دعاء الاموات لمشاري

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate

السبت، 4 مارس 2023

ج3.جامع الآثار في مولد النبي المختار صلى الله عليه وسلم ج3. الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الله بن محمد القيسي الدمشقي المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي المتوفى سنة 842 هـ


جامع الآثار في مولد النبي المختار

صلى الله عليه وسلم ج3. الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الله بن محمد القيسي الدمشقي

المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي

المتوفى سنة 842 هـ

رحمه الله تعالى

اعتنى بنشره

حسين محمد علي شكري

دار الكتب العلمية

الطبعة الأولى

2010 .

المجلد الثالث #1374#

تسامعت العرب لقولك؛ لا يجتمع علينا منهم اثنان.

فقال: إليك عني، كيف أنت إذا ظهر العبد الأمين بخير دين؟ يا ليت أني ألحقه، وليتني لا أسبقه، إن فؤادي يصدقه.

قال: فقلت له، وكنت أقرب القوم له قرابة: يا أبا الكثيم! وأين مخرجه؟

قال: غور تهامة.

قلت: ومتى يكون؟

قال: إذا جاء الحق لم يكن به خفاء، ثم أقبلت العقاب فوقفت بين يديه وصرت صرا شديدا، فسمعناه يقول: قد فعلت، قد فعلت، ثم نهضت فطارت، فلم يلبث أن مات، وضرب الدهر من ضرباته، فأتانا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهوره بتهامة، فقلت: يا نفس! هذا ذاك. وتراخت الأيام إلى أن وفدت فأسلمت.

وقدمنا: أن أبا عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي روى بسند صالح عن مجاهد، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن إبليس رن أربع رنات: حين لعن، وحين أهبط من الجنة، وحين بعث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم -وبعث على فترة من الرسل-، وحين أنزلت فاتحة الكتاب -وأنزلت في المدينة-.

وعن وهب بن منبه قال: كان إبليس يصعد إلى السموات كلهن، ويتقلب فيهن كيف شاء، لا يمنع منذ أخرج آدم من الجنة إلى أن رفع عيسى بن مريم عليه السلام، فحجب حينئذ من أربع سموات، فصار يتردد


#1375#

في ثلاث سموات، فلما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم حجب من الثلاث، فصار محجوبا يسترق السمع هو وجنوده، ويقذفون بالكواكب.

ويروى عن لهيب بن مالك اللهبي قال: حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت عنده الكهانة فقلت: بأبي وأمي أنت، نحن أول من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم، وذلك أنا اجتمعنا عند كاهن لنا يقال له: خطر بن مالك، وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة، وكان من أعلم كهاننا.

فقلنا: يا خطر! هل عندكم علم من هذه النجوم التي يرمى بها؟ فإنا قد فزعنا لها وخفنا سوء عاقبتها، فقال: عودوا إلي السحر، إيتوني بسحر أخبركم الخبر، خير أم ضرر، أو لأمن أو حذر.

قال: فانصرفنا عنه يومنا، فلما كان من غد في وجه السحر أتيناه، فإذا هو قائم على قدميه، شاخص في السماء بعينيه، فناديناه: يا خطر! فأومأ إلينا: أمسكوا، فأمسكنا، فانقض نجم عظيم من السماء، فصرخ الكاهن رافعا صوته:

أصابه أصابه ... خامره عقابه

عاجله عذابه ... أحرقه شهابه

زايله جوابه ... يا ويله ما باله

بلبله بلباله ... عاوده خباله

تقطعت حباله ... وغيرت أحواله


#1376#

ثم أمسك طويلا وهو يقول:

يا معشر بني قحطان ... أخبركم بالحق البيان

أقسمت بالكعبتين والأركان ... والبلد المؤتمن السدان

لقد منع السمع عتاة الجان ... بثاقب بكف ذي سلطان

من أجل مبعوث عظيم الشأن ... يبعث بالتنزيل والقرآن

وبالهدى وفاصل الفرقان ... تبطل به عبادة الأوثان

قال: فقلت: ويحك يا خطر، إنك لتذكر أمرا عظيما، فماذا ترى لقومك؟

فقال: أرى لقومي ما أرى لنفسي:

إن يتبعوا خير نبي الإنس ... برهانه مثل شعاع الشمس

يبعث في مكة دار الخمس ... بمحكم التنزيل غير اللبس

فقلت له: يا خطر! ممن هو؟ قال:

والحياة والعيش ... أنه لمن قريش

ما في حكمه طيش ... ولا في خلقه هيش

يكون في جيش وأي جيش ... من آل قحطان وآل [أيش]

فقلت له: من أي قريش هو؟، فقال:

والبيت ذي الدعائم ... والركن والأحايم

أنه لمن نجل هاشم ... من معشر أكارم


#1377#

يبعث بالملاحم ... وقتل كل ظالم

ثم قال: هذا هو البيان، أخبرني به رئيس الجان.

ثم قال: الله أكبر جاء الحق وظهر، وانقطع عن الجن الخبر، ثم سكت وأغمي عليه، فما أفاق إلا بعد ثلاثة فقال: لا إله إلا الله، سبحان الله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد نطق عن مثل نبوة، وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده».

خرجه أبو جعفر العقيلي في كتاب "الصحابة" فقال: أخبرنا عبد الله ابن أحمد بن أحمد البلوي، أخبرني عمارة بن زيد، حدثني عبد الله بن العلاء، عن أبي الشعشاع زنباع بن الشعشاع، حدثني أبي لهيب بن مالك اللهبي، فذكره.

وعلقه أبو عمر ابن عبد البر في "الاستيعاب"، ووهاه ثم قال: "ولكنه في معنى حسن من أعلام النبوة، والأصول في مثله لا تدفعه، بل تصححه" انتهى. وتشهد له.

وقال الواقدي: وحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن محمد ابن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: كنا جلوسا عند صنم ببوانة، قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم بشهر بحرتا جوار، فإذا صائح يصيح من جوف واحدة: اسمعوا إلى العجب، ذهب استراق الوحي، ونرمى بالشهب، لنبي بمكة اسمه أحمد، ومهاجره إلى يثرب.

قال: فأمسكنا وعجبنا، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فبينما هم كذلك الجن


#1378#

في استراق السمع، إذ بعث الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم، قد خرت الشياطين عن السماء ورموا بالكواكب، فجعل لا يصعد أحدهم إلا احترق.

وخرج الشيخين في "الصحيحين" من حديث أبي عوانة، واللفظ للبخاري، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وخبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجع الشياطين إلى قومهم فقال: ما لكم؟

قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب.

فقال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا أمر حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذي حال بينكم وبين خبر السماء.

قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمعوا له فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: {إنا سمعنا قرآنا عجبا . يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا}، فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن} وإنما


#1379#

أوحي إليه قول الجن.

وقال الواقدي: وحدثني طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت الشياطين يسمعون الوحي، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا، فشكوا ذلك إلى إبليس فقالوا: لقد حدث أمر.

فرقي فوق أبي قبيس -وهو أول جبل وضع على الأرض- فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي خلف المقام فقال: أذهب فأكسر عنقه، فجاء يخطر وجبريل عليه [السلام] عنده، فركضه جبريل ركضة طرحه في كذا وكذا، فولى الشيطان هاربا.

وحدث به الواقدي مرة أخرى عن رباح بن معروف، عن قيس بن سعد، عن مجاهد مثله، إلا أنه قال: فركضه برجله فرماه بعدن.

وجاء في رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان الجن يستمعون الوحي ويسمعون الكلمة، فيزيدون فيها عشرا، فيكون ما سمعوا حقا وما زادوا باطلا، وكانت النجوم لا يرمي بها قبل ذلك، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان أحدهم ليأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب.

فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث.

فبث جنوده فإذا هم بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض.

خرجه الإمام أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا أبو أحمد، حدثنا


#1380#

عبيد الله بن عبد الله [بن] وهب، أخبرني نافع بن جبير، عن ابن عباس، بنحوه.

وهذه الرواية فيها تصريح بأن النجوم لم يرم بها إلا بعد النبوة.

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا علي بن محمد، عن يحيى بن معن أبي زكريا العجلي، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس قال: إن أول العرب فزع لرمي النجوم: ثقيف، فأتوا عمرو بن أمية فقالوا: ألم تر ما حدث؟

قال: بلى، فانظروا، فإن كانت معكم النجوم التي يهتدى بها ويعرف بها أنواء الصيف والشتاء انتثرت، فهي طي الدنيا وذهاب هذا الخلق، وإن كان نجوما غيرها، فأمر أراده الله بهذا الخلق، أو نبي يبعث في العرب، فقد تحدث بذلك.

وحدث به يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني يعقوب بن عتبة ابن المغيرة بن الأخنس، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أنه حدثه: أن رجلا من ثقيف يقال له: عمرو بن أمية، وكان من أدهى العرب، وكان يضن برأيه عن الناس.

قال يعقوب: فلما رمي بالنجوم؛ كان أول حي فزع لها من الناس ثقيف، وذكره بنحوه.

وجاء عن المغيرة بن الأخنس بن شريق رضي الله عنه أنه قال: إن أول العرب فزع له من النجوم ثقيف، فاجتمعوا إلى كاهنهم وعالمهم أمية بن أبي الصلت فقالوا: قد رأيت ما كان من ترامي النجوم، وقد خشينا أن يكون هذا لما ذكرته لنا من أمر القيامة.


#1381#

قال: أمهلوني إلى الليل، فذهبوا حتى أتوه ليلا.

فقال: أنظروا هل تفقد مما نعرف من النجوم شيئا؟

فقال: لو كان هذا الأمر للقيامة؛ لسقطت نجوم البروج.

قالوا: فما ترى؟

قال: هذا مولد نبي هذه الأمة الذي ذكرته لكم.

وقال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، عن خالد. وحدثنا محمد بن العلاء، عن ابن إدريس، كلاهما عن حصين، عن عامل، عن الشعبي قال:

لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، رجمت الشياطين بنجوم لم تكن ترجم بها قبل، فأتوا عبد ياليل بن عمرو الثقفي فقالوا: إن الناس فزعوا وأعتقوا رقيقهم وسيبوا أنعامهم لما رأوا في النجوم.

فقال لهم -وكان رجلا أعمى-: لا تعجلوا، وانظروا، فإن كانت النجوم التي تعرف، فهو عند فناء الناس، وأن كان لا يعرف، فهو من حدث، فنظروا فإذا هي نجوم لا تعرف.

فقال: هذا من حدث، فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن سعد: أخبرنا علي بن محمد، عن ورقاء بن عمر، عن عطاء ابن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم زجر الجن ورموا بالكواكب، وكانوا قبل ذلك يستمعون، لكل قبيل من الجن مقعدا يستمعون فيه، فأول من فزع


#1382#

لذلك أهل الطائف، فجعلوا يذبحوا لآلهتهم من كان له إبل أو غنم كل يوم، حتى كادت أموالهم تذهب، ثم تناهوا وقال بعضهم لبعض: ألا ترون معالم السماء كما هي لم يذهب منها شيء؟

وقال إبليس: هذا أمر قد حدث في الأرض، إيتوني من كل أرض بتربة، فكان يؤتى بالتربة فيشمها ويلقيها، حتى أتي بتربة تهامة فشمها وقال: هاهنا الحدث.

وهذا يدل على أن الرمي بعد النبوة، لكن في "صحيح مسلم" من حديث الزهري، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أخبرني رجل من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمي بنجم فاستنار.

فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟»

قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش»، الحديث.

رواه: الأوزاعي، ويونس، ومعقل بن عبيد الله، وصالح، وغيرهم، عن الزهري.

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا


#1383#

معمر، وعبد الرزاق، أخبرنا الزهري، عن علي بن حسين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه –قال عبد الرزاق: من الأنصار- قال: فرمي بنجم فاستنار، قال: «ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟».

قال: كنا نقول: يولد عظيم، أو يموت عظيم.

قال: قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟

قال: نعم، ولكن غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث بطوله.

وذكر عبد الرزاق في "تفسيره" عن معمر، عن الزهري، أنه سئل عن هذا الرمي بالنجوم في الجاهلية؟

فقال: نعم، ولكنه إذا جاء الإسلام غلط وشدد.

وقال أبو محمد عبد الله بن قتيبة في كتابه "مشكل القرآن": وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة أنه قال: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟.

فقال: نعم.

قلت: أفرأيت قوله: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا}.

فقال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم.

وجنح إلى هذا أبو القاسم فقال: وفي قول الله سبحانه وتعالى: {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا} الآية، ولم يقل:


#1384#

حرست، دليل على أنه قد كان منه شيء، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ملئت حرسا شديدا وشهبا، وذلك لينحسم أمر الشياطين وتخليطهم، ولتكون الآية أبين والحجة أقطع، وإن وجد اليوم كاهن فلا يدفع ذلك بما أخبر الله من طرد الشياطين عن استراق السمع، فإن ذلك التغليظ والتشديد كان زمن النبوة، ثم بقي منه -أعني من استراق السمع- بقايا يسيرة، بدليل وجودهم على الندور في بعض الأزمنة وفي بعض البلاد.

قلت: ما ذكره السهيلي -رحمه الله وإيانا- في قوله تعالى: {ملئت حرسا} الآية: أن فيه دليلا على أنه قد كان منه شيء، فيه نظر، لأنه يقال: ملأ الشيء يملؤه ملأ، ضد: فرغه، ولو كان المعنى كما تخيله لقيل: كملت أو: تممت أو: زيدت، أو ما أشبه ذلك، والله أعلم.

وقوله السهيلي: فإن ذلك التغليظ والتشديد كان زمن النبوة.

قلت: وبعدها، اللهم إلا أن يريد معنى ما ذكره أبو بكر محفوظ بن معتوق البغدادي ابن البزوري في تاريخه "الذيل على المنتظم" في حوادث سنة تسع وتسعين وخمس مئة فقال: في سلخ المحرم ماجت النجوم وتطايرت كتطاير الجراد، ودام ذلك إلى الفجر، وانزعج الخلق وضجوا بالدعاء، ولم يعهد ذلك إلا عند ظهور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، انتهى.

وذكر نحوه ابن الجوزي، والمعنى كثير التشابه، وغيرهما.

وقد وجدت في حوادث سنة إحدى وأربعين ومئتين بخط من أثق به:


#1385#

أنه ماجت النجوم في السماء، وجعلت تتطاير شرقا وغربا، وتتناثر بعضها خلف بعض من قبل غروب الشفق إلى قريب الفجر، ولم يكن مثل هذا إلا لظهور نبينا صلى الله عليه وسلم.

زاد غيره: وكان ذلك ليلة الخميس مستهل جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وفيها توفي الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.

ومما يضارع هذا: أنه ظهر بمدينة دمشق وحواضرها في ليلة الاثنين الخامس من جمادى الأولى سنة اثنين وسبعين وسبع مئة بعد العشاء الآخرة، في آخر تشرين الثاني، ظهر من ناحية الشمال في أفق السماء نور أحمر شديد الحمرة، وأضاءت الدنيا من شدة نوره وحمرته، وامتد في السماء نحو القبلة، فاستيقظ الناس لذلك وظنوا أن بعض الأسواق قد احترقت، أو بعض الدور والحارات، فلما تبين لهم أنه أمر من السماء، فزعوا إلى ذكر الله تعالى: وأكثروا من التهليل والتكبير والاستغفار، وحملوا المصاحف على رؤوسهم وخرجوا إلى الجوامع، وطلع المؤذنون إلى المنائر فذكروا الله تعالى وسبحوه، وأيقظوا الناس، وصلوا في الجوامع كنحو صلاة الكسوف، وأكثروا من الدعاء والابتهال إلى الله تعالى، وخرج اليهود والنصارى ومعهم التوراة والإنجيل إلى كنائسهم وأكثروا من الدعاء والابتهال، ولم يزل ذلك النور والحمرة إلى بعد مضي نصف الليل، ثم تقطع بقدرة الله تعالى، وجعل يختفي لونه حتى ذهب، ولله الحمد على كل حال.

وقال العلامة أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي رحمه الله تعالى: وهذه الحراسة استمر حكمها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم،


#1386#

دائمة بدوام نبوته، ولم يعد الأمر إلى ما كان عليه قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

وذكر أبو شامة: أن الإمام أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة": فأما استراقهم للسمع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اختلف أهل العلم على قولين: أحدهما: أنه زال استراقهم للسمع، ولذلك زالت الكهانة، والثاني: أن استراقهم للسمع باق بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وكان قبل الرسول صلى الله عليه وسلم لا تأخذهم الشهب، لقول الله تعالى: {فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا}، والذي يستمعونه أخبار الأرض دون الوحي، لأن الله تعالى قد حفظ وحيه منهم، لقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.

قال: واختلف على هذا في أخذ الشهب لهم، هل يكون قبل استراقهم للسمع أو بعده، فذهب بعض أهل العلم أن الشهب تأخذهم قبل استراقهم للسمع، حتى لا يصل إليهم، لانقطاع الكهانة [بهم]، وتكون الشهب منعا من استراقه.

وذهب آخرون منهم: إلى أن الشهب تأخذهم بعد استراقهم، وتكون الشهب عقابا على استراقه، وفيها إذا أخذتهم قولان، أحدهما: أنها تقتلهم، ولذلك انقطعت الكهانة بهم، والثاني: أنها تجرح وتحرق ولا تقتل، ولذلك عادوا لاستراقه بعد الاحتراق، ولولا بقاؤهم لانقطع الاستراق بعد الاحتراق، ويكون ما يلقونه من السمع إلى الإنس لانقطاع الكهانة عن الإنس.

وفي الشهاب الذي يأخذهم قولان، أحدهما: أنه نور يمتد لشدة


#1387#

ضيائه حتى يحرقهم ثم يعود، والقول الثاني: أنه نار تحرقهم ولا تعود. انتهى قوله.

وكان الرمي بعد عشرين يوما من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فيما ذكره جماعة من أهل السير.

وقال أبو بكر بن [أبي] خيثمة: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن حميد، عن عكرمة: أن نفرا من قريش مروا بجزيرة من جزائر البحر، فإذا هم بشيخ من جرهم، فقال: ممن أنتم؟

قلنا: نحن أهل مكة من قريش.

فقال الشيخ: ذات يوم، لقد طلع الليلة نجم، لقد بعث فيكم نبي، قال: فنظروا فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث تلك الليلة.

وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر: حدثني العطاف بن خالد، عن خالد بن سعيد قال: قال تميم الداري رضي الله عنه: حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت في بعض حاجتي، فأدركني الليل، فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي، فلما أخذت مضجعي إذ مناد ينادي لا أراه: عذ بالله، فإن الجن لا تجير أحدا على الله.

فقلت: أيم تقول؟

فقال: قد خرج رسول الأميين، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلينا خلفه بالحجون، وأسلمنا واتبعناه، [وذهب] كيد الجن، ورميت بالشهب، فانطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

[قال:] فلما أصبحت، ذهبت إلى دير أيوب، فسألت راهبا به،


#1388#

وأخبرته الخبر فقال: صدقوك، نجده يخرج من الحرم، ومهاجره الحرم، وهو خير الأنبياء، فلا تسبق إليه.

قال تميم: فتكلفت الشخوص حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت.

وقال أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان": أخبرنا عبد الله بن محمد البلوي بمصر، حدثنا عمارة بن زيد، حدثنا عيسى بن يزيد، عن صالح بن كيسان، عمن حدثه عن مرداس بن قيس الدوسي رضي الله عنه قال: حضرت النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرت عنده الكهانة، وما كان من تعبيرها عند مخرجه صلى الله عليه وسلم.

فقلت: يا رسول الله! قد كان عندنا من ذلك شيء أخبرك: إن جارية منا يقال لها: خلصة، لم نعلم عليها إلا خيرا، إذ جاءتنا فقالت: يا معشر دوس! العجب العجب لما أصابني، هل علمتم إلا خيرا؟

قلنا: وما ذاك؟ قالت: أني لفي غنمي، إذ غشيتني ظلمة، ووجدت كحسي الرجل مع المرأة، وقد خشيت أن أكون قد حبلت. حتى إذا دنت ولادتها، وضعت غلاما أغضف، له أذنان كأذني الكلب، فمكث فينا حتى أنه ليلعب مع الغلمان، إذ وثب وثبة وألقى إزاره وصاح بأعلى صوته وجعل يقول: يا ويله، يا ويله، يا عوله، يا عوله، يا ويل غنم، يا ويل فهم، من قابس النار.

الخيل والله وراء العقبة ... فيهن فتيان حسان نجبه

قال: فركبنا وأخذنا الأداة وقلنا: ويلك ما ترى؟


#1389#

قال: هل من جارية طامث؟ قلنا: من لنا بها؟

فقال شيخ منا: هي والله عندي عفيفة الأكمام

فقلنا: فعجلها.

فأتى بالجارية وطلع الجبل وقال للجارية: إطرحي ثوبك واخرجي في وجوههم.

وقال للقوم: اتبعوا أثرها، ثم صاح برجل منا يقال له: أحمر ابن حابس فقال: يا أحمر بن حابس! عليك أول فارس، فحمل أحمر فطعن أول فارس فصرعه، وانهزموا، وغنمناهم.

قالوا: فابتنينا عليه بيتا وسميناه: ذا الخلصة، وكان لا يقول لنا شيئا إلا كان كما يقول، حتى إذا كان مبعثك يا رسول الله، قال لنا: يا معشر دوس! نزلت بنو الحارث بن كعب فاركبوا، فركبنا.

فقال لنا: اكدسوا الخيل كدثا، واحثوا القوم رمسا، ألقوهم غدية، واشربوا الخمر عشية.

قال: فلقيناهم، فهزمونا وفضحونا، فرجعنا إليه، فقلنا: ما حالك؟ وما الذي صنعت بنا؟

فنظرنا إليه وقد احمرت عيناه، وابيضت أذناه، وأترم غضبا حتى كاد أن ينفطر، وقام، فركبنا واعتصرنا هذه له، ومكثنا بعد ذلك حينا، ثم دعانا.

فقال: هل لكم في غزوة تهب لكم عزا، وتجعل لكم حرزا، وتكون في أيديكم كنزا، قلنا: ما أحوجنا إلى ذلك.


#1390#

فقال: اركبوا فركبنا وقلنا: ما تقول؟ قال: بنو الحارث بن مسلمة.

ثم قال: قفوا، فوقفنا، ثم قال: عليكم بفهم، ثم قال: ليس لكم فيهم دم، عليكم بمضرهم أرباب خيل ونعم.

ثم قال: لا رهط دريد بن الصمة، قليل العدد، وفي الذمة.

ثم قال: لا، ولكن عليكم بكعب بن ربيعة، واشكروها ضيعة عامر ابن صنيعة، فلتكن بهن الوقيعة.

قال: فلقيناهم فهزمونا وفضحونا، فرجعنا وقلنا: ويلك! ماذا تصنع بنا؟

قال: لا أدري، كذبني الذي كان يصدقني، اسجنوني في بيتي ثلاثا، ثم إيتوني.

قال: ففعلنا به ذلك، ثم أتيناه بعد ثالثة، ففتحنا عليه فإذا هو كأنه جمرة نار.

فقال: يا معشر دوس! حرست السماء، وخرج خير الأنبياء.

