من الكرب وشدة الغضب، ورسل الرسائل، وذكر كل هائل، وأدغم في خطبه، وبين في كتبه، وخوف الدهر، وحذر الأزر، وعظم الأمر، وجنب الكفر، وشوق إلى الحنيفية، ودعا إلى اللآهوتية.

وهو القائل في يوم عكاظ: شرق وغرب، وتيم وحزب، وسلم وحرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وأناث وذكور، وأبرار وفجور، وحب ونبات، وآباء وأمهات، وجمع وشتات، وآيات في إثرها آيات، ونور وظلام، ويسر وإعدام، ورب وأصنام، لقد ضل الأنام، نشوء مولود، ورزء


#252#

مفقود، وتربية محصود، وفقير وغني، ومحسن ومسيء، تبا لأرباب الغفلة، ليصلحن العامل عمله، ويفقدن الأمل أمله، كلا بل هو إله واحد، ليس هو بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وأمات وأحيا، وخلق الذكر والأنثى، رب الآخرة والأولى.

وهو أول من قال: أما بعد تيعادا. فيا معشر إياد! أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد، وأين العليل والعواد، كل له معاد، أقسم قس برب العباد، وساطح المهاد، لنحشرن على الانفراد، في يوم التناد، إذا نفخ في الصور، ونقر في الناقور، وأشرقت الأرض بالنور، ووعظ الواعظ فانتبه القائظ وأبصر اللاحظ، فويل لمن صدف عن الحق الأشهر، والنور الأزهر، والعرض الأكبر في يوم الفصل، وميزان العدل، إذا حكم القدير، وشهد النذير، وبعد النصير، وظهر التقصير، ففريق في الجنة وفريق في السعير.

وهو القائل شعر:

ذكر القلب من جواه ادكار ... وليال خلالهن نهار

وسجال هواطل من غمام ... ثرن ماء وفي جواهن نار

ضوؤها يطمس العيون وأرعاد ... شداد في الخافقين تطار

وقصور مشيدة حوت الخير ... وأخرى خلتهن قفار

وجبال شوامخ راسيات ... وبحار مياههن غزار

ونجوم تلوح في ظلم الليل ... تراها في كل يوم تدار

ثم شمس يحثها قمر الليل ... وكل متابع موار

وصغير وأشمط وكبير ... كلهم في الصعيد يوما يزار


#253#

وكثير مما يقصر عنه ... حدسه الخاطر الذي لا يحار

فالذي قد ذكرت دل على الله ... نفوسا لها هدى واعتبار

قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهما نسيت، فلست أنساه [بسوق عكاظ] واقفا على جمل أحمر يخطب الناس ويقول: أيها الناس! اجتمعوا فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم انتفعوا، وقولوا فإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأحياء وأموات، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وضوء وظلام، وليال وأيام، وبر وآثام، إن في السماء خبرا، وإن في الأرض عبرا، يحار فيهن البصرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحار لا تفور، ومنايا دوان، ودهر خوان، كحد النسطاس، ووزن القسطاس، أقسم قس قسما، لا كاذبا فيه ولا إثما، لئن كان في الأرض رضا، ليكونن سخط".

ثم قال: "أيها الناس! إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، وهذا زمانه وأوانه".

ثم قال: "ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ ، أرضوا بالمقام فأقاموا؟، أم تركوا فناموا؟"

والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض أصحابه فقال: "أيكم يروي شعره لنا"، فقال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه:

في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر

لما رأيت موردا ... للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأصاغر والأكابر


#254#

لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محالة ... حيث صار القوم صائر

فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخ من عبد القيس عظيم الهامة، طويل القامة، بعيد ما بين المنكبين، فقال: فداك أبي وأمي؛ وأنا رأيت من قس عجبا.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما الذي رأيت منه يا أخا عبد القيس؟".

قال: خرجت في شبيبتي أربع بعيرا لي ند مني، أقفو أثره في تنائف قفاف ذات ضغابيس، وعرصات جثجاث، بين صدور جزعان، وغمير حوذان، ومهمة ظلمان، ورضيع أيهقان، فبينا أنا في تلك الفلوات، أجول بسبسبها، وأرمق فدفدها، إذا أنا بهضبة في نشزاتها أرآك كثبات


#255#

مخضوضلة، وأغصانها متهدلة، كأن بريرها حب الفلفل، بواسق أقحوان، وإذا أنا بعين خرارة، وروضة مدهامة، وشجرة عارمة، وإذا أنا بقس بن ساعدة في أصل تلك الشجرة [وبيده قضيب]، فدنوت منه وقلت له: أنعم صباحا، فقال: وأنت فنعم صباحك.

وقد وردت العين سباع كثيرة، فكان كلما ذهب سبع منها يشرب من العين قبل صاحبه؛ ضربه قس بالقضيب الذي بيده وقال: اصبر حتى يشرب الذي ورد قبلك، فذعرت من ذلك ذعرا شديدا، ونظر إلي وقال لي: لا تخف.

وإذا بقبرين بينهما مسجد. فقلت: ما هذا القبران؟

قال: قبر أخوين كانا لي، يعبدان الله عز وجل بهذا الموضع، فأنا مقيم بين قبريهما، أعبد الله فيه حتى ألحق بهما.

فقلت له: أفلا تلحق بقومك فتكون معهم في خيرهم، وتباينهم على شرهم؟

فقال لي: ثكلتك أمك، أوما علمت أن ولد إسماعيل تركوا دين أبيهم واتبعوا الأضداد وعظموا الأنداد؟

ثم أقبل على القبرين وأنشأ يقول:

خليلي هبا طالما قد رقدتما ...

وذكر الأبيات التي تقدم ذكرها في رواية أبي علي الدارسي لهذا الحديث.

ورواه البيهقي فقال: حدثنا الحاكم، حدثنا الأصم، حدثنا الربيع، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا بشر بن نمير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قدم الجارود وكان سيدا


#256#

في قومه، وذكر الحديث بطوله.

ورواه أبو محمد سويد بن سعيد بن سهل بن شهر الحدثاني وتكلم فيه- قال: حدثنا الخليل بن أحمد العروضي، حدثني النضر بن عربي الحريري، حدثني عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد اليمامة، فسلموا عليه بالنبوة وقالوا: قد أتينا من أرض شاسعة كثيرة الخزايا، قليلة الرزايا، فلما سمعنا من بركتك نفديك بالآباء والأمهات.

فرحب بهم وقربهم، ثم قال لهم: "أي وفد أنتم؟".

قالوا: وفد عبد القيس.

قال: "أيكم يعرف قس بن ساعدة؟".

فقالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله.

قال: "فماذا فعل؟".

قالوا: مات بنجران اليمن.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لست أنساه بسوق عكاظ"، وذكر الحديث والأبيات.

في الذاهبين الأولين .. ..

ثم ذكر بعدها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ما شهد منه، فقام رجل قد احدودب هرما فقال: أنا فداك أبي وأمي يا رسول الله قد سمعت منه كلاما، يذكر فيه من شاهد من ملوك أهل اليمن وأهل الرئاسة منهم، أفأذكره يا رسول الله؟.

قال: "قله إن كنت قائله".


#257#

قال: سمعته يا رسول الله ينشد:

قد كنت أسمع بالزمان ولا أرى ... أن الزمان يطيق نتف جناحي

فالآن أسرع في حتى أصبحت ... بيضا بتون ذوائبي ووشاحي

وأبي القديمة سنه في قومه ... هيهات كم صافحت من أواح

صافحت ذا كرب وأدرك مولدي ... عمرو الندي شمرا أبا الصباح

وجذيمة الوضاح أخبرني أبي ... عنه فما لجذيمة الوضاح

وذكر شعرا غير هذا في آخره:

أفبعد أقيال مضوا من حمير ... يا صاحبي أريد حمل سلاحي

أو بعدهم أرجو الفلاح وإنما ... كانوا ذوي الإفساد والإصلاح

وذكر بقية الحديث مطولا.

ورواه مطولا أيضا بزيادات أخر: أبو عبد الرحمن السلمي: أنبأنا أبو هريرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله محمد ابن الذهبي، وآخرون، عن الحافظ أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن القضاعي، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد بقراءتي عليه في يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من محرم سنة سبع وسبعين وست مئة، أخبرنا أبو سعيد عبد الله ابن عمر بن أحمد الصفار النيسابوري إجازة، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الصاعدي سماعا، أخبرنا الأستاذ شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي محمد بن الحسين، أخبرنا أبو العباس الوليد بن سعيد بن حاتم بن عيسى الفسطاطي بمكة من حفظه، وزعم أن له خمسا وتسعين سنة في ذي


#258#

الحجة سنة ست وستين وثلاث مئة على باب إبراهيم، أخبرنا محمد بن عيسى بن محمد الأخباري، حدثنا أبي عيسى بن محمد بن سعيد القرشي، حدثنا علي بن سليمان، عن سليمان بن علي، عن علي بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:

قدم الجارود بن عبد الله وكان سيدا في قومه، مطاعا عظيما في عشيرته، مطاع الأمر رفيع القدر، عظيم الخطر، ظاهر الأدب، شامخ الحسب، بديع الجمال، حسن الفعال، ذا سعة ومال في وفد عبد القيس من ذوي الأخطار والأقدار والفضل والإحسان، والفصاحة والبرهان، كل رجل منهم كالنخلة السحوق، على ناقة كالفحل الفنيق، قد جنبوا الجياد، وأعدوا للجلاد، مجدين في سيرهم، حازمين في أمرهم، يسيرون ذميلا، ويقطعون ميلا فميلا، حتى أناخوا عند مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل الجارود على قومه، والمانح من بني عمه، فقال:

يا قوم! هذا محمد الأغر، سيد العرب، وخير ولد عبد المطلب، فإذا دخلتم عليه، ووقفتم بين يديه، فأحسنوا عليه السلام، وأقلوا عنده الكلام.

فقالوا بأجمعهم: أيها الملك الهمام، والأسد الضرغام! لن نتكلم إذا حضرت، ولن نجاوز إذا أمرت، فقل ما شئت فإنا سامعون، واعمل ما شئت فإنا تابعون.

فنهض الجارود في كل كمي صنديد، قد دوموا العمائم، وتردوا بالصوارم، يجرون أسيافهم، ويسحبون أذيالهم، يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون مناقب الأخيار، لا يتكلمون طويلا، ولا يسكتون عيا، إن أمرهم ائتمروا، وإن زجرهم انزجروا، كأنهم أسد غيل يقدمها ذو اللبوة


#259#

مهول، حتى مثلوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما دخل القوم المسجد وأبصرهم أهل المشهد؛ زلف الجارود أمام النبي صلى الله عليه وسلم لثامه، وأحسن كلامه، ثم أنشأ يقول شعر:

يا نبي الهدى أتتك رجال ... قطعت فدفدا وآلا فآلا

وطوت نحوك الضحاضح طرا ... لا تخال الكلال فيك كلالا

كل دهماء يقصر الطرف عنها ... أرقلتها قلائصنا إرقالا

وطوتها الجياد تجمح فيها ... بكماة كأنجم تتلالا

تتقي بأس وقع يوم عبوس ... أوجل القلب ذكره ثم هالا

فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح به فرحا شديدا وقربه وأدناه، ورفع مجلسه وحياه وأكرمه وقال: "يا جارود! لقد تأخر بك وبقومك الموعد، وطال بكم الأمد".

قال: والله يا رسول الله لقد أخطأ من أخطاك قصده، وعدم رشده، وتلك وايم الله- أكبر خيبة وأعظم حوبة، والرائد لا يكذب أهله، ولا يغش نفسه، لقد جئت بالحق ونطقت بالصدق، والذي بعثك بالحق نبيا واختارك للمؤمنين وليا، لقد وجدت وصفك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول، وطول التحية لك، والشكر لمن أكرمك وأرسلك، لا أثر بعد عين، ولا شك بعد يقين، مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله.

قال: فآمن الجارود، وآمن من قومه كل سيد، وذكر الحديث بطوله بقصة قس بن ساعدة وشعره.

وفيه: وقام رجل من الأنصار بعده كأنه قطعة جبل، ذو هامة عظيمة


#260#

وقامة جسيمة، قد دوم عمامته وأرخى ذؤابته، منيف، أنوف، أشدق، أجش الصوت فقال:

يا سيد المرسلين وصفوة رب العالمين! لقد رأيت من قس عجبا، وشهدت منه فرغبا.

[فقال: "وما الذي رأيته منه، وحفظته عنه؟".

فقال:] خرجت في الجاهلية أطلب بعيرا لي شرد مني، أقفو أثره وأطلب خبره في توائف خفائف ذات دعادع وزعازع، ليس بها للركب مقيل، ولا لغير الحق سبيل، وإذا أنا بمومل مهول، في طود عظيم ليس به إلا البوم، وأدركني الليل فولجته مذعورا، لا آمن فيه حتفي، ولا أركن إلى غير سيفي، فبت بليل طويل كأنه بليل موصول، أرقب الكوكب، وأرمق الغيهب، حتى إذا الليل عسعس، وكاد الصبح أن يتنفس، هتف في هاتف يقول:

يا أيها الراقد في الليل الأحم ... قد بعث الله نبيا في الحرم

من هاشم أهل الوفا والكرم ... يجلو دجنات الليالي في الدياجي والبهم

قال: فأدرت طرفي فما رأيت له شخصا، ولا سمعت له فحصا، فأنشأت أقول:

يا أيها الهاتف في داجي الظلم ... أهلا وسهلا بك من طيف ألم


#261#

بين هداك الله- في لحن الكلم ... ماذا الذي تدعو إليه يغتنم؟

قال: فإذا أنا بنحنحة وقائل يقول: ظهر النور، وبطل الزور، وبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحبور، صاحب النجيب الأحمر، والتاج والمغفر، والوجه الأزهر، والحاجب الأقمر، والطرف الأحور، صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله، فذاك محمد المبعوث إلى الأسود والأبيض، أهل المدر والوبر. ثم أنشأ يقول:

الحمد لله الذي ... لم يخلق الخلق عبث

ولم يخلنا حينا سدى ... من بعد عيسى واكترث

أرسل فينا أحمدا ... خير نبي قد بعث

صلى عليه الله ما ... حج له ركب وحث

قال: فذهلت عن البعير، واكتنفني السرور، ولاح الصباح، واتسع الإيضاح، فتركت المور وأخذت الجبل، فإذا أنا بالفنيق يشقشق النوق، فملكت خطامه، وعلقت سنامه، فمرح طاعة، وهززته ساعة، حتى إذا لغب وذل منه ما صعب، وحميت الوسادة، وبردت المزادة، فإذا الزاد قد هش له الفؤاد، بركته وأدمت له، فبرك في روضة خضرة،


#262#

نضرة عطرة، ذات حوذان وفريان وعنقران وعبيثران، وحلي وأقاح، وجثجث وبرار، وشقائق وبهار، كأنما قد بات الجو بها مطيرا، وباكرها المزن بكورا، فخلالها شجر وقرارها نهر، فجعل يرتع أبا، وأصيد ضبا، حتى إذا أكلت وأكل، ونهلت ونهل، وعللت وعل، حللت عقاله وعلوت جلاله، وأوسعت مجاله فاغتنم الحملة، وبر كالنبلة يسبق الريح، ويقطع عرض الفسيح، حتى أشرف بي على واد، وشجر من شجر عاد، مورقة مونقة، قد تهدل أغصانها، كأن بربرها حب فلفل، فدنوت فإذا أنا بقس ابن ساعدة في ظل شجرة، وبيده قضيب من أراك ينكت به الأرض، وهو يترنم شعر وهو:

يا ناعي الموت والملحود في جدث ... عليهم من بقايا بزهم خرق

دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم ... فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا

حتى يعودوا بحال غير حالهم ... خلقا جديدا كما من قبله خلقوا

منهم عراة ومنهم في ثيابهم ... منها الجديد ومنها المنهج الخلق

قال: فدنوت منه فسلمت عليه، فرد السلام، وإذا أنا بعين خرارة في أرض خوارة، ومسجد بين قبرين، وأسدين عظيمين يلوذان به، ويتمسحان بأثوابه، وإذا أحدهما سبق صاحبه إلى الماء فتبعه الآخر، وطلب الماء فضربه بالقضيب الذي في يده وقال: ارجع ثكلتك أمك حتى يشرب الذي قبلك، فرجع ثم ورد.