قلنا: أين؟، قال: بمكة، وأنا ميت فادفنوني في رأس جبل، فإني سوف أضطرم نارا، وإن تركتموني كنت عليكم عارا، فإذا رأيتم اضطرابي وتلهبي؛ فاقذفوني بثلاثة أحجار ثم قولوا مع كل حجر: باسمك اللهم، فإني أهدأ وأطفأ.

قال: وأنه مات واشتعل نارا، ففعلنا به ما أمر، وقذفناه بثلاثة أحجار، نقول مع كل حجر: باسمك اللهم، فخمد وطفئ، وأقمنا حتى قدم علينا الحاج، فأخبرونا بمبعثك يا رسول الله.


#1391#

وقال أبو جعفر أحمد بن محمد بن أيوب البغدادي الوراق صاحب "المغازي": حدثنا إبراهيم بن سعد قال: قال ابن إسحاق: وكان من حديث كسرى قبل أن يأتيه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني، أنه كان سكر دجلة العوراء، وأنفق فيها من الأموال ما لا يدرى ما هو، وكان مجلسه قد ثبت ثباتا لم ير مثله، وكان يعلق بها تاجه فيجلس فيها إذا جلس الناس، وكان عنده ستون وثلاث مئة من الحزاة والعلماء من بين ساحر وكاهن ومنجم، كان فيهم رجل من العرب يقال له: السائب، يعتاف اعتياف العرب، قل: ما يخطئ، بعث به إليه باذان من اليمن.

وكان كسرى إذا عزبه أمر، جمع كهانه وسحاره ومنجميه فقال: أنظروا في هذا الأمر ما هو؟

فلما بعث الله عز وجل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أصبح كسرى ذات غداة، وقد أنفصمت طاق ملكه من وسطها، وانخرقت عليه دجلة العوراء، فلما رأى ذلك حزبه وأحزنه وقال: أنفصمت طاق ملكي عن ثقل، وانخرقت على دجلة العوراء شاه بشكت -يقول: الملك انكسر-، ثم دعا كهانه وسحاره ومنجميه ودعا السائب معهم وقال لهم: انفصمت طاق ملكي من غير ثقل، وانخرقت علي ججلة العوراء شاه بشكت.

انظروا في هذا الأمر ما هو؟

فخرجوا من عنده فنظروا فيما عندهم، وأخذ عليهم بأقطار السماء، وأظلمت عليهم الأرض وتسكعوا في علمهم، فلا يمضي لساحر سحره، ولا لكاهن كهانته، ولا لمنجم علم نجومه، وبات السائب في ليلة ظلماء،


#1392#

على ربوة من الأرض، يرمق برقا نشأ من الحجاز، ثم استطار حتى بلغ المشرق، فلما أصبح ذهب ينظر إلى ما تحت قدميه، فإذا روضة خضراء فقال فيما يعتاف: إن صدق ما أرى؛ ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ المشرق، وتخصب عليه الأرض كأفضل ما أخصبت على ملك كان قبله.

فلما خلص الكهان والمنجمون بعضهم إلى بعض، ورأوا ما قد أصابهم، ورأى السائب ما قد رأى، قال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما حيل بينكم وبين علمكم إلا لأمر جاء من السماء، وإنه لنبي قد بعث، أو هو مبعوث، يسلب هذا الملك ويكسره، ولئن نعيتم لكسرى ملكه ليقتلنكم، فأقيموا أمرا تقولون له تؤخرونه عنكم إلى مرمى ساعة.

فجاءوا إلى كسرى فقالوا: إنا قد نظرنا في هذا الأمر، فوجدنا حسابك الذي وضعت على حسابهم طاق ملكك وسكرك دجلة العوارء وضعوه على النحوس، فلما اختلف عليهم الليل والنهار، وقعت النحوس على مواقعها، فزال كل ما وضع عليها، وإنا سنحسب لك حسابا، ونضع عليه بنيانك فلا يزول.

قال: فاحسبوا، فحسبوا

ثم قالوا: ابنه، فبنى، فعمل في دجلة ثمانية أشهر، وأنفق فيها من الأموال ما لا يدرى ما هو، حتى إذا فرغ قال لهم: أجلس على سورها؟

قالوا: نعم.

قال: فأمر بالبسط والفرش [؟] فوضعت عليها، وأمر بالمرازبة فجمعوا له، واجتمع له اللعابون، ثم خرج حتى جلس عليها، فبينما هم كذلك؛ انتسفت دجلة البنيان من تحته، فلم يخرج إلا بآخر رمق.


#1393#

فلما أخرجوه جمع كهانه وسحاره ومنجميه، فقتل منهم قريبا من المئة، وقال: سميتكم وأدنيتكم دون الناس، وأجريت عليكم أرزاقا، ثم تلعبون بي؟

قالوا: أيها الملك! أخطأنا كما أخطأ من كان قبلنا، ولكن سنحسب لك حسابا، ونثبت لك فيه حتى نضعه لك على الوثاق من السعود.

قال: أنظروا ما تقولون.

قالوا: فإنا نفعل.

قال: فاحسبوا، فحسبوا.

ثم قالوا: ابن، فبنى له، وأنفق من الأموال ما لا يدرى ما هو ثمانية أشهر من ذي قبل.

ثم قالوا: قد فرغنا.

قال: فأخرج عليها؟ قالوا: نعم، فهاب الجلوس عليها، وركب برذونه وخرج يسير عليها، فبينما هو يسير فوقه؛ إذ انتسفت دجلة بالبنيان، فلم يدرك إلا بآخر رمق.

فدعاهم فقال: والله لآمرن عن آخركم، ولأنزعن أعناقكم، ولأطرحنكم تحت أيدي الفيلة، أو لتصدقن ما هذا الأمر الذي تلفتون علي.

قالوا: لا نكذبك أيها الملك، أخبرنا حين انخرقت عليك دجلة، وانفصم عليك طاق مجلسك من غير ثقل، لننظر في علمنا، فأظلمت علينا الأرض، وأخذ علينا بأقطار السماء، فيرتد أمرنا في الدنيا، ولا ينفد


#1394#

لساحر سحره، ولا لكاهن كهانته، ولا لمنجم علم نجومه، فعرفنا أن هذا أمر حدث من السماء، وإنه قد بعث النبي، أو هو مبعوث، فلذلك حيل بيننا وبين علمنا، فخشينا أن نعينا إليك ملكك أن تقتلنا، فكرهنا من الموت ما كره الناس، فعللناك عن أنفسنا بما قد رأيت.

قال: ويحكم! أفلا تكونوا أبنتم لي هذا فأرى فيه برأيي؟

قالوا: منعنا من ذلك ما تخوفنا منك، فتركهم ولهي عن دجلة حين غلبتهم.

وخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا في "دلائل النبوة"، عن أبي جعفر الوراق هذا.

وقال أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان": حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا يحيى بن بكير، وأبو صالح عبد الله بن صالح: أن الليث حدثهما، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة رضي الله عنه: أنه بلغه أن كسرى بينما هو في سفرة ملكه بعث له، أو قيض له عارض يعرض عليه الحق، فلم يفجأ كسرى إلا ورجل يمشي وفي يده عصي، فقال: يا كسرى! هل لك في الإسلام قبل أن أكسر العصا؟

فقال: نعم، لا تكسرها، فولى الرجل، فلما ذهب أرسل كسرى إلى حجابه فقال: من أذن لهذا الرجل حتى دخل علي؟

قالوا: ما دخل عليك أحد.

قال: كذبتم، فغضب عليهم تلتهم وأسرف عليهم بالوعيد، ثم تركهم.


#1395#

فلما كان في رأس الحول المقبل، جاءه ذلك الرجل معه العصا قال: يا كسرى! هل لك في الإسلام قبل أن أكسر العصا؟

قال: نعم، لا تكسرها، فكسرها، وأهلك الله تعالى كسرى عند ذلك.

قال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "دلائل النبوة": حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: بعث الله عز وجل إلى كسرى ملكا وهو في بيت من بعض بيوت إيوانه، فلم يرعه إلا به قائما على رأسه وفي يده عصا بالهاجرة في ساعته التي كان يقيل فيها.

فقال: يا كسرى! أتسلم أو أكسر هذه العصا؟

قال: فقال: بهل بهل، قال: فانصرف عنه، ثم قال: دعا حراسه وحجابه فتغيظ عليهم وقال: من أدخل هذا الرجل علي؟

قالوا: ما دخل عليك أحد ولا رأيناه. حتى إذا كان القابل أتاه في البزة التي أتاه فيها، قال له: ثم؟ قال: تسلم أو أكسر هذه العصا؟

قال: فقال: بهل بهل، فخرج عنه، فدعا كسرى حجابه وحراسه وبوابيه فتغيظ عليهم وقال لهم ما قال أول مرة.

فقالوا: ما رأينا أحدا دخل عليك. حتى إذا كان العام الثالث، أتاه في الساعة التي كان أتاه فيها، فقال له كما قال: أتسلم، أو أكسر العصا؟ قال: فقال: بهل بهل.


#1396#

قال: فكسر العصا، ثم خرج، فلم يكن إلا تهور ملكه وانبعاث ابنه والفرس عليه حتى قتله.

قال عبد الله بن أبي بكر، قال ابن شهاب: حدثت هذا الحديث عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عمر بن عبد العزيز فقال: ذكر أن الملك إنما دخل عليه بقارورتين، فلما قال: أتسلم؟ فلم يفعل، ضرب إحداهما بالأخرى فرضها، ثم خرج، وكان من هلاكه ما كان.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم، عن الحسن بن أبي الحسن البصري، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! ما حجة الله على كسرى فيك؟.

قال: «بعث إليه ملكا فأخرج يده من سور جدار بيته الذي هو فيه تلألأ نورا، فلما رآها فزع، قال: لا ترع يا كسرى، فإن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا، فاتبعه تسلم لك دنياك وآخرتك، قال: سأنظر».

قال: حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سهم إلى كسرى بن هرمز الملك وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله بأني رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فأسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك».


#1397#

فلما قرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شققه وقال: يكتب إلي هذا الكتاب وهو عبدي؟

فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مزق ملكه»، حين بلغه أنه شقق كتابه.

ثم كتب كسرى إلى باذان وهو على اليمن: ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز من عندك رجلين جلدين فليأتياني به.

فبعث باذان قهرمانه -وهو بابويه- وكان كاتبا حاسبا في كتاب ملك فارس، وبعث معه برجل من الفرس يقال له: خسر خسرة، وكتب معهما كتابا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال لبابويه: ويلك، أنظر ما الرجل، وكلمه، وائتني بخبره.

فخرجا حتى قدما الطائف، فسألاهم عنه فقالا: هو بالمدينة، واستبشروا بهما وفرحوا، وقال بعضهم لبعض: أبشروا، فقد نصب له كرسي ملك الملوك، كفيتم الرجل، وخرجا حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه بابويه فقال: إن شاهان شاه ملك ملوك كسرى كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليه من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتبت فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ويكف عنك به، وإن أبيت، فهو من قد علمت، وهو مهلكك، ومهلك قومك، ومخرب بلادك.

وقد دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربها، فكره النظر إليهما، فقال: «ويلكما، من أمركما بهذا؟».

قالا: أمرنا بها ربنا -يعنيان: كسرى-.


#1398#

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي».

ثم قال لهما: «ارجعا حتى تأتياني غدا».

وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر أن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله في شهر كذا وكذا، ولكذا وكذا من الليل.

فلما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: «إن ربي قد قتل ربكما ليلة كذا وكذا من شهر كذا وكذا، بعد ما انقضى من الليل، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله».

فقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد أنعمنا عليك ما هو أيسر من هذا،

فنكتب بهذا عنك ونخبر الملك.

قال: «نعم، أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ سلطان كسرى، وينتهي إلى منتهى الخف والحافر، وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك وملكك على قومك من الأبناء».

ثم أعطى خسر خسرويه منطقة فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان وأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبيا كما يقول، ولتنظرن ما قد قال، فلئن كان ما قد قال حقا؛ ما فيه كلام أنه لنبي مرسل، وإن لم يكن فنرى فيه رأينا.

فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: أما بعد، فإني قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضبا لفارس بما كان قد استحل من قتل أشرافهم


#1399#

وتجهزهم في بعوثهم، فإذا جاءك كتابي هذا، فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب إليك به، فلا تهججه حتى يأتيك أمري فيه.

فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال: إن هذا الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، وأسلمت أبناء من فارس من كان منهم باليمن، وكانت حمير تقول لخسر خسرة: ذو المعجزة، للمنطقة التي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والمنطقة بلسان حمير: المعجزة. فبنوه اليوم باليمن ينتسبون إليها: خسر خسرويه ذو المعجزة.

وقد قال بابويه لباذان: ما كلمت رجلا قط أهيب عندي منه.

فقال له باذان: معه سوط؟، قال: لا.

وقال ابن أبي الدنيا أيضا: حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا أبو معشر، عن المقبري قال: جاء فيروز بن الديلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كسرى كتب إلى باذان: بلغني أن في أرضك رجلا نبيا، فاربطه، وابعث به إلي.

قال: ورآه مجزوز اللحية عافي الشاربين، فقال: «من أمرك بهذا؟».

قال: أمرني ربي -يعني: كسرى-.

[فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:] «فإن ربي أمرني أن أعفي اللحية وأحد من الشاربين».

ثم قال: «إن ربي قد غضب على ربكما فقتله سحر الساعة».


#1400#

فلما خرج من عنده، بعث برجلين فقال: أول من تستمعون منه قتل كسرى فليقبل إلي أحدكما، ويمضي الآخر حتى يأتيني بكتاب الذي بعده، فلما دخلا في أول أرض فارس، إذ صبيان يلعبون.

فقال أحدهم لصاحبه: تعال أقتلك كما قتل شيرويه كسرى، فقالا: عرفنا أنه قتله.

فرجع أحدهما، ومضى الآخر حتى جاء بكتاب ابنه، فوافى ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه، وأسلم أصحابه.

وقال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة": من هواجس المنام ما حكاه ابن قتيبة: أن كسرى أبرويز بن هرمز كان سائرا ذات يوم، فهوم على مركبه، وأطال حتى استغفل، فأيقظه بعض قواده، فانتبه مذعورا لرؤيا رآها، قطعها عليه الموقظ له.

فقال: رأيت قائلا لي: أنكم غريتم فغريناكم، ونقل الملك إلى أحمد، ويقول له: سلم ما بيدك إلى صاحب الهراوة، إلى أن ورد عليه كتاب النعمان بن المنذر يخبر فيه أن خارجا نجم بتهامة، يخبر أنه رسول الله إله السماء والأرض كافة، فارتاع لذلك وأكبره، وعلم أنه الذي رآه في منامه، وكان يتوقعه. انتهى.


#1401#

$فترة الوحي، ونزول سورة {والضحى}$

ولم تزل دلائل البعثة تتزايد شيئا فشيئا، والوحي يتتابع على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء، بحسب الوقائع، ولم تقع فترة بعد الفترة الأولى التي ذكرناها، غير أن جبريل عليه السلام احتبس مرة على النبي صلى الله عليه وسلم.

ثبت عن سفيان بن عيينة، عن الأسود بن قيس، عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: احتبس جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأة من قريش: أبطأ عليه شيطانه، فنزلت: {والضحى . والليل إذا سجى . ما ودعك ربك وما قلى}.

تابعه سفيان الثوري، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وأبو بسطام شعبة ابن الحجاج، عن الأسود، نحوه في رواية عمرو بن مرزوق، عن شعبة، عن الأسود بن قيس، عن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: احتبس جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فقال بعض قينات عمه: ما أرى صاحبك إلا قد قلاك، فنزلت: {والضحى . والليل إذا سجى . ما ودعك ربك وما قلى}.

وقال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه رضي الله عنه


#1402#

قال: أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فجزع جزعا شديدا، فقالت له خديجة رضي الله عنها: قال: قد قلاك ربك لما يرى من جزعك، فأنزل الله تعالى: {والضحى . والليل إذا سجى . ما ودعك ربك وما قلى}.

الأشج [هو:] عبد الله بن سعيد الكندي الكوفي.

ورواه أبو بشر الدولابي محمد بن أحمد بن حماد الأنصاري، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن هشام بن عروة، عن خديجة رضي الله عنها قالت: لما أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي جزع من ذلك جزعا شديدا، فقلت له -مما رأيت من جزعه-: لقد قلاك ربك مما يرى من جزعك، فأنزل الله عز وجل: {ما ودعك ربك وما قلى}.

وقد وقع في تفسير سنيد بن داود المصيصي في "تفسيره": أن القائلة للنبي صلى الله عليه وسلم هذه المقالة: عائشة رضي الله عنها.

وقال محمد بن إسحاق: ثم فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة من ذلك، حتى شق ذلك عليه وأحزنه، حتى قال في نفسه -مما بلغ ذلك منه-: «لقد خشيت أن يكون صاحبي قد قلاني فودعني». فجاءه جبريل بسورة الضحى، يقسم له ربه عز وجل، وهو الذي أكرمه به ما ودعه وما قلاه، فقال عز وجل: {والضحى . والليل إذا سجى . ما ودعك ربك وما قلى} يقول: ما صرمك فتركك، وما أبغضك منذ أحبك.


#1403#

وعلق البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ما ودك ربك وما قلى} أي: ما تركك وما أبغضك.

وقال البخاري في {ودعك}: يقرأ بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد: ما تركك ربك.

وقال بعضهم في هذه الآية: أي: ما أهملك بعد أن اصطفاك.

وذكر أبو الفرج ابن الجوزي أنه لقي الشيخ محمد بن يحيى الزبيدي رحمه الله، وكان -فيما قاله ابن شافع- صادقا في أقواله، مخلصا في أفعاله وأعماله، بعيدا من الرياء والنفاق، مستعمل السنة وسيرة السلف في أكثر الأخلاق، وكان من الإسلام بمكان.

قال ابن الجوزي: فقال: إني رأيت الله عز وجل فيها -أي: في سورة الضحى- {ما ودعك} فكان الخطاب له صلى الله عليه وسلم، ثم قال: {وما قلى} ولم يقل: وما قلاك، فنظرت، فإذا السر في ذلك: أن الله تعالى لا يجوز عليه القلى لأحد، لأن القلي بغض بعد حب، فلا يجوز على الله تعالى أنه يقلي أحدا، فلذلك أتى به بنطق لا يقتضي التخصيص.

ثم قال: {وللآخرة خير لك من الأولى}، ولم يقل: الآخرة خير، على الإطلاق، إذ لو كان كذلك لكانت خيرا للكفار.

وقوله عز وجل: {ألم يجدك يتيما فآوى} ولم يقل: فآواك، يعني: أنه أوى بك كل يتيم إلى يوم القيامة، {ووجدك ضالا فهدى} قال: أي: فهدى الخلائق بك إلى يوم القيامة، وقوله عز وجل: {ووجدك عائلا فأغنى} لم يقل: فأغناك، أي: أغنى بك كل فقير إلى يوم القيامة. انتهى.


#1404#

وقد قيل في سبب نزول هذه السورة غير ما تقدم.

قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن أيوب البغدادي: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن سفيان بن سعيد الثوري، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ما هو مفتوح لأمتي من بعدي كفرا كفرا -يعني قرية قرية- فسرني»، فأنزل الله تعالى عليه: {والضحى . والليل إذا سجى . ما ودعك ربك وما قلى . وللآخرة خير لك من الأولى . ولسوف يعطيك ربك فترضى}.

قال: أعطي ألف قصر من لؤلؤ، ترابه المسك، في كل قصر ما ينبغي له.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير"، و"الأوسط" موصولا فقال: حدثنا بكر بن سهل، حدثنا عمرو بن هاشم البيروتي. وسمعت الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبيد الله المخزومي، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه مرفوعا، وزاد: في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم.

قال الطبراني في "الأوسط": لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل بن عبيد الله؛ إلا الأوزاعي، ولا رواه عن الأوزاعي؛ إلا عمرو بن هشام، وسفيان الثوري.

قلت: وعمر بن عبد الواحد، وأبو عصام رواد بن الجراح العسقلاني، قد حدث به أبو بكر بن أبي داود، عن محمود بن خالد، عن عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي.


#1405#

وحدث به عصام بن رواد بن الجراح العسقلاني، عن أبيه أبي عصام، عن الأوزاعي.

وتابعه سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبد الله، حدث به هشام بن عمار في كتاب "المبعث"، عن الوليد -هو ابن مسلم-، عن سعيد، به.

قال الطبراني: تفرد به يحيى بن يمان، عن سفيان.

قلت: قد تابعه إبراهيم بن سعد، عن سفيان كما قدمنا، والله أعلم. لكن لم يذكر ابن عباس رضي الله عنهما.

لكن قال أبو نعيم في "الحلية" عقب روايته الحديث عن الطبراني كما تقدم، وفيه ذكر ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ورواه سفيان، عن الأوزاعي، عن إسماعيل مثله، انتهى.

ورواه قبيصة عن سفيان، وفيه ذكر ابن عباس رضي الله عنهما.

حدث به أبو بكر بن أبي داود، عن إسحاق بن إبراهيم النهشلي شاذان: حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن علي بن عبد الله ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ما هو مفتوح على أمتي كفرا كفرا فسرني ذلك»، فنزلت: {والضحى . والليل إذا سجى}، إلى قوله عز وجل: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}.

قال: أعطي ألف قصر من لؤلؤ، ترابها المسك، في كل قصر ما ينبغي.


#1406#

قال ابن إسحاق فيما رواه عنه إبراهيم بن سعد، يعني: لما نزلت هذه السورة، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم الله به عليه من النبوة سرا إلى من يطمئن إليه من أهله، وافترضت عليه الصلاة فصلى.

قلت: هذه الفريضة التي في أول الإسلام صلاة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي، ثم فرض الخمس في ليلة المعراج، وبهذا قال أبو إسحاق الحربي.

وقد جاء في حديث عفيف الكندي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم [صلى] عند زوال الشمس في أول النبوة، وسيأتي إن شاء الله تعالى.


#1407#

$مطلب في ابتداء فرض الصلاة والدعوة وأول من صلى وأول من أسلم$

وثبت عن مالك، عن صالح بن كيسان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: فرض الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.

خرجه "البخاري" عن عبد الله بن يوسف. و"مسلم" عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك بن أنس، به.

وسيأتي إن شاء الله في هذا مزيد بيان في قصة المعراج.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن أسامة بن زيد، عن أبيه زيد بن حارثة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن جبريل عليه السلام أتاه في أول ما أوحي إليه؛ فعلمه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء، أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه.

ورواه عبد بن حميد في "مسنده"، متابعة لأحمد، نحوه.


#1408#

وخرجه ابن ماجه، عن إبراهيم بن محمد الفريابي، عن حسان بن عبد الله، عن ابن لهيعة.

وحدث أبو جعفر أحمد بن محمد الوراق في "المغازي"، عن إبراهيم ابن سعد، عن أبي إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتاه جبريل عليه السلام وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضأ، ثم قام جبريل فصلى، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف جبريل، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة فتوضأ لها، يريها كيف الطهور للصلاة، كما أراه جبريل، فتوضأت كما توضأ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى بها كما صلى به جبريل عليه السلام، فصلت بصلاته.

وهذا وما قبله؛ يدل على أن خديجة رضي الله عنها أول السابقين إلى الإسلام، وهو قول الزهري، وقتادة، وغيرهما.