فقلت له: ما هذان القبران؟


#263#

فقال: هذا قبر أخوين لي كانا يعبدان الله معي في هذا المكان لا يشركان بالله شيئا، فأدركهما الموت، فقبرتهما، وها أنا بين قبريهما حتى ألحق بهما، ثم نظر إليهما فتغرغرت عيناه بالدموع، فانكب عليهما وجعل يقول:

خليلي هبا طالما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما

ألم تريا أني بسمعان مفرد ... ومالي فيها من خليل سواكما

مقيم على قبريكما لست بارحا ... طوال الليالي أو يجيب صداكما

أبكيكما طوال الحياة وما الذي ... يرد على ذي عولة إن بكاكما

أمن طول نوم لا تجيبان داعيا ... كأن الذي يسقي العقار سقاكما

كأنكما والموت أقرب غاية ... بروحي في قبريكما قد أتاكما

فلو جعلت نفس لنفس وقاية ... لجدت بنفسي أن تكون فداكما

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله قسا، إني لأرجو أن يبعثه الله أمة واحدة".

كان قس بن ساعدة الإيادي أسقف نجران فيما قاله الجوهري- وهو قس بن ساعدة بن عمرو بن شمر بن عدي بن مالك بن واثلة بن الطمثان ابن عبد مناة بن أيد بن النمر بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار ابن معد بن عدنان، كان حكيم العرب وخطيبها وواعظها.

قال أبو سعيد الأشج: حدثنا ابن يمان قال: قال سفيان يعني: الثوري-: مر قس بقوم يقتتلون قال: على ما يقتتلون هؤلاء؟، لقد عظم على هؤلاء الدنيا.


#264#

خرجه أبو نعيم في كتاب "الحلية" للأشج.

وقال قس: العقل معرفة المرء بنفسه، وأفضل العلم؛ وقوف المرء عند علمه.

عاش قس فيما ذكره ابن الجوزي وغيره- ثلاث مئة سنة وثمانين سنة، وقيل: عمر ست مئة سنة، وأدرك سمعان رأس الحواريين كما تقدم.

ومن الغرائب: أن عبدان بن محمد المروزي، وأبا حفص عمر بن شاهين؛ ذكرا قس بن ساعدة في الصحابة، وجعلاه منهم.

وروى عدة منهم: زياد بن عبد الله البكائي، وبكر بن سليمان أبو يحيى الأسواري واللفظ له-، عن محمد بن إسحاق: أن ربيعة بن نصر اللخمي ملك من ملوك اليمن رأى رؤيا هالته، وفظع بها، فلم يدع في مملكته ساحرا ولا كاهنا ولا عائفا ولا منجما إلا جمعهم إليه، ثم قال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني، وفظعت بها، فأخبروني بتأويلها.

قالوا: اقصصها علينا، نخبرك بتأويلها.

قال: إني إن أخبرتكم بها؛ لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، إنه لا يعرف تأويلها إلا من يعرفها قبل أن أخبره بها.

فقال له رجل: ليبعث الملك إلى سطيح وشق، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما أعلم الناس بما سأل عنه.

واسمه: سطيح ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذبيب بن عدي ابن عدي بن مازن، من غسان.

وشق بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قيس بن عنفر بن أنمار ابن نزار، وأنمار أبو: بجيلة، وخثعم.


#265#

فبعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شق، فقال له: يا سطيح! قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبرني بها؟

قال: نعم، رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت في أرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة.

قال له الملك: ما أخطأت شيئا منها يا سطيح، فما عندك من تأويلها.

قال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليطأن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش.

قال الملك: وأبيك يا سطيح، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني، أم بعده؟

قال: بل بعده بحين، أكثر من ستين إلى سبعين يمضين من السنين، ثم يقتلون بها أجمعين، ويخرجون منها هاربين.

قال الملك: ومن الذي يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟

قال: يليه ابن ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحدا باليمن.

قال: فيدوم ذلك من سلطانهم، أم ينقطع؟

قال: بل ينقطع، قال: ومن يقطعه؟

قال: نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي:

قال: وممن هذا النبي؟

قال: رجل من غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر.

قال: فهل للدهر يا سطيح من آخر؟


#266#

قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون.

قال: حق ما تخبرني يا سطيح؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.

فلما فرغ منه، قدم عليه شق فقال: يا شق! إني رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبرني بتأويلها؟

قال: رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت في أرض وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.

فلما قال ذلك، علم أنهما قد اتفقا، إلا أن سطيحا قال: وقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة.

فقال له: ما أخطأت منها يا شق شيئا، فما عندك في تأويلها؟

فقال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، فتقتلن كل ذات طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران.

فقال الملك: وأبيك يا شق، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني، أم بعده؟

قال: بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منه عظيم ذو شأن، يذيقهم بأشد الهوان.

قال: ومن هذا العظيم الشأن؟ قال: غلام ليس بدنيء ولا مدن، يخرج من بيت ذي يزن.

قال: وهل يدوم سلطانه، أم ينقطع؟

قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل من أهل الدين


#267#

والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل.

قال: وما يوم الفصل؟

قال: يوم يجزى فيه الولاة، ويدعى فيه من السماء دعوات، فيسمع الأحياء والأموات، ويجمع فيها للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات.

قال: حقا ما تقول يا شق؟

قال: إي ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك به لحق ما فيه من أمض، فوقع في نفسه إن الذي قالا؛ لكائن.

رواه أبو سيعد محمد بن علي بن عمرو النقاش الحافظ من طريق خليفة بن خياط، عن بكر، به.

وسطيح وشق كاهنان ولدا في يوم واحد، فحملا إلى الكاهنة طريفة بنت الحر الحميرية، امرأة عمرو بن عامر، فتفلت في أفواههما، وأخبرت أنهما سيخلفانها في علمها ومكانتها، وماتت في يومها، وقبرها بالجحفة فورثا منها الكهانة فيما قيل.

وشق بلغنا أنه كان شق إنسانا، له يد واحدة، ورجل واحدة، وعين واحدة، ومات قبل سطيح.

وقال أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان": حدثنا عبد الله يعني: ابن محمد البلوي-، حدثنا عمارة يعني: ابن زيد- حدثني عبيد الله بن العلاء، حدثنا محمد بن عكبر بن سعيد بن جبير:

أن رجلا من بني تميم يقال له: رافع بن عمير، وكان أهدى الناس لطريق، وأسراهم بليل، وأهجمهم على هول، وكانت العرب تسميه:


#268#

دعموص العرب، لهدايته وجرأته على السير، فذكر عن بدء إسلامه، قال:

إني لأسير برمل عالج ذات ليلة، إذ غلبني النوم، فنزلت عن راحلتي وأنختها، وتوسدت ذراعها ونمت، وقد تعوذت قبل نومي، فقلت: أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن، من أن أؤذى أو أهاج، فرأيت في منامي رجلا شابا يرصد ناقتي، وبيده حربة يريد أن يضعها في نحرها، فانتبهت لذلك فزعا، فنظرت يمينا وشمالا، فلم أر شيئا، فقلت: هذا حلم، ثم عدت فغفوت، فرأيت في منامي مثل رؤياي الأولى، فانتبهت فدرت حول ناقتي فلم أر شيئا، وإذا ناقتي ترعد، ثم غفوت فرأيت مثل ذلك فانتبهت، فرأيت ناقتي تضطرب، والتفت وإذا أنا برجل شاب كالذي رأيت في المنام، بيده حربة، ورجل شيخ ممسك بيده يرده عنها وهو يقول:

يا مالك بن مهلهل بن أثار ... مهلا فدى لك مئزري وإزاري

عن ناقة الإنسي لا تعرض لها ... فاختر بها ما شئت من أثواري

ولقد بدا لي منك ما لا أحتسب ... إلا رعيت قرابتي وذماري

تسمو إليه بحربة مسمومة ... تبا لفعلك يا أبا العقار

لولا الحياء وأن أهلك جيرة ... لعلمت ما كشفت عن أخباري

قال: فأجاب الشاب وهو يقول:

أأردت أن تعلو وتخفض ذكرنا ... في غير مزرئة أبا العيزار

ما كان فيكم سيدا فيما مضى ... إن الخيار هم بنو الأخيار

فاقصد لقصدك يا معبكر إنما ... كان المجبر مهلهل بن أثار


#269#

قال: فبينما هما يتنازعان، إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش، فقال الشيخ للفتى: قم يا ابن أخت، فخذ أيها شئت فداء لناقة جاري الإنسي، فقام الفتى فأخذ منها ثورا وانصرف.

ثم التفت إلي الشيخ فقال: يا هذا! إن نزلت واديا من الأودية فخفت هوله فقل: أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي، ولا تعذ بأحد من الجن، فقد بطل أمرها.

فقال: فقلت: ومن محمد هذا؟

قال: نبي عربي لا غربي ولا شرقي، بعث يوم الاثنين.

قلت: فأين مسكنه؟ قال: بيثرب ذات النخل.

قال: فركبت راحلتي حين برق لي الصبح، وجددت السير حتى تقحمت المدينة، فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثني بحديثي قبل أن أذكر منه شيئا، ودعاني إلى الإسلام، فأسلمت.

قال سعيد بن جبير: وكنا نرى أنه هو الذي أنزل الله تعالى فيه: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا}.

وخرج أبو محمد الحسن بن محمد بن علي الخلال في كتابه "الهواتف بالنبوة"، وأبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني في كتابه "أشعار الجن"، وأبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر"، وأبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ في كتابه "معرفة الصحابة" واللفظ له، من حديث عبد الله بن موسى الإسكندراني، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

قال خريم بن فاتك لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين! ألا أخبرك كيف كان بدء إسلامي؟


#270#

قال: بلى، قال: بينما أنا في طلب بعير لي، إذا أنا منها على أثر؛ إذ جن الليل بأبرق الغزاف، فناديت بأعلى صوتي: أعوذ بعزيز صاحب هذا الوادي من سفهاء قومه، فإذا هاتف يهتف لي شعر:

ويحك عذ بالله ذي الجلال ... والمجد والنعماء والإفضال

واقتر آيات من الأنفال ... ووحد الله ولا تبالي

قال: فذعرت ذعرا شديدا، فلما رجعت إلي نفسي قلت:

يا أيها الهاتف ما تقول ... أرشد عندك أم تضليل

بين لنا هديت ما الحويل ...

فقال:

هذا رسول الله ذو الخيرات ... بيثرب يدعو إلى النجاة

يأمر بالصوم والصلاة ... وينزع الناس عن الهنات

قال: فابتعثت راحلتي فقلت:

أرشدني راشدا هديت ... لا جعت يا هذا ولا عريت

ولا برحت سيدا ما بقيت ... ولا تؤثرن على الخير الذي أوتيت

قال: فاتبعني وهو يقول:

صاحبك الله وسلم نفسكا ... وبلغ الأهل وأدى رحلكا


#271

آمن به أفلح ربي حقكا ... وانصره أعز ربي نصركا

قال: فدخلت المدينة وذلك يوم الجمعة، فاطلعت في المسجد، فخرج إلي أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: ادخل رحمك الله، فأنت قد بلغنا إسلامك.

قلت: لا أحسن الطهور فعلمني، فدخلت المسجد فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر كأنه البدر وهو يقول: "ما من مسلم توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى صلاة يحفظها ويعقلها؛ إلا دخل الجنة".

فقال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لتأتيني على هذا بينة، أو لأنكلن بك.

قال: فشهد لي شيخ قريش؛ عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأجاز شهادته.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث الإسكندراني المذكور.

رواه عن الإسكندراني: محمد بن إبراهيم الشامي أبو عبد الله، ومحمد ابن إبراهيم بن العلاء زبريق وزبريق لقب العلاء-، ومدار الحديث عليهما، وهما ضعيفان، والشامي أوهى.

لكن يعضد هذه الطريق: ما خرجه الحافظ أبو عبد الله في "مستدركه" على "الصحيحين" فقال: حدثنا أبو القاسم الحسن بن محمد السكوني بالكوفة، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن تسنيم الحضرمي، حدثنا محمد بن خليفة الأسدي، حدثنا الحسن بن محمد بن علي، عن أبيه قال:


#272#

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم لابن عباس رضي الله عنهما: حدثني بحديث يعجبني.

فقال: حدثني خريم بن فاتك الأسدي قال: خرجت في إبل لي فأصبتها بأبرق الغزاف، فعقلتها وتوسدت ذراع بعير منها، وذلك حدثان خروج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قلت: أعوذ بعظيم هذا الوادي قال: وكذلك كانوا يصنعون في الجاهلية-، فإذا هاتف يهتف لي ويقول:

ويحك عذ بالله ذي الجلال ... منزل الحلال والحرام

ووحد الله ولا تبالي ... ما هو ذي الحزم من الأهوال

إذ تذكر الله على الأميال ... وفي سهول الأرض والجبال

وما وكيل الحق في سفال ... إلا التقى وصالح الأعمال

قال: فقلت:

يا أيها الداعي بما تحيل ... رشد يرى عندك أم تضليل

فقال:

هذا رسول الله ذو الخيرات ... جاء بياسين وحاميمات

في سور بعد مفصلات ... محرمات ومحللات

يأمرنا بالصوم والصلاة ... ويزجر الناس عن الهنات

قد كن في الأيام المنكرات ...

قال: فقلت: من أنت يرحمك الله؟

قال: أنا مالك بن مالك، بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من


#273#

أرض أهل نجد.

قال: فقلت لو كان لي من يكفيني إبلي هذه؛ لأتيته حتى أؤمن به.

فقال: أنا أكفيكها حتى أؤديها إلى أهلك سالمة إن شاء الله.

فاعتقلت بعيرا منها ثم أتيت المدينة، فوافقت الناس يوم الجمعة وهم في الصلاة، فقلت: يقضون صلاتهم ثم أدخل، فإني لذاهب أنيخ راحلتي؛ إذ خرج أبو ذر رضي الله عنه فقال: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدخل، فدخلت، فلما رآني قال: "ما فعل الشيخ الذي ضمن لك أن يؤدي إبلك إلى أهلك سالمة؟ [أما إنه قد أداها إلى أهلك سالمة]".

قلت: رحمه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجل رحمه [الله]"، فقال خريم: أشهد أن لا إله إلا الله، وحسن إسلامه.

تابعه الطبراني، فرواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "معجمه الكبير".

وخرجه أبو الحسن الخلال في كتابه "الهواتف بالنبوة" من حديث أحمد بن الحسن العجلي: حدثنا أبو طاهر محمد بن تسنيم الوراق، حدثني محمد بن خليفة، فذكره بنحوه.

وقال أحمد بن أبي خيثمة، وأبو موسى عمران بن موسى المؤذن،


#274#

ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة واللفظ له- حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثنا سعيد بن عبيد الله بن الوليد الوصافي، عن أبي جعفر يعني محمد بن علي- قال:

دخل سواد بن قارب السدوسي على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فقال: يا سواد بن قارب! نشدتك بالله، هل تحس من كهانتك اليوم شيئا؟

قال: سبحان الله يا أمير المؤمنين! والله ما استقبلت أحدا من جلسائك مثل الذي استقبلتني به.

فقال: سبحان الله يا سواد! ما كنا عليه من شركنا أعظم مما كنت عليه من كهانتك، والله يا سواد، لقد بلغني عنك حديث إنه لعجب من العجب.

قال: إي والله يا أمير المؤمنين، إنه لعجب من العجب؟

قال: فحدثنيه.

قال: كنت كاهنا في الجاهلية، فبينا أنا ذات ليلة [نائم]، إذ أتاني نجيي فضربني برجله، ثم قال: يا سواد بن قارب! اسمع أقل لك.

قال: قلت: هات، قال:

عجبت للجن وإيجاسها ... ورحلها العيس بأحلاسها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها

فارحل إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى راسها

قال: فنمت، ولم أحفل بقوله شيئا.

فلما كانت الليلة الثانية، أتاني فضربني برجله وقال:


#275#

يا سواد! اسمع أقل لك.

قلت: هات، قال:

عجبت للجن وتطلابها ... ورحلها العيس بأقتابها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادقوا الجن ككذابها

فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس المقاديم كأذنابها

قال: فحرك قوله مني شيئا.

قال: فنمت، فلما كانت الليلة الثالثة، أتاني فضربني برجله وقال: يا سواد بن قارب! اسمع ما أقول لك.

قال: قلت: هات، قال:

عجبت للجن وأخبارها ... ورحلها العيس بأكوارها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل كفارها

فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها وأحجارها

قال: فعلمت أن الله تعالى قد أراد بي خيرا، فقمت إلى بردة لي، ففتقتها فلبستها، ووضعت رجلي في غرز رحل الناقة، ثم أقبلت حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته فقال: "إذا اجتمع المسلمون؛ فأخبرهم".

فلما اجتمع المسلمون قمت فقلت:

أتاني نجيي بعد هدي ورقدة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب

ثلاث ليال قوله كل ليلة: ... أتاك رسول من لؤي بن غالب


#276#

فشمرت عن ذيلي الإزار ووسطت ... بي الذلب الوجناء غير السباسب

واعلم أن الله لا رب غيره ... وأنك مأمون على كل غائب

وإنك أدنى المسلمين وسيلة ... إلى الله يابن الأكرمين الأطايب

فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب

قال: فسر المسلمون بذلك.

قال: فقال عمر رضي الله عنه: هل تحس اليوم منها شيئا؟.

قال: أما منذ علمني الله القرآن؛ فلا.

خرجه أبو نعيم في كتابه "معرفة الصحابة" من حديث ابن أبي شيبة المذكور آنفا.

وأبو جعفر هو: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.

تابعه سعيد بن جبير، ومحمد بن كعب القرظي بنحوه.

وسعيد بن عبيد الله الوصافي، وأبوه، ضعيفان، لكن تابعه جماعة في طريق سعيد بن جبير: الحكم بن يعلى بن عطاء المحاربي، عن أبي معمر عباد بن عبد الصمد البصري، وهما هالكان، وراويه عن محمد بن كعب، وعبد الرحمن؛ عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص، متفق على تركه.

ومن طريقه رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" من حديث يحيى بن حجر الشامي: حدثنا علي بن منصور الأنباوي، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، عن محمد بن كعب القرظي قال: بينما عمر رضي الله


#277#

عنه جالس؛ إذ مر به رجل، فقال قائل: أتعرف هذا؟ قال: ومن هو؟ قال: سواد بن قارب.

فأرسل إليه عمر رضي الله عنه فقال: أنت سواد بن قارب؟ قال: نعم.

قال: أنت الذي أتاه رئيه بظهور النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.

قال: فأنت على كهانتك؟

فغضب وقال: ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت.

قال عمر رضي الله عنه: سبحان الله! ما كنا عليه من الشرك أعظم.

قال: فأخبرني بإتيانك رئيك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، إذ أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، اسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب، يدعو إلى عبادة الله، وذكر بقيته.

وفيه: ثم أنشأ عمر رضي الله عنه يقول: كنا يوما في حي من قريش يقال لهم: آل ذريح، وقد ذبحوا عجلا، والجزار يعالجه، إذ سمعنا صوتا من جوف العجل ولا نرى شيئا، وهو يقول: يا آل ذريح! أمر نجيح، صائح يصيح، بلسان فصيح، يشهد أن لا إله إلا الله.

إسناده منقطع.

ورواه الحسن بن سفيان، ومحمد بن عبد الوهاب الفراء، عن بشر بن


#278#

حجر أخي يحيى بن حجر-، عن علي بن منصور، بنحوه.

ومن طريق الوقاصي، عن القرطبي أيضا؛ خرجه الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه"، والحسن الخلال في كتابه "الهواتف بالنبوة".

رواه هشام بن عمار: حدثنا عراك بن خالد، عن أبيه، قال: دخل سواد بن قارب على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فذكره بنحوه.

وزاد في آخر الأبيات، كما هو في رواية كعب القرظي:

فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب

وإسناده ضعيف.

وخرجه أبو محمد الحسن بن الخلال في كتابه "الهواتف بالنبوة" من حديث يوسف بن يعقوب بن البهلول، حدثني إسحاق بن بهلول، عن أبيه بهلول، عن إسحاق بن زياد بن سامة بن لؤي، عن شبيب بن شيبة، عن خالد صفوان بن الأهتم، قال:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسواد بن قارب: يا سواد! متى عهدك بكهانتك؟

قال: ذاك من الجاهلية انقضى، وقد أكرمنا الله بالإسلام، وما أظنك استقبلت بهذا أحدا منذ وليت.

وذكر الحديث بطوله.


#279#

وخرجه أبو جعفر عمر بن أحمد بن شاهين في "الدلائل" من حديث الفضل بن زياد، صاحب يزيد بن عيسى بن يزيد القرشي: حدثنا العلاء بن زيدل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:

قدم سواد بن قارب، فقال: يا رسول الله! كنت كاهنا، وذكر الحديث.

وخرجه أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني في "أشعار الجن" من حديث أحمد بن محمد بن عمر بن يونس اليمامي: حدثنا عبد الحميد بن عمر الجندي، حدثنا محمد بن خالد الجندي، عن شبل بن الحجاج الجندي، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:

كنت جالسا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ أقبل سواد بن قارب الدوسي، وذكر الحديث:

وخرجه أيضا من حديث السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، عن ابن الكلبي قال:

بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد، إذ مر به رجل، فقال لرجل من القوم: أتعرف هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، هذا سواد ابن قارب، وذكر الحديث.

وخرجه أيضا من حديث يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن بشر بن إبراهيم التيمي، عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد، قال:


#280#

بينا عمر رضي الله عنه جالس، مر به رجل حسان جمال، فقال: لقد أخطأ رأيي، وإن هذا الرجل لعلى دينه في الجاهلية، أو: لقد أخطأ ظني به، وإنه لعلى دين قومه، أو: لقد كان كاهن قومه في الجاهلية، علي بالرجل.

فلما أتاه، وقف بين يديه فقال: لقد أخطأ ظني بك، وإنك لعلى دين قومك، أو لقد كنت كاهن قومك في الجاهلية.

فقال الرجل: تالله ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم!!.

فقال عمر رضي الله عنه: فإني أعزم عليك إلا أخبرتني:

قال: فإني كنت كاهن قومي في الجاهلية.

فقال عمر رضي الله عنه: فما أعجب ما جاءتك به شيطانتك؟

قال: بينا أنا يوما إذ جاءتني فزعة، فقالت:

ألم تر الجن وإبلاسها ... وشدها العيس بأحلاسها

وذكر الحديث المرزباني اختصره في الطرق الثلاثة، بعد أن خرجه من طريق محمد بن كعب القرظي بتمامه، وزاد في هذه الطريق الآخرة رواية عاصم بن محمد بعد قوله: ، وذكر الحديث.

فقال عمر رضي الله عنه: صدق ثلاثا-، بينما أنا عند بعض أصنامهم، إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ من جوفه صائح لم أرى مثله صوتا قط أشد منه يقول: يا جليح! أمر نجيح، رجل يصيح، يقول: لا إله إلا الله، فنفر القوم، فلم يبق غيري.

فقلت: لا أريم حتى أنظر ما وراء هذا، فعاد لها مرتين، فلم أنشب أن قيل: هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيا.


#281#

والأخير من هذا الحديث؛ قد ثبت في "الصحيح" من حديث سالم ابن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط: إني لأظنه كذا، إلا كان كما يظن. بينما عمر رضي الله عنه جالس، إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني، أو: أن هذا على دينه في الجاهلية، أو: لقد كان كاهنهم، علي الرجل.

فدعي له، وقال له ذلك، فقال: ما رأيتك كاليوم استقبل به رجلا مسلما!

قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني.

قال: كنت كاهنهم في الجاهلية.

قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟.

قال: بينما أنا يوما في السوق، جاءتني أعرف فيها الفزع، قالت:

ألم تر الجن وإبلاسها ... ويأسها من بعد إنكاسها

ولحوقها بالقلاص وأحلاسها ...

قال عمر رضي الله عنه: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم، إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول: يا جليح! أمر نجيح، رجل يصيح لا إله إلا الله، فوثب القوم.

قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا.

ثم نادى: يا جليح! أمر نجيح، رجل يصيح: لا إله إلا الله، فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبي.


#282#

ورواه يحيى بن أيوب أظنه الغافقي المصري- عن ابن الهاد، عن عبد الله بن سليمان، عن محمد بن عبد الله بن عمرو، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:

بينما رجل مار فقال عمر رضي الله عنه: قد كنت مرة ذا فراسة وليس لي رئي، ألم يكن قد كان هذا الرجل ينظر ويقول في الكهانة؟، ادعوه لي، فدعوه.

وقال عمر رضي الله عنه: من أين قدمت؟ قال: من الشام، قال: فأين تريد؟ قال: أردت هذا البيت، ولم أكن أخرج حتى آتيك.

قال: هل كنت تنظر في الكهانة؟ قال: نعم، قال: فحدثني.

قال: إني ذات ليلة بواد، إذ سمعت صائحا يقول: يا جليح! أمر نجيح، رجل يصيح، يقول: لا إله إلا الله، الجن وإياسها، والإنس وإبلاسها، والخيل وأحلاسها.

فقلت: من هذا؟ إن هذا الخبر يئست منه الجن، وأبلست منه الإنس، وأعملت فيه الخيل، فما حال الحول حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذكره الإمام أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" معلقا عن إبراهيم بن سلامة، عن إسماعيل بن زياد، عن ابن جريج، عن ابن عباس


#283#

رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدث يوما في مجلس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خرجنا قبل مظهر النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين إلى الأبطح أبطح مكة- معنا عجل نريد ذبحه، ونحن نفر، فلما ذبحناه وتصاب دمه ومات، إذ صاح من جوفه صائح يقول: يا ذريح! يا ذريح! أمر نجيح، صائح يصيح، بصوت فصيح، نبي مظهر الحق، يفتح بقول: لا إله إلا الله.

فصاح كذلك ثلاث مرات، ثم هدأ صوته، وتفرقنا ورعبنا، فلم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم أن ظهر.

فقال رجل من القوم: ما تعجب يا أمير المؤمنين؟ خرجت أنا وأصحاب لي في تجارة لنا، ونحن أربعة [نفر] نريد الشام، حتى إذا كنا ببعض أودية الشام، قرمنا إلى اللحم قرما شديدا، قبل مظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بظبية قد عرضت [لنا] مكسورة القرن، فلم نزل نختلها حتى أخذناها، قال: فوالله إننا نتوامر بذبحها، إذ هتف هاتف فقال:

أيها الركب السراع الأربعة ... خلوا سبيل الظبية المروعة

فإنها لطفلة ذات دعة ... خلوا عن العضباء قدامي سعة

ثم قال: خلوا عنها، فوالله لقد رأيت هذا الوادي وما يمر فيه أقل من خمسين رجلا حتى كنتم به.

قال: فأرسلناها، فلما أمسينا أخذنا بأزمة رواحلنا حتى أتى بنا إلى حاضر لجب كثير الأهل، قال: فأطعمنا من الثريد ما أذهب قرمنا، ثم خرجنا حتى قضى الله تجارتنا، فصحبنا رجل من يهود، فلما كنا بذلك


#284#

الوادي هتف هاتف فقال:

إياك تعجل وخذها مونقة ... فإن شر السير سير الحقحقة

قد لاح نجم فاستوى في مشرقه ... يكشف عن ظلما عبوس موبقة

يدعو إلى ظل جنان مدهقة ...

فقال اليهود: أتدرون ما يقول هذا الصارخ؟ قلنا: ما يقول؟ قال: يخبر أن نبيا قد ظهر خلافكم بمكة.

قال: فقدما فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد ظهر بمكة.

وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا الحسن بن أبي جعفر، عن ليث، عن مجاهد: أن بني غفار قربوا عجلا ليذبحوه، فنادى العجل: يا آل ذريح! لأمر نجيح، لصائح يصيح، بلسان فصيح، بمكة يدعو: لا إله إلا الله.

قال: فنظروا فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث.

ورواه الحجاج بن أرطاة، وغيره، عن مجاهد.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتابه "العلل": حدثني أبي، حدثنا محمد بن بكر يعني: البرساني-، أخبرنا عبيد الله بن أبي زياد، حدثني عبد الله بن كثير الداري، عن مجاهد، حدثنا شيخ أدرك الجاهلية ونحن في غزوة رودس- يقال له: ابن عبس، قال: كنت أسوق لآل لنا بقرة،


#285#

قال: فسمعت من جوفها: يا آل ذريح! قول فصيح، رجل يصيح: لا إله إلا الله.

قال: فقدمنا مكة، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج بمكة.

وهو مخرج في "المسند".

وخرج أبو محمد الحسن بن محمد بن علي الخلال في كتابه "الهواتف بالنبوة" من حديث أبي جعفر أحمد بن صلاح المكي، حدثنا محمود بن حماد بن سليمان الراسبي، حدثنا أبو الخليل سلم بن بالق، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

لما نزلت هذه الآية: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} قام أبو جهل خطيبا وقال: يا معشر قريش! إن محمدا قد شتم آلهتكم وسفه أحلامكم، وزعم أن من مضى من آبائكم يتهافتون في النار تهافت الحمر، ألا فمن قتل محمدا؛ فله علي مئة ناقة حمرا وسودا، وألف أوقية فضة.

فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يومئذ على غير دين الإسلام فقال: يا أبا الحكم! الضمان صحيح؟

قال: نعم، عاجل غير آجل.

قال: واللآت والعزى؟ قال: نعم.

وأخذ أبو جهل حتى أدخله الكعبة فشهد عليه هبل، وكان هبل عظيم


#286#

أصنامهم، وكانوا إذا أرادوا سفرا أو حربا أو سلما أو نكاحا؛ لم يفعلوا شيئا حتى يتسامروا هبل، قال: فأشهد عليه هبل، وتلك الأصنام.

فخرج عمر رضي الله عنه متقلدا سيفه، متنكبا كنانته يريد النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، فلقيه رجل من بني زهرة فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمدا، قال: وما تصنع به؟ قال: أقتله، قال: فكيف تأمن في بني هاشم، أو في بني عبد المطلب إذا أنت قتلت محمدا صلى الله عليه وسلم؟

قال له عمر رضي الله عنه: إني لأظنك قد صبوت إلى محمد، ولو علمت ذلك منك لبطشت بك، قال الزهري: كلا، أنا على دين آبائي.

ثم انطلقا يمشيان حتى أتيا على الأبطح، فإذا هما بعجل يذبح، وقد اجتمعوا حوله ليقسموا لحمه، فلما أوثقوه وأضجعوه؛ تكلم العجل بلسان طلق ذلق فأنشأ يقول: يا آل ذريح! أمر نجيح، رجل يصيح، بلسان فصيح، يدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.

قال: فتفرق القوم عنه، ومضى عمر مرعوبا وهو يقول: يا عجبا! إن هذا الأمر لأمر عظيم قد نزل بنا، لأقتلن محمدا قبل أن يستبد هذا الأمر.

ثم انطلق حتى أتيا مكة وصناديد قريش في الحجر، فأخبرهم عمر بما سمع، فقالوا: يا عجباه! عجل يتكلم، لو أن غير عمر أخبرنا بهذا، ما صدقناه.

فقالوا: يا عمر! اكتمه، فقال عمر رضي الله عنه: والله لا أكتم شيئا سمعته حقا، ولا باطلا.

قال: فمشوا إلى رؤساء بني عدي، فأخبروهم بما سمع، ومضى عمر


#287#

إلى محمد صلى الله عليه وسلم ليقتله، فلقيه ناس من بني خزاعة وقد وقع بينهم شحناء، وهم يريدون إلى صنم لهم يقال له: بهم، ليحكم بينهم، فلما نظروا إلى عمر قالوا: يا عمر ! هل لك أن تدخل معنا إلى بهم ليحكم بيننا؟ فدخل معهم، فلما وقفوا بين يديه، إذا هم بهاتف يهتف من جوف الصنم، وهو يقول شعر:

يا أيها الناس ذووا الأجسام ... ما أنتم وطائش الأحلام

ومسند الحكم إلى الأصنام ... وذلكم أمر كالأنعام

أما ترون ما أرى أمامي ... من ساطع يجلو دجى الظلام

قد لاح للناظرين تهام ... حتى بدا للناظرين الشام

أكرمه الرحمن من إمام ... قد جاء بعد الكفر بالإسلام

يأمر بالصلاة والصيام ... والبر والصلاة للأرحام

ويزجر الناس عن الآثام ...

قال: فتفرق الناس عنه.

قال: فبلغنا أنه لم يحضر ذلك الصنم يومئذ أحد إلا أسلم. وذكر


#288#

الحديث بطوله، وفيه إسلام عمر رضي الله عنه.

أخرج أبو القاسم الطبراني، وأبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في كتابه "المجالسة"، وأبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان" واللفظ له، من حديث الزهري، عن عبد الرحمن بن أنس السلمي، عن العباس بن مرداس رضي الله عنه: أنه كان يغر في لقاح له نصف النهار، إذ طلعت عليه نعامة بيضاء عليها راكب، عليه ثياب بيض أمثل اللبن.

فقال: يا عباس بن مرداس! ألم تر أن السماء كفت بالنجوم، وأن الحرب جرعت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الدين نزل بالبر والتقوى، يوم الاثنين ليلة الثلاثاء صاحب الناقة القصوى.

قال: فرجعت مرعوبا، قد راعني ما رأيت وسمعت، حيث جئت وثنا لنا يدعى: الضماد، وكنا نعبده ونكلم من جوفه، فكنست ما حوله، ثم تمسحت به، وقبلته، فإذا صائح من جوفه يقول:

قل للقبائل من سليم كلها ... هلك الضماد وفاز أهل المسجد

هلك الضماد وكان يعبد مرة ... قبل الصلاة مع النبي محمد

إن الذي جا بالنبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدي

قال: فخرجت مرعوبا حتى أتيت قومي، فقصصت عليهم القصة، وأخبرتهم الخبر، وخرجت في ثلاث مئة من قومي من بني حارثة إلى


#289#

رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة، فدخلنا المسجد، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: لي: "يا عباس! كيف كان إسلامك؟" فقصصت عليه القصة، قال: فسر بذلك، فأسلمت أنا وقومي.