وقال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا علي بن هاشم، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده أبي رافع رضي الله عنه قال: [صلى] النبي صلى الله عليه وسلم أول يوم الاثنين، وصلت خديجة آخر يوم الاثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء من الغد، وصلى مستخفيا قبل أن يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سبع سنين وأشهر.


#1409#

وسيأتي إن شاء الله تعالى نحو ذلك معللا.

وقال أبو الحسين عبد الوهاب بن الحسن الكلابي: حدثنا أبو المغيث، -يعني محمد بن أحمد بن عبد الواحد الصفار-، حدثنا أبو سعيد إسماعيل بن حمدويه البيكندي، حدثنا عبد العزيز بن الخطاب، حدثنا علي القراري، عن يوسف بن صهيب، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال: أول من أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم خديجة، ثم علي رضي الله عنهما.

وقيل: ثم أسلم بعدهما زيد بن حارثة، ثم أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنهما.

وجاء عن عفيف الكندي الصحابي رضي الله عنهما -واسمه شرحبيل ابن معد يكرب- قال: كنت امرؤا تاجرا، فقدمت للحج، فأتيت العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أبتاع منه بعض التجارة، وكان امرءا تاجرا، فوالله إني لعنده يوما، إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى السماء، فلما رأى الشمس مالت قام يصلي، ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلي.

فقلت للعباس: ما هذا يا أبا الفضل؟

قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ابن أخي.

فقلت: من هذه المرأة؟، قال: خديجة بنت خويلد زوجته.

ثم خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء، فقام يصلي معه، فقلت: من هذا الصبي؟


#1410#

فقال: علي بن أبي طالب ابن عمه.

قلت: فما هذا الذي يصنع؟

قال: يصلي، ويزعم أنه نبي، ولم يتبعه على هذا الأمر إلا امرأته، وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه نبي ستفتح عليه كنوز كسرى وقيصر.

وكان عفيف يقول -وقد أسلم بعد فحسن إسلامه-: لو كان الله عز وجل رزقني الإسلام يومئذ؛ كنت رابعا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

رواه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه.

ورواه محمد بن حميد، عن سلمة بن الفضيل، كلاهما عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن أبي الأشعث، عن إسماعيل بن إياس الكندي -وكان عفيفا أخا الأشعث بن قيس لأمه، وكان ابن عمه-، عن أبيه، عن جده عفيف الكندي، فذكره بنحوه.

ورواه أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، عن عبد الله بن صالح الأزدي، حدثنا سعيد بن خيثم الهلالي، عن أسد بن عبد الله البجلي، عن أبي يحيى بن عفيف الكندي، عن جده عفيف رضي الله عنه قال:

جئت في الجاهلية إلى مكة، وأنا أريد أن أبتاع أهلي من ثيابها وعطرها، فأتيت العباس، وكان رجلا تاجرا، فإني عنده جالس أنظر إلى الكعبة وقد حلقت الشمس فارتفعت في السماء فذهبت، إذ أقبل شاب فنظر إلى السماء، ثم قام مستقبل الكعبة، فلم ألبث إلا يسيرا حتى جاء


#1411#

غلام، فقام عن يمينه، ثم لم ألبث إلا يسيرا حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب، فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب، فرفع الغلام والمرأة، فسجد الشاب، فسجد الغلام والمرأة.

فقلت: يا عباس! أمر عظيم؟!

[قال:] أتدري من الشاب؟، هذا محمد بن عبد الله ابن أخي، أتدري من الغلام؟، هذا علي بن أبي طالب [ابن] أخي، أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي هذا، حدثني أن ربه رب السموات والأرض أمره بهذا الدين، ولا والله ما على ظهر الأرض أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.

تابعه أبو يعلى الموصلي، عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي.

وقد روى نحوه ابن مسعود رضي الله عنه فيما خرجه الطبراني في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا يحيى بن حاتم العسكري، حدثنا بشر بن مهران، حدثنا شريك، عن عثمان بن المغيرة، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أول شيء علمت من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدمت مكة في عمومة لي، فأرشدنا على العباس ابن عبد المطلب، فانتهينا إليه وهو جالس إلى زمزم، فجلسنا إليه، فبينا نحن عنده، إذ أقبل رجل من باب الصفا، أبيض تعلوه حمرة، له وفرة، جعد إلى أنصاف أذنيه، أشم أقنى أذلق، بريق الثنايا، أدعج العينين، كث اللحية، دقيق المسربة، شثن الكفين والقدمين، عليه ثوبين أبيضين، كأنه القمر ليلة البدر، يمشي على يمينه غلام أمرد حسن الوجه، مراهق أو محتلم، يقفوهم كذا امرأة قد سترت محاسنها، حتى


#1412#

قصد نحو الحجر فاستلمه، ثم استلم الغلام، ثم استلمت المرأة، ثم طاف بالبيت سبعا، الغلام والمرأة يطوفان بعد، ثم استلم الركن ورفع يديه وكبر، وقام الغلام عن يمينه ورفع يديه، وقامت المرأة خلفهما، فرفعت يديها وكبرت وأطال القنوت، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه من الركوع فقنت وهو قائم، ثم سجد وسجد الغلام والمرأة معه، يصنعان كما يصنع ويتبعانه.

قال: فرأينا شيئا لم نكن نعرفه بمكة، فأنكرنا، فأقبلنا على العباس فقلنا: يا أبا الفضل! أن هذا الدين لم نكن نعرفه فيكم أحدث؟.

قال: أجل، والله ما تعرفون هذا؟

قلنا: لا، قال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله، والغلام علي بن أبي طالب، والمرأة خديجة بنت خويلد، أما والله ما على ظهر الأرض أحد يعبد الله على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا محرز بن سلمة، حدثنا عبد العزيز بن محمد بن عمر بن عبد الله، عن محمد بن كعب القرظي: إن أول من أسلم من هذه الأمة برسول الله صلى الله عليه وسلم: خديجة بنت خويلد، وأول رجلين أسلما: أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، وإن أبا بكر الصديق أول من أظهر الإسلام، وأن عليا كان يكتم الإسلام فرقا من أبيه أبي طالب، حتى لقيه أبو طالب وقال: أسلمت؟

قال: نعم.

قال: وازر ابن عمك وانصره.


#1413#

وقال: أسلم علي قبل أبي بكر رضي الله عنهما.

والسابقون الأولون مراتب، فالأولى كخديجة رضي الله عنها في قول كما قدمنا، والثانية: كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد، وبلال رضي الله عنهم وغيرهم، والثالثة: أصحاب دار الندوة، والرابعة: مهاجرة الحبشة كعثمان، والزبير، والخامسة أصحاب العقبتين، وهم الأنصار، والسادسة: قوم أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم بقباء قبل أن يدخل المدينة، والسابعة: من صلى القبلتين، والثامنة: أهل بدر، والتاسعة: أهل الحديبية، وبهم انقطعت الأولية.

وقد روينا من حديث أبي الفوارس طراد علي بن محمد الزينبي رحمه الله تعالى قال: أخبرنا علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي، حدثنا أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن الواثق، حدثنا عمر بن أيوب السقطي، حدثنا محمد بن بكار، حدثنا يحيى بن عقبة بن أبي العيزار، عن محمد بن حجادة، عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سابق ولد آدم، وبلال سابق الحبشة، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق أهل فارس».

محمد بن حجادة من ثقات التابعين، والبلية من يحيى بن عقبة، لأن الإسناد مضى لولا يحيى، فإن يحيى بن معين رماه بالكذب.

وقال أبو حاتم الرازي: كان يفتعل الحديث.

وقد حدث أبو نعيم، عن الطبراني قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، فذكر الحديث مرفوعا بنحوه.


#1414#

وهذه الطريق ضعيفة، وإن كان أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي أحد شيوخ البخاري، فقد ضعفه الترمذي وغيره، لكن روي عن أحمد أنه قال عنه: من أهل الصدق، وقال أبو حاتم: صدوق معروف بالثوري، ثم قال: لكن كان يصحف.

وأما عمارة بن زاذان، فقال أحمد: له مناكير، وضعفه الدارقطني وغيره، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.

وروى الحديث أبو أحمد بن عدي فقال: حدثنا علي بن سراج، حدثنا عطية بن بقية، حدثنا أبي، عن محمد بن زياد، عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السباق أربعة: أنا سابق العرب، وبلال سابق الحبشة، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق فارس».

هذا حديث باطل لا أصل له بهذا الإسناد، قاله أبو زرعة، وأبو حاتم الرازيان.

والسباق على تسع طبقات كما قدمناه، أول الطبقات خديجة رضي الله عنها، وقيل: أنها أول من أسلم من النساء.

قال محمد بن عائذ القرشي: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد ابن عبد العزيز قال: ما جاءنا أبو حذيفة بشيء أعجب إلينا من هذا الخبر قال: أول من آمن من النساء خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ومن الرجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومن الغلمان علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقيل: أول من أسلم مطلقا: زيد بن حارثة، وكان مولى لخديجة


#1415#

رضي الله عنهما، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها.

روي عن معمر، عن الزهري أنه قال: ما علمنا أحدا أسلم قبل زيد ابن حارثة.

وقيل: أول من أسلم مطلقا: علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

روى القاسم بن زكريا المطرز، عن إسماعيل بن موسى، أخبرنا علي ابن عابس، عن مسلم الملائي، عن أنس رضي الله عنه قال: استنبئ النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وصلى علي رضي الله عنه يوم الثلاثاء.

خرجه الترمذي، عن إسماعيل بن موسى الفزاري وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مسلم الأعور، ومسلم الأعور [ليس] عندهم بذلك القوي. وقد روينا هذا عن مسلم، خرجه عن علي رضي الله عنه نحو هذا. انتهى.

وحديث مسلم الأعور، عن حبة، حدث به القاسم عبد الله بن محمد ابن عبد العزيز البغوي، عن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن يمان، عن سليمان بن قدم، عن مسلم، عن حبة، عن علي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وأسلمت يوم الثلاثاء.

حبة بن جوين العرني الكوفي، أبو قدامة، شيعي.

والحديث عند البغوي أيضا عن علي بن الجعد: أخبرنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن حبة: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: أنا أول رجل صلى وأسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.


#1416#

أخرجه في "مسنده" عن زيد -هو ابن هارون-، أخبرنا شعبة، فذكره.

ورواه أبو أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن عبد الله ابن موسى، حدثنا شعبة، وسفيان، عن سلمة بن كهيل، فذكره بنحوه.

وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا محمد بن العباس الأخرم، حدثنا زهير بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول من أسلم علي رضي الله عنه.

وكذلك روي عن زيد بن أرقم، ويعلى بن مرة الثقفي، وغيرهما.

وقال عبيد الله بن موسى: حدثنا العلاء بن صالح، عن المنهال، عن عمرو بن عباد بن عبد الله الأسدي: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كذاب، وقد صليت قبل الناس سبع سنين.

خرجه النسائي في كتابه "خصائص علي"، عن أحمد بن سليمان، عن عبد الله.

تابعه محمد بن سليمان الباغندي، عن عبيد الله.

وخرجه أبو بكر بن عاصم في كتاب "السنة"، وهو حديث منكر من


#1417#

مناكير العلاء بن صالح، وكان من عتيق الشيعة كما قاله أبو حاتم، وروى أحاديث مناكير، كما قاله ابن المديني.

قال الذهبي فيما وجدته بخطه: قوله: "قبل الناس"، يحتمل أنه كان يتعبد مع النبي صلى الله عليه وسلم بحراء، وذلك لا يتجه لصغر سنه، لأنه أسلم وله عشرة أعوام أو نحوها، والحديث ليس بصحيح.

وقال في "التذهيب": ما أعتقد أن عليا رضي الله عنه قاله قط. انتهى.

وقال أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدي الزاهد: أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الحراني -يعني ابن عقدة- حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن القطواني، حدثنا مخلد بن خلاد، حدثنا محمد بن عبيد الله، عن أبي سخيلة قال: حججت أنا وسلمان، فنزلنا بأبي ذر رضي الله عنه، فكنا عنده ما شاء الله، فلما كان منا خفوف قلت: يا أبا ذر! أني أرى أمورا قد حدثت، وإني خائف أن يكون في الناس اختلاف، فإن كان ذلك؛ فما تأمرني؟

قال: الزم كتاب الله تعالى عز وجل، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «علي أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الأكبر، وهو


#1418#

الفاروق يفرق بين الحق والباطل». وهذا من بابة الذي قبله.

وروى أبو غسان رفيع بن سلمة البصري الأخباري الملقب: دماذ، عن أبي عبيدة -هو معمر بن المثنى- قال: كتب معاوية إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فذكره، فقال علي رضي الله عنه: اكتب يا غلام:

محمد النبي أخي وصهري ... وحمزة سيد الشهداء عمي

وجعفر الذي يمسي ويضحي ... يطير مع الملائكة ابن أمي

وبنت محمد سكني وعرسي ... مسوط لحمها بدمي ولحمي

وسبط أحمد ولداي منها ... فأيكم له سهم كسهمي

سبقتكم إلى الإسلام طرا ... صغيرا ما بلغت أوان حلمي

إنعام الله تعالى على علي رضي الله عنه بذلك ما رواه يونس بن بكير، وسلمة بن الفضل، وإبراهيم بن سعد، واللفظ له، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد أبي الحجاج قال: كان من نعمة الله على علي رضي الله عنه وما صنع الله له، وأراد به من الخير: أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذو عيال كثيرة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس عمه رضي الله عنه -وكان من أيسر بني هاشم-: «يا عباس! إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف من عياله، آخذ من بنيه رجلا، وتأخذ رجلا، فنكفهما عنه».

قال العباس: نعم.

فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك


#1419#

حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه.

قال: فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلا؛ فاصنعا ما شئتما.

فأخذ عليا رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل علي رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا، فاتبعه علي رضي الله عنه وآمن به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس رضي الله عنهما حتى أسلم، واستغنى عنه.

وقيل: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أول الناس إسلاما وتصديقا، وعلى هذا القول جمهور الناس.

وروي عن جبير بن نفير، وإبراهيم النخعي، وغيرهما.

وذكر الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي في "شرح الترمذي": إن أبا بكر رضي الله عنه أول الخلق إسلاما، واستدل بحديث عمرو بن عنبسة رضي الله عنه الذي رواه الوليد بن مسلم فقال: حدثنا عبد الله بن العلاء بن زبر، حدثني أبو سلام، أنه سمع عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: لقد رأيتني وأنا رابع الإسلام، ألقي في روعي في الجاهلية أن الناس في ضلالة وباطل، إذ سمعت بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، والذي يدعو إليه، فخرجت فلقيته.

فقلت: ما أنت؟ قال: «نبي»، قلت: وما النبي؟ قال: «رسول الله»، قلت: آلله أرسلك؟ قال: «نعم» قلت: فبم أرسلك؟ قال: «بأن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا، ونكسر الأوثان، ونحقن الدماء، ونصل الأرحام»، قلت: ومن تبعك على هذا؟ قال: «حر وعبد، أبو بكر وبلال».


#1420#

قال عمرو رضي الله عنه: فأسلمت وبايعت، الحديث.

ورواه محمد بن مهاجر منفردا به، عن القيام بن سالم، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، عن عمرو، من طريق أبي أمامة الباهلي.

وخرجه مسلم في "صحيحه" فقال: حدثنا أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار، ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة.

قال عكرمة رضي الله عنه: ولقي شداد أبا أمامة، وواثلة، وصحب أنسا إلى الشام، وأثنى عليه فضلا وخيرا. عن أبي أمامة، قال: قال عمرو ابن عنبسة رضي الله عنه، فذكره.

ورواه شعبة، عن عطاء، عن يزيد بن طليق، عن عبد الرحمن بن البيلماني، عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! من أسلم؟ قال: «حر وعبد».

تابعه محمد بن سلمة، عن يعلى، عن عطاء، عن يزيد بن طليق، عن عبد الرحمن بن البيلماني، عن عمرو بن عنبسة السلمي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! من تبعك على هذا الأمر؟ قال: «حر وعبد»، ومعه أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، الحديث.

وحدث أبو قلابة الرقاشي، عن بلال بن المحبر، حدثنا شعبة، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وجاء نحوه [عن] زيد بن أرقم رضي الله عنه.


#1421#

واحتج ابن العربي أيضا عن [أن] أبا بكر رضي الله عنه أول الخلق إسلاما بقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا

والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن الشعبي قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما: من أول من أسلم؟

قال: أبو بكر رضي الله عنه، أما سمعت قول حسان بن ثابت رضي الله عنه؟ وذكر الأبيات التي تقدمت.

حدث به أبو عبد الله محمد بن عطية في كتابه "الخلافة"، عن محمد ابن حميد الرازي، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن مجالد بن سعيد، فذكره.

تابعه علي بن محمد بن مروان، عن محمد بن حميد.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "الزهد" لأبيه: حدثني أبو معمر، حدثنا أبو عبد الرحمن، عن مجالد، عن الشعبي قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول من صلى أبو بكر رضي الله عنه، ثم تمثل بأبيات حسان بن ثابت رضي الله عنه:

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها وأعدلها ... إلا النبي وأوفاها بما حملا


#1422#

والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس حقا صدق الرسلا

ورواه وكيع بن الجراح، عن إسماعيل بن خالد، عن الشعبي.

وحدث إبراهيم بن يعقوب الجرجاني، عن شبابة بن سوار، حدثنا الفرات بن السائب قال:

قلت لميمون بن مهران: أبو بكر الصديق أسلم أولا، أم علي بن أبي طالب؟

قال: لقد آمن أبو بكر رضي الله عنه بالنبي صلى الله عليه وسلم زمن بحيرا الراهب، واختلف بينه وبين خديجة رضي الله عنها حتى أنكحها إياه، وهذا كله قبل أن يولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ورواه أبو عبد الله المحاملي: أخبرنا أبو سهل، أحمد بن محمد القطان، حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا شبابة بن سوار الفزاري، حدثنا أبو المعلى الجزيري قال:

سألت ميمون بن مهران فقلت: أبو بكر وعمر أفضل، أم علي؟

قال: فارتعد حتى سقط العصا من يده وقال: أخلفونا في زمان يعدل بهما أحد، كانا رأس الإسلام وباب الجماعة، والله لقد آمن أبو بكر رضي الله عنه بالنبي صلى الله عليه وسلم زمن بحيرا الراهب، واختلف فيما بينه وبين خديجة حتى أنكحها إياه، وذلك كله قبل أن يولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

هذا غريب.

ويحتمل أن مراده بإيمان أبي بكر زمن بحيرا: ما وقع في قلبه من


#1423#

الإيمان مما سمع بحيرا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء مصرحا به عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أبا بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وهم يريدون الشام في تجارة، حتى نزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى الراهب، يقال له: بحيرا، يسأله عن الدين.

فقال: من الرجل الذي في ظل السدرة؟

فقال: ذاك محمد بن عبد الله.

قال: والله هذا نبي الله، ما استظل تحتها أحد بعد عيسى بن مريم إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فوقع في قلب أبي بكر رضي الله عنه اليقين.

مختلف فيه، كيف كان، فمنه ما تقدم عن ميمون بن مهران، ومنه ما قال أبو سعيد النقاش: أخبرنا الحسين بن علي [؟] التيمي، حدثنا عمر ابن محمد بن حمدون بن خالد، حدثنا محمد بن أشرس النصيبي، حدثنا أبو مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال: كان إسلام أبي بكر رضي الله عنه شبيها بوحي من السماء، وذلك أنه كان تاجرا بالشام، فرأى رؤيا فقصها على بحيرا الراهب.

فقال له: من أين أنت؟

قال: من مكة، قال: من أيها؟ قال: من قريش، قال: فإيش أنت؟ قال: تاجر.

قال: إن صدق الله رؤياك؛ فإنه سيبعث من قومك نبي تكون وزيره في


#1424#

حياته، وخليفته من بعد موته.

فأسر أبو بكر رضي الله عنه ذلك حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه فقال: يا محمد! ما الدليل على ما تدعي؟

قال: «الرؤيا التي رأيتها بالشام»، فعانقه وقبل عينيه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله حقا.

وقد جاء المنام مفسرا فيما قاله أبو بكر عبد الله بن أبي الدنيا في كتابه "دلائل النبوة": حدثنا يحيى بن يوسف الزمن، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:

ح قال: وحدثني أبو محمد عبد الله محمد طلحة بن يحيى التميمي، حدثنا أبو حبيب بن رزين -حدثني بفلسطين-، حدثني أبو إسحاق الهمداني، عن الشعبي: كان من سبب إسلام أبي بكر رضي الله عنه؛ رؤيا رآها وهو بأرض الشام، حتى فسر إسلامه فيما رأى النائم كأنه في ليلة دجوجية يجنح فيها قراب الكف دون البصر، كأنه ينظر إلى هلال طلع من طابة الكعبة، فهو ينبت عليها أو يمر، وينهل أخرى إلى ما يليها من الدور، فجعل يجعل ذلك حتى انتصف فيه نوره والدور التي سفل عنها بعين، منها ما يعظم وكان صغيرا، ومنها ما يصغر وكان عظيما، ثم انتقل عن واديها إلى واد غير ذي نشز من البيوت، حتى إذا استمر قمرا واستتمت إليه البيوت الوادي.

قال أبو بكر رضي الله عنه: وكان في عصابة قد عصبت به دون الناس، لذلك فقدت سماته وقعدت بهاؤه وما يفقد من نوره شيئا،


#1425#

فتضعضع الناس لذلك وتفرقوا، وكانوا من فرقة، وكأني أدعو الناس فأقول: يا أيها الناس! لا فرق عليكم ولا روع، إني أرى هذا النور الذي جمعكم وكشف عنكم ما كنتم فيه من الظلمة لا يزداد إلا ضياءا، فسكنت من ذعر ففر منها، ورد ذلك آخر بعد ما كانوا قد أصحرتهم الأرض.

فاستيقظ أبو بكر على ذلك، وقص رؤياه على بعض علماء الشام فقالوا: إن صدقت رؤياك؛ فهذا ملك يظهر ملك عدل، فيظهر عليه أهل بلده، ويظهر عليهم بغيرهم، وإن صدقت رؤياك؛ لتشاركنه في الأمر.

قال أبو بكر رضي الله عنه: وأتانا ونحن بأرض الشام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قد ظهر من دعوته.

قال رضي الله عنه: فحثني الذي رأيت على أن أكمشت أمري، ولم يكن لي هم إلا القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: فقدم أبو بكر مكة، وليس في القوم الغيب أحد أحب إليهم قدوما منه، فاستبشروا بقدومه وظنوا أنهم قد فتح عليهم بمكة فتح، فاجتمعوا إليه فحدثوه بالذي حدث فيهم، وشكوا أبا طالب وقالوا: لا تفرض دونه لما انتظرناه، ولولا مخافة أن يقول من غاب عنا منا: استبددتم بالأمر علينا، فيكون ذلك فسادا فيما بيننا واختلافا لما انتظرنا، فأما إذا قدمت؛ فأنت كنت الغاية عندنا الذي نرجو من شدة رأيك، وحياطتك على هذا الدين، فاستنطقهم أبو بكر [؟] هل فيهم رجل يخالفهم، فستظهر به على ما يريد.

فقالوا: ومن تبع هذا الرجل منكم على مخالفة دينكم والطعن في آلهتكم؟ قالوا: إلا ابن أبي طالب وقوم لا طمع بهم، ولا نعدهم.


#1426#

قال: فلعل فيكم من أهل دينكم من يعرض دونه وينحدب علينا، أو يثبطكم عما تريدون.

قالوا: أولئك ِأشد علينا ممن أبدى صفحه وتابعه على دينه.

قال: فأولئك فابدؤوا.

فقالوا: أمية وعقبة: جعلنا الله فداك، إنك كنت في أنفسنا هذا، والله كنا ننتظر منك الاقتناع فينا ثم فينا -أي: حينا-.

ودنا عقبة منه فسمى له رهط من قريش فيهم طلحة بن عبيد الله، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم في رهط قد أمرهم، ثم دفع سوطه فقال: هؤلاء فغدوا بنا وثبطونا.

ثم قال: وغيرهم من قومك ينهون عنه ويرغبون إليه، فلما كان اطلع أبو بكر على سر القوم، أحب أن يكسرهم في حسن مس.

وقال أبو بكر رضي الله عنه: لئن كان صادقا؛ ما بقي بطن في قريش إلا وفيه داؤه، وليكونن لنا ولهم شأن، ورأيي تصبح قريش له غدا غضابا، وليرجعن عن رأيهم.

فتفرق القوم عن أبي بكر وهم يقولون: لا عليكم، قد أتاكم من يقيم لكم قناتكم طائعين أو كارهين.

وبات أبو بكر وقد طالت عليه ليلته تطلعا إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى غدا حين أصبح بحال غلظة وتجهم، يريد يستبرئ بذلك [؟] رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أمنه في دينه، فلم يسلم، وكان أول شيء بدأ به أن قال: أمحمد بن عبد الله؟


#1427#

قال: «نعم، محمد بن عبد الله يا عتيق بن أبي عتيق».

قال: أنت الذي تريد أن تفسد قريشا؟

قال: «بل أنا الذي يريد أن يصلح قريشا أن عبدوا وأطاعوا».

قال: فحقا ما تقول قريش، تركك آلهتهم وتسفيهك عقولهم وطعنك في دينهم مغلطا لتذوق.

قال: «بل نصحت قريشا إن قبلت ودعوتها إلى رشدها، وأنا أدعوك إلى ذلك يا أبا بكر، أنا رسول الله اصطفاني بعلمه وبعثني بدينه الذي اصطفاه بنفسه وملائكته، وبعث أنبياءه ورسله، بعثني لأبلغ عنه على الضراء والسراء، لا أراقب فيه القريب ولا أهاب فيه البعيد، أدعو إلى الله وعبادته وحده لا شريك له، والمؤازرة على دينه من قام بدينه، والموالاة بطاعته من عمل بطاعته، وثوابك على الله، فإنما عند الله خير مما في أيدكم».

فقال أبو بكر رضي الله عنه: أو حق ما تقول أن الله أرسلك؟

قال: «نعم».

قال: فما تصديق ذلك؟

قال: «تصديقه عندك، وحجة الله عليك فيما رأيت وأنت بأرض الشام».

قال: ما أكثر ما رأيت بأرض الشام ما لا حجة لك فيه من أنواع البيع وضرب الدواب، واللباس.

قال: «ليس ذلك أعني، ولكني أعني الظلمة التي كنت فيها والنور


#1428#

الذي أجلاها عنك، فقد هداك الله إن اهتديت».

قال أبو بكر: ما أطلعت على رؤياي أحد من الناس إلا الرجل الذي عبرها لي، وأشهد بالله أنه لم يأت محمدا صلى الله عليه وسلم بخبرها، فما هو إلا أن تفوه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعرفت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت على قوله نورا على وجهه، فأغض عنه من بصري، وأخفض من صوتي.

فأسلم أبو بكر ولم يناعه في شيء بعد ذلك، وخلع الأنداد وآمن بجوامع الإسلام، فخرج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن مخبت، وقريش تنتظره في جماعتها وهم يرجون قبله ما هم فيه.

فلما خرج فانتهى إليهم قال: يا عثمان! فقام إليه، ثم قال: يا طلحة! يا زبير! فقاما إليه، فأدبر بهم ولا يدري القوم ما يريد بهم، حتى انتهى إلى منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدثهم عن رؤياه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبره بها، ويدعوهم أن يسلموا، أو يحلف بالله لهم إن أمره ليظهر على الأمور، كما ظهر نور ذلك القمر على الظلمة.

فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الإسلام؛ فأسلموا وصدقوا، ثم خرجوا فلقوا عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبا عبيدة بن الجراح، فأخذوا بأيديهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهم الإسلام فأسلموا، فخرجوا على يقين من أمره.

وانتهى ذلك الأمر من أمرهم إلى جماعة قريش، فأسقط في أيديهم


#1429#

وقالوا: أمر يراد.

ومن الخلاف في قصة إسلام أبي بكر رضي الله عنه: ما قال الماليني: أخبرنا أبو محمد إسماعيل بن محمد الصوفي –صاحب ابن هامان-، حدثنا أبو يعقوب يوسف بن أحمد القزويني الصوفي، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إدريس الرازي، حدثنا أبو القاسم يحيى بن حميد التككي، حدثنا أبو عبد الله بن الجراح الغزي، حدثنا عبد العزيز بن معاوية، عن داود الطيالسي، عن شعبة، عن منصور، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:

أخبرنا أبو بكر رضي الله عنه أنه خرج إلى اليمن قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال: فنزلت على شيخ من الأزد، عالم قد قرأ الكتب، وعلم من علم الناس كثيرا، وأتت عليه أربع مئة سنة إلا عشرا.

فلما رآني قال: أحسبك حرميا.

قال أبو بكر رضي الله عنه: قلت: نعم أنا من أهل الحرم.

قال: وأحسبك قرشيا.

قال: نعم أنا من قريش.

قال: وأحسبك تيميا، قال: قلت: نعم، أنا من تيم بن مرة، أنا عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب.

قال: بقيت لي فيك واحدة، قلت: وما هي؟

قال: اكشف عن بطنك، قلت: لا أفعل؛ أو تخبرني لم ذلك.

قال: أجد في العلم الصحيح الزكي: أن الصادق نبيا يبعث في الحرم،


#1430#

يعاونه على أمره فتى وكهل، فأما الفتى فخواض غمرات، ودفاع معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف، على بطنه شامة، وعلى فخذه اليسرى علامة، وما عليك أن تريني ما خفي علي.

قال أبو بكر رضي الله عنه: فكشفت له عن بطني فرأى شامة سوداء فوق السرة، فقال: أنت هو ورب الكعبة، وأني متقدم إليك في أمر فاحذره.

قال: قلت: وما هو؟

قال: إياك والميل عن الهدى، وتمسك بالطريقة الوسطى، وخف الله فيما خولك وأعطاك.

قال أبو بكر رضي الله عنه: فقضيت أربي باليمن، ثم أتيت الشيخ لأودعه، فقال لي: أحامل مني أبياتا إلى ذلك النبي؟

قال: قلت: نعم، فأنشأ يقول:

ألم تر أني قد سمت معاشري ... ونفسي وقد أصبحت في الحي عاهنا

حييت وفي الأيام للمرء عبرة ... ثلاث مئين ثم تسعين آمنا

وصاحبت أحبارا بانوا بعلمهم ... غيائب ذي مد يرى فيه طابنا

وكم عسقليل راهب فوق قائم ... لقيت وما غادرن في البحث كاهنا

فكلهم لما تغطمشت قال لي ... أن نبيا سوف تلقاه دانيا

بمكة والأوثان فيه عزيزة ... فيركسها حتى تراها كوامنا

فما زلت أدعو الله في كل حاضر ... حللت به سرا وجهرا معالنا


#1431#

وقد خمدت مني شرارة قوتي ... وألفيت شيخا لا أطيق الشواجنا

فحيي رسول الله عني فإنني ... على دينه أحيا وإن كنت واكيا

فيا ليتني أدركته في شبيبتي ... فكنت له عبدا وإلا لعجاهيا

عليه سلام الله ما در شارف ... وما حمل الركاب فيه السواحنا

وما شجت بالجهلتين وشيجة ... وما ضح ضحاك من النور هافتا

قال أبو بكر رضي الله عنه: فحفظت وصيته وشعره، وقدمت مكة وقد بعث صلى الله عليه وسلم، فجاءني عقبة بن أبي معيط، وشيبة، وأبو جهل، وأبو البختري بن هشام، وصناديد قريش، فقلت: نابتكم نائبة، أو ظهر فيكم أمر؟.

قالوا: يا أبا بكر! أعظم الخطب وأجل النوائب، يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي، ولولا أنت؛ ما انتظرنا به، فإذا قد جئت؛ فأنت الغاية والكفاية لنا.

قال أبو بكر رضي الله عنه: فصرفتهم على حس مني، وسألت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل لي: أنه في منزل خديجة، فقرعت عليه الباب، فخرج إلي

فقلت: يا محمد! فقدتك من منزل أهلك، واتهموك بالعيبة، وتركت دين آبائك وأجدادك.

قال: «يا أبا بكر! أني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم، فآمن بالله».

فقلت: ما دليلك على ذلك؟

فقال: «الشيخ الذي باليمن».


#1432#

فقلت: وكم من شيخ لقيته باليمن، وبعث واشتريت، وأخذت وأعطيت.

فقال: «الشيخ الذي أفادك الأبيات».

فقلت: ومن أخبرك بهذا يا حبيبي؟

قال: «الملك العظيم الذي كان يأتي الأنبياء قبلي».

قال: قلت: مد يدك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.

قال أبو بكر رضي الله عنه: وانصرفت وما بين لابتيها أشد سرورا مني من إسلامي. وذكر بقية إسلامه بمعنى ما تقدم.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في "دلائل النبوة" أيضا: حدثت عن علي ابن محمد القرشي، عن عيسى بن يزيد المدني، عن شرحبيل بن سعد، وعبد الله بن أبي بكر قالا: قال أبو بكر رضي الله عنه:

بينا أنا في منزلي بمكة وأنا أريد الطائف أنا وحكيم بن حزام، فأمرت أن تصنع لنا سفرة، إذ دخل علي خالي الحارث بن صخر، فتحدث، ودخل حكيم بن حزام فقال له الحارث بن صخر: يا أبا خالد! زعم نساؤنا أن عمتك [تزعم] أن زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل موسى وعيسى عليهما السلام، فأنكر ذلك حكيم بن حزام، فدعوت لهما بطعام من سفرتنا فأكلا ونهضا.

فقلت لحكيم: اجلس يا أبا خالد حتى ننظر في رحلتنا، فانصرف خالي.

فقلت: والله يا أبا خالد، ما رأيت في وجهك كراهة ما قال لك في


#1433#

عمتك.

قال: والله لقد أنكرنا حالها وحال زوجها، ولقد أخبرني صاحبي أنها تسب أوثانهم، وتزعم أن زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ترى زوجها يقرب الأوثان.

قال: فلما أدبرت، خرجت أريد محمدا صلى الله عليه وسلم، وما أريد إلا موعظته، وكان لي صديقا، فدخلت عليه فابتدأت فأخبرته موضعين من قومه وما شأنه، ثم ذكرت ذلك وقلت: هذا أمر عظيم لا يقر لك قومك به، ولست بصاحبه، إنما هذا إذا كان في أهل الكتاب.

فقال: «يا أبا بكر! ألا أذكر لك شيئا إن رضيته قبلته، وإن كرهته كتمته؟».

قلت: إن أخف ذلك عندي لما قلت، فقرأ علي قرآنا وأخبرني ببدو أمره.

فقلت: أشهد أن هذا حق من عند الله، وأنك رسول الله، وأن هذا الكلام كلام الله.

وسمعت خديجة رضي الله عنها فخرجت عليها خمار أحمر فقالت: الحمد لله الذي هداك يا ابن أبي قحافة. فما رمت مكاني حتى أمسيت.

فخرجت عند المساء، فإذا مجلس بني أسد، فيهم الأسود بن المطلب، وأبو البختري في سراة منهم فقالوا: من أين أقبلت؟

فقلت: من عند ختنكم وابن عمكم محمد بن عبد الله، وذكر لي عنده سلعة يبيعها نسيئة، فجئت إليه أسومه بها، فإذا سلعة ما رأيت مثلها.


#1434#

قالوا: إنك تاجر بصير، وما كنا نعلمه بجمع السلع، وما أنت ممن يبتاع السلع بنسيئة، فهل ابتعت؟

قلت: نعم، قالوا: إذا أشركنا.

قال: قد أخذت منه ما لا أقول على غيره، إن عنده لفصلا.

فانصرفت، فأتى حكيم بن حزام يقود بعيره فقال: اركب، قلت: قال: قد بدا لي الإقامة، إني وقعت بعدك على بضاعة نفيسة، ما عالجت أبين مربحا منها، إن فيها لغنى الأبد.

قال: وعند من؟ فما أعلمها اليوم بمكة.

قلت: بلى إنك لتعلمها؛ وأنت دللتني عليها.

قال: متى دللتك عليها؟

قلت: آلله إن ذكرتها لك وسمتها لا تذكرها لأحد؟

قال: لا، قلت: فإنها عند ختنك، قال: من؟ قلت: محمد بن عبد الله، قال: ما هي؟ قلت: لا إله إلا الله، فوجم ساعة، فقلت: مالك يا أبا خالد! تتهمني على عقلي وديني قال: لا، وما أحب كل ما ذكرت، وانصرف.

وأصبحت؛ فإذا المجلس الأسدي قد غدوا علي وقالوا: ما كنا نتهمك على الكذب، وما عند محمد تجارة ولا بضاعة.

قلت: بلى والله، قالوا: وما هي؟

قلت: لا إله إلا الله، فتفرقوا عني نافرين، وشاع أمره صلى الله عليه وسلم.


#1435#

وجاء عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر رضي الله عنه خدنا للنبي صلى الله عليه وسلم وصينا للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث صلى الله عليه وسلم انطلق رجال من قريش إلى أبي بكر فقالوا: يا أبا بكر! أن صاحبك هذا قد جن.

قال أبو بكر رضي الله عنه: وما شأنه؟

قالوا: هو ذاك في المسجد يدعو إلى توحيد إله واحد، ويزعم أنه نبي.

فقال أبو بكر: وقال ذاك؟

قالوا: نعم، هو ذاك في المسجد يقول.

فأقبل أبو بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطرق عليه الباب فاستخرجه، فلما ظهر قال أبو بكر رضي الله عنه: يا أبا القاسم! ما الذي بلغني عنك؟

قال: «ما بلغك عني؟» قال: بلغني إنك تدعو إلى التوحيد، وزعمت إنك رسول الله؟!

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم يا أبا بكر، أن ربي عز وجل جعلني بشيرا ونذيرا، وجعلني دعوة إبراهيم، وأرسلني إلى الناس أجمعين».

قال أبو بكر رضي الله عنه: والله ما جربت عليك كذبا، وإنك لخليق بالرسالة لعظم أمانتك، وصلتك برحمك، وحسن فعالك، مد يدك فأنا أبايعك. فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فبايعه أبو بكر وصدقه،


#1436#

وأقر أن ما جاء به الحق، فوالله ما تلعثم أبو بكر عنه حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام.

قال أبو جعفر أحمد بن محمد البغدادي: حدثنا إبراهيم بن سعد قال: قال ابن إسحاق: فلما أسلم -يعني أبا بكر- أظهر إسلامه ودعا إلى الله عز وجل، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلا مألفا لقومه محسنا سهلا، وكان أنسب لقريش وأعلم قريشا بها، وبما كان فيها من خير أو شر، وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه -فيما بلغني-: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له، فأسلموا وصلوا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- يقول: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة، وفيه نظيرة وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة، ما عكم عنه وما تردد فيه حين ذكرته له».

فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا بالإسلام، فصلوا وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا بما جاء [به] من الله.

وخديجة رضي الله عنها تاسعة النفر وألاهم كما تقدم.

قال ابن إسحاق: فكانت أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء منه، ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعبيدة بن


#1437#

الحارث، وسعيد بن زيد وامرأته فاطمة بنت الخطاب، وأسماء وعائشة بنت أبي بكر -وعائشة صغيرة-، وعبد الله، وقدامة ابنا مظعون الجمحيان، وخباب بن الأرت، وعمير بن أبي وقاص الزهري، وعبد الله ابن مسعود الهذلي، ومسعود بن القاري، وسليط بن عمرو، وعياش [بن] أبي ربيعة وامرأته أسماء بنت سلامة، وخنيس بن حذافة، وعامر بن ربيعة، وعبد الله بن جحش، وأبو أحمد بن جحش، الأسديان، وجعفر ابن أبي طالب وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث الجمحي وامرأته أسماء بنت المجلل، وخطاب بن الحارث -وهو أخو حاطب- وامرأته فكيهة بنت يسار، ومعمر بن الحارث الجمحي، والسائب بن عثمان بن مظعون الجمحي، والمطلب بن أزهر وامرأته رملة بنت أبي عوف، ونعيم بن عبد الله اللحام، وعامر بن فهيرة -مولى أبي بكر-،

وخالد بن سعيد بن العاص وامرأته همينة بنت خلف، وحاطب بن عمرو ابن عبد شمس، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التميمي، وخالد وعامر، وعاقل وإياس بني البكير بن عبد ياليل، وعمار ابن ياسر، وصهيب بن سنان رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين.

وذكر أبو عمر ابن عبد البر في السابقين: أبا ذر، وأبا نجيح عمرو بن عنبسة رضي الله عنهما، ولكنهما رجعا إلى بلاد قومهما، وذكر فيهم أيضا: عتبة بن مسعود رضي الله عنه.

وحدث يحيى بن أبي بكير، عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله رضي الله عنه قال: كان أول من أظهر إسلامه ببيعته رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأبو بكر، وعمار وأمه سمية، وبلال،


#1438#

وصهيب الرومي، والمقداد، والحديث سيأتي بتمامه إن شاء الله تعالى.

تفرد به يحيى بن أبي كثير، ويقال: أنه وهم، وإنما رواه زائدة، عن منصور، عن مجاهد. قاله الدارقطني في كتابه "العلل".

وسيأتي عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، عن أبيه قال: لقد أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأسلم أهل مكة كلهم، وذلك قبل أن تفرض الصلاة، حتى إن كان ليقرأ في المسجد ويسجدوا، وما يستطيع بعضهم أن يسجد من الزحام وضيق المكان لكثرة الناس، حتى قدم رؤوس قريش –الوليد بن المغيرة، وأبو جهل، وغيرهما- وكانوا بالطائف في أرضهم فقالوا: أتدعون دين آبائكم؟ فكفروا.

قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث به، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا؛ ذهبوا في الشعاب.

وخرج الإمام أحمد في "مسنده" من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن حبة العرني قال: رأيت عليا رضي الله عنه ضحك على المنبر حتى بدت نواجذه، ثم ذكر قول أبي طالب.

قال: ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي ببطن نخلة، فقال: ماذا تصنعان يا ابن أخي؟

فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام.

فقال: ما بالذي تصنعان من بأس، ولكن والله لا تعلوني إستي أبدا.


#1439#

قال: فضحكت تعجبا من قول أبي.

وقال الإمام أحمد في "المسند": حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا نعيم ابن حكيم المدائني، عن أبي مريم، عن علي رضي الله عنه قال: انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجلس» فصعد على منكبي، فذهبت لأنهض به، فرأى مني ضعفا فنزل، وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اصعد على منكبي» فصعدت على منكبه، قال: فنهض بي، قال: فإنه ليخيل إلي لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه، حتى إذا استمكنت به؛ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقذف به»، فقذفت به فكسر كما تكسر القوارير، ثم نزلت، فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نستبق، حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس.

وحدث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب، واستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فبادروهم وعابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم واقتتلوا، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلا من المشركين بلحى بعير فشجه، فكان أول دم هريق في الإسلام.

وقال أبو جعفر محمد بن عاصم: حدثنا أبو أسامة، عن طلحة بن


#1440#

يحيى بن طلحة بن عبيد الله، أخبرني أبو بردة، عن مسعود بن حراش قال: بينا أنا أطوف بين الصفا والمروة، فإذا ناس كثير يتبعون ناسا.

قال: فنظرت؛ فإذا فتى شاب موثق يداه في عنقه، فقلت: ما شأن هؤلاء؟

قالوا: هذا طلحة بن عبيد الله قد صبأ، وإذا وراءه امرأة تزمره وتسبه.

قلت: من هذه المرأة؟ قالوا: هذه أمه الصعبة بنت الحضرمي.

قال طلحة: فأخبرني عيسى بن طلحة وغيره: أن عثمان بن عبيد الله -أخا طلحة- [قرن طلحة بن عبيد الله] مع أبي بكر ليحبسه عن الصلاة ويرده عن دينه، وحرز يده ويد أبي بكر في قد فلم يدعهم إلا وهو يصلي مع أبي بكر رضي الله عنهما.

مسعود هذا أخو ربعي بن حراش، مختلف في صحبته، فالأكثر -منهم أبو حاتم الرازي- أنه لا صحبة له، فهو مخضرم أدرك الجاهلية، وحديثه هذا يشير إلى ذلك، والله أعلم.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "دلائل النبوة": حدثني محمد ابن المغيرة بن شعيب، حدثني عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبو محمد ابن عمران، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرج أبو بكر رضي الله عنه يريد النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه، كان له صديقا، فقال: يا أبا القاسم! فقدت من مجالس قومك فاتهموك بالعيب لآبائهم وأربابهم.


#1441#

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أني رسول الله أدعوك إلى الله» فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم أبو بكر، وانصرف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بين الأخشبين أحدا أشد سرورا بإسلام أبو بكر رضي الله عنه.

ومضى أبو بكر رضي الله عنه فرأى عثمان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، فأسلموا، ثم جاء الغد بعثمان ابن مظعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة ابن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا.

قالت عائشة رضي الله عنها: فلما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا، ألح أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور فقال: «يا أبا بكر! إنا قليل» فلم يزل أبو بكر حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله عز وجل وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، وضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا، ووطي أبو بكر رضي الله عنه وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة ابن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما لوجهه، وبرك على بطن أبي بكر رضي الله عنه حتى ما يعرف أنفه من وجهه.

وجاءت بني تيم تتعادى، فأجلي عن أبي بكر المشركون، وحملت بني تيم أبا بكر حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ورجعت بنوه


#1442#

فدخلوا المسجد فقالوا: والله لئن مات أبو بكر؛ لنقتلن عتبة، ورجعوا إلى أبي بكر، فجعل قحافة وبني تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير بنت ضحى بن عامر: انظري أن تطعميه شيئا، أو تسقيه إياه.

فلما خلت به وألحت عليه جعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا والله مالي علم بما بصاحبك.

قال: فاذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله.

فقالت: ما أعرف محمد بن عبد الله ولا أبا بكر، وإن أحببت أن أجيء معك إلى ابنك فعلت.

قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فصاحت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قوما نالوا منك هذا؛ لأهل فسوق وكفر، فإني لأرجو أن ينتقم الله لك.

قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قالت: هذه أمك تسمع، قال: ولا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح.

قال: فأين هو؟ قالت: في دار أبي الأرقم.