وقال أبو عبد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني في كتابه "أشعار الجن": حدثنيه أحمد بن محمد الجوهري، حدثنا العنزي، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن فراس الشامي، حدثنا أبو عمر العمري، حدثنا أبو المنذر هشام بن محمد الكلبي، أخبرنا أبو عبد الرحمن العجلاني، عن عقبة بن جميل بن كنانة بن محصن بن هبيرة بن مرداس الأسلمي، قال:

هلك مرداس بن أبي عامر في الجاهلية، وكان له وثن من حجارة يقال له: ضماد، فأوصى ابنه العباس عند وفاته بحفظه، وقد بني عليه خباء وسدنة، وكانت عند عباس يومئذ امرأة من بني تميم يقال لها: جمل، فعمد إلى فرسه فشده عنده، وروح عليه صرمته، حتى إذا كان ليلة من ليالي الجاهلية، دعا عباسا داع من بيت ضماد يسمعه ولا يراه، فقال: يا عباس!

قل للقبائل من سليم كلها ... هلك الأنيس وعاش أهل المسجد

أود ضماد وكان يعبد مرة ... قبل الكتاب وقبل دين محمد

إن الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدي

فلما أصبح عباس رضي الله عنه غدا مع إبله يقود فرسه، حتى إذا كان قريبا من نصف النهار، إذا رجل ينادي في الهواء راكبا على جناح نعامة سوداء فقال: يا عباس!


#290#

بشر الجن وإبلاسها ... أن قد كفت السماء أحراسها

وجرعت الحرب أنفاسها ... ووضعت الخيل أحلاسها

إن النور الذي نزل يوم الاثنين ليلة الثلاثاء مع الراكب الناقة العضباء في دور بني العنقاء، علا فبهر، واتسع فانتشر، فمن خالفه كفر.

فخرج العباس رضي الله عنه حتى أتى ضماد فهدمه، ووجد جملا امرأته قد زارت جيرانها، فعجل أن تجيء، فأخذ فرسه وكان اسمها: صلاح، ثم مر به على غلامه في إبله فقال: أقرئ جملا السلام وقل لها: إني قد هدمت ضمادا وتركت الملة التي كنت عليها، وأنا خارج إلى نبي بالمدينة صلى الله عليه وسلم.

وخرج حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبايعه على دين الله عز وجل، فلما أعز الله الإسلام وأهله، رجع إلى أهله وماله، وروح غلامه على إبله.

وخرج أبو نعيم الحافظ في كتاب "الدلائل" من حديث عبد الله بن ساعدة الهذلي، عن أبيه قال: كنا عند صنمنا: سواع، وقد جلبنا إليه غنما لنا مئتي شاة قد أصابها جرب، فأدنيتها منه أطلب بركته، فسمعت مناديا من جوف الصنم ينادي: قد ذهب كيد الجن، ورمينا بالشهب لنبي اسمه أحمد.

قال: فقلت: غيرت والله، فأصرفت وجه غنمي منحدرا إلى أهلي فلقيت رجلا فخبرني بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم.


#291#

وخرج الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني في كتابه "المعجزات" من طريق عمر بن مدرك، حدثنا عبد الله بن محمد البلوي، حدثنا عمارة بن زيد، حدثنا عبد الله بن العلاء، عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: كان أبي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقول: سافرت إلى اليمن قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة ونحوها، فنزلت على عسكلان بن عواكن الحميري وكان شيخا كبيرا، أنسي له في العمر حتى عاد كالفرخ، الخبر.

إلى أن قال: وكنت لا أزال إذا أتيت اليمن نزلت عليه، فيسألني عن مكة والكعبة وزمزم، ويقول: هل ظهر فيكم رجل له نبه، له ذكر، هل خالف أحدا في دينكم؟

فأقول: لا، حتى قدمت القدمة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ضعف وثقل سمعه، فنزلت عليه، فاجتمع ولده وولد ولده، وأخبروه بمكاني، فشد عصابة على عينيه فأسند وأقعد، وقال: انتسب إلي يا أخا قريش؟

فقلت: أنا عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة، قال: حسبك يا أخا زهرة، ألا أبشرك ببشارة هي خير لك من التجارة؟

قلت: بلى.

قال: أنبئك بالمعجبة، وأبشرك بالمرغبة، إن الله قد بعث في الشهر الأول من قومك نبيا ارتضاه صفيا، وأنزل عليه كتابا وجعل له ثوابا، ينهى عن عبادة الأصنام، يأمر بالحق ويفعله، وينهى عن الباطل ويبطله.

قال: فقلت: من هو؟


#292#

فقال: لا من الأزد ولا ثمالة، ولا من السرور ولا تبالة، من بني هاشم وأنتم أخواله.

يا عبد الرحمن! اخف الواقعة، وعجل الرجعة، ثم امض له وآزره وصدقه، واحمل إليه هذه الأبيات:

أشهد بالله ذي المعالي ... وفالق الليل والصباح

إنك في المتم من قريش ... يابن المفدى من الذباح

الأبيات، إلى قوله:

أشهد بالله رب موسى ... إنك أرسلت بالبطاح

فكن شفيعي إلى مليك ... يدعو البرايا إلى الفلاح

قال عبد الرحمن رضي الله عنه: فحفظت الأبيات وأسرعت في تقصي حوائجي وانصرفت إلى مكة، فلقيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقال: هذا محمد بن عبد الله قد بعثه الله تعالى إلى خلقه، فأتيته في بيت خديجة، فلما رآني ضحك وقال: "أرى وجها خليقا أرجو له خيرا، ما وراءك يا أبا محمد؟".

فقلت: ما ورائي يا محمد، قال: "حملت إلي وديعة، أم أرسلك مرسل إلي برسالة، هاتها، أما إن أخا حمير من خواص المؤمنين".

قال عبد الرحمن رضي الله عنه: فأسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأنشدته شعره، فقال: "رب مؤمن بي ولم يرني، ومصدق وما شهدني".

الخبر بطوله.


#293#

ويروى: أن عمرو بن معدي كرب بن عبد الله الزبيدي رضي الله عنه عوتب على تردده في الإسلام وردته عنه، فقال: والله ما هو إلا الشقاء، ولقد علمت أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه.

قيل: كيف كان ذاك يا أبا ثور؟

قال: حدث بين بني زيد تناجش وتظالم، إلى أن سفك بعضهم دماء بعض، ففزع حكماؤهم إلى كاهن لهم رجوا أن يكون عنده المخرج مما نزل بهم.

فقال الكاهن: أقسم بالسماء ذات الأبراج، والأرض ذات الأدراج العجاج، والجبال ذات الفجاج، والبحار ذات الأمواج، إن هذا الإدراج والارتجاج، لعجاج ذو نتاج.

قالوا: وما نتاجه؟

قال: لظهور نبي صادق، بكتاب ناطق، وحسام ذالق.

قالوا: أين يظهر؟ وإلى ما يدعو؟

قال: يظهر الصلاح، ويدعو إلى الفلاح، يعطل القداح، وينهى عن الراح والسفاح، وعن كل أمر قباح.

قالوا: ممن هو؟

قال: من ولد الشيخ الأكرم، حافر زمزم، ومطعم الطير الحوم، والسباع الضرم.

قالوا: وما اسمه؟ قال: اسمه محمد، وعزه سرمد، وخصمه مكمد.


#294#

وقال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب، عن مصعب بن عثمان قال: كان أمية يعني: ابن أبي الصلت- قد نظر في الكتب وقرأها، ولبس المسوح تعبدا، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية، وحرم الخمر والأوثان والتمس الدين، وطمع في النبوة؛ لأنه قرأ في الكتب أن نبيا يبعث من العرب، فكان يرجو أن يكون هو.

فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم قيل له: هذا الذي كنت تبشر به وتقول فيه، فحسده عدو الله وقال: أنا كنت أرجو أن أكونه، فأنزل الله عز وجل فيه: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} وهو الذي يقول: كل دين يوم القيامة عند الله، إلا دين الحنيفية؛ زور.

قال الزبير: وحدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، قال: حدثني رجل من أهل الكوفة قال: كان أمية قائما فجاءه طائران، فوقع أحدهما على باب البيت، ودخل الآخر فشق عن قلبه، ثم رده الطائر، فقال له الطائر الآخر: أوعى، قال: نعم، أزكى، قال: أبى.

وهذا قد جاء مطولا فيما قاله أبو بكر محمد بن أحمد بن الفضل الأهوازي في كتابه "المنود من وفود القبائل"، في أول وفود النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الأعلى، حدثنا عمر بن شبة، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر بن مسعود بن خلف، عن ابن شهاب قال:

دخل أمية بن أبي الصلت على أخته وهي تهنأ أدما، فأدركه النوم فنام في ناحية من البيت، فوقع عليه طائران، ووقع أحدهما على صدره،


#295#

وثبت الآخر مكانه، فشق الواقع صدره، ثم أخرج قلبه فشقه، فقال الأعلى للأسفل: أوعى؟ قال: نعم، قال: أقبل؟ قال: لا.

قال: فرد قلبه إلى صدره ونهضا.

فأتبعهما أمية طرفه فقال: لبيكما لبيكما، ها أنا ذا لديكما، لا بريء فأعتذر، ولا ذو عشيرة فأنتصر.

قال: فرجع فوقع على صدره فشقه، فقال الأعلى للأسفل: أوعى؟ قال: نعم، قال: أقبل؟ قال: أبى، قال: فرد قلبه إلى صدره ونهضا.

فأتبعهما أمية بطرفه فقال: لبيكما لبيكما، ها أنا ذا لديكما، لا مال يغنيني، ولا عشيرة تحميني، فرجع ووقع على صدره فأخرج قلبه فشقه، فقال الأعلى للأسفل: أوعى؟ قال: وعى، قال: أقبل؟ قال: أبى، فرد قلبه في صدره ونهضا.

فأتبعهما بطرفه، فقال: لبيكما لبيكما، ها أنا ذا لديكما، محفود بالنعم، محفوظ من الذنب.

قال: فرجع فوقع على صدره فشقه، ثم أخرج قلبه فقال: الأعلى للأسفل: أوعى؟ قال: وعى، قال: أقبل؟ قال: أبى، قال: رد قلبه في صدره، ثم نهضا

فأتبعهما أمية طرفه فقال:

إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عيد لك إلا ألما

واستوى السقف، فاستوى أمية جالسا.

قال: فقلت: يا أخي! هل تجد شيئا؟ قال: حرارة في صدري، ثم أنشأ يقول:


#296#

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال أرعى الوعولا

فاجعل الموت نصب عينيك واحذر ... غولة الدهر إن للدهر غولا

أخت أمية هي: الفارعة بنت أبي الصلت، صحابية، روى عنها ابن عباس رضي الله عنهما هذه القصة، وذلك فيما رواه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن عباد بن هانئ الشجري: حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عقبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الفارعة بنت أبي الصلت رضي الله عنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألها عن قصة أبيها وأخيها.

فقالت: قدم أخي من سفر فأتاني، فوثب على سريري، فأقبل طائران فسقط أحدهما على صدره، فشق ما بين صدره إلى ثنته، فذكر القصة بنحوها، وفيها ذكر موت أمية.

وخالفه سلمة بن أبي الفضل الأبرش، فروى القصة عن ابن إسحاق: حدثني ابن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال:

قدمت فارعة بنت أبي الصلت رضي الله عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح الطائف، وكانت ذات لب وعقل وجمال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بها معجبا.

فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: "يا فارعة! هل تحفظين من شعر أخيك شيئا؟".

قالت: نعم، وأعجب من ذلك ما قد رأيت، كان أخي في سفر، فلما انصرف بدا بي فدخل علي، فرقد على السرير، وأنا أحلق أديما كان في يدي، إذ أقبل طائران أبيضان فوقع أحدهما على الكوة، ودخل الآخر


#297#

فوقع عليه، فشق الواقع ما بين قسمه إلى عانته، ثم أدخل يده في جوفه، فأخرج قلبه في كفه، ثم شمه، فقال له الطائر الأعلى: أوعى، قال: وعى، قال: أزكى، قال:أبى، ثم رد القلب إلى مكانه، فالتأم الجرح أسرع من طرفة عين، ثم ذهبا.

فلما رأيت ذلك دنوت منه، فحركته، قلت: أخي، هل تجد شيئا؟ قال: لا، إلا توصيبا في جسدي، وقد كنت ارتعت مما رأيت.

فقال لي: ما لي أراك مرتاعة، فأخبرته الخبر.

فقال: خير أريد بي، ثم انصرف عني، وذكر بقيته.

وفي آخره: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا فارعة! كان مثل أخيك، كمثل الذي آتاه الله آياته، فانسلخ منها، فاتبعه الشيطان، فكان من الغاوين بها، ولكنه أخلد إلى الأرض، واتبع هواه".

رواه وثيمة بن موسى بن الفرات أبو يزيد المصري، عن الأبرش، ومن طريقه رويناه مختصرا.

ورواه بطوله إسحاق بن بشر، عن ابن إسحاق.

ورواه أحمد بن يحيى ثعلب، عن ابن الأعرابي قال: قال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن ابن المسيب قال: قدمت الفارعة رضي الله عنها، فذكره بطوله.

وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا بكر بن أحمد بن مقبل، حدثنا عبد الله ابن شبيب، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا مجاشع بن عمرو الأسدي، حدثنا ليث بن سعد، عن ابن الأسود محمد ابن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة بن الزبير، عن معاوية بن أبي سفيان


#298#

ابن حرب رضي الله عنه: أن أمية بن أبي الصلت كان معه بغزة، أو قال: بإيلياء، فلما قفلنا، قال أمية: يا أبا سفيان! هل لك أن تتقدم على الرفقة فنتحدث؟

قلت: نعم، قال: ففعلنا، فقال لي: يا أبا سفيان! أيه عن عتبة بن ربيعة، قلت: أيه عن عتبة بن ربيعة.

قال: كريم الطرفين، ويجتنب المظالم والمحارم.

قلت: نعم، قال: وشريف مسن، قلت: وشريف مسن.

قال: الشرف والسن أزريا به.

فقلت له: كذبت، ما ازداد سنا إلا ازداد شرفا، قال: يا أبا سفيان! إنها كلمة ما سمعت أحدا يقولها لي منذ تبصرت، لا تعجل علي حتى أخبرك.

قال: هات.

قال: إني كنت أجد في كتبي نبيا يبعث من حرتنا هذه، فكنت أظن، بل كنت لا شك أني هو، فلما دارست أهل العلم؛ إذ هو من بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف، فلم أر أحدا يصلح لهذا الأمر غير عتبة بن ربيعة، فلما أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس به حين تجاوز الأربعين، ولم يوح إليه.

قال أبو سفيان رضي الله عنه: فضرب الدهر من ضربه، وأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة، فمررت بأمية بن أبي الصلت، فقلت له كالمستهزئ به: يا أمية! قد خرج النبي الذي كنت تنتظر؟

قال: أما أنه حق فاتبعه، قلت: ما يمنعك من اتباعه؟


#299#

قال: ما يمنعني إلا الاستحياء من شباب ثقيف، أني كنت أحدثهم أني هو، ثم يرونني تابعا لغلام من بني عبد مناف.

ثم قال أمية: وكأني بك يا أبا سفيان إن خالفته؛ قد ربطت كما يربط الجدي حتى يؤتى بك إليه، فيحكم بك ما يريد.

وخرجه مطولا الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه "دلائل النبوة"، والحافظ أبو نعيم في كتابه "معرفة الصحابة" رضي الله عنهم، واللفظ له.

ومن حديث سليمان بن الحكم بن عوانة، عن أبيه، عن إسماعيل بن الطريح بن إسماعيل الثقفي، حدثني أبي، عن أبيه، عن مروان بن الحكم، عن معاوية بن أبي سفيان، عن أبيه رضي الله عنهما، قال:

خرجت وأمية بن أبي الصلت الثقفي تجارا إلى الشام، فكلما نزلت منزلا، أخذ أمية سفرا له يقرؤها علينا، فكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فجاوه وأهدوا له وأكرموه، وذهب معهم إلى بيوتهم، ثم رجع في وسط النهار فوضع ثوبيه، وأخذ ثوبين له أسودين، فلبسهما وقال لي: يا أبا سفيان! هل لك في عالم من علماء النصارى، إليه يتناهى علم الكتاب، نسأله؟.

قلت: لا أرب لي فيه، والله لئن حدثني بما أحب؛ لا أثق به، وإن حدثني بما أكره؛ لأوجلن منه.