#1443#

قال: فإن لله علي إليه أن لا أذوق طعاما ولا شرابا؛ أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قالت: فأمهلنا، حتى إذا هدأت الأرجل وسكن الناس؛ خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأكب عليه المسلمون، ورق [له] رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه رقة شديدة وأكب عليه رسول الله [فقبله].

فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس؛ إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بوالدتها وأنت مبارك، فادعها إلى الله عز وجل وادع الله لها، عسى الله عز وجل أن يستنقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعاها إلى الله عز وجل، فأسلمت، فأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهرا، وهم تسعة وثلاثون رجلا.

وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبا بكر، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، ولأبي جهل بن هشام، وأصبح عمر –وكانت الدعوة يوم الأربعاء- وأسلم عمر رضي الله عنه يوم الخميس، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلى مكة وخرج ابن الأرقم وهو أعمى كافر وهو يقول: اللهم اغفر لبني عبيد الأرقم فإنه كفر.

فقام عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! على ما نخفي ديننا ونحن على الحق، ويظهر دينهم وهم على الباطل؟

قال صلى الله عليه وسلم «يا عمر! إنا قليل، فإنك قد رأيت ما لقينا».


#1444#

فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق نبيا؛ لا يبقى لي مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم مر بقريش وهي تنتظره.

فقال له أبو جهل بن هشام: زعم فلان إنك صبوت؟

فقال عمر رضي الله عنه: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فوثب المشركون إليه، ووثب على عتبة بن ربيعة فبرك عليه فجعل يضربه، وأدخل أصبعيه في عينيه، فجعل عتبة يصيح، فتنحى الناس عنه، فقام عمر رضي الله عنه فجعل لا يدنو منه أحد؛ [إلا أخذ بشريف ممن دنا منه، حتى] أعجز الناس عنه.

واتبع المجالس التي كان يجلس فيها بالكفر فيظهر الإيمان، ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر عليهم، فقال: عليك بأبي أنت وأمي، فوالله ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر؛ إلا قد أظهرت الإيمان غير هايب ولا خائف.

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج عمر رضي الله عنه أمامه، وحمزة بن عبد المطلب، حتى طاف بالبيت وصلى الظهر معلنا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار الأرقم ومعه عمر رضي الله عنه وحده، فصلى، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهو في "فضائل الصحابة رضي الله عنهم" لخيثمة بن سليمان، حدث به عن عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز العمري قاضي المصيصة:

حدثنا أبو بكر عبد الله بن عبيد الله بن إسحاق بن عمران بن موسى ابن طلحة بن عيينة، حدثني أبي عبيد الله، حدثني عبد الله بن عمران بن


#1445#

إبراهيم بن محمد بن طلحة، حدثني أبي محمد بن عمران، عن القاسم، فذكره.

وخرجه أبو عامر العبدري في كتابه "فضائل الصحابة والقرابة" من طريق داود بن عطاء بن المدني قال: حدثني عبد الله بن محمد بن عمران ابن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله قال: أخبرنا أبي محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد، فذكره بطوله.

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند تمام الأربعين الذين أسلموا به كملوا الأربعين، على خلاف في ذلك.

روي عن داود بن الحصين، والزهري قالا: أسلم عمر رضي الله عنه بعد أربعين ونيف وأربعين بين رجل ونساء قد أسلموا قبله.

وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: أسلم عمر رضي الله عنه بعد أربعين رجلا وعشرة نساء.

وعن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال: أسلم عمر رضي الله عنه بعد خمس وأربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة.

وجاء عن يحيى الحماني، عن حصين بن عمر الأحمسي، عن مخارق، عن طارق، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أسلمت رابع أربعين، فنزلت: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين}.

قال أبو الشيخ الأصبهاني الحافظ: حدثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، حدثنا صفوان بن المغلس، حدثنا إسحاق بن بشر، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرماني، عن سعيد بن جبير، عن ابن


#1446#

عباس رضي الله عنهما قال: أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة وثلاثون رجلا، ثم إن عمر رضي الله عنه أسلم فصاروا أربعين، فنزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين}.

تابعه جعفر بن محمد بن كرال، عن إسحاق بن بشر.

وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو رماح روح بن الفرج، حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا عطاف بن خالد، عن عثمان بن عبد الله بن الأرقم، عن جده الأرقم -وكان بدريا-، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوى عنده عند الصفا حتى تكامل أربعون رجلا من المسلمين، وكان آخرهم إسلاما عمر ابن الخطاب رضي الله عنهم، فلما كانوا أربعين خرجوا إلى المشركين.

قال أبو بكر محمد بن منصور السمعاني: ذكر بعضهم أسماء الأربعين الذين كملهم الله تعالى بعمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وهي فائدة جليلة، وهم: أبو بكر الصديق، وعلي المرتضى، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبو عبيدة بن الجراح، وجعفر بن أبي طالب، وأبو أحمد بن جحش، وأبو ذر الغفاري، وأخوه أنيس، والأرقم بن [أبي] الأرقم، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وبلال بن رباح، وحمزة بن عبد المطلب، وخالد ابن بكير، وخالد بن سعيد بن العاص، وخباب بن الأرت، وزيد بن حارثة، وعثمان بن مظعون، وابنه السائب، وصهيب بن سنان، وعامر بن بكير، وعامر بن ربيعة، وحاطب بن الحارث الجمحي، وعياش بن أبي


#1447#

ربيعة، ومصعب بن عمير، وعامر بن فهيرة، وعقبة بن غزوان، وعمار بن ياسر، وعمرو بن عنبسة، وعبيدة بن الحارث، والمقداد بن عمرو، ونعيم ابن عبد الله بن النحام، وعبد الله بن جحش، وعبد الله بن مسعود، وواقد ابن عبد الله، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم.

كذا ذكره أبو بكر بن السمعاني عن بعضهم، وذكرهم كذلك.

لكن زاد فيهم: أبا حذيفة بن عتبة، الإمام أبو القاسم سعيد بن يعقوب بن شاة الكشافي في كتابه "السراج" الذي صنفه في ذكر هؤلاء الأربعين، وترجمتهم وما يتعلق بذلك.

وقد قدمنا من قول ابن إسحاق ما يخالف هذا العدد، وفيه زيادة على الأربعين قبل إسلام عمر رضي الله عنه، وفيه رجال لم يذكروا هنا اثنا عشر رجلا، وناهيك بابن إسحاق في هذا الشأن.

وقد ذكر ابن إسحاق بعد ذكر الذين أسلموا -وهم فوق الأربعين كما تقدم-، أنهم كانوا إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، ومعلوم أن ذلك كان قبل إسلام عمر رضي الله عنه، والله أعلم.

قال محمد بن سليم بن أبي الجماهر العسقلاني: حدثنا ابن أبي السري، حدثنا الفريابي، عن سفيان الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {محمد رسول الله والذين معه}: أبو بكر، {أشداء على الكفار}: عمر، {رحماء بينهم}: عثمان بن عفان، {تراهم ركعا سجدا}: علي بن أبي طالب، {يبتغون فضلا من الله ورضوانا}: طلحة، والزبير، {سيماهم في وجوههم}:


#1448#

عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، {ذلك مثلهم في التوراة}: أبو عبيدة بن الجراح، {كزرع أخرج شطئه فآزره} بأبي بكر، {فاستغلظ} بعمر، {فاستوى على سوقه يعجب الزراع} بعثمان، {ليغيظ بهم الكفار} بعلي، {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {منهم مغفرة وأجرا عظيما}.

وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره استسر به إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين من مبعثه، قاله ابن إسحاق وغيره، ثم أنزل الله تعالى عليه: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين}، وأنزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} فأعلن صلى الله عليه وسلم حينئذ الدعاء إلى الإسلام.

قال ابن إسحاق: حدثني من لا يتهم، عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وأنذر عشيرتك الأقربين} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح ثم قال: «يا بني عبد المطلب! يا بني عبد مناف! يا بني قصي! -ثم عد قريشا قبيلة قبيلة، حتى أتى على آخرهم- إني أدعوكم إلى الله، وأنذركم عذابه».

وقال الأعمش: حدثنا عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت : (وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين)، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: «يا صباحاه».


#1449#

فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا عليه.

فقال: «أرأيتم إذا أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟»

قالوا: ما جربنا عليك كذبا.

قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

قال أبو لهب: تبا [لك]، ألهذا جمعتنا؟ ثم قام، فنزلت: {تبت يدا أبي لهب وتب}.

رواه أبو سلمة، عن الأعمش، قال سفيان بن عيينة: حدثنا الوليد بن كثير، عن تدرس، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: لما نزلت: {تبت يدا أبي لهب}، أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة، وفي يدها فهر وهي تقول: مذمما أبينا، دينه قلينا، وأمره عصينا -والنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد-.

فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! أقبلت وأخاف أن تراك.

فقال: «إنها لن تراني» وقد قرأ فاعتصم به وقرأ: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا}، فوقفت على أبي بكر ولم تر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أني أخبرت أن صاحبك هجاني.

فقال: لا ورب هذا البيت، إنه ما هجاك، فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها.

ورواه سعيد بن كثير بن عبيد، عن أبيه -وكان رضيع عائشة، ومولى


#1450#

أبي بكر الصديق-، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، فذكره بنحوه.

حدث به: علي بن مسهر، عن سعيد بن كثير.

وقال أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنظروا قريشا كيف يصرف الله عني شتمهم ولعنهم، يشتمون مذمما ويلعنون مذمما، وأنا محمد».

وهذا الإنذار أحد مراتب الدعوة، فقد قيل: إن لها مراتب، الأولى: النبوة، الثانية: إنذار عشيرته الأقربين، الثالثة: إنذار قومه، الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبل، وهم العرب قاطبة، الخامسة: إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر.

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث شريك، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو بن عباد، عن عبد الله، عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلا على قعب من لبن، وإن عامتهم ليأكلون الجذعة، فأكلوا حتى شبعوا، وشربوا حتى رووا.

تابعه أبو عوانة، عن الأعمش، وتفرد عنه به.

ورواه أبو الليث السلم بن معاذ في كتاب "المبعث" مطولا فقال: حدثنا أبو داود بن سيف، حدثنا سعيد بن بزيغ قال: قال [ابن] إسحاق:


#1451#

وحدثني من لا أتهم، عن عبيد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علي! إن الله تعالى أمرني أن (وأنذر عشيرتك الأقربين) فضقت بذلك ذرعا، وعرفت أني متى ما أباديهم بهذا؛ أرى منهم ما أكره، فصمت عليها حتى جاءني جبريل عليه السلام وقال: يا محمد! إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعا، واجعل عليه رجل شاة، واملأ علينا عسا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به».

[قال علي:] ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلا، يزيدون رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه صلى الله عليه وسلم: أبو طالب، وحمزة، وأبو لهب، والعباس، فلما اجتمعوا إليه، دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم جذبة من اللحم، فشقها بأسنانه ثم ألقها في نواحي الصحفة، ثم قال: «خذوا باسم الله»، فأكل القوم حتى جميعهم، ثم قال: «اسق القوم»، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعا منه. وايم الله، إن الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم، بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: هلا ما سحركم صاحبكم. فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال لي [من] الغد: «يا علي! إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت


#1452#

من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فأعد لنا من الطعام مثل ما صنعت، ثم اجمعهم».

قال ففعلت، ثم جمعتهم، فدعاني بالطعام فقربته له، ففعل مثل ما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشيء من حاجة.

ثم قال: «اسقهم»، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعا، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا بني عبد المطلب! إني والله لا أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على أمري هذا؟» فأحجم القوم عنا جميعا.

فقلت -وإني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا، وأعظمهم بطنا، وأحمشهم ساقا-: أنا يا نبي الله أكون وزيرك.

قال: فقام القوم يضحكون.

وحدث به يونس بن بكير في "المغازي"، عن ابن إسحاق قال: حدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل -واستكتمني اسمه-، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب، فذكره بنحوه.

وحدث به مختصرا محمد بن سعد في "الطبقات" عن علي بن محمد، عن يزيد بن عياض بن جعدة الليثي، عن نافع، عن سالم، عن علي رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها وهو بمكة، فاتخذ مثله طعاما، ثم قال لعلي: «ادع لي بني عبد المطلب»، فدعا أربعين، وذكر بنحوها.


#1453#

وقال الإمام أحمد في "مسنده" عن علي رضي الله عنه: حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذة، عن علي رضي الله عنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب، منهم رهط كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق.

قال: فصنع لهم مدا من طعام، فأكلوا حتى شبعوا.

قال: وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس، ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كما هو كأنه لم يمس ولم يشرب.

ثم قال: «يا بني عبد المطلب! إني بعثت إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، وقد رأيتم من هذه الأمة ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟».

قال: فلم يقم إليه أحد.

قال: فقمت إليه -وكنت أصغر القوم- فقال: «اجلس»، ثلاث مرات، كل ذلك أقول إليه فيقول: «اجلس»، حتى كان في الثالثة، ضرب بيده على يدي.

قال أبو جعفر الوراق: حدثنا إبراهيم بن سعد قال: قال ابن إسحاق: فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع بما أمره الله عز وجل؛ لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه بعض الرد –فيما بلغني-، حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك! أعظموا ذلك، وباعدوه، وأجمعوا على خلافه وعداوته، إلا من عصم الله منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون.


#1454#

وذكر مسلم بن معاذ في "المبعث"، عن أبي داود سليمان بن سيف ابن سعيد بن بزيغ، عن ابن إسحاق.

وروى العباس، عن محمد الدوري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الرسالة، جعل يقول: «يا قوم! لم تؤذونني أن أبلغ كلام ربي عز وجل؟» يعني: القرآن.

وقد روي بلفظ غير هذا، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

وروى الواقدي، عن معمر، عن الزهري قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام سرا وجهرا، فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس، حتى كثر من آمن به، وكفار قريش غير منكرين لما يقول: فكان إذا مر عليهم في مجالسهم، يشيرون إليه أن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء، فكان كذلك حتى عاب آلهتهم التي يعبدونها دونه وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر، فشنعوا عند ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعادوه.

وقال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر، فتعاقدوا باللآت والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ونائلة وإساف: لو قد رأينا محمدا الفذ؛ قمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقه حتى نقتله.

فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله عنها تبكي، حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قريش تعاقدوا


#1455#

عليك لو قد رأوك، لقد قاموا إليك قيام [رجل واحد] فقتلوك، فليس رجل منهم إلا قد عرف نصيبه من دمك.

قال: «يا بنية! أرني وضوءا»، فتوضأ ودخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصرا، ولم يقم إليه منهم أحد، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم وأخذ قبضة من التراب فقال: «شاهت الوجوه» ثم حصبهم بها، فما أصاب رجلا منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا.

وخرج أبو الحسن الدارقطني في كتابه "الأفراد" من حديث عبد الله ابن سلمة بن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن جده، عن عروة ابن الزبير: حدثني عمرو بن عثمان بن عفان، عن أبيه عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: أكثر ما نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رأيته يوما.

قال عمرو: فرأيت عيني عثمان ذرفتا من تذكر ذلك.

قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر رضي الله عنه، وفي الحجر ثلاث نفر جلوس: عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حاذاهم أسمعوه بعض ما يكره، فعرف ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدنوت منه حتى وسطته، فكان بيني وبين أبي بكر، وأدخل أصابعه في أصابعي حتى طفنا جميعا، فلما حاذاهم قال أبو جهل: والله لا نصالحك ما بل بحر صوفة؛


#1456#

وأنت تنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا ذلك»، ثم مضى معهم، فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك، حتى إذا كان في الشوط الرابع ناهضوه، ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوبه، فدفعت في صدره فوقع على إسته، ودفع أبو بكر أمية بن خلف، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط، ثم انفرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف، ثم قال لهم: «أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم عقابه عاجلا».

قال عثمان رضي الله عنه: فوالله ما منهم رجل إلا وقد أخذه افكل وهو يرتعد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول:] «بئس القوم أنتم لنبيكم»، ثم انصرف إلى بيته، وتبعناه خلفه حتى انتهى إلى باب بيته، فوقف على السدة، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: «أبشروا، فإن الله عز وجل مظهر دينه ومتم كلمته وناصر نبيه، إن هؤلاء الذي ترون؛ مما يذبح الله بأيديكم عاجلا»، ثم انصرفنا إلى بيوتنا، فوالله لقد رأيتهم قد ذبحهم الله بأيدينا.

قال الدارقطني: هذا حديث غريب من حديث عروة بن الزبير، عن عمرو بن عثمان بن عفان، عن أبيه.

تفرد به عبد الله بن عروة، عن أبيه، ولم يروه عنه غير ابنه سلمة، تفرد عنه ابنه عبد الله.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني يحيى بن عروة، عن الزبير،


#1457#

عن أبيه عروة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عداوته؟

قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ما رأينا مثل صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا.

قال: فبينما هم في ذلك، إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم؛ طائفا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض ما يقول: فعرفت ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم، ثم مضى بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم، ثم مضى، فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: «تسمعون يا معشر قريش، فوالذي نفس محمد بيده؛ لقد جئتكم بالذبح».

فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك؛ ليرفوه بأحسن ما يجد من القول، حتى أنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا.

قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغداة، اجتمعوا في الحجر -وأنا معهم-، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا باداكم بما تكرهون؛ تركتموه؟

فبينما هم في كذلك، طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أرأيت الذي يقول كذا


#1458#

وكذا -لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم-؟

فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، أنا الذي أقول ذلك».

قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه صلى الله عليه وسلم.

قال: وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه دونه يقول وهو يبكي: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟، ثم انصرفوا عنه، فإنه ذلك أشد ما رأيت بلغت منه قط.

حدث به يونس بن بكير في "المغازي"، عن محمد بن إسحاق.

وصح من حديث الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، حدثنا محمد ابن إبراهيم التيمي، حدثني عروة رضي الله عنه قال: سألت عبد الله بن عمر وقلت: حدثني بأشد شيء صنعته المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال: أقبل عقبة بن أبي معيط والنبي صلى الله عليه وسلم عند الكعبة، فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبيه، فدفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أتقتلون {رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم}.

خرجه البخاري.

ورواه محمد بن فليح، عن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

وخرجه النسائي، عن هناد بن السري، عن عبيدة بن سليمان، عن هشام، عن عروة، عن أبيه، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.


#1459#

تابعه سليمان بن بلال، عن هشام، كذلك.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [جاء] جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزين قد خضب بالدماء، ضربه أهل مكة، فقال له: ما لك؟

[قال:] «فعلوا بي هؤلاء وفعلوا».

فقال له جبريل عليه السلام: أتحب أن ترى آية؟

قال: «نعم».

قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال: ادع تلك الشجرة، فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، فقال: مرها أن ترجع، فأمرها فرجعت إلى مكانها.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسبي».

وقال أبو بكر أحمد بن سلميان النجاد: حدثنا عبد الملك بن محمد، حدثنا عبيد الله بن محمد، وأبو ربيعة، وداود بن شبيب قالوا: حدثنا حماد ابن زيد، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بالحجون، فقال: «اللهم أرني آية لا أبالي من كذبني بعدها من قريش».

فقيل له: ادع هذه الشجرة، فدعاها فأقبلت على عروقها فقطعتها، ثم أقبلت تخد الأرض حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالت: ما تشاء؟ ما تريد؟


#1460#

قال: «ارجعي إلى مكانك» فرجعت إلى مكانها، قال صلى الله عليه وسلم: «والله ما أبالي من كذبني من قريش».

ولحديث الشجرة شاهد عن: علي، وابن مسعود، وابن عباس، وبريدة ابن الحصيب، وأسامة بن زيد، وجابر، ويعلى بن مرة رضي الله عنه.

وحدث يونس بن بكير، عن محمد بن أبي حميد المديني، عن محمد ابن المنكدر قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: إن قريشا يتواعدونك ليقتلوك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الصفا حتى وقف عندها، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! إن الله عز وجل أمر السماء أن تطيعك، وأمر الجبال أن تطيعك، فإن أحببت؛ فمر السماء أن تنزل عليهم عذابا منها، وإن أحببت؛ فمر الأرض أن تخسف بهم، وإن أحببت؛ فمر الجبال أن تنضم عليهم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أؤخر عن أمتي، لعل الله أن يتوب عليهم».


#1461#

$مطلب في معاضدة أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونصره ومنعه من المشركين$

وقال أبو محمد إسماعيل بن علي بن يحيى بن بيان الخطبي: حدثنا محمد بن هشام أبو جعفر إملاءا من كتابه سنة أربع وثمانين، حدثنا الحسن ابن علي بن أبي عبيد الله الأودي المدني الفقيه، حدثنا محمد بن صالح، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الكريم الجزري.

قال الحسن بن علي: وحدثناه أيضا عبيد الله بن عمر القرشي، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الكريم الجزري، عن طاووس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

كان للعباس بن عبد المطلب منزل يقال له: المتبوأ، وكان إذا قعد فيه يرى الكعبة، كان عاليا بالحجارة ولا كلس بينهم ولا خلل، فكان عنده محمد صلى الله عليه وسلم، فنزل إليه جبريل عليه السلام فأنبأه، واستنبأه الناس، وقال له أقرئ عمك هذا عن الله السلام، وأعلمه أنه ما كفر منذ عقل وأظهر أمرك، فقد جاء وقتك.

فقال: «يا عم! هذا جبريل أتاني يقرؤك السلام عن الله السلام، ويعلمني إنك ما كفرت منذ عقلت، ويأمرني بإظهار أمري، وقد أنبأني واستنبأني الناس، فما عندك؟».


#1462#

فقال له العباس: يا ابن أخي! أنت تعلم أن قريشا أشد الناس حسدا لولد أبيك، وإن كانت هذه الخصلة؛ كانت الطامة الطماء والداهية العظماء، ورمتنا عن قوس واحد، وانتسفونا نسفا صلتا، ولكن مر بنا إلى عمك أبو طالب، فإنه أكبر أعمامك، ألا ننصرك لا نخذلك ولا نسلمك.

فأتياه، فلما رآهما أبو طالب قال: إن لكما لطية أو خبرا، ما جاء بكما في هذا الوقت؟

فقال له العباس: أجل، هذا محمد ابن أخيك وأخي، أتاه آت من الله عز وجل في هذا الوقت فأنبأه واستنبأه الناس، وقد تعلم أن قريشا أشد الناس حسدا لولد أبيك، وإن كانت هذه الخصلة؛ كانت الطامة الطماء والداهية العظماء، ورمتنا عن قوس واحد، وانتسفونا نسفا صلتا.

فنظر إليه أبو طالب فقال: اخرج يا ابن أخي، والله إنك للرفيع كعبا، والمنيع حربا، والأعلى أبا، والله لا يسلقك لسان إلا سلقته ألسنة حداد، وأخذته أسيف حداد، والله لتذلن لك العرب ذل البهيمة لخاصيها، ولقد كان أبي يقرأ الكتابين جميعا، ولقد قال لي: إن من صلبي لنبيا، ولوددت أني أدركت ذلك الزمان وآمنت به، فمن أدركه من ولدي؛ فليؤمن به، ولولا أن تقول قريش: إن أبا طالب صبأ إلى ابن أخيه؛ لأسلمت.

فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندهما وهو يقول بأعلى صوته: «ومن قال لا إله إلا الله؛ فله الجنة».

فقال العباس: والله لأتبعنه لأنظر ماذا يصنع.

فلما انتصب قدماه في الوادي، إذا رجل مقنعا في رأسه يرميه بالحجارة ويقول: هذا اليتيم الكذاب، لا تقبلوا قوله.


#1463#

فقال العباس: والله لأتبعنه لأعرفن من الرامي، فضربت بيدي على ناصيته فقلت: يا أبا لهب! ترمي محمد؟

فقال: هذا اليتيم يزعم أنه نبي، وإن أبي أخبرني أن من صلبه نبيا، وإني أرجو أن أكون أنا هو، ومن ولدي -وكان يكنى: أبا لهب؛ من تلهب وجهه، كان أحسن أهل مكة وجها، وكان يغطي رأسه [لئلا] يفتن الناس- فقلت: إليك عنه.

فلما انتصف الوادي، إذا خباء مضروب، وإذا شيخ في ظل الخباء يقول: يا محمد! الآن.

فقلت: سبحان الله، سبحان الله، أسمع كلاما ولا أرى أحدا.

فقال: «يا عم! هذا جبريل عليه السلام، الوقت الصلاة»، فقام إلى قربة في ظل الخيمة فحل شناقها، وأدخل في فيه الماء وغسل وجهه وذراعيه، كل ذلك يقول الشيخ: افعل كذا، اصنع كذا، ثم قام مستقبل بيت المقدس، والشيخ بين يديه وهو خلفه والشيخ يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول مثله، وإذا امرأة قد خرجت من الخباء، فعملت بالقربة مثل ما عمل محمد صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت فقامت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا صبي يكاد يبلغ السرة أو ما يبلغها، قد خرج من الخباء، فعمل بالقربة مثل ما عمل محمد صلى الله عليه وسلم، ثم جاء الصبي فقام عن يسار محمد صلى الله عليه وسلم، والمرأة خلفهما، فأخذه محمد صلى الله عليه وسلم فصيره عن يمينه.

فقلت: والله لأعرفن من هذا الصبي ومن المرأة؟!، فضرب بين


#1464#

أيديهم، فإذا الصبي علي بن أبي طالب، والمرأة خديجة بنت خويلد رضي الله عنهما، وذكر الحديث.


#1465#

$مطلب في مشي أشراف قريش إلى أبي طالب بسبب النبي صلى الله عليه وسلم$

قال أبو جعفر أحمد بن محمد البغدادي: حدثنا إبراهيم بن سعد.

وقال أبو الليث سلم بن معاذ: حدثنا أبو داود -يعني سليمان بن سيف- حدثنا سعد -هو ابن بزيع- قالا: قال ابن إسحاق، واللفظ لسعد:

وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب، ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهرا لأمره، لا يؤده عنه شيء، فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبو طالب قد حدب عليه وقام دونه، وأبى إسلامهم إياه؛ مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، منهم: عقبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل ابن هشام، والعاصي بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، أو من شاء منهم.

فقالوا: يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا؛ وإما أن تخلي بيننا وبينه، وإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه؛ فنكفيكه؟

فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه،


#1466#

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله.

ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، وتذاكروا فيه، وحض بعضهم بعضا عليه.

ثم أنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا: يا أبا طالب! إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك في ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتشفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، أو كما قالوا.

ثم انصرفوا، فعظم ذلك على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خذلانه.

وروى ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث: أن قريشا حين قالت لأبي طالب هذه المقالة؛ بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي! إن قومك جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا، فأبقي علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.

قال: فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه.


#1467#

قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله يا عم، ولو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه؛ ما تركته»، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، ثم قام.

[فناداه] أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي.

قال: فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم [فقال له:] اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا.

وأخرج الحاكم في "مستدركه"، والبخاري في "تاريخه الكبير" واللفظ له، من حديث طلحة بن يحيى، عن موسى بن طلحة: أخبرني عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا، فانهه عنا.

فقال: يا عقيل! إيتني بمحمد صلى الله عليه وسلم، فانطلقت إليه فاستخرجته من كنيس –يقول: من بيت صغير- فجاء به في الظهيرة في شدة الحر، فجعل يطلب الفيء من شدة الرمضاء.

فلما أتاهم، قال أبو طالب: إن بني عمك هؤلاء زعموا إنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته [عن] أذاهم.

فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء فقال: «أترون هذه الشمس؟» قال: «ما أنا بأقدر على أن رد ذلك منكم؛ على أن تشتعلوا منها شعلة».

فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخي قط، فارجعوا.


#1468#

وروى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني شيخ من أهل مصر منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما -في قصة طويلة جرت بين المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم-: فلما قام عنهم، قال أبو جهل: يا معشر قريش! إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آلهتنا، وسب آبائنا وتسفيه أحلامنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر، فإذا سجد فضخت به رأسه، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.

فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرا وجلس، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقام يصلي بين الركنين الأسود واليماني، وكان يصلي إلى الشام، وجلست قريش في أنديتها ينظرون. فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه؛ رجع مرعوبا منتقعا لونه، قد يبست يداه على حجره، حتى قذف به من يده.

فقامت إليه رجال من قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟

قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم، فلما قربت منه؛ عرض لي دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط، فهم أن يأكلني.

قال ابن إسحاق: فذكر لي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذاك جبريل عليه السلام، لو دنا مني لأخذه».

قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يحيى بن أبي بكر، حدثنا زائدة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر، عن عبيد الله رضي الله عنه قال: كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر،


#1469#

وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد رضي الله عنهم.

فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله تعالى بعمه أبو طالب، وأما أبو بكر رضي الله عنه فمنعه الله تعالى بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان، فأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد.

تابعه يعقوب بن شيبة في "مسنده"، وأبو بكر، وعثمان ابنا أبي شيبة، عن يحيى بن أبي بكر، نحوه.

وخرجه ابن ماجه، عن أحمد بن سعيد الداري، عن ابن أبي بكر، وقد تفرد به فيما ذكرناه قبل معللا، وعن أبي بكر بن أبي شيبة.

حدث بنحوه ابن حبان في "صحيحه"، وقد صححه الذهبي في "تاريخ الإسلام" فقال: حديث صحيح.

قلت: بل له علة خفيت عليه حتى صححه، وهي: أن يحيى بن أبي بكر يقال عنه: إنه وهم فيه، كما ذكره الدارقطني في "العلل"، وإنما رواه زائدة، عن منصور، عن مجاهد.

قوله: وقد ذكره الدارقطني أنه تفرد به، وقد أخذ هذا الكلام –والله أعلم- مما قاله أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي حين حدث بهذا عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن أبي بكر قال: كان يخطئ في هذا الحديث يحيى بن أبي بكر يقول: عن زائدة، عن عاصم، عن زر، وإنما رواه الناس عن منصور، عن مجاهد.


#1470#

قلت: منهم عمرو بن أبي قيس الكوفي الرازي، حدث به عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد قال: أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وخباب، وصهيب، وبلال، وعمار بن ياسر، وسمية أم عمار رضي الله عنهم.

فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بأبي طالب، وأما أبو بكر رضي الله عنه فمنعه الله بقومه، وأما الآخرون، فأخذهم المشركون فألبسوهم دروع الحديد ثم أقاموهم في الشمس في حر شديد، فأصابهم حر الدروع وحر الشمس حتى تقطعت جلودهم، فخرج أبو جهل لعنه الله من العشي معه الحربة حتى أتى سمية رضي الله عنها فقال لها من الرفث ما شاء الله أن يقول: ثم طعنها في قبلها، فكانت أول شهيدة استشهدت في سبيل الله.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات"، عن جرير، عن منصور، عن مجاهد، بطوله.

وحدث أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي في كتابه "الاستقامة" عن الفريابي، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، فذكره من قوله.

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام الدستوائي، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعمار بن ياسر وأهله رضي الله عنهم وهم يعذبون في الله تعالى فقال: «أبشروا آل ياسر موعدكم الجنة».

من الأفراد.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات"، عن مسلم بن إبراهيم وقال:


#1471#

أخبرنا الفضل بن عنبسة، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن يوسف المكي، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعمار وأبي عمار وأمه رضي الله عنه وهم يتعذبون بالبطحاء فقال: «أبشروا يا آل عمار، فإن موعدكم الجنة».

يوسف هو : ابن ماهك.

وقال ابن سعد: [أخبرنا] مسلم بن إبراهيم، وعمرو بن الهيثم أبو قطن، حدثنا القاسم بن الفضل، حدثنا عمرو بن مرة الجملي، عن سالم بن أبي الجعد، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: أقبلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بيدي نتماشى في البطحاء، حتى أتى على أبي عمار وعمار وأمه وهم يعذبون، فقال ياسر رضي الله عنه: الدهر هكذا؟

فقال صلى الله عليه وسلم: «اصبر، اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعل».

تابعهما أبو سلمة موسى بن إسماعيل، وعبد الله بن بكر، عن القاسم ابن الفضل، بنحوه.

خالفهم معتمر بن سليمان، فرواه عن القاسم بن الفضل الحداني، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمر بعمار بن ياسر وأمه وأبيه رضي الله عنهم يعذبون فقال: «اصبروا يا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة».

خالفه عيسى بن زيد بن علي بن الحسين، فرواه عن الأعمش، عن سالم، لم يذكر عمرا.

وخالفهما سليمان بن قرم الضبي، فحدث به عن الأعمش بن


#1472#

عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن عثمان، فذكره بنحوه وقال: أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا عبيد الله بن عمرو بن عبد الكريم، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر، فلم يتركوه حتى نال من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير.

فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما وراءك؟» قال: شر يا رسول الله، والله ما برحت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير.

قال: «فكيف تجد قلبك؟».

قال: مطمئن بالإيمان.

قال: «فإن عادوا؛ فعد».

وقال عروة بن الزبير، عن بلال رضي الله عنه: كان يعذب حين أسلم ليرجع عن دينه، فما أطاعهم ولا كلمة عما يريدون.

وقال محمد بن عائذ: حدثنا الوليد بن مسلم، عن الوضين بن عطاء قال: كان بلال رضي الله عنه مولدا من مولدي مكة، وكان لعبد الله بن جدعان مئة مملوك مولد، فلما بعث الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم، أمر بهم فأخرجوا من مكة إلا بلالا يرعى عليه غنمه، فدخل يوما الكعبة وقريش في ظهرها لا تعلم، فالتفت بلال فلم ير أحدا، فأتى الأصنام فجعل يبصق عليها ويقول: خاب وخسئ من عبدكن، فطلبته قريش فهرب، حتى عبر دار سيده عبد الله بن جدعان، فاختفى فيها، ونادوا عبد الله بن جدعان فخرج، فقالوا له: أصبوت؟


#1473#

قال: أمثلي يقال له هذا؟، فعلي نحر مئة ناقة للآت والعزى.

قالوا: فإن أسودك صنع كذا وكذا، فدعا به، فالتمسوه.

فقال عبد الله بن جدعان لأبي جهل وأمية بن خلف: شأنكما به فهو لكما، اصنعا به ما أحببتما. فخرجا به إلى البطحاء يبسطانه على رمضائها، ويجعلان رحاءا على كتفه، ويقولان: أكفر بمحمد، [فيقول:]لا، ويوحد الله عز وجل.

فبينما هم كذلك؛ إذ مر بهما أبو بكر رضي الله عنه فقال: ما تريدون بهذا الأسود؟ والله ما تبلغان ثأرا.

فقال أمية بن خلف لأصحابه: ألا ألعبكم بأبي بكر لعبة ما لعبها أحد؟، ثم تضاحك.

فقال: هو على دينك يا أبا بكر، فاشتره منا.

قال: نعم.

قال: أعطني عبدك غطاس -أو نسطاس- عبدا كان لأبي بكر حداد يؤدي خراجه نصف دينار-.

فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن فعلت تفعل؟ قال: نعم، قال: قد فعلت، فتضاحك وقال: لا، حتى تعطيني معه امرأته، قال: إن فعلت [تفعل؟] قال: نعم، قال: قد فعلت، فتضاحك وقال: لا، حتى تزيدني معه مئة دينار.

قال أبو بكر رضي الله عنه: أنت رجل لا تستحي من الكذب.

قال: واللآت والعزى إن أعطيتني لأفعلن.


#1474#

قال أبو بكر رضي الله عنه: هي لك، فأخذه أبو بكر رضي الله عنه.

وقال أبو جعفر الوراق: حدثني إبراهيم بن سعد قال: قال ابن إسحاق: فكان أمية بن خلف بن وهب الجمحي يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول: لا تزال كذلك حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللآت والعزى.

فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد.

حتى مر به أبو بكر الصديق بن أبي قحافة رضي الله عنهما يوما وهم يصنعون به ذلك، [وكانت] دار أبي بكر رضي الله عنه في بني جمح.

فقال لأمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟.

قال: أنت أفسدته، فأنقذه مما ترى.

قال أبو بكر رضي الله عنه: أفعل: عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك، أعطيكه به.

قال: قد قبلت، قال: هو لك.

فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك، وأخذ بلال فأعتقه.

ثم أعتق معه على الإسلام –قبل أن يهاجر من مكة- ست رقاب، بلال سابعهم: عامر بن فهيرة، وأم عبيس، وزنيرة، أصيب بصرها حين أعتقها.

فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللآت والعزى، فقالت: كذبوا ورب البيت، ما تضر اللآت والعزى ولا تنفعان، فرد الله بصرها إليها.


#1475#

وأعتق الهندية وابنتها، جارية من بني المؤمل، وكان هؤلاء يعذبون في الله عز وجل.

وقال أبو الحسن بن محمد الخلال في كتابه "كرامات الأولياء": حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، حدثنا أحمد ابن أبي عبد الرحمن المقري، حدثنا سفيان، عن ابن سعد، عن إبراهيم قال: كانت زنيرة رومية، فلما أسلمت ذهب بصرها.

فقال المشركون: عمتها اللآت والعزى.

فقالت: هي تكفر باللآت والعزى، فرد الله بصرها.

وفي حديث ابن إسحاق السابق: أن أبا بكر رضي الله عنه اشترى بلالا بغلام له أسود.

وقال قيس بن أبي حازم: اشترى أبو بكر بلالا رضي الله عنهما بخمس أواق، وهو مدفون في الحجارة.

رواه سفيان بن عيينة، عن قيس بن أبي حازم قال: ابتاع أبو بكر الصديق بلالا رضي الله عنهما وهو مدفون بالحجارة بخمس أواق، وهي مائتا درهم.

فقالوا حين ابتاعه: لو أبيت إلا أوقية واحدة لبعناكه.

فقال أبو بكر رضي الله عنه: لو أبيتم إلا بمئة أوقية، لأخذته.

ورواه سفيان مرة مطولا.

ورواه عبد العزيز محمد الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، بنحوه، وفي آخره قال: فنزلت في أبي بكر


#1476#

رضي الله عنه قوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى . الذي يؤتى ماله يتزكى} [إلى] آخرها.

وفي رواية: أن أبا بكر اشترى بلالا رضي الله عنهما بسبع أواق فأعتقه، فقالوا له: غبنت.

لما قيل لأبي بكر رضي الله عنه: غبنت، أجابهم بلسان الحال: إنما المغبون من أكل ثمن بلال.

وقال نعيم بن أبي هند: اشتراه وكيل لأبي بكر رضي الله عنه، فحله من الوثاق وجلده أخضر.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عارم بن الفضيل، حدثنا حماد ابن زيد، عن أيوب، عن محمد: أن بلالا رضي الله عنه أخذه أهلوه فقمطوه، وألقوا عليه من البطحاء جلد بقرة، وجعلوا يقولون: ربك اللآت والعزى، ويقول: أحدا أحدا.

فأتى عليه أبو بكر رضي الله عنه فقال: علام تعذبون هذا الإنسان؟

قال: فاشتراه بسبع أواق، فأعتقه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «المشركة يا أبا بكر».

فقال: قد أعتقته يا رسول الله.

وروى أبو موسى عيسى بن حماد، وزغبة، عن الليث بن سعد، عن هشام، عن أبيه قال: مر ورقة بن نوفل على بلال رضي الله عنه وهو يعذب، يلصق ظهره برمضاء البطحاء في الحر وهو يقول: أحد أحد.

فقال: يا بلال! صبرا يا بلال، لم تعذبونه؟، فوالذي نفسي بيده؛ لئن


#1477#

قتلتموه لأتخذنه حنانا.

يقول: لأتمسحن به، كذا فسر في الحديث.

وقال الأزهري فيما حكاه عنه أبو عبيد الهروي: معناه أي: لأتعطفن عليه ولأترحمنه، إنه من أهل الجنة.

وحدث بنحو الحديث: إبراهيم بن سعد، عن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه، فذكره، وفيه قصة أبي بكر في شراء بلال رضي الله عنهما.

وزاد في آخره: قال عمار بن ياسر وهو يذكر بلالا وأصحابه رضي الله عنهم وما كانوا فيه من البلاء، وإعتاق أبي بكر إياه -وكان اسم أبي بكر: عتيقا-:

جزى الله خيرا عن بلال وصحبه ... عتيقا وأخزى فاكها وأبا جهل

عشية هما في بلال بسوء ... ولم يحذروا ما يحذر المرء والعقل

بتوحيده رب الأنام وقوله ... شهدت بأن الله ربي على مهل

فإن تقتلوني فلم أكن ... لأشرك بالرحمن من خيفة القتل

فيا رب إبراهيم والعبد يونس ... وموسى وعيسى نجني ثم [ابتلي]

لمن ظل يهوى الغي من آل غالب ... على غير بر كان منه ولا عدلا

وكان الفاسق أبو جهل هو الذي يغري بالمسلمين في رجال من قريش، إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة؛ أنبه وخزاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنضلن، رأيك


#1478#

ولنضعن شرفك.

وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك.

وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به.

وحدث أسد بن موسى، عن عبد الله بن وهب، حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الأسود قال: أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثماني سنين، وهاجر وهو ابن ثماني عشر سنة، وكان عم الزبير يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار وهو يقول: ارجع إلى الكفر.

فيقول الزبير رضي الله عنه: لا أكفر أبدا.

وحدث إسحاق بن راهويه، عن جرير، عن بيان، عن بشر، عن الشعبي قال: سأل عمر بلالا رضي الله عنهما عما لقي من المشركين.

فقال خباب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! أنظر إلى ظهري.

فقال عمر رضي الله عنه: ما لقيت كاليوم قال رضي الله عنه: أوقدوا لي نارا، فما أطفأها إلا ودك ظهري.

وحدث البكائي: عن ابن إسحاق، حدثني حكيم بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب؛ ما يعذرون به في ترك دينهم؟

قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدا، ويجيعونه، ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولون له: اللآت والعزى إلهك من دون الله، فيقول:


#1479#

نعم، وحتى أن الجعل ليمر بهم فيقولون: هذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداءا منهم مما يبلغون من جهده.

وأخبار المعذبين في الله عز وجل كثيرة.

وحينئذ، أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، وقبل هذه الهجرة كانت [حادثة] انشقاق القمر فيما أعلم.


#1480#

$مطلب في انشقاق القمر$

وطرق حديث انشقاق القمر كثيرة، وهو نص القرآن العظيم. وروي من حديث أنس، وجبير بن مطعم، وحذيفة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم.

أما حديث أنس رضي الله عنه: فثبت من حديث يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه حدثهم: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر.

رواه علي بن الهيثم، حدثنا عبد الوهاب حديث سعيد، عن قتادة، فذكره.

تابعه شعبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خرجه البخاري، عن مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد.

وخرجه مسلم، عن أبي مثنى، حدثنا: غندر، وأبو داود، عن ابن بشار، حدثنا غندر، ويحيى بن سعيد، وأبو داود، كلهم عن شعبة.

ورواه أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن أهل مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم


#1481#

آية؛ فأراهم القمر مرتين انشقاقه.

وكان يذكر هذا الحديث عند تفسير هذه الآية: {اقتربت الساعة وانشق القمر}.

وخرجه مسلم في "صحيحه" عن محمد بن رافع. والترمذي، عن عبد بن حميد قالا: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، بنحوه.

وحدث به النسائي، عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، ومحمد بن ثور، كلاهما عن معمر، به.

ورواه أبو يعلى الموصلي: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا [شيبان]، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية؛ فأراهم انشقاق القمر مرتين.

وهو في "الصحيحين" لشيبان، بنحوه.

وأما حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، فرواه إسحاق بن بهلول ابن حسان أبو يعقوب الأنباري الحافظ قال: حدثنا أبي، عن ورقاء، عن حصين، عن جبير بن محمد بن جبير، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال في قول الله عز وجل: {وانشق القمر} قال: انشق ونحن بمكة.

وخرجه الترمذي فقال: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير، عن حصين، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار فرقتين، على هذا الجبل، وعلى هذا الجبل.


#1482#

فقالوا: سحرنا محمد.

وقال بعضهم: لئن كان سحرنا؛ ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم.

وخرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال: حدثنا أبو سعيد، حدنا ابن فضيل، عن حصين، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه قال: انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الترمذي عقب روايته الحديث: وقد روى بعضهم هذا الحديث عن حصين، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده جبير بن مطعم رضي الله عنه، نحوه. انتهى.

قلت: رواه متابعة لورقاء بن عمر: إبراهيم بن طهمان، وهيثم والمفضل بن يونس، وأبو كدينة يحيى بن المهلب، عن حصين، عن جبير ابن محمد، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه، قيل: وهذا أصح.

وأما حديث حذيفة رضي الله عنه أبو عبد الرحمن السلمي، وغيره بمعنى ما تقدم.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فمتفق عليه من حديث بكر ابن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن القمر انشق في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خرجه البخاري عن يحيى، وعثمان بن صالح، وخلف بن خالد القرشي، وغيرهم، عن بكير بن مضر.


#1483#

تابعه يعقوب بن سفيان، عن يحيى.

وخرجه مسلم، عن موسى بن قريش، عن إسحاق بن بكر بن مضر، عن أبيه، بنحوه.

تابعهم عبد الله بن الحكم المصري، عن بكر.

وزاد عثمان بن صالح في روايته فقال: بلغني أنه كانت فلقة على البيت، وفلقة على أبي قبيس.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، حدثنا داود –يعني ابن أبي هند-، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في هذه الآية: {اقتربت الساعة وانشق القمر} قال: ذاك قد مضى، كان ذلك قبل الهجرة، انشق القمر حتى رأوا شقته.

وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما: فرواه عباس بن محمد، حدثنا أبو العباس وهب بن جرير بن حازم، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما في قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر}.

قال: كان ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، انشق فلقتين، من دون الجبل فلقة، وفلقة من خلف الجبل، فقال: «اللهم اشهد».

وخرجه مسلم فقال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، فذكره.

وقال عقيبه: وحدثنا بشر بن خالد، حدثنا غندر، وحدثنا ابن بشار،


#1484#

حدثنا ابن أبي عدي، كلاهما عن شعبة، به، نحوه.

تابعه خالد بن الحارث، وعلي بن نصر الجهضمي، ويحيى بن سعيد القطان، عن شعبة.

وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه: فخرجه يعقوب بن شيبة بن الصلت في "مسنده" فقال: حدثنا أبو بكر يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن ابن الضحى، عن مسروق، عن عبد الله رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال القوم: هذا سحر سحركموه ابن أبي كبشة، فسألوا السفار الذين عليكم، فإن كانوا رأوا مثل الذي رأيتم فقد صدق، وإلا فهو سحر سحركموه ابن أبي كبشة.

قال: فقدموا السفار فسألوهم، قالوا: نعم، قد رأيناه انشق القمر.

تابعه المعلى بن مهدي أبو يعلى وغيره، عن أبي عوانة.

وحدث به أبو داود الطيالسي في "مسنده"، عن أبي عوانة.

وحدث به يعقوب في "مسنده" أيضا عن سعيد بن سليمان سعدويه، عن جرير بن المغيرة.

تابعهما هيثم، عن مغيرة، بنحوه.

ورواه سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا».


#1485#

خرجه البخاري، ومسلم.

فرواه البخاري، عن علي بن المديني، والحميدي، وصدقه بن الفضل، وغيرهم، عن سفيان.

وخرجه مسلم، عن عمرو الناقد، وزهير بن حرب، عن سفيان.

ورواه عبد الرزاق، عن سفيان.

ولفظه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: رأيت القمر منشقا شقتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم -يعني إلى المدينة- شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء، فقالوا: سحر القمر.

ورواه محمد بن مسلم، ومحمد بن حاتم بن ميمون، وأبو خيثمة، وابن أبي عمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله رضي الله عنه في انشقاق القمر بمكة.

وخرجاه أيضا عن عمر بن حفص: حدثنا أبي، حدثنا الأعمش.

وخرجه البخاري أيضا عن عبدان: حدثنا أبو حمزة السكري، عن مسدد، حدثنا يحيى، عن شعبة، وسفيان.

وهو في "مسند مسدد" رواية أبي خليفة الفضل بن الحباب، عنه، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش.

وخرجه مسلم أيضا، عن أبي بكر -يعني بن أبي شيبة-، وأبي كريب، وإسحاق، عن أبي معاوية، وعن منجاب، حدثنا علي بن مسهر، كلاهما عن الأعمش، عن إبراهيم بن أبي معمر، به.

ورواه أحمد بن المقدام: حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا شعبة، عن


#1486#

سليمان، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله رضي الله عنه قال: انشق القمر على [عهد] رسول الله صلى الله عليه وسلم، شقة فوق الجبل، وشقة يسترها الجبل.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشهد».

تابعه محمد بن جعفر غندر، وعلي بن نصر الجهضمي، ويحيى بن سعيد القطان، عن شعبة.

قال يعقوب بن شيبة في "مسنده": وقد أسند الحديث أبو معمر وجوده. انتهى.

وللحديث طرق إلى ابن مسعود رضي الله عنه غير ما ذكر.

وأما حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: رواه عنه أبو حذيفة سلمة بن صهيبة –وقيل: ابن صهبة، وقيل أصيهبة- الهمداني الأرحبي، ولفظه: انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وذهب بعضهم إلى وقوع انشقاق القمر مرتين، كأنه أخذه من حديث أنس رضي الله عنه: فأراهم انشقاق القمر مرتين، وإنما المراد -والله أعلم- بالمرتين: الشقين.

وجمع طرق الحديث بألفاظها تدل على ذلك، وقد ادعى الإجماع على وقوعه مرتين؛ شيخنا أبو الفضل العراقي، فقال في نظمه للسيرة:

وإذا بغت عنه قريش أن ترى ... إياه أراهم انشقاق القمر

فصار فرقتين فرقة علت ... وفرقة للطود منه نزلت

وذاك مرتين بالإجماع ... والنص والتواتر والسماعي


#1487#

وانشقاق القمر كان والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ولكن اختلفوا في مكان رؤية من رآه، فتقدم من بلاغات عثمان بن صالح: أنه كان فلقة على البيت وفلقة على أبي قبيس.

وفي طريق لحديث ابن مسعود رضي الله عنه: شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء.

ونظرت في "تاريخ مكة" لصاحبنا الحافظ أبي الطيب الحسني؛ فلم أره تعرض لذكر السويداء.

وفي بعض طرق حديث ابن مسعود رضي الله عنه –خرجه مسلم-: أن القمر انشق بمنى.

وجاء: أن نصف القمر كان يرى على قعيقعان، ونصفه الآخر على أبي قبيس.

وجاء في بعض طرقه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ذلك كان ليلة أربع عشرة، فانشق القمر نصفين، [نصف] على الصفا، [ونصف] على المروة، والصفا من أبي قبيس، على ما ذكره جماعة من الأئمة.

وانشقاق القمر كان قبل الهجرة إلى أرض الحبشة، والله أعلم.

ولهذا عقد البخاري ترجمته قبل [هجرة] الحبشة، ثم ذكر بعده هجرة الحبشة، وكانت هجرة الصحابة رضي الله عنهم إلى أرض الحبشة مرتين، وبعثت قريش في شأنهم إلى النجاشي مرتين، الأولى عقيب الهجرة، والثانية عقيب بدر، وكان عمرو بن العصا رسولا في المرتين، وكان معه في المرة الأولى عمارة بن الوليد بن المغيرة، وفي الثانية عبد الله ابن أبي


#1488#

ربيعة المخزوميان.

قال أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي: حدثنا يونس، عن ابن إسحاق، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: لما ضاقت علينا مكة، وأذي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه».

فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار، إلى خير جار، أمنا على ديننا، ولم نخش ظلما.

وحدث به أبو جعفر الوراق، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق من قوله، وفيه: قال ابن إسحاق: فكانت أول الهجرة كانت في الإسلام.

قال: فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا معهم صغار وولدوا بها؛ اثنين وثمانين رجلا؛ إن كان عمار بن ياسر رضي الله عنهما منهم -وهو يشك فيه-.

قلت: عده جماعة وأثبتوه في مهاجر[ي الحبشة]، منهم الحافظ أبو الحجاج المزي في "تهذيبه".

وكانت هجرة الحبشة في أول السنة الخامسة من النبوة، في شهر


#1489#

رجب، [كما] سيأتي إن شاء الله تعالى.

وفي المرة الأولى هاجر من المسلمين اثنا عشر رجلا، وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو أولهم خروجا، ومعه زوجته رقية رضي الله عنها.

قال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا بشار بن موسى الخفاف. وحدثنا الحسن بن زياد البرجمي إمام مسجد محمد بن واسع، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرج عثمان بن عفان رضي الله عنه مهاجرا إلى أرض الحبشة ومعه رقية رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتبس على النبي صلى الله عليه وسلم خبره، فكان يخرج يتوكف أخبراه، فجاءته امرأة فأخبرته.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط عليه السلام».

وحدث به يعقوب الفسوي في "تاريخه" فقال: حدثني العباس بن عبد العظيم، حدثني بشار بن موسى الخفاف، حدثنا الحسن بن زياد البرجمي إمام مسجد محمد بن واسع، حدثنا قتادة قال: أول من هاجر إلى الله بأهله عثمان بن عفان رضي الله عنه.

سمعت النضر بن أنس يقول: سمعت أبا حمزة -يعني أنس بن مالك رضي الله عنه- يقول: خرج عثمان برقية رضي الله عنهما بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة، فأبطأ خبره، فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد! قد رأيت ختنك ومعه امرأته.


#1490#

فقال: «على أي حال رأيتهما؟»

قالت: رأيته قد حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة وهو يسوقها.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صحبهم الله، إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام».

تابعهما يحيى بن أبي طالب، عن بشار بن موسى.

وحدث عبيد الله بن عبد الكريم الرازي فقال: حدثنا سعيد بن محمد الحرمي، حدثنا عثمان بن خالد، حدثني عبد الله بن عمر بن وهب مولى زائد بن ثابت، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان بين عثمان ورقية وبين لوط مهاجر».

تابعه إبراهيم بن سعد، عن عثمان بن خالد العثماني.

وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني، حدثنا أبي، حدثنا ابن لهيعة، عن ابن أبي الأسود، عن عروة رضي الله عنه قال:

وتسمية الذين خرجوا إلى الحبشة المرة الأولى قبل خروج جعفر وأصحابه: عثمان بن مظعون، وعثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وحذيفة بن عتبة بن ربيعة ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو -وولدت له بأرض الحبشة محمد بن أبي حذيفة-، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير أخو بني عبد الدار، وعامر بن ربيعة، وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة، وأبو سبرة بن أبي رهم ومعه أم كلثوم بنت


#1491#

سهيل بن عمرو، وسهيل بن بيضاء رضي الله عنهم، وذكر الحديث.

وفي غير هذه الرواية: أن هؤلاء خرجوا سرا من القوم إلى الساحل.

قال الواقدي: حدثنا يونس بن محمد الظفري، عن أبيه، عن رجل من قومه.

ح قال: وأخبرنا عبيد الله بن العباس الهذلي، عن الحارث بن الفضل قال: فخرجوا متسللين سرا، وكانوا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، حتى انتهوا إلى الشعيبة، منهم الراكب والماشي، ووفق الله عز وجل للمسلمين ساعة جاءت سفينتين للتجار، حملوهم فيها إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مهاجرهم في رجب في السنة الخامسة من حين تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت قريش في آثارهم، فلم يدركوا منها، وذكر بقيته.

حدث به ابن سعد في "الطبقات"، عن محمد بن عمر –هو الواقدي قال: قال محمد بن عمر: كانوا قد خرجوا في رجب سنة خمس، فأقاموا شعبان، وشهر رمضان، وكانت السجدة في رمضان، وقدموا في شوال سنة خمس.

قلت: السجدة كانت سببا لقدومهم، وهو أنه بلغهم أن قريش أسلمت، وكان ذلك لما سجدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ {والنجم}، وسجد معه فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن، ورفع ذلك الشيخ الضال كفا من تراب فسجد عليه وقال: يكفيني هذا، فقتله الله عز وجل كافرا ببدر.


#1492#

فأخبر المهاجرون أن قريشا أسلمت، حين فشا الخبر إلى أرض الحبشة.

فقال المهاجرون: إن عشائرنا أحب إلينا، وقد أسلموا، فخرجوا راجعين، حتى إذا كانوا دون مكة بساعة من نهار؛ لقوا ركبا من كنانة، فسألوهم عن قريش، فأخبروهم أنهم عادوا للنبي صلى الله عليه وسلم بالشر، وتركناهم على ذلك، فأتيمن القوم في الرجوع إلى أرض الحبشة فقالوا: قد بلغنا، فندخل فننظر ما فيه قريش، ويحدث عهدا من أراد بأهله، ثم نرجع.

فدخلوا مكة، فمنهم من دخل بجوار، ومنهم من دخل بغير جوار، فأما الذين دخلوا بجوار، منهم: عثمان بن مظعون رضي الله عنه.


#1493#

$مطلب قصة عثمان بن مظعون رضي الله عنه$

حدث موسى بن عقبة، عن ابن شهاب الزهري قال: كانت الحبشة هجرا لقريش، يجدون فيها رفقا من الرزق وأمانا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بها، فانطلق إليها عامتهم حين قهروا وتخوفوا الفتنة، فخرجوا وأميرهم عثمان بن مظعون رضي الله عنهم، فمكث وأصحابه بأرض الحبشة حتى أنزلت سورة النجم، فكان عثمان وأصحابه رضي الله عنهم فيمن رجع، فلم يستطيعوا [أن] يدخلوا مكة حين بلغهم شدة المشركين على المسلمين إلا بجوار، فأجار الوليد بن المغيرة عثمان بن مظعون رضي الله عنهم.

حدث إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عمن حدثه عن عثمان رضي الله عنه قال: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة فقال: إنما أغدو وأروح في أمان بجوار من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من الأذى والبلاء ما لا يصيبني؛ لنقص كبير في نفسي.

فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال: يا أبا عبد شمس! وفت ذمتك، فقد ردت إليك جوارك.

فقال: لم يا ابن أخي؟ لعله أذاك أحد من قومي؟


#1494#

فقال: لا، ولكن أرضى بجوار الله عز وجل، ولا أريد أن أستجير بغيره.

قال: فانطلق إلى المسجد، فاردد إلي جواري علانية.

قال: فانطلقا، ثم خرجا حتى أتيا المسجد، فقال لهم الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري.

قال: قد صدق، قد [وجدته] وفيا كريم الجوار، ولكن أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره.

ثم انصرف عثمان رضي الله عنه، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر ابن كلاب القيسي في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان رضي الله عنه.

فقال لبيد وهو ينشدهم:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

فقال عثمان رضي الله عنه: صدقت.

وقال:

وكل نعيم لا محالة زائل

فقال عثمان رضي الله عنه: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.

فقال لبيد بن ربيعة: يا معاشر قريش! والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث فيكم هذا؟

فقال رجل من القوم: هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا دينهم، فلا تجدن في نفسك من قوله.


#1495#

فرد عليه عثمان رضي الله عنه حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فحفرها، والوليد بن المغيرة قريبا يرى ما بلغ من عثمان رضي الله عنه.

فقال: أما والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة.

قال: فقال عثمان رضي الله عنه: بلى والله، إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس.

ثم قال:

إن تك عيني في رضا الرب نالها ... يدا ملحد في الدين ليس بمهتدي

فقد عوض الرحمن منها ثوابه ... ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد

فإني وإن قلتم غوي مضلل ... سفيه على دين النبي محمد

أريد بذاك الله والحق ديننا ... على رغم من يبغي علينا ويعتدي

وقال علي بن أبي طالب فيما أصيب من عين عثمان ابن مظعون رضي الله عنهما.

أريد بذاك الله والحق ديننا ... على رغم من يبغي علينا ويعتدي

من تذكر دهر غير مأمون ... أصبحت مكتئبا يبكي كمحزون

أمن تذكر أقوام ذوي سفه ... يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين

لا ينتهوا عن الفحشاء ما سلموا ... والغدر فيهم سبيل غير مأمون


#1496#

ألا ترون أقل الله خيرهم ... إنا غضبنا لعثمان بن مظعون

إذ يظلمون وما يخشون مظلمة ... طعنا دراكا وضربا غير مأمون

فسوف يجزيهم من لم يمت عجلا ... كيلا بكيل جزاء غير مغبون

ورواه عن ابن إسحاق، غير إبراهيم بن سعد.

وأما الذين دخلوا بغير جوار؛ فلقوا من قريش أذى كثير، وكان ممن دخل: عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم، على خلاف فيه، فكان جميع من قدم مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مهاجري الحبشة ثلاثة وثلاثين رجلا، وثماني نسوة، وأقاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم.


#1497#

$مطلب في التكلم في الصلاة$

وبعد قدوم ابن مسعود رضي الله عنه من الحبشة إلى مكة، كانت قصة سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة؛ فلم يرد عليه، فعظم ذلك على ابن مسعود رضي الله عنه، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في الصلاة لشغلا».

حدث محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي؛ سلمنا عليه فلم يرد علينا.

فقلنا: يا رسول الله! كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟

قال: «إن في الصلاة شغلا».

وله طرق منها: ما رواه الحسن بن الصباح الزعفراني: حدثنا سفيان ابن عيينة، عن عاصم بن أبي وائل قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم -يعني وهو في الصلاة- فيرد علينا، حتى أتينا من الحبشة، فلما رجعت سلمت عليه وهو يصلي فلم يرد علي، فأخذني من ذلك ما قرب وما بعد، حتى إذا قضى صلاته أخبرته.

فقال: «أن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء، وأنه قد أحدث أن لا


#1498#

تكلموا في الصلاة».

وخرجه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه"، فقال: أخبرنا أبو خليفة، حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان، حدثنا عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيرد علينا، قبل أن نأتي من أرض الحبشة، فلما رجعنا من عند النجاشي أتيته وهو يصلي، فسلمت عليه، فلم يرد علي السلام، فأخذني ما قرب وما بعد، فجلست أنتظره.

فلما قضى الصلاة، قلت له: يا رسول الله! سلمت عليك وأنت تصلي، فلم ترد السلام؟

فقال: «إن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء، وقد أحدث أن لا يتكلم في الصلاة».

وقال عبد الله بن محمد بن ناجية: حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الأزرمي، حدثنا القاسم بن يزيد الجرمي، حدثنا سفيان، عن الزبير بن عدي، عن كلثوم الخزاعي: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: كنت آتي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فأسلم عليه، فيرد علي السلام.

فأتيته بعد ذلك، فسلمت عليه، فلم يرد علي السلام، فما صلى صلاة أعظم علي منها، فلما سلم أشار بيده إلى القوم، فقال: «إن الله تعالى قد أحدث في الصلاة أن لا تكلموا فيها إلا بذكر الله، وأن تقوموا لله قانتين».

ورواه محمد بن الفضل الطبري، فقال: أخبرنا محمد بن حميد،


#1499#

حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن الزبيري بن عدي، عن كلثوم ابن المعطاف الخزاعي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عودني أن يرد علي السلام، فأتيته ذات يوم، فسلمت عليه فلم يرد علي، وقال: «إن الله تعالى يحدث في أمره ما يشاء، وقد أحدث لكم في هذه الصلاة أن لا يتكلمن أحد إلا بذكر الله، وما ينبغي من تحميده وتمجيده، وقوموا لله قانتين».


#1500#

$مطلب تتمة حديث الهجرة ثانيا$

ثم أذن لهم صلى الله عليه وسلم ثانيا في الهجرة إلى الحبشة، فهاجروا،

قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "التلقيح": فأما الذين هاجروا أول مرة إلى الحبشة فعددهم قليل، فلما رجعوا –يعني بعد قدومهم مكة- لما بلغهم إسلام أهلها، ورأوا الأمر بضده، ولقوا من المشركين أذى، وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ثانيا، فلما رجعوا، خرج معهم عدد كثير. انتهى.

وروي عن أم عبد الله ليلى بنت أبي حثمة بن حذيفة بن غانم العدوية، زوج عامر بن ربيعة رضي الله عنهما أنها قالت: والله إنا لنرتحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجاتنا؛ إذ أقبل عمر رضي الله عنه حتى وقف علي وهو على شركه.

قالت: وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا.

قالت: فقال: إنه للانطلاق يا أم عبد الله؟

قالت: قلت: نعم، والله لنخرجن في أرض الله آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا.

قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أرها، ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا، فجاء عامر من حاجتنا تلك.


#1501#

فقلت له: يا أبا عبد الله! لو رأيت عمرا أنفا، ورقته وحزنه علينا.

قال: أطمعت في إسلامه؟

قالت: قلت: نعم.

قال: لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب.

قالت: يأسا منه لما كان يرى من غلظته وقسوته عن الإسلام.

قال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة، حدثنا إسحاق بن زياد الأيلي، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن إبراهيم، عن أبيه، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الحبشة، شيعه وزوده بهذه الكلمات: «اللهم الطف بي في تيسير كل عسير، فإن تيسير كل عسير عليك يسير، وأسألك اليسر والمعافاة في الدنيا والآخرة».

وذكر الطبراني: أنه لم يروه عن العلاء؛ إلا عبد الرحمن، تفرد به عن أبيه.

قلت: ورواه أحمد بن إسحاق الوزان فقال: حدثنا بشر بن عبد الملك أبو يزيد، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، فذكره.

تابعه محمد بن إبراهيم البوشنجي، عن بشر.

خرجه أبو الحسن الواحدي في كتاب "الدعوات"، [عن البوشنجي] عن بشر، عن عبد الملك. لأن بشر هذا هو ابن معاذ العبدي، وعبد الملك هو: أبو يزيد عبد الملك بن مروان الكوفي.


#1502#

أخبرنا أبي هريرة عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الذهبي، قراءة عليه وأنا أسمع يوم السبت العاشر من المحرم سنة تسع وتسعين وتسع مئة بجامع كفر بطنا من غوطة دمشق، أخبرنا القاسم بن مظفر، عن أبي صالح نصر بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي، وأبي محمد إبراهيم بن الخير، وقيصر بن فيروز البواب، وقمر بن هلال البغدادي، أن أبا العباس أحمد بن إبراهيم الحسين بن علي بن قريش أخبرهم، أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر القزويني، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان، أخبرنا أبو ذر القاسم بن داود، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد القرشي، حدثني بشر بن معاذ العبدي، حدثنا أبو يزيد عبد الملك بن مروان الكوفي -وأثنى عليه-، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر إلى الحبشة قال: «ألا أزودك بكلمات».

قال: بلى، قال: «اللهم الطف بي في تيسير كل عسير، فإن تيسير كل العسير عليك يسير، وأسألك الستر والمعافاة في الدنيا والآخرة».

وحدث به أبو الشيخ الأصبهاني، عن إسحاق بن إبراهيم، حدثنا أبي، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن، فذكره.

وكان المهاجرون إلى الحبشة –سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم، والذين ولدوا بالحبشة، ثلاثة وثمانين رجلا –إن عد عمار رضي الله عنه منهم-، وثماني عشر امرأة، وهذه هي الهجرة الثانية، وأقاموا عند النجاشي رضي الله عنه على أحسن حال في أطيب جوار.


#1503#

واسم النجاشي الذي هاجر المسلمون إلى بلده وأقاموا عنده: أصحمة بن بجري، وقيل: ابن أبجر، وقيل اسمه: لأصحمة، وقيل: صحمة.

وروى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: وكان اسم النجاشي: مصحمة، وهو بالعربية: عطية. انتهى.

وقيل: مكحول بن صصة.

النجاشي: يقال لمن ملك الحبشة، وتقدم.

قال أبو عبد الله ابن القيم رحمه الله وإيانا: قد ذكر في هذه الهجرة الثانية عثمان بن عفان وجماعة ممن شهد بدرا رضي الله عنهم، فإما أن يكون هذا وهما، وإما أن يكون لهم قدمة أخرى قبل بدر، وقدمة عام خيبر.

وكذلك قال ابن سعد، وغيره: أنهم لما سمعوا بمهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، رجع منهم ثلاثة وثمانون رجلا، ومن النساء ثماني، ومات منهم رجلان بمكة، وحبس بمكة سبعة نفر، وشهد بدرا منهم أربعة وعشرون رجلا، ثم ذكر مقدمهم في شهر ربيع الأول سنة سبع من الهجرة.

وقال: وعلى هذا؛ فيزول الإشكال الذي بين حديث ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم رضي الله عنهما: كنا نقوم في الصلاة فيكلم الرجل جليسه حتى نزلت: {وقوموا لله قانتين}، حتى أمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام.

وزيد بن أرقم رضي الله عنه من الأنصار، والسورة مدنية.


#1504#

قال: ويكون ابن مسعود رضي الله عنه قدم في المرة الوسطى بعد الهجرة قبل بدر إلى المدينة، وسلم عليه حينئذ فلم يرد عليه، وكان العهد حديثا بتحريم الكلام، كما قال زيد بن أرقم رضي الله عنه، ويكون تحريم الكلام بالمدينة لا بمكة، وهذا أنسب بالنسخ الذي وقع في الصلاة والتغيير يجعلها أربعا، وإن كانت ركعتين، ووجوب الاجتماع لها انتهى. وفيه نظر.

والصحيح: أن نسخ الكلام بمكة ورد مصرحا به في بعض طرق حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه مر على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة.

قال: فوجدته يصلي في فناء الكعبة، الحديث.

ذكره الإمام أبو عبد الله الشافعي رضي الله عنه.