قال: فذهب وخالفه شيخ من النصارى فدخل علي فقال: ما يمنعك أن تذهب إلى هذا الشيخ؟

قلت: لست على دينه، قال: وإن فاتك تسمع منه عجبا، وتراه.

ثم قال: أثقفي أنت؟ قلت: لا، ولكني قرشي، قال: فما يمنعك من الشيخ؟، فوالله إنه ليحبكم ويوصي بكم.


#300#

قال: فخرج من عندنا ومكث أمية حتى جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح كئيبا حزينا، ساقطا غبوقه على صبوحه، ما يكلمنا ولا نكلمه.

ثم قال: ألا ترحل؟ قلت: وهل بك من رحيل؟ قال: نعم.

فرحلنا، فسرنا بذلك ليلتين من همه، ثم قال لي في الليلة الثالثة: ألا نتحدث يا أبا سفيان؟.

قلت: وهل بك من حديث، والله ما رأيت منك الذي رجعت به من عند صاحبك.

قال: أما إن ذلك لشيء لست فيه، إنما ذلك شيء وجلت به من منقلبي.

قال: قلت: وهل لك من منقلب؟ قال: إي والله، لأموتن ثم لأحيين، قال: قلت: هل أنت قائل أمانتي؟.

قال: على ماذا؟ قلت: على أنك لا تبعث ولا تحاسب، قال: فضحك ثم قال: بلى والله يا أبا سفيان، لنبعثن ثم لنحاسبن، وليدخلن فريق في الجنة وفريق في النار.

قلت: ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك؟

قال: لا علم لصاحبي بذلك في، ولا في نفسه.

قال: فكنا في ذلك ليلتين يعجب مني وأضحك منه، حتى قدمنا غوطة دمشق، فبعنا متاعنا فأقمنا بها شهرين، فارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فلما رأوه جاؤه وأهدوا له، وذهب معهم إلى بيعتهم حتى جاء بعدما انتصف النهار، فلبس ثوبيه وذهب إليهم، حتى جاءنا بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه ورمى بنفسه على فراشه، فوالله لا نام ولا قام، وأصبح


#301#

حزينا كئيبا لا يكلمنا ولا نكلمه.

ثم قال: ألا ترحل؟ قلت: بلى إن شئت، فرحلنا كذلك من بثه وحزنه ليال، ثم قال لي: يا أبا سفيان! هل لك في المسير تتقدم أصحابنا؟

قلت: هل لي فيه؟ قال: فسر، فسرنا حتى برزنا من أصحابنا ساعة، ثم قال: هنا صخر. قلت: ما تشاء؟

قال: حدثني عن عتبة بن ربيعة، أيجتنب المظالم؟ قلت: إي والله، قال: ويصل الرحم ويأمر بصلتها؟ قلت: إي والله، قال: وكريم الطرفين وسيط في العشيرة؟ قلت: نعم، قال: فهل تعلم قرشيا أشرف منه؟ قلت: لا والله لا أعلمه، قال: أمحوج هو؟ قلت: لا، بل هو ذو مال كثير، قال: وكم أتى له من السنين؟ قلت: قد زاد على المئة.

قال: فالشرف والسن والمال أزرين به؟

قلت: ولم ذاك يزري به؟ لا والله، بل يزيده خيرا.

قال: هو ذاك، هل لك في المبيت؟

قلت: هل لي فيه؟ قال: فاضطجعنا حتى مر الثقل.

قال: فسرنا حتى نزلنا في المنزل وبتنا به، ثم رحلنا منه، فلما كان الليل قال لي: يا أبا سفيان! قلت: ما تشاء؟

قال: هل لك في مثل البارحة؟ قلت: هل لي فيه؟

قال: فسرنا على ناقتين نجيبتين، حتى إذا برزنا قال: صخ! هيه عن عتبة بن ربيعة، قلت: هيها فيه.

قال: يجتنب المحارم والمظالم ويصل الرحم ويأمر بصلتها، قلت: إي والله إنه ليفعل، قال: ذو مال؟ قلت: وذو مال، قال: أتعلم قرشيا أسود


#302#

منه؟ قلت: لا والله ما أعلمه، قال: كم أتى له من السن؟ قلت: قد زاد على المئة.

قال: فإن السن والشرف والمال أزرين به، قلت: كلا والله، ما أزرى به ذاك، وأنت قائل شيئا فقله.

قال: لا تذكر حديثي حتى يأتي منه ما هو آت.

ثم قال: فإن الذي رأيت أصابني، أني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء، ثم قلت: أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر؟

قال: هو رجل من العرب، قلت: قد علمت أنه من العرب، فمن أي العرب هو؟

قال: من أهل بيت تحجه العرب، قلت: وفينا بيت تحجه العرب.

قال: هو من إخوانكم من قريش، قال: فأصابني والله- شيء ما أصابني مثله قط، وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة، وكنت أرجو أن أكون إياه.

فقلت: فإذا كان ما كان فصفه لي.

قال: رجل شاب حين دخل في الكهولة بدؤ أمره، يجتنب المظالم والمحارم، ويصل الرحم ويأمر بصلتها، وهو محوج، كريم الطرفين، متوسط في العشيرة، أكثر جنده الملائكة.

قلت: وما آية ذلك؟

قال: قد رجفت الشام منذ هلك عيسى ابن مريم عليه السلام ثلاثين رجفة، كلها مصيبة، وبقيت رجفة عامة فيها مصائب.

قال أبو سفيان: فقلت له: هذا والله الباطل، لئن بعث الله رسولا لا


#203#

يأخذه إلا مسنا شريفا.

قال أمية: والذي حلفت به، إن هذا لهكذا يا أبا سفيان، إن قول النصراني حق، هل لك في المبيت؟ قلت: هل لي فيه.

قال: فبتنا حتى جاءنا الثقل، ثم خرجنا حتى إذا كنا وبيننا وبين مكة ليلتان، أدركنا راكب من خلقنا فسألناه، فإذا هو يقول: أصابت أهل الشام بعدكم رجفة دمر أهلها، وأصابتهم فيها مصائب عظيمة.

قال أبو سفيان: فأقبل علي أمية فقال: كيف ترى قول النصراني يا أبا سفيان؟.

قلت: أرى والله وأظن؛ أن ما حدثك صاحبك حق.

قال: فقدمنا مكة، فقضيت ما كان معي ثم انطلقت، حتى جئت اليمن تاجرا، فكنت بها خمسة أشهر، ثم قدمت مكة. فبينا أنا في منزلي جاءني الناس يسلمون علي ويسألون عن بضائعهم، ثم جاءني محمد بن عبد الله وهند عندي تلاعب صبيانها، فسلم علي ورحب بي، وسألني عن سفري ومقامي، ولم يسألني عن بضاعته [ثم قام.

فقلت لهند: والله إن هذا ليعجبني، ما أحد من قريش له معي بضاعة إلا وقد سألني عنها، وما سألني هذا عن بضاعته].

فقالت لي هند: أو ما علمت شأنه؟ قلت وفزعت: وما شأنه؟

قالت: يزعم أنه رسول الله، فوقذتني وذكرت قول النصراني، فوجمت حتى قالت هند: مالك؟

فانتبهت فقلت: إن هذا لهو الباطل، لهو أعقل من أن يقول هذا.

قالت: بلى والله إنه ليقول ذاك، ويواتي عليه، وإن له لصحابة


#204#

على دينه.

قلت: هذا الباطل.

قال: وخرجت، فبينا أنا أطوف بالبيت لقيته، فقلت: إن بضاعتك قد بلغت كذا وكذا، وكان فيها خير، فأرسل فخذها، ولست آخذ منك فيها ما آخذ من قومك، فأبى علي وقال: إذا لا آخذها.

قلت: فأرسل فخذها، وأنا آخذ منك ما آخذ من قومك، فأرسل إلى بضاعته فأخذها، وأخذت منه ما كنت آخذ من غيره.

ولم أنشب أن خرجت إلى اليمن، فقدمت الطائف، فنزلت على أمية ابن أبي الصلت فقلت له: أبا عثمان! قال: ما تشاء؟.

قلت: هل تذكر حديث النصراني؟ قال: أذكره، قلت: وقد كان، قال: ومن؟، قلت: محمد بن عبد الله، قال: ابن عبد المطلب، قلت: ابن عبد المطلب، ثم قصصت عليه خبر هند.

قال: فالله يعلم لتصبب عرقا ثم قال: والله يا أبا سفيان لعله أن صفته لهي، ولئن ظهر وأنا حي؛ لأبلين الله عز وجل في نصره عذرا.

قال: ومضيت إلى اليمن، فلم أنشب أن جاءني هنالك استهلاله، فأقبلت حتى نزلت على أمية بن أبي الصلت بالطائف، فقلت: أبا عثمان! قد كان من أمر الرجل ما قد بلغك وسمعت، قال: قد كان لعمري.

قلت: فأين أنت منه يا أبا عثمان؟

قال: والله ما كنت لأؤمن برسول من غير ثقيف أبدا.

قال أبو سفيان: وأقبلت إلى مكة، فوالله ما أنا ببعيد، حتى جئت مكة فوجدت أصحابه يضربون ويعقرون.


#305#

قال أبو سفيان: فجعلت أقول: فأين جنده من الملائكة؟، قال: فدخلني ما يدخل الناس من النفاسة.

وروى الحديث بطوله عبد الله بن شبيب بن خالد أبو سعيد الربعي المكي الأخباري العلامة، وهو ضعيف، عن محمد بن مسلمة بن هشام المخزومي، عن إسماعيل بن الطريح.

ورواه محمد بن زكريا البصري: حدثنا العتبي، حدثني أيوب بن سليمان المنقري، عن محمد بن إسماعيل بن الطريح الثقفي، عن أبيه، عن جد أبيه قال: شهدت أمية بن أبي الصلت وهو متروك به-، وذكر الحديث بنحو ما تقدم.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "دلائل النبوة": حدثني محمد بن عباد بن موسى، حدثنا هشام بن محمد، عن أبي مسكين محرز بن جعفر، وأبي السائب المخزومي: أن أبا بكر رضي الله عنه كان يقول: أول ما سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني كنت جالسا إلى الكعبة، وزيد بن عمرو بن نفيل مسند ظهره إلى الكعبة، فأقبل أمية بن أبي الصلت فقال: يا طالب الحق! أوجدت؟ قال: لا، ولم أوت من جهل.

فقال أمية: كل دين عند الله عز وجل بوار يوم القيامة؛ إلا دين الحنيفيين.

فقال له زيد: صدقت.

فقال له أمية: أما هذا النبي الذي يبعث منا، أو منكم، أو من فلسطين.

قال: فقمت فألقى ورقة بن نوفل، وكان كثير همهمة الصدر والنظر في السماء، فاستوقفته فوقف، فأخبرته بما سمعت منهما فقال: يا ابن أخي! إني قد نظرت في نسب العرب، فوجدت قومك أوسط العرب، والله إن


#306#

الله يبعث نبيا يبعثه من قريش لا من ثقيف، ولا من فلسطين.

قلت: يا عم! ما النبي؟ قال: يقول ما يقال له، غير أنه لا ظلم ولا تظالم.

قال: فما كان إلا قريبا؛ حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم.

صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم".

وخرج مسلم في "صحيحه"، والترمذي في "الشمائل" واللفظ له من حديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه رضي الله عنه قال:

كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم فأنشدته مئة قافية من قول أمية ابن أبي الصلت، كلما أنشدته بيتا، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "هيه"، حتى أنشدته مئة يعني: بيتا- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كاد ليسلم".

وهو في "مسند المقلين" لدعلج، من طريق الطائفي.

ورواه البخاري في "تاريخه الصغير" بنحوه.

وهو عند "مسلم" أيضا من حديث سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه رضي الله عنه قال: ردفت النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟" قلت: نعم، قال: "هيه"، فأنشدته بيتا فقال: "هيه"، حتى أنشدته مئة بيت.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث أبي يونس القشيري،


#307#

حدثنا سماك بن حرب: أن عمرو بن رافع حدثه وكان مولى لأبي سفيان- أن شريد رضي الله عنه بينما هو يمشي بين منى والشعب في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي حج، قال: فإذ وقع ناقة خلفي، قال: فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفني.

فقال: "الشريد؟" قلت: نعم.

قال: "ألا أحملك خلفي يا شريد؟" قلت: بلى يا رسول الله، ما بي إعياء ولا لغوب، ولكن ألتمس البركة في مركبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال: "يا شريد! هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟".

قلت: أنا أروى الناس، قال: "هات" فأنشدته، فإذا سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت، وإذا قال: "إيه" أنشدته، حتى إذا طال ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "عند الله علم أمية بن أبي الصلت".

أبو يونس: حاتم بن أبي صغيرة.

وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما أنشد شعر أمية قال: "آمن لسانه، وكفر قلبه".

وكان أمية قد قرأ الكتب ورغب عن عبادة الأوثان، وعلم من أمر خروج النبي صلى الله عليه وسلم وظهوره علما بينا، -تقدم ذكر بعضه-، وكان يخبر به.

فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم؛ كفر به حسدا له، مع اعترافه به.

وكذلك اعترف به صلى الله عليه وسلم علماء النصارى كهرقل،


#308#

وصاحب رومية، وجريج المقوقس، وخلق.

ومن علماء اليهود: عبد الله بن صوريا، والزبير بن باطا، وكعب بن أسد، وابن شهلاء، وجم غفير من اليهود، ممن حمله الحسد والخوف على دنياه على بقائه على كفره وشقائه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وجاء عن أبي علي الروذباري رحمة الله عليه قال: كنت في البادية فعثر الجمل.

فقلت: الله.

فقال الجمل: الله، وصلى الله على محمد.

خرجه أبو القاسم ابن بشكوال في كتابه "القربة".


#309#

$قصة أسقف قيسارية$

وقال الحافظ أبو سعيد محمد بن علي بن عمرو بن مهدي النقاش: حدثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب، حدثنا إبراهيم بن عبد الله ابن موسى البصري، حدثنا علي بن محمد بن جميل الرافقي، حدثنا سعيد ابن عبيد الله الطواف، عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، قال:

رأيت أسقف قيسارية في الطواف، فسألته عن إسلامه، فقال: ركبت سفينة أقصد بعض المدن في جماعة من الناس، فانكسرت السفينة، وبقيت على خشبة تضربني الأمواج ثلاثة أيام بلياليها، ثم قذف بي الموج إلى غيضة فيها أشجار لها ثمر مثل النبق، ونهر مطرد، فشربت الماء وأكلت من ذلك الثمر.

فلما جن الليل، صعد من الماء شخص عظيم وحوله جماعة، لم أر على صورتهم أحدا، فقال بأعلى صوته: لا إله إلا الله الملك الجبار، محمد رسول الله النبي المختار، أبو بكر الصديق صاحب الغار، وعمر بن الخطاب مفتاح الأمصار، وعثمان بن عفان حسن الجوار، علي بن أبي طالب قاصم الكفار، على باغضيهم لعنة الله، ومأواهم جهنم وبئس الدار، ثم غاب.

فلما كان بعد مضي أكثر الليل، صعد ثانيا في أصحابه فنادى: لا إله إلا الله القريب المجيب، محمد رسول الله النبي الحبيب، أبو بكر الصديق الشفيق الرفيق، عمر بن الخطاب ركن من حديد، عثمان بن عفان الحيي الحليم، علي بن أبي طالب الكريم المستقيم.


#310#

ثم بصر بي أحدهم، فدنا مني فقال: أجني أم إنسي؟ فقلت: إنسي، فقال: ما دينك؟ قلت: النصرانية، قال: أسلم تسلم، أما علمت أن الدين عند الله الإسلام؟

فقلت له: من هذا الشخص العظيم الذي نادى؟

قال: هو التيار ملك البحار، هذا دأبه كل ليلة في بحر من البحور.

ثم قال: غدا يمر بك مركب فصح بهم، أو أشر إليهم يحملوك إلى بلد الإسلام.

فلما كان من الغد؛ مر مركب فأشرت إليهم، كانوا نصارى، فحملوني وقصصت عليهم قصتي، فأسلموا كما أسلمت، وضمنت لله أن لا أكتم هذا الحديث.

ورويت هذه الحكاية من طريق أخرى، رواها أبو عمرو عثمان بن عيسى الصموت، المعروف بابن الباقلاني، فقال:

حدثنا أبو الطيب ابن المنتاب، حدثنا أبو بكر محمد بن علي بن حمدان، حدثنا أحمد ابن فصلان، حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عثمان ابن عبد الرحمن، عن شرحبيل بن عبد الكريم الصنعاني، عن إدريس بن سنان، عن وهب بن منبه اليماني، قال:

رأيت أسقف قيسارية مسلما، وقد كان قبل ذلك نصرانيا، تشير إليه النصرانية بالأصابع ويعظمونه.

فقلت له: ما الذي دعاك إلى الإسلام بعد تلك الرئاسة ورغبتك فيها؟

فقال: ركبت البحر فكسر بنا، فأفلت أنا على لوح وحدي، فلم يزل اللوح يسير بي وحدي والأمواج تلعب بي شهرا، لا أدري أين أتوجه من بلاد الله، ثم إن البحر نبذني إلى جزيرة كبيرة فيها شجر عظيم،

 

ج2. جامع الآثار في مولد النبي المختارلى الله عليه وسلم

ج 2.-الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الله بن محمد القيسي الدمشقي المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي

المتوفى سنة 842 هـ

رحمه الله تعالى

 

 

اعتنى بنشره

حسين محمد علي شكري

 

 

دار الكتب العلمية

الطبعة الأولى

2010

 

 

المجلد الثاني

 


#1044#

وإخوة النبي صلى الله عليه وسلم من حليمة: ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه، أرضعته حليمة أياما -فيما قاله عبد الرحمن بن سابط وغيره، - وأولاد حليمة وهم: عبد الله، وقد ورد أن اسمه: ضمرة، ومسروح: درج صغيرا، هكذا ذكره النسابة الجواني في إخوة النبي صلى الله عليه وسلم من حليمة، وإنما مسروح ولد ثويبة، كما تقدم، والله أعلم.

ومن حليمة أيضا: أُنيسة، والشيماء، وقيل: الشماء، وهو لقبها، واسمها: خذامة، -بالمعجمتين وكسر أوله- قال ابن الجوزي: وبعضهم يقول: حِدامة -بالجيم والدال المهملة-.

وذكرها أبو عمر في الصحابيات في حرف "الحاء المهملة"، وذكرها في حرف "الشين المعجمة"، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما


#1045#

خيرها قالت: بل أرجع إلى قومي، فأسلمت وأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية، وأعطاها نعما وشاء.

وسمى أبو عمر في الترجمتين: حِذافة، بالمهملة والفاء مكان الميم، على ما ذكره يونس بن بكير، عن ابن إسحاق.

والذي رواه غير يونس، عن ابن إسحاق: خدامة، -بكسر الخاء المعجمة، بعدها ذال معجمة-.

قال جعفر بن محمد المستغفري الحافظ في كتاب "الصحابة": أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا ابن لبابة، أخبرنا عمار بن الحسن، حدثنا سلمة، حدثنا محمد بن إسحاق، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السعدي قال:

لما انتهى بالشيماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال جعفر: وهي بنت الحارث بن عبد العزى، من بني سعد بن بكر- قالت: يا رسول الله! إني لأختك من الرضاعة.

قال: «وما علامة ذلك؟».

قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، فبسط لها رداءه.

ثم قال لها: «هاهنا»، فأجلسها عليه، وخيرها فقال: «إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت»

قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردها إلى قومها.

فزعمت بنو سعد بن بكر: أنه أعطاها غلاما يقال له: مكحول،


#1046#

وجارية، فزوجت أحدهما من الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهم بقية.

ذكره أبو موسى، عن المستغفري في كتابه "المستفاد".

والشيماء هذه، إحدى حواضنه صلى الله عليه وسلم، كانت تحضنه مع أمها حليمة.

قال الذهبي: وتدعى أم النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، قاله في كتابه "تجريد الصحابة".

وكانت الشيماء حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم تقول فيما ترقصه صلى الله عليه وسلم:

يا رب أبق لي أخي محمدا ... حتى أراه يافعا وأمردا

ثم أراه سيدا مسودا ... واكبت أعاديه معا والحسدا

وأعطه عزا يدوم أبدا ... وأعز ربه الأهلين عزا سرمدا

ورواه ابن عروبة، وكان إذا أنشد شعرها يقول: «ما أحسن إجابة الله دعاءها».

وروي: أنه كانت تنشد أيضا فيما ترقص به صلى الله عليه وسلم:

هذا أخي لم تلده أمي ... وليس من نسل أبي وعمي

فديته من مخول معم ... ومنعم مكرم خِضم

ذكره ابن دحية.

وفي "مختصر العين" لأبي بكر الزبيدي: ورجل معم فحول: أي: كريم الأعمام والأخوال. انتهى.


#1047#

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كريم الطرفين، أعمامه السادة الكرام بنو هاشم، وأخواله الطيبون النجباء: بنو زهرة، وبنو النجار سادات الأنصار.

وقال ابن دحية: وقد روي أنه لما أوقع النبي صلى الله عليه وسلم بهوازن، خرجت الشيماء تعثر في ذيلها، قد أسدلت برقعتها، حتى إذا كانت بين يديه الكريمتين، أسفرت عن وجهها وقالت:

تجلى الظلام ببدر التمام ... وخير الأنام أبي القاسم

.. .. .. .. .. .. .. .. ... ودود حليم عن الجارم

أتنسى بنجد رضاع وعهدي ... وأنت رسول إلى العالم

أتذكر بالسرح أو بالغدير ... لعيبا من اللعب بالرادم

وقد عض فوك يدي عضة ... لنفسي فداؤك من عارم

وأمي وأمك قد عرفت ... فأين المزاح من اللازم

فرحب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسط لها رداءه، وأقبل عليها لا يكلم غيرها، وأطلق جميع الأسارى، وهم ستة آلاف، فما عرفت مكرمة مثلها، ولا امرأة هي أيمن على قومها منها.

وفي رواية: لما أوقع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني سعد، جاء


#1048#

إليها قومها وقالوا: إن هذا الرجل أخوك، فلو أتيت [إليه] فسألته في قومك لرجونا أن يحابينا.

فأتته فقالت: أتعرفني؟ قال: «ما أنكرك من [منسوبة]، فمن أنت؟».

قالت: أنا أختك، بنت أبي ذؤيب، وآية ذلك: أني حملتك ذات يوم وأنت صبي، فعضضت بكتفي عضة شديدة، ها أثرها باق.

فرحب بها، وطرح ثوبا أظنه من ثيابه، فسألته في بني سعد، فأطلقهم لها، وخيرها بين الإقامة والانطلاق، فاختارت المسير مع قومها، فسرحها مكرمة مسلمة، وأسلم من قومها ناس كثير.

فقال ضمام بن ثعلبة السعدي في قصيدته المشهورة، منها:

خلعنا اللآت والعزى جميعا ... وأمسكنا بدين الله دينا

كتاب جاءنا من ربي ... فعلمناه خير المرسلينا

محمد الرسول هدى ونورا ... عرفنا من رسالته اليقينا

انتهى قول ابن دحية.

وفيه نظر، وتساهل في نقله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أوقع بهوازن وأسر الأسارى، قدمهم إلى الجعرانة، [فحبسهم] بها، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حين فرغ من حرب هوازن، وهي غزاة حنين، فحاصر أهل الطائف بضعا وعشرين ليلة -على خلاف في ذلك-، ثم انصرف عنها [إلى] الجعرانة بمن معه من المسلمين، فأتاه وفد هوازن هناك تائبين، فمن عليهم وعلى سباياهم حينئذ.

وقوله: فقال ضمام بن ثعلبة السعدي قصيدته المشهورة، ربما يوهم


#1049#

أن ضمام أسلم يومئذ، وإنما كان قدومه وإسلامه -كما هو المشهور- في السنة الخامسة من الهجرة، وغزة حنين في السنة الثامنة منها، وقد ذكرت ذلك في قصيدتي المسماة: "بواعث الفكرة في حوادث الهجرة"، وستأتي إن شاء الله تعالى بكمالها.

وأما ما ذكره ابن دحية أيضا من إتيان الشيماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسؤالها إطلاق السبي، وإسلامها، وقولها: أنا أختك بنت أبي ذؤيب، ففيه نظر.

لكن خرج البيهقي في "الدلائل" عن قتادة قال: لما كان يوم فتح هوازن، جاءت جارية إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! أنا أختك، أنا شيماء بنت الحارث.

فقال: «إن تكوني صادقة، كان بك مني علامة»، أو قال: «أثر لن يبلى».

فكشفت عن محصدتها ثم قالت: نعم يا رسول الله، حملتك وأنت صغير فعضضتني هذه العضة.

فبسط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه، ثم قال: «سلي تعطي، واشفعي تشفعي».

وذكر الواقدي هذه القصة بمعناها في "السير"، وذكر أن العضة كانت


#1050#

بإبهامها، وأنه لما عرفها؛ قام صلى الله عليه وسلم إليها ورحب بها ودمعت عيناه، وأنه صلى الله عليه وسلم أمر لها ببعير أو بعيرين، وسألها من بقي منهم؟ فأخبرته بأختها وأخيها، وبعمها أبي برقان، وأخبرته بقوم.

ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارجعي إلى الجعرانة تكونين مع قومك، فإني أمضي إلى الطائف»، فرجعت إلى الجعرانة، ووافاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، فأعطاها نعما وشاءا لها ولمن بقي من أهل بيتها. انتهى.

والسفير الذي كان في عتق سبي هوازن، والمستشفع في ذلك؛ زهير ابن صرد الجشمي أبو صرد، وقيل: أبو جرول.

أخبرنا الشهاب عبد الرحمن بن محمد بن أبي العباس الفارقي بقراءتي عليه في سنة ثمان وتسعين، أخبرتنا أم الفضيل زينب بنت يحيى بن شيخ الإسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمية الدمشقية، وعبد الله ابن الحسين الأنصاري سنة ثمان وعشر وسبع مئة قالا: أخبرنا إبراهيم بن الخليل الآدمي قراءة، قالت زينب: وأنا في الخامسة.

(ح). وأخبرنا الشهاب عبد الرحمن، وقال: وأخبرنا القاضي أبو محمد عبد الله بن الحسن الحنبلي، أخبرنا محمد بن عبد الهادي بن يوسف

(ح). وأخبرنا الشهاب عن عبد الرحمن قال: وأخبرنا أحمد بن عبد الرحمن البعلي، أخبرنا محمد بن إسماعيل المرداوي، قالوا: أخبرنا يحيى بن محمود الثقفي، أخبرنا الشيخان أبو عدنان محمد بن أحمد بن أبي نزار الربعي حضورا سنة ست عشرة وخمس مئة، وفاطمة بنت عبد الله


#1051#

الجوزدانية سماعا، قالا: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن رندة، أخبرنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، حدثنا عبيد الله بن رماحس القيسي برمادة الرملة سنة أربع وسبعين ومئتين، حدثنا أبو عمرو زياد بن طارق -وكان قد أتت عليه عشرون ومئة سنة- قال: سمعت أبو جرول زهير بن صرد الجشمي يقول:

لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين -يوم هوازن- وذهب يفرق السبي والنساء، فأتيته وأنشدته:

امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر

امنن على بيضة قد عاقها قدر ... مشتت شملها في دهرها غير

أبقت لنا الدهر هتافا على حزن ... على قلوبهم الغماء والغمر

إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملؤه من مخضها الدرر

إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر

لا يجعلنا كما شالت نعامته ... واستبق منا فإنا معشر زهر

إنا لنذكر النعماء إذا كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر

فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر

يا خير من مرحت كمت الجياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشرر

إنا نؤمل عفوا منك تلبسه ... هذي البرية إذ تعفو وتنتصر

فاعف عفا الله عما أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر


#1052#

فلما سمع هذا الشعر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم».

وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله، وقالت الأنصار مثل ذلك.

قال الطبراني: لا يروى عن زهير إلا بهذا الإسناد، وتفرد به ابن رماحس.

قلت: تابع الطبراني: أبو جعفر أحمد بن إسماعيل بن القاسم بن عاصم، وأبو بكر أحمد بن عمرو بن جابر الرملي، وأبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن الأعرابي في "معجمه"، والأمير أبو النجم بدر الحمامي، والحسن بن زيد بن الحسن بن محمد بن حمزة بن إسحاق بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الجعفري، ومحمد بن إبراهيم بن عيسى المقدسي، وأبو بكر محمد بن أحمد بن محمويه العسكري وغيرهم، عن ابن رماحس، بنحوه.

وهو: عبد الله بن رماحس بن محمد بن خالد بن حبيب، وقيل: حبيب -وذكر بعضهم: أن حبيب [هو] الصواب- بن قيس بن عمرو بن عبدة بن ناشب بن عتيبة بن غزية الجشمي، ولم يروه عن زياد -فيما أعلم- غيره.

وهو حديث ثلاثي الإسناد للطبراني؛ لو سلم من علة.

قرأت على أبي هريرة ابن الحافظ أبي عبد الله الذهبي في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وسبع مئة قال: قال أبي فيما قرأته عليه: ليس ابن رماحس ولا شيخه ممن يحتج بهما، ولا هما من أهل العلم.


#1053#

قال أبو عمر ابن عبد البر في شعر زهير بن صرد هذا: رواه عبيد الله بن رماحس، عن زياد بن طارق، عن زياد بن صرد، عن أبيه، عن جده، زهير بن صرد.

قلت: فهذا أشبه، فيكون قد سقط من صرد إلى صرد، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو المعالي محمد بن رافع رحمه الله تعالى وإيانا، فيما وجدته بخطه: قال الذهبي: الذي أسقط ذلك هو ابن رماحس، وهو متروك الحديث. انتهى.

وقال الذهبي في "الميزان" في ترجمة ابن رماحس هذا: وكان معمرا ما رأيت للمتقدمين فيه جرحا، وما هو بمعتمد عليه. ثم رأيت الحديث الذي رواه له علة قادحة، قال أبو عمر ابن عبد البر في شعر زهير بن صرد هذا:

رواه عبيد الله بن رماحس، عن زياد بن طارق، عن زياد بن صرد، عن أبيه، عن جده، زهير بن صرد: فعمد عبيد الله إلى الإسناد: وأسقط رجلين منه، وما قنع بذلك، حتى صرح أن زياد بن طارق قال: حدثني زهير، هكذا في "معجم الطبراني" وغيره، بإسقاط اثنين من سنده انتهى.


#1054#

قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن أيوب البغدادي الوراق صاحب "المغازي": حدثنا إبراهيم بن صعد، عن محمد بن إسحاق: أخبرني عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:

أن وفد هوازن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا: يا رسول الله! إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن علينا منّ الله عليك.

وقام رجل منهم، ثم أحد بني سعد بن بكر -وكان بنو سعد بن بكر، هم أرضعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم-، يقال له: زهير بن صرد -وكان يكنى بأبي صرد- فقال:


#1055#

يا رسول الله! إنما في الحظائر عماتك، وخالاتك، وحواضنك اللاتي يكفلنك، ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر، أو للنعمان بن المنذر، ثم نزلا منا بمثل ما نزلت به؛ رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين، ثم ذكر الأبيات نحو ما تقدم، سوى الأربعة أبيات الأخيرة.

وقال محمد بن شجاع الثلجي: حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال: قدم وفد هوازن، وكان في الوفد عم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فقال يومئذ: يا رسول الله! إنما في هذه الحظائر من يكفيك من عماتك وخالاتك وحواضنك، وقد حضناك في حوزنا، وأرضعناك بثدينا، ولقد رأيت مرضعك، فما رأيت مرضعا خيرا منك، ورأيتك عظيما، فما رأيت عظيما خيرا منك، ثم رأيتك شابا، فما رأيت شابا خيرا منك، وقد تكاملت فيك خلال الخير، ونحن مع ذلك أصلك وعشيرتك، فامنن علينا منّ الله عليك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد استأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسم السبي، وجرت فيه السهمان».

وقدم عليه أربعة عشر رجلا من هوازن مسلمين، وجاؤوا بإسلام من وراؤهم من قومهم، وكان رأس القوم والمتكلم عليهم: أبو صرد زهير بن صرد رضي الله عنه فقال:

يا رسول الله! إنا أصلك وعشيرتك، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك.

يا رسول الله! إنما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي يكفلنك، ولو أنا منحنا للحارث بن أبي شمر، أو للنعمان بن المنذر


#1056#

نزلا منا مثل الذي نزلت به؛ رجونا عطفهما وعائدتهما، وأنت خير المكفولين.

ويقال: إنه قال يومئذ أبو صرد: إنما في الحظائر أخواتك، وعماتك، وبنات عمك، وخالاتك، وأبعدهن قريب منك يا رسول الله بأبي وأمي إنهن حضنك في حجورهن، وأرضعنك بثديهن، وتوركنك على أوراكهن، وأنت خير المكفولين، ثم ذكر الأبيات بنحو ما تقدم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحسن الحديث أصدقه، وعندي من ترون من المسلمين، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم، أم أموالكم؟».

فقالوا: يا رسول الله! خيرتنا بين أحسابنا وبين أموالنا، وما كنا نعدل بالأحساب شيئا، فرد علينا أبناءنا ونساءنا.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما ما [كان] لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وأسأل لكم الناس، فإذا صليت بالناس فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أقول لكم: ما كان لي ولبني عبد المطلب؛ فهو لكم، وسأطلب لكم إلى الناس».

فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالناس؛ قاموا فتكلموا بالذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ما كان لي ولبني عبد


#1057#

المطلب، فهو لكم».

قال المهاجرون: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الأقرع بن حابس رضي الله عنه: أما أنا وبنو تميم؛ فلا.

قال عيينة بن حصن رضي الله عنه: أما أنا وبنو فزارة؛ فلا.

قال عباس بن مرداس رضي الله عنه: أما أنا وبنو سليم، فلا.

قالت بنو سليم: أما ما كان لنا، فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال العباس رضي الله عنه: وهنتموني.

ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبا فقال: «إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت بكم، فخيرتكم بين النساء والأبناء والأموال، فلم تعدلوا بالنساء والأبناء، فمن كانت عنده منهن شيئا فطابت نفسه أن يرده فعل ذلك، ومن أبى منكم وتمسك بحقه، فليرد عليهم وليكن فرضا علينا ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا».

قالوا: يا رسول الله! رضينا وسلمنا، وذكر بقيته.

وفي رواية ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي؛ فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي نصيبه»، فردوا على الناس أبناؤهم ونساءهم.

قول زهير في هذا الحديث: ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر، أو


#1058#

النعمان بن المنذر: ملحنا، أي: أرضعنا، والملح هنا: الرضاع، وإذا أقسموا بالملح؛ فالمراد به: الرضاع.

قال أبو عبيد الهروي: وهذا الحديث: «لا تحرم الملحة والملحتان»، يعني: الرضعة الواحدة، فأما الملجة -بالجيم- فهي المصة، وقال: الملج: المص. انتهى.

وقد أنشد الأصمعي في معنى أن الملح، -بالمهملة- الرضاع، قول أبي الطمحان، واسمه حنظلة بن الشرقي القيني، وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، وكان خبيث الدين فيهما، وكان تربا للزبير بن عبد المطلب في الجاهلية ونديما له، قاله أبو الفرج الأصبهاني.

وكانت لأبي الطمحان إبل يسقي قوم من ألبانها، فأغاروا عليها وأخذوها، فقال:

وإني لأرجو ملحها في بطونكم ... وما بسطت من جلد أشعث أغبرا

يقول: أرجو أن تحفظوا ما شربتم من ألبانها، وما بست من جلودكم، بعد أن كنتم مهازيل فسمنتم.

والحارث بن أبي شمر المذكور هنا: هو الحارث الأعرج بن أبي شمر ابن عمر بن الحارث بن عوف بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد، وقيل: إنه من آل جفنة، فقيل: هو الحارث بن أبي شمر بن الحارث ابن جبلة الغساني، ملك البلقاء وغسان.

والنعمان هو: ابن المنذر امرؤ القيس بن النعمان بن امرؤ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن


#1059#

عميم، واسمه: عدي بن نمارة لخم واسمه: مالك بن عدي بن الحارث بن مرة أبو قابوس صاحب الحيرة، وهو النعمان الأصغر صاحب الغربين، وهما طربالان، والطربال علم يبنى كالمنارة، كان يغريهما بدم من يقتله إذا ركب يوم بؤسه، وكان له يومان: يوم بؤس ويوم نعيم، قتله كسرى أبروان لنميمة كانت بينهما من زيد بن عدي بن زيد الحمار.

وقال أبو الفرج صاحب "الأغاني": ابن الخمار -بمعجمة مضمومة- وهو: العبادي التميمي الشاعر، وكان جاهليا نصرانيا ترجمان كسرى، فأمر كسرى بالنعمان فحبس ببساط، ثم ألقى تحت أقدام الفيلة فتوطأته حتى مات، وولى كسرى مكانه إياس بن قبيصة الطائي، وفي ولايته جاء الله عز وجل بالإسلام، وبعث محمد صلى الله عليه وسلم.

وأما النعمان الأكبر، فهو: ابن المنذر ابن امرئ القيس، وقيل: النعمان ابن امرؤ القيس، قاله ابن قتيبة.

وكان كسرى -في قول-، قد جعل بهرام جور في حجرة لعلة حصلت له في صغره تشبه الاستسقاء، فبنى له النعمان الخورنق لما أجمع الأطباء أنها أطيب هواء العراق، وكان قد أشرف يوما على الخورنق فنظر إلى ما حوله فقال: أكل ما أرى إلى فناء وزوال؟

قالوا: نعم.

قال: فأي خير فيما يغني، لأطلبن عيشا لا يزول، فانخلع من ملكه ولبس الأمساح، وذهب في الأرض وساح.

فذكره عدي بن زيد العبادي، فقال في قصيدته المشهورة، منها:


#1060#

وتبين رب الخورنق إذ ... أشرف يوما وللهدي تفكير

سره حاله وكثرة ما يملك ... والبحر معترضا والسدير

فارعوى قلبه وقال فما ... غبطة حي إلى الممات يصير

وخرج أحمد بن العسكري في كتابه "المواعظ والزواجر" من حديث أبي زمعة بن عمرو بن جرير، عن جده جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: أتدرون في أي يوم تنصر النعمان بن المنذر الأكبر؟

قالوا: لا، قال: فإنه خرج يتنزه ومعه عدي بن زيد العبادي، فمر بالقبور بظهر الحيرة.

فقال له عدي بن زيد: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه القبور؟

قال: لا، قال: فإنها تقول:

أيها الداعي المحثونا ... على الأرض مجدونا

كما أنتم كنا ... وكما نحن تكونونا

فانصرف منتزهه منكسر القلب حزينا، ثم خرج بعد مدة ومعه عدي بن زيد العبادي، فمروا بالقبور.

فقال عدي بن زيد: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه القبور؟

قال: لا، قال: فإنها تقول:

من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موف على قرن زوال

وصروف الدهر لا يبقى لها ... ولما تأتي به صم الجبال

وفي ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالمال والزلال


#1061#

ثم أضحوا يلعب الدهر بهم ... وكذاك الدهر حال بعد حال

فانصرف من منتزهه منكسرا حزينا، وقال لعدي بن زيد: إذا كان في السحر؛ فاحضر تعرف خبري.

فحضره، فوجده قد لبس المسوح، ثم ساح على وجهه فلم يعرف له خبر، وذكر الحديث.

ولما رد المسلمون ما في أيديهم من سبايا هوازن، وكان عيينة بن حصن رضي الله عنه قد أخذ عجوزا من السبي.

فذكر ابن إسحاق: أن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر أخذ عجوزا من عجائز هوازن، وقال حين أخذها -أي عجوزا- أرى في الحي لها نسبا، وعسى أن يعظم فداؤها، فلما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم السبايا بست فرائض، أبى أن يردها.

فقال له زهير بن صرد السعدي: خذها عنك، فوالله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا درها بماكد، ولا زوجها بواجد، فردها بست فرائض حين قال زهير ما قال.

فزعموا: أن عيينة لقي الأقرع بن حابس، فشكا إليه ذلك.

فقال: إنك والله ما أخذتها بكرا غريرة، ولا نصفا وثيرة.

وذكر الواقدي في "السير"، فيما رواه عنه محمد بن شجاع البلخي: أن عيينة كانوا قد خيروه في السبي، فأخذ رأسا منهم، فنظر إلى عجوز كبيرة فقال: هذه أم الحي، لعلهم أن يغلوا بفدائها، فإنه عسى أن يكون لها في الحي نسبا، فجاء ابنها إلى عيينة فقال: هل لك


#1062#

في مئة من الإبل؟

قال عيينة: لا، فرجع عنه وتركه ساعة، فجعلت العجوز تقول لابنها: ما أربك في بعد مئة ناقة، اتركه، فما أسرع ما يتركني بغير فداء.

فلما سمعها عيينة قال: ما رأيت كاليوم خدعة، والله ما أنا من هذه إلا في غرور ولا حرم، والله لا يأخذن أثرك مني.

قال: ثم مر بها ابنها فقال: هل لك فيما دعوتني إليه؟

قال ابنها: لا أزيدك على خمسين.

قال عيينة: لا أفعل.

قال: فلبثت ساعة، فمر بي مرة أخرى، وهو يعرض عنه، فقال عيينة: هل لك في العجوز في الذي بذلت لي؟

فقال الفتى: لا أزيدك على خمس وعشرين فريضة، هذا الذي أقوى عليه.

قال عيينة: والله لا أفعل بعد مئة فريضة خمس وعشرين.

فلما خاف عيينة أن يتفرق الناس ويرتحلوا، جاءه عيينة فقال: هل لك إلى ما دعوتني إليه؟

قال الفتى: هل لك إلى عشرة فرائض وأعطيكها؟

قال عيينة: والله لا أفعل.

فلما رحل الناس، ناداه عيينة: هل لك إلى ما دعوتني إليه إن شئت؟


#1063#

قال الفتى: أرسلها وأحمدك.

قال: والله ما لي بحمدك حاجة.

قال: وأقبل عيينة على نفسه لائما لها ويقول: ما رأيت كاليوم أمرا نكرا.

قال الفتى: إنك صنعت هذا بنفسك، عمدت إلى عجوز كبيرة، والله ما ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا فوها ببارد، ولا صاحبها بواجد، فأخذتها من بين يدي من ثري.

قال عيينة: خذها لا بارك الله لك فيها، ولا حاجة لي فيها.

قال: يقول الفتى: يا عيينة! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كسا السبي، فأخطأها من بينهم الكسوة، فما أنت بكاسيها ثوبا؟

قال: لا والله ما ذاك لها عندي.

قال: لا تفعل، فما فارقه حتى أخذ منه سمل ثوب، ثم ولى وهو يقول: إنك غير بصير بالفرض.

وشكا عيينة إلى الأقرع ما لقي، فقال الأقرع: إنك والله ما أخذتها غريرة ولا نصفا وثيرة، ولا عجوز أهل يد، عمدت إلى أحوج شيخ في هوازن فسبيت امرأته.

قال عيينة: هو ذاك.

وهذا السبي الذي أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن عليهم، كانوا ستة آلاف نسمة.

قال موسى بن عقبة في "المغازي": قال ابن شهاب: أخبرني سعيد بن


#1064#

المسيب، وعروة بن الزبير رضي الله عنهما: أن سبي هوازن كانوا ستة آلاف من الرجال والنساء والصبيان، وأن خير نساء كن تحت رجل من قريش منهم: عبد الرحمن بن عوف، وصفوان بن أمية، كانا قد استأسرا المرأتين اللتين كانتا عندهما، فاختارتا فراق قومهما.

وذكر أبو الحسين ابن فارس اللغوي: أن الذي أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم؛ قوم بخمس مئة ألف ألف. انتهى.

وذلك ببركة رضاعه صلى الله عليه وسلم فيهم من زوج حليمة الحارث بن عبد العزى من هوازن، وقد أسلم الحارث.

وعده جماعة في الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم: أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ في كتابه" معرفة الصحابة"، وقال: ذكره يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن أبيه إسحاق بن يسار، عن رجال من بني سعد ابن بكر قال:

قدم الحارث بن عبد العزى -أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة- مكة، فقالت له قريش: ألا تسمع ما يقول ابنك هذا؟

قال: ما يقول؟

قالوا: يزعم أن الله يبعث الناس بعد الموت، وأن له دارا يعذب فيها من عصاه، ويكرم فيها من أطاعه، فقد شتت أمرنا وفرق جماعتنا.

فأتاه فقال: يا بني! مالك ولقومك يشكونك، ويزعمون أنك تقول: إن الناس يبعثون بعد الموت، ثم يصيرون إلى جنة ونار.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، أنا أزعم ذلك، ولو قد


#1065#

كان ذلك اليوم يا أبة، لقد أخذت بيدك حتى أعرفك حديثك اليوم».

فأسلم الحارث بعد ذلك، فحسن إسلامه، وكان يقول حين أسلم: لو قد أخذ ابني بيدي فعرفني ما قال، ثم يرسلني إن شاء الله حتى يدخلني الجنة.

وخرجه ابن منده.

وقيل: إن الحارث لم يسلم.

قيل عن حليمة: إنها لم تسلم، ولم يعرف لها صحبة، وممن جزم به من المتأخرين: الحافظ أبو محمد الدمياطي، وقد أثبت إسلامها جماعة، وذكروا لها صحبة ووفادة.

وقال أبو داود في "سننه": حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو عاصم، حدثني جعفر بن يحيى، عن عمارة بن ثوبان: أن أبا الطفيل رضي الله عنه أخبره قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لحما بالجعرانة، فقال له أبا الطفيل -وأنا يومئذ غلام-: «احمل عظم الجزور»، إذ أقبلت عليه امرأة، حتى دنت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبسط لها رداءه فجلست عليه.

فقلت: من هي؟ فقالوا: هذه أمه التي أرضعته.

تابعه أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم، عن ابن المثنى.

وخرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

وخرجه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" عن أبي يعلى، عن عمرو بن الضحاك، عن أبيه، وهو أبو عاصم.


#1066#

وحدث به البخاري في كتابه "الأدب"، عن أبي عاصم.

ورواه محمد بن يحيى الذهلي، عن أبي عاصم النبيل، عن جعفر بن يحيى بن ثوبان، عن عمه عمارة، عن أبي الطفيل رضي الله عنه.

قال الطبراني: لا يروى عن أبي الطفيل إلا بهذا الإسناد، تفرد به أبو عاصم، قاله في "المعجم الأوسط".

وجاء عن زبد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: جاءت حليمة بنت عبد الله أم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فقام إليها وبسط لها رداءه، فجلست عليه.

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا عبد الله بن نمير الهمداني، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن المنكدر، قال: استأذنت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم كانت أرضعته، فلما دخلت عليه قال: «أمي، أمي»، وعمد إلى رداءه فبسطه لها، فقعدت عليه.

قال ابن الجوزي: وقد روي لنا أنها جاءت إلى أبي بكر رضي الله عنه بعده، فأكرمها، وإلى عمر رضي الله عنه ففعل ذلك، قاله في "الوفا".

وقال ابن سعد أيضا: أخبرنا إبراهيم بن شماس السمرقندي، أخبرنا الفضل بن موسى السيناني، عن عيسى بن فرقد، عن عمر بن سعيد قال: جاءت ظئر النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبسط لها رداءه وأدخل يده في ثيابها ووضعها على صدرها.


#1067#

قال: وقضى حاجتها.

قال: فجاءت إلى أبي بكر رضي الله عنه فبسط لها رداءه وقال: دعيني أضع يدي خارجا من الثياب.

قال: ففعلت وقضى حاجتها، ثم جاءت إلى عمر رضي الله عنه، ففعل مثل ذلك.

وذكر أبو محمد الدمياطي: أن هذه أخته الشيماء.

وقال المعافى بن سليمان: حدثنا أبو كرز، حدثنا العباس بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدية أتته زائرة له، فبسط رداءه لها فجلست عليه.

أبو كرز عبد الله بن كرز، له مناكير.

وقال أبو داود في "سننه": حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، حدثنا ابن وهب، حدثنا عمر بن الحارث: أن عمر بن السائب حدثه: أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما، فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه، فقعد عليه، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر، فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه.

وروى ابن سعد في "الطبقات الكبرى" عن الواقدي: حدثنا أسامة بن زيد الليثي، عن شيخ من بني سعد قال: قدمت حليمة بنت عبد الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تزوج خديجة رضي الله عنها، فشكت


#1068#

له جدب البلاد، وهلاك الماشية، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة فيها، فأعطتها أربعين شاة وبعيرا موقعا للظعينة، وانصرفت إلى أهلها.

وممن أثبت إسلامها: الحافظ الكبير أبو بكر بن أبي خيثمة، فذكرها في "تاريخه" في أسماء الصحابيات اللآئي روين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وحليمة السعدية أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته.

حدثنا ابن الأصبهاني، حدثنا المحاربي، عن محمد بن إسحاق، عن جهم بن أبي الجهم، عن عبد الله بن جعفر، عن حليمة بنت الحارث السعدية أم النبي صلى الله عليه وسلم التي أرضعته قالت: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يلعب مع أخيه، إذ جاء أخوه يشد فقال لي ولأبيه: أدركا أخي القرشي، فقد جاءه رجلان فأضجعاه، فشقا بطنه.

قالت: فخرجت وخرج أخوه يشتد نحوه، وانتهينا إليه.

قالت: فأعتنقته واعتنقه أبوه وقال: ما لك يا بني؟

قال: «أتاني رجلان عليهم ثياب بيض، فأضجعاني فشقان بطني»، ثم ذكر الحديث.

قال: وقال غير المحاربي: حليمة. انتهى.

وكما ذكرها ابن أبي خيثمة في الصحابيات، كذلك ذكرها أبو القاسم الطبراني في "معجمه الكبير" في ذكر النساء اللآئي روين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أسماءهن على حروف المعجم، فقال في


#1069#

حرف "الحاء" بعد ذكرها: وهي أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته وفصلته.

وذكرها أبو عبد الله بن منده، وأبو نعيم في كتابيهما في "معرفة الصحابة".

وذكرها في الصحابيات: ابن الجوزي في كتابه "التلقيح"، و"الحدائق" وغيرهما.

وقال في كتابه "الوفا": ثم قدمت عليه -يعني حليمة- بعد الإسلام فأسلمت هي وزوجها، وبايعاه رضي الله عنهما.

قلت: وكذلك خالة النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة: سلمى بنت أبي ذؤيب، أخت حليمة، يقال: إنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتزع رداءه عن ظهره فبسطه لها فقال: «مرحبا بأمي».

ذكرها هكذا مختصرا أبو العباس المستغفري في "الصحابة".

وقال ابن عبد البر في الصحابيات في كتابه "الاستيعاب": حليمة بنت عبد الله بن الحارث بن شجنة، وذكر نسبها، ثم قال: أم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، هي التي أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكملت رضاعه، ورأت له برهانا وعلما جليلا، تركناه لشهرته.

ثم قال: وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى عنها عبد الله بن جعفر.

وذكرها أبو عامر العبدري في كتابه "فضائل الصحابة والقرابة" وعقد


#1070#

لها ترجمة فقال فيما وجدته بخطه: "باب في حليمة رضوان الله عليها التي أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ثم ساق حديث أبي الطفيل الذي قدمناه من رواية الذهلي، عن أبي عاصم النبيل، وقال بعد قولهم: "أمه التي أرضعته".

قلت: أنا أرادوا أنها حليمة؛ كانت.

وقال الحافظ أبو محمد المنذري: حليمة السعدية أمه عليه أفضل الصلاة والسلام، وجاءت إليه، وروت عنه صلى الله عليه وسلم.

وصنف فيها أبو محمد مغلطاي جزءا سماه "التحفة"، صحح فيه حديث الرضاع من طريق ابن إسحاق، وأثبت إسلام حليمة وصحبتها.

وقال: قد رأيت ليلة الأحد ثاني عشرين شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة في المنام عيسى صلى الله عليه وسلم وسألته عنها.

فقال مجيبا: رضي الله عنها.

وأنشد في آخر "التحفة" لنفسه فيها:

أضحت حليمة تزدهي بمفاخر ... ما نالها في عصرها اثنان

منها الكفالة والرضاع وصحبة ... والغاية القصوى رضا ورضوان

قال: الإمام أبو القاسم سعيد بن يعقوب بن شاه الكشاني في كتابه "السراج": مات أبوه صلى الله عليه وسلم من الرضاع وأخوه بالبصرة، وقيل أيضا: حليمة ماتت بالبصرة، قبل نزول الصحابة بالبصرة.

وما قاله الكشاني غريب، والله سبحانه وتعالى أعلم.


#1071#

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.

هذا آخر الجزء الأول من ترتيب المؤلف رحمه الله تعالى وأرضاه، وجعل الفردوس مثواه بجاه محمد ومن نبأه. آمين.


#1072#

ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ست سنين، توفيت أمه آمنة، ولم تنكح قبل أبيه ولا بعده، فيما ذكره أبو محمد بن حزم في "التاريخ".

وهذا هو المشهور في سنه صلى الله عليه وسلم حتى ماتت أمه، وقاله عبد الله ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم، وغيره، وبه جزم جماعة، منهم: الواقدي، وكاتبه ابن سعد، وابن فارس اللغوي، والحافظ الدمياطي.

وقيل: توفيت والنبي صلى الله عليه وسلم ابن ست سنين ومئة يوم، قاله الذهبي في "تاريخ الإسلام".

وقيل: توفيت سنة أربع من عمره، ذكره الزبير بن بكار وغيره، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع، وقيل: ماتت أمه وعمره اثنتا عشر سنة وشهر وعشرة أيام، وكانت وفاتها بالأبواء، وهي قرية جامعة من عمل الفرع، ذكر ياقوت في "معجم البلدان" أن بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة: ثلاثة وعشرين ميلا، وسميت بذلك لتبوء السيول بها، قاله القاسم بن ثابت في "الدلائل".

وقال أبو عبيد البكري في "معجم البلدان": وقال كثير: إنما سميت


#1073#

الأبواء للوباء الذي بها، ولا يصح هذا إلا على القلب، وبواد منها من نبات الطرفاء لا يعرف في واد أكثر منه، وعلى خمسة أميال منها مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبالأبواء توفيت أمه صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وقيل: توفيت بمكة، قال أبو عمرو عثمان بن السماك: أخبرنا ابن المبرد -يعني أبا الحسن محمد بن أحمد بن البراء-، حدثني الحسين بن جابر -وكان من المجاورين بمكة-: أنه رفع إلى المأمون أن السيل يدخل قبر أم النبي صلى الله عليه وسلم بموضع معروف هناك، فأمر المأمون بإحكامه.

قال ابن البراء: وقد وصف لي وأنا بمكة موضعه، فيجوز أن تكون توفيت بالأبواء، ثم حملت إلى مكة فدفنت بها.

وقيل: توفيت بشعب أبي دب بمكة بالمعلاة، وأبو دب رجل من بني سنواة بن عامر، سكنه فسمي به، وعلى فم هذا الشعب سقيفة من حجارة بناها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، ونزلها حين انصرف من الحكمين، وقال: أجاور قوما لا يغدرون، يعني: أهل القبور.

ذكره أبو الوليد الأزرقي.

ثم قال: وقد زعم بعض المكيين أن في هذا الشعب قبر آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال بعضهم: قبرها في دار نابغة، انتهى.

وغلط ابن سعد من روى أن قبرها بمكة، قال: وليس قبرها بمكة،


#1074#

وقبرها بالأبواء.

وقال أبو الوليد الأزرقي: حدثنا محمد بن يحيى بن عبد العزيز بن عمران، عن هشام بن عاصم الأسلمي قال: لما خرجت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد فنزلوا بالأبواء.

قالت هند بنت عتبة لأبي سفيان بن حرب: أو بحثتم قبر آمنة؟ فإنه بالأبواء، فإن أسر أحد منكم؛ افتديتم كل إنسان بأرب من أربابها.

فذكر ذلك أبو سفيان لقرشي فقال: إن هند قالت كذا وكذا.

فقالت قريش: لا تفتح علينا هذا الباب، إذا يبحث بنو بكر موتانا.

وأنشد لابن هرمة:

إذا الناس غطوني فغطيت عنهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث

وإذا بحثوا بئري بحثت بيارهم ... ألا فانظروا ماذا تغير البحائث

وروي عن أم سماعة بنت أبي رهم: حدثتني أمي قالت: شهدت آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم في علتها التي ماتت فيها بالأبواء، ومحمد صلى الله عليه وسلم غلام يفع عند رأسها، إذ أغمي عليها، ثم أفاقت فنظرت إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقالت:

بارك ربي فيك من غلام ... يا ابن الذي فودي من الحمام

نجا بعون الملك المنعام ... فودي غداة الضرب السهام

بمئة من إبل سوام ...

إن صح ما رأيت في منامي ... فأنت مبعوث إلى الأنام


#1075#

من عند ذي الآلاء والإنعام ...

وأقبلت علي وقالت: كل حي ميت، وكل جديد بال، وكل كثير يفنى، وأنا ميتة وذكري باقي.

وقد تركت ولدي ظهيرا ... يبقى على كل فتى أميرا

ثم ماتت، فكنا نسمع نوح الجن عليها، وهم يقولون:

نبكي الفتاة البرة الأمينة ... زوجة عبد الله والقرينة

أم نبي الله ذو السكينة ... وصاحب المنبر في المدينة

صارت لدى حفرتها رهينة ... لو فوديت لفوديت ثمينة

ثم رجعت به صلى الله عليه وسلم أم أيمن حاضنته، حتى قدمت مكة، فأخذه جده عبد المطلب.

وقد روي في أبيات الجن المذكورة، زيادة بعد قوهم هذا:

لو فوديت لفوديت ثمينة:

وللمنايا شفرة سنينة ... لم تبق ظعانا ولا ظعينة

إلا وجت وقطعت وتينه ... إما هلكت أيها الجنينة

عن الذي ذو العرش يعلى دينه ... فكلنا والهة حزينة

نبكيك للعطلة أو للزينة ... وللضعيفات وللمسكينة

وقالت هذه القصة، لما انصرفت آمنة من المدينة، وكانت خرجت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحاضنته أم أيكن على بعير من مكة لزيارة أخوال النبي صلى الله عليه وسلم بني عدي بن النجار بالمدينة.


#1076#

وسبب الخؤولة في بني النجار: أن هاشما تزوج امرأة من بني عدي بن النجار، يقال لها: سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن حذيفة ابن حازم ابن حارثة بن عدي بن النجار، وتقدم، فولدت له عبد المطلب.

وبنو النجار هم بنو عمرو بن الخزرج، واسم النجار: تيم الله بن ثعلبة ابن عمرو بن الخزرج بن حارثة، وقيل: اسمه: تيم اللآت وهو: العنز، فيما قاله ابن الكلبي في "جمهرته".

قال: وكانت له ثلاثة أسماء، وذكر في "الجمهرة": أن سبب تسميته: النجار، لأنه ضرب رجلا فنجره.

قال القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد الكناني في "تهذيبه" كتاب "المؤتلف والمختلف" لأبي جعفر محمد بن حبيب: قال ابن قتيبة: إنما قيل له: النجار، لأنه نجر وجه رجل بالقدّوم.

قال القول الثاني ابن سيرين، فيما قاله عنه جرير بن حازم.

وقد رأيت قول ابن قتيبة في كتابه "المعارف".

وقد روي: أن آمنة كانت إقامتها في المدينة مدة شهر.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا محمد بن عبد الله، عن الزهري.

(ح) وحدثنا محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة.

(ح) وحدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم.

(ح) وحدثنا هاشم بن عاصم الأسلمي، عن أبيه، عن ابن عباس


#1077#

رضي الله عنهما -دخل حديث بعضهم في بعض-، قالوا:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب، فلما بلغ ست سنين، خرجت به إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة وتزورهم به، ومعه أم أيمن تحضنه، وهم على بعيرين، فنزلت به في دار النابغة، فأقامت به عندهم شهرا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أمورا كانت في مقامه ذلك؛ لما نظر إلى أطم بني عدي بن النجار عرفه قال: «كنت ألاعب أنيسة -جارية من الأنصار على هذا الأطم-» قال: «وركبت مع غلام من أخوالي نطيّر طائر كان يقع عليه».

ونظر إلى الدار فقال: «هاهنا نزلت بي أمي، وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله بن عبد المطلب، وأحسنت العوم في بئر عدي بن النجار».

وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليه، قالت أم أيمن: فسمعت أحدهم يقول: هو نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامه.

ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانوا بالأبواء؛ توفيت آمنة بنت وهب، فقبرها هناك، فرجعت به أم أيمن على البعيرين -اللذين قدموا عليهما- إلى مكة، وكانت تحضنه مع أمه، ثم بعد أن ماتت.

فلما مر صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية بالأبواء قال: «إن الله عز وجل قد أذن لمحمد صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أمه»، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له، فقال: «أدركتني رحمتها؛ فبكيت».


#1078#

خرجه مسلم في "صحيحه" من حديث مروان بن معاوية، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «استأذنت ربي عز وجل أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها؛ فأذن لي».

قال أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس الحافظ: غريب من حديث يزيد بن كيسان، لا أعلم حدث به إلا مروان الفزاري.

قلت: ومحمد بين عبيد الطنافسي، هو في "صحيح" مسلم أيضا.

قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير، قالا: حدثنا محمد بن عبيد، عن يزيد، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى، وأبكى من حوله، الحديث.

وخرج الترمذي من حديث أبي عاصم النبيل، حدثنا سفيان بن علقمة ابن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروا فإنها تذكركم الآخرة».

حديث بريدة حديث حسن صحيح، قاله الترمذي.

تابعه محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان.

ورواه أبو محمد بن عبد الله بن أحمد بن موسى الأهوازي عبدان، حدثنا عثمان، وأبو بكر، ابني أبي شيبة قالا: حدثنا قبيصة [بن عقبة، أخبرنا] سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال:


#1079#

لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، أتى جذم قبر فجلس إليه، فجعل كهيئة المخاطب، وجلس الناس حوله، ثم قام وهو يبكي، فتلقاه عمر رضي الله عنه، وكان من أجرأ الناس عليه.

فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما الذي أبكاك؟

فقال: «هذا قبر أمي، سألت ربي عز وجل في الزيارة فأذن لي، وسألت الاستغفار لها فلم يأذن لي، فرققت لها فبكيت»، فلم ير باكيا أكثر من باكي يومئذ.

وحدث به أبو بكر محمد بن هارون في "مسنده"، عن أبي إسحاق، أخبرنا خلف، وزهير قالا: حدثنا قبيصة، فذكره بنحوه.

تابعه محمد بن سعد، فحدث به في "الطبقات الكبرى" عن قبيصة بن عقبة، وقال بعده: وهذا غلط، وليس قبرها بمكة، وقبرها بالأبواء.

وقد ذكرنا كلامه هذا قبل.

وروى الحديث حميد بن الربيع فقال: حدثنا يحيى بن يمان، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه في ألف مقنع.

قال: فما رأيت يوما أكثر باكيا من يومئذ.

رواه يحيى محمد بن صاعد، عن حميد بن الربيع، لا يحدث به إلا في كل سنة مرة.

وهكذا قال عبد العزيز بن محمد النخشبي، كان -يعني هذا الحديث- عند حميد من أحاديث السنة، ما كان يحدث به إلا في كل سنة مرة.


#1080#

قلت: وحميد بن الربيع واه جدا.

ورواه غير ابن صاعد، عن حميد قال: حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن أبيه بريدة رضي الله عنه قال:

خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجبانة، فجلس منا غير بعيد ينكث بقضيب في يده ويبكي.

فقلنا: يا رسول الله! أتبكي وقد نهيت عن البكاء؟

فقال: «استأذنت ربي عز وجل في زيارة قبر أمي فأذن لي، فاستأذنته في الاستغفار، فلم يأذن لي، فبكيت».

تفرد به معاوية عن سفيان، وهو الثوري موصولا، ورواه غيره عن سفيان مرسلا.

وابن بريدة هو: سليمان بن بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، كما تقدم، والحديث عند محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال:

كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل بنا ونحن قريبا من ألف راكب، فصلى بنا ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه، وعيناه تذرفان، قال: فقام إليه عمر رضي الله عنه، ففداه بالأب والأم يقول: ما لك يا رسول الله؟.

قال: «إني استأذنت ربي عز وجل في الاستغفار لأمي، فلم يأذن لي، فدمعت عيناني رحمة لها»، وذكر الحديث.

وابن بريدة هذا الذي روى عنه محارب، هو: عبد الله بن بريدة، هذا


#1081#

الحديث، وليس سليمان، بين ذلك ضرار بن مرة في روايته عن محارب، قاله الخطيب في كتابه "المزيد في متصل الأسانيد".

وجاء الحديث من طريق إسماعيل بن إبراهيم الترجماني البغدادي: حدثنا المشمعل بن ملحان الطائي، عن صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال:

كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ وقف على عسفان، فنظر يمينا وشمالا فأبصر قبر أمه، فورد الماء فتوضأ، ثم صلى ركعتين، فلم يفجئنا إلا ببكائه، فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف إلينا.

فذكر الحديث نحوه مطولا.

وفيه: أنها نزلت: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا ..}، الآية إلى قوله: {تبرأ منه}.

وخرج أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" من حديث ابن وهب: أخبرنا ابن جريج، عن أيوب بن هانئ، عن مسروق بن الأجدع، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما، فخرجنا معه حتى انتهينا إلى المقابر، وأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها، فجلس إليه فناجاه طويلا، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا، فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل علينا، فتلقاه عمر رضي الله عنه فقال: ما الذي أبكاك يا رسول الله؟ فقد أبكيتنا وأفزعتنا!.


#1082#

فأخذ بيد عمر رضي الله عنه ثم أقبل علينا فقال: «أفزعكم بكائي؟» قلنا: نعم.

قال: «إن القبر الذي رأيتموني أناجي، قبر أمي آمنة بنت وهب، وإني سألت ربي الاستغفار لها فلم يأذن لي، فنزل علي: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين}، فأخذ مني ما يأخذ الوالد من الرأفة، فذلك الذي أبكاني، ألا وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا، وترغب في الآخرة».

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

والثمن الجنة لعبد الملك القاسم

سلسلة أين نحن من هؤلاء ؟  كتاب والثمن الجنة لعبد الملك القاسم  بسم الله الرحمن الرحيم  المقدمة  الحمد لله الذي وعد من أطاعه جنات عدن تجري ...