قال ابن حبان في "صحيحه": هذه اللفظة عن زيد بن أرقم: "كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم أحدنا صاحبه في الصلاة"، قد يوهم عالما من الناس أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة، لأن زيد بن أرقم من الأنصار، وليس كذلك، لأن نسخ الكلام في الصلاة كان بمكة عند رجوع ابن مسعود وأصحابه رضي الله عنهم من أرض الحبشة، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين.

ولخبر ابن أرقم رضي الله عنه معنيان:

أحدهم: أنه المحتمل أن زيد بن أرقم رضي الله عنه حكى إسلام الأنصار قبل قدوم المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة، حيث كان مصعب بن عمير رضي الله عنه يعلمهم القرآن وأحكام الدين، وحينئذ كان


#1505#

الكلام مباحا في الصلاة بمكة والمدينة سواء، وكان بالمدينة من أسلم من الأنصار قبل قدوم المصطفى صلى الله عليه وسلم، يكلم أحدهم صاحبه في الصلاة قبل نسخ الكلام فيها، فحكاه زيد بن أرقم رضي الله عنه عن صلاتهم في تلك الأيام، لأن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة.

والمعنى الثاني: أنه أراد بهذه اللفظة الأنصار وغيرهم الذين كانوا يفعلون ذلك قبل نسخ الكلام في الصلاة، كما يقول القائل في لغة: فعلنا كذا، يريد به بعض القوم الذين فعلوا، لا الكل.

وذكر أيضا: أن زيد بن أرقم رضي الله عنه كان من الأنصار، من الذين أسلموا بالمدينة وصلوا بها قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إليها، فكانوا يصلون بالمدينة كما يصلي المسلمون بمكة في إباحة الكلام في الصلاة لهم، فلما نسخ ذلك بمكة، نسخ كذلك بالمدينة، فحكى زيد رضي الله عنه ما كانوا عليه، لأن زيدا حكى ما لم يشهده.

وقال موسى بن عقبة في "المغازي": وخرج جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فرارا بدينه إلى الحبشة، فبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة، وأمروهما أن يسرعا، ففعلا، وأهدوا للنجاشي فرسا وجبة ديباج، وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا، فقبل النجاشي هديتهم، وأجلس عمرو بن العاص على سريره فقال: إن بأرضك رجالا منا سفهاء، ليسوا على دينكم ولا على ديننا، فادفعهم إلينا.

فقال: حتى أكلمهم، وأعلم على أي شيء هم.

فقال عمرو: هم أصحاب الرجل الذي خرج فينا، وأنهم لا يشهدون أن عيسى ابن الله، ولا يسجدون لك إذا دخلوا.


#1506#

فأرسل النجاشي إلى جعفر وأصحابه، فلم يسجد له جعفر ولا أصحابه، وحيوه بالسلام.

فقال عمرو: ألم نخبرك خبر القوم؟

فقال النجاشي: حدثوني أيها الرهط، ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتاني من قومكم؟، وأخبروني ما تقولون في عيسى، وما دينكم؟ أنصارى أنتم؟ قالوا: لا.

قال: أفيهود أنتم؟ قالوا: لا.

قال: فعلى دين قومكم؟ قالوا: لا.

قال: ما دينكم؟ قالوا: الإسلام.

قال: فما الإسلام؟ قالوا: تعبد الله وحده لا تشرك به شيئا.

قال: ومن جاءكم بهذا؟

قالوا: جاءنا رجل منا قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله تعالى إلينا كما بعث الرسل إلى من كان قبلنا، فأمرنا بالبر الصدق والوفاء والأمانة، ونهانا أن نعبد الأوثان، وأمرنا أن نعبد الله، فصدقنا وعرفنا كلام الله، فعادانا قومنا وعادوه، وكذبوه، وأرادونا على عبادة الأصنام، ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا.

فقال النجاشي: إن خرج هذا الأمر إلا من المشكاة الذي خرج منها أمر عيسى.

قالوا: وأما التحية، فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام، فحييناك بها، وأما عيسى، فهو عبد الله ورسوله،


#1507#

وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وابن العذراء البتول.

فخفض النجاشي يده إلى الأرض وأخذ عودا وقال: والله ما زاد عيسى على هذا وزن هذا العود.

فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعت هذا الحبشة؛ ليخلعنك.

فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا، وما أطاع الله في حين رد إلي ملكي، فأنا أطيع الناس في دين الله؟ معاذ الله من ذلك.

وكان أبو النجاشي ملك الحبشة، فمات والنجاشي صبي، فأوصى إلى أخيه: إن إليك ملك قومك حتى يبلغ ابني، فإذا بلغ فله الملك.

فرغب أخوه في الملك، فباع النجاشي لتاجر وبادر بإخراجه إلى السفينة، فأخذ الله عمه فعصا فمات، فجاءت الحبشة بالتاج إلى النجاشي وملكوه عليهم، وزعموا أن التاجر قال: مالي بد من غلامي أو مالي.

قال النجاشي: صدق، ادفعوا إليه ماله.

فقال النجاشي حين كلمه جعفر: ردوا إلى هذا هديته –يعني عمرو-، والله لو رشوني على هذا دبر ذهب -والدبر بلغته: الجبل- ما قبلته.

وقال لجعفر وأصحابه: امكثوا آمنين. وأمر لهم بما يصلح لهم من الرزق، وألقى الله العداوة بين عمرو وعمارة بن الوليد في مسيرهما، فمكر به عمرو وقال: إنك رجل جميل، فاذهب إلى امرأة النجاشي فتكلم عندها إذا خرج زوجها، فإن ذلك عونا لنا في حاجتنا.

فراسلها عمارة حتى دخل عليها، فلما دخل عليها، انطلق عمرو إلى النجاشي فقال: إن صاحبي هذا صاحب نساء، وأنه يريد أهلك، فاعلم


#1508#

علم ذلك.

فبعث النجاشي، فإذا عمارة عند امرأته، فأمر به فنفخ في إحليله بسحرة، ثم ألقي في جزيرة البحر، فجن وصار مع الوحش، ورجع عمرو خائبا السعي.

عمارة هو أخو خالد بن الوليد، مات في خلافة عمر رضي الله عنه.

قال الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر، عن أبي عون قال: لما كان من أمر عمرو بن العاص ما كان بالحبشة، وصنع النجاشي بعمارة بن الوليد ما صنع، وأمر السحرة فنفخن إحليله فهام مع الوحش، خرج إليه في خلافة عمر رضي الله عنه عبد الله بن أبي ربيعة ابن عمه، فرصده على ماء بأرض الحبشة، وكان يرده، فأقبل في حمر الوحش، فلما وجد ريح الإنس هرب، حتى إذا أجهده العطش ورد فشرب.

قال عبد الله: فالتزمته، فجعل يقول: يا بحير! أرسلني إني أموت إن أمسكوني، وكان عبد الله يسمى: بحيرا، قال: فضبطته فمات في يدي مكانه، فواريته ثم انصرفت، وكان شعره قد غطى كل شيء منه.

وحدث أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن خديج بن معاوية، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن ثمانون رجلا، ومعنا جعفر وعثمان ابن مظعون، وبعثت قريش عمارة، وعمرو بن العاص، وبعثوا معهما بهدية إلى النجاشي، وساق القصة بنحوها.

وفيه: أن النجاشي قال لجعفر وأصحابه: فمرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، وأنا أشهد أنه نبي، ولوددت أني عنده فأحمل نعليه، أو قال:


#1509#

فأخدمه، فانزلوا حيث شئتم من أرضي، فجاء ابن مسعود رضي الله عنه فشهد بدرا.

وقال المخلص: حدثنا البغوي، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان، أخبرنا أسد بن عمر البجلي، عن مجالد، عن الشعبي، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه رضي الله عنه قال: بعثت قريش عمرو وعمارة بهدية إلى النجاشي ليؤذوا المهاجرين، وساق الحديث، يعني ما تقدم.

وفيه: فقال النجاشي لعمرو وعمارة: أعبيد هم لكم؟ قالوا: لا.

قال: فلكم عليهم دين؟ قالوا: لا.

قال: فخلوهم، وذكر بقيته.

وفيه: قال جعفر رضي الله عنه: فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر؛ أخبرناه، قال: فزودنا وحملنا، ثم قال: أخبر صاحبك بما صنعت إليكم، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وقل له يستغفر لي.

[قال:] فأتينا المدينة، فتلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتنقني وقال: «ما أدري أنا بقدوم جعفر أفرح، أم بفتح خيبر؟»، وقال: «اللهم اغفر للنجاشي» ثلاث مرات، وقال المسلمون: آمين.

وخرج الإمام أحمد في "مسنده"، وابن سعد في "طبقاته"، وأبو نعيم في "حليته"، وأبو جعفر الوراق في "مغازيه"، واللفظ لأحمد قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن مسلم عبد الله بن شهاب الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة بنت أبي أمية ابن المغيرة


#1510#

زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها أنها قالت:

لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها حين جاورنا النجاشي، أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا، ائتمروا أن يبعثوا للنجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا له هدايا مما يستظرف من هدايا مكة، وكان أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم، فجعلوا له أدما كثيرة، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهم أمرهم.

وفي حديث أبي جعفر الوراق قال: وقال أبو طالب أيضا –يعني حين رأى قريش وما بعثوا فيه- أبياتا للنجاشي يحضه على حسن جوارهم والدفع عنهم:

تعلم خير الناس أن محمدا ... وزير لموسى والمسيح ابن مريم

أتى يهدي مثل الذي أتيا به ... فكل بأمر الله يهدي ويعصم

وإنكم تتلونه في كتابكم ... بصدق لا حديث الترجم

وإنك ما تأتيك منا عصابة ... لفضلك إلا أرجعوا بالتكرم

زاد بعضهم:

فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا ... فإن طريق الحق ليس بمظلم


#1511#

رجع إلى رواية أحمد قال: وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق بهديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدما على النجاشي هديته، ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.

قال: فخرجا حتى قدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريقا إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: قد صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا فيهم إلى الملك أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم ليردوهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوه فيهم.

وفي رواية الوراق: فقالت البطارقة: نعم، ولما قدما للنجاشي هديته قبلها، ثم كلماه وقالا ذلك القول له.

رجع إلى رواية أحمد –ولم يكن شيئا أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة، أو عمرو بن العاص من أن سمع النجاشي كلامنا، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم [أعلى] بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.

قالت: فغضب النجاشي ثم قال: لاهيم الله أيم إذن لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد قوما جاوروني ونزلوا في بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان؛ سلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك؛ منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.


#1512#

قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟

قالوا: نقول والله ما علمنا، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، كائنا في ذلك ما هو كائن.

فلما جاؤه –زاد أبو جعفر، وأبو نعيم في روايتهما-: وقد دعا النجاشي أساقفته ومعهم مصاحفهم، -وعند أبي جعفر-: فنشروا مصاحفهم حوله، فسألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الأمم؟

قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: أيها الملك! كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيئ الجوار، ويأكل القومي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصوم.

قالت: فعدد عليه أمور الإسلام.

قال: فصدقنا وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وحللنا ما أحل لنا؛ فعدا علينا قومنا


#1513#

فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا –وفي رواية أبي جعفر-: وضيقوا علينا- وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك أن لا نظلم عندك أيها الملك.

قالت: فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله عز وجل شيء؟.

قالت: فقال له جعفر: نعم.

فقال النجاشي: اقرأه علي. فقرأ عليه صدر من سورة مريم: {كهيعص . ذكر رحمت ربك عبده زكريا . إذ نادى ربه نداء خفيا} إلى قوله تعالى: {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون}.

قالت أم سلمة رضي الله عنها: فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم.

ثم قال النجاشي: هذا والذي جاء به موسى؛ ليخرج من مشكاة واحدة.

ثم قال لعبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص: لآتينه غدا؛ فأعيبهم عنده بما استأصل به خضراءهم.

قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أتقى الرجلين فينا-: لا تفعل، فإن لهم أرحاما وإن خالفونا.

قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون عيسى بن مريم عبدا.


#1514#

ثم غدا عليه الغداة فقال: أيها الملك! أنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسألهم. قالت: فقلم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟

قالوا: والله نقول ما قال الله عز وجل فيه، وما جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، كائنا في ذلك ما هو كائن.

فلما دخلوا عليه: زاد في رواية جعفر: وحوله الأساقفة قد نشروا أناجيلهم.

رجع إلى رواية أحمد: فقال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟

فقال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو عبد الله، نشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

زاد في رواية أبي جعفر: فبكت الأساقفة حتى أخضلوا مصاحفهم بالدموع.

وفي رواية أحمد: قالت: فضرب النجاشي بيده الأرض فأخذ عودا فقال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود. فتناخرت بطارقته حين قال ما قال، فقال: وأن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي –والسيوم: الآمنين-، من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دبرا ذهبا؛ وأني آذيت رجل منكم.

والدبر بلسان الحبشة: [الجبل].

ردوا عليهما هداياهما، فوالله ما أخذ الله الرشوة مني حين رد علي


#1515#

ملكي؛ فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في حتى أطيعهم فيه.

قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار، مع خير جار.

قالت: والله إنا لعلى ذلك؛ إذ نزل به –يعني من ينازعه في ملكه-.

قالت: والله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك، تخوفنا أن يظهر ذلك على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان للنجاشي يعرف منه.

قالت: فسار النجاشي وبينهما عرض النيل.

قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم، ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: الزبير بن العوام رضي الله عنه: أنا.

قالت: فقال: وكان من أحدث القوم سنا.

قالت: فنفخنا له قربة فجعلناها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها القوم وملتقاهم، ثم انطلق حتى حضرهم.

قالت: ودعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكن له في بلاده.

قالت: فوالله إنا على ذلك متوقعين لما هو كائن، إذ طلع الزبير يسعى ويليح بثوبه ويقول: ألا أبشروا، قد ظهر النجاشي، وقد أهلك الله عدوه، فوالله ما علمت فرحنا فرحة مثلها قط.

قالت: فرجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده،


#1516#

واستوثق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل؛ حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تابعه يونس بن بكير، وغيره، عن ابن إسحاق.

ورواه جرير بن حازم في "المغازي"، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن أبي بكير بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن عبد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عروة بن الزبير، وصل الحديث عن أبي بكر، عن أم سلمة رضي الله عنها، فذكره بنحوه.

هكذا وصله ابن إسحاق، ورواه عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن أبي بكر، وعروة، وعبيد الله، عن أم سلمة رضي الله عنها، موصولا.

ورواه معمر، ويونس وغيرهما، عن الزهري مرسلا.

وجاءت هذه القصة بطولها من طريق راشد بن عمرو، عن مجالد، عن الشعبي، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه.

ومن طريق محمد بن زكريا الغلابي: حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى أرض النجاشي، فبلغ ذلك قريشا، فبعثوا عمرو بن العاص، وعمارة ابن الوليد، وذكر القصة بنحوها.

وخرجها أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال: حدثنا ابن معمر، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق،


#1517#

عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى أرض النجاشي، وذكر القصة بنحوها.

ورواهما ابن السابوري، عن عثمان بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، بطولها.

ورويت عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

قال محمد بن بشار: حدثنا معاذ بن معاذ، حدثنا عون بن عمير بن إسحاق، حدثنا عمرو بن العاص قال: انطلقنا، فلما أتينا الباب –يعني باب النجاشي- ناديت: ائذن لعمرو بن العاص، فنادى جعفر من خلفي: ائذن لحزب الله، فسمع صوته فأذن له قبلي، ودخلت فإذا النجاشي قاعد على سرير، وجعفر قاعد بين يديه وحوله أصحابه على الوسائد، فلما رأيت مقعده حسدته، فقعدت بينه وبين السرير، فجعلته خلف ظهري، وأقعدت بين كل رجلين من أصحابه رجلا من أصحابي.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا حسن بن موسى: سمعت خديجا أخو زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن ثمانين رجلا فيهم: عبد الله بن مسعود، وجعفر بن [أبي طالب، و] عبد الله ابن عرفطة، وعثمان بن مظعون، وأبو موسى، فأتوا النجاشي، وبعثت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إن نفرا من بني عمنا نزلوا بأرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا.


#1518#

قال: فأين هم؟

قالا: في أرضك، فبعث إليهم.

فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه، فسلم ولم يسجد.

فقالوا له: مالك لا تسجد للملك؟

فقال: إنا لا أسجد إلا لله تعالى.

قال: وما ذاك؟ قال: إن الله عز وجل بعث إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم وأمرنا أن لا نسجد إلا لله، وأمرنا بالصلاة والزكاة.

قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم وأمه.

قال: نقول كما قال الله عز وجل، هو كلمة الله، وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر، ولم يعترضها ولد.

قال: فرفع عودا من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان! والله ما يزيدون عن الذي يقول فيه ما سوى هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، وأشهد أنه رسول الله حقا، فإنه الذي نجد في الإنجيل، وإنه الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم، أنزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك؛ لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضيه؛ وأمر بهدية الآخرين؛ فردت إليهم.

ثم تعجل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حتى أدرك بدرا، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته.

قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم: أن فتية من الحبشة قد رأوا رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي


#1519#

عنها، وهي هناك مع زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكانت فيما يقال: أجمل وأحسن البشر، فكانوا يختلفون إليها ويدخلون ويدعون لها إذا رأوها عجبا منها، حتى أذاها ذلك من أمرهم، وهم يتقون أن يؤذوا أحدا منهم للغربة، ولما رأوا من حسن جوارهم.

فلما سار النجاشي إلى عدوه ذلك، ساروا معه، فقتلهم الله جميعا لم يفلت منهم أحد.

وروي عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه رضي الله عنه: لما نزل بالنجاشي عدوه من أرضه، جاءه المهاجرون فقالوا: إنا نحب [أن] نخرج إليهم فنقاتل معك، وترى حربنا، ونجزيك بما صنعت لنا.

فقال: ذو ينصره الله، خير من الذي ينصره الناس، فأبى ذلك عليهم.

قال ابن إسحاق: وحدثني جعفر بن محمد، عن أبيه قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: فارقت ديننا، وخرجوا عليه.

فأرسل إلى جعفر وأصحابه، فهيأ لهم سفنا فقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت، فامضوا حتى تلحقوا بحيث ما شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا، ثم عهد إلى كتاب فكتب فيه وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم عمد إلى قبائه فجعله عند منكبه الأيمن، وخرج إلى الحبشة، وصفوا له.

فقال: يا معاشر الحبشة! ألست أحق الناس بكم؟

قالوا: بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة.


#1520#

قال: فما لكم؟

قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبد الله.

قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟

قالوا: نقول، هو ابن الله.

فقال النجاشي: ووضع يده على صدره على قبائه وهو يشهد أن عيسى –لم يرد على هذا شيئا، وإنما يعني على ما كتب-، فرضوا وانصرفوا.

فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشي، صلى عليه واستغفر له.

وحدث بالقصة محمد بن عائذ، عن محمد بن شعيب بن سابور، حدثنا عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الحبشة مع زوجته، وخرج معه جماعة من الصحابة مع نسائهم، فبعثت قريش جماعة من الكفار في آثارهم، وساق الحديث بنحوه.

وفي آخرها: لما أرادوا الخروج قال جعفر: حملنا ورفدنا وأعطانا، ثم قال: أخبروا صاحبكم بما صنعت إليكم، وهذا رسولي معكم، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنه رسول الله.


#1521#

$مطلب في ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي وجواب النجاشي$

وقال الحافظ أبو موسى المديني في كتابه "المستفاد بالنظر والكناية في معرفة زيادة الصحابة": وذكر أبو القاسم إسماعيل رحمه الله تعالى في "المغازي" عمن ذكر أن السنة السابعة كتب فيها رسول الله الكتب إلى الملوك، وبعث إليهم الرسل يدعوهم إلى الله عز وجل، فقيل: إنهم لا يقرؤون كتابا إلا بخاتم، فاتخذ خاتما من فضة نقشه: محمد رسول الله، يختم به الصحف.

وبعث عمرو بن أمية رضي الله عنه إلى النجاشي أصحمة بن بجري، وكتب إليه صلى الله عليه وسلم: «فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه، ونفخ فيه، كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفر ومعه نفر من المسلمين، فدع التجبر واقبل نصحي، والسلام على من اتبع الهدى».

فسر النجاشي الكتاب وكتب جوابه: بسم الله الرحمن الرحيم. سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته الذي لا إله إلا هو، الذي هداني إلى الإسلام، أما بعد: أتاني كتابك فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء


#1522#

والأرض إن عيسى لا يزيد على ما قلت نفروقا، وأنه كما قلت، ولقد عرفنا ما بعثت به إلينا، ولقد قربنا ابن عمك وأصحابك، وأشهد إنك رسول الله صادقا مصدوقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يده لله رب العالمين، وبعثت إليك بابني أرمي الأصحم، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن أتيتك يا رسول الله فعلت، فإني أشهد أن ما تقوله حق، والسلام عليك يا رسول الله.

فخرج ابنه في ستين نفسا من الحبشة في سفينة في البحر، فلما توسطوا البحر؛ غرقوا كلهم.

قال ابن إسحاق: وكان مما قيل من الشعر في الحبشة: ان عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم، حين أمنوا بأرض الحبشة وحمدوا جوار النجاشي، وعبدوا الله لا يخافون على ذلك أحدا، وقد أحسن النجاشي جوارهم حين نزلوا به فقال:

يا راكبا بلغن عني مغلغلة ... من كان يرجو بلاغ الله والدين

كل امرء من عباد الله مصطهر ... ببطن مكة مقهور ومفتون

أنا وجدنا بلاد الله واسعة ... تنجي من الذل والمخزاة والهون

فلا تقيموا على ذل الحياة وخزي ... في الممات وعتب غير مأمون

أنا تبعنا رسول الله واطرحوا ... قول النبي وغالوا في الموازين

فاجعل عذابك في القوم الذين بغوا ... وعائذ بك أن يعلوا فيعلون

وذكر من الشعر غير ذلك.


#1523#

$مطلب في إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه$

ومما قيل في أمر الهجرة إلى الحبشة: وفي غيبة مهاجري الحبشة أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب»، فاستجاب الله عز وجل له صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه.

قال أحمد بن عبد الجبار العطاردي: حدثنا يونس بن بكير، عن النضر ابن أبي عمر الجزار، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أعز الإسلام بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب»، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم في المسجد ظاهرا.

وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه: حدثنا محمد بن عبيد أبو عبيد المديني، حدثنا عبد الملك بن الماجشون، حدثنا الزنجي ابن خالد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب»، خاصة.

ورواه أبو عبد الله محمد بن أحمد المالكي القاضي، حدثنا الحسين ابن إسحاق، حدثنا أبو علقة عبد الله بن عيسى الفروي، حدثنا عبد الملك ابن الماجشون، فذكره.


#1524#

وخرجه أبو الحسن محمد بن حامد بن السري بن محمد بن عبد الله ابن مسلم بن سلمان -المعروف بخال ولد السني- في كتابه "السنة" فقال: حدثنا جعفر بن محمد بن فضل الراسبي، حدثني عبد الملك بن الماجشون، فذكره بمثله.

ورواه عبد العزيز الأويسي عن الماجشون، فذكره.

وروى مبارك بن فضالة، عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن ابن عباس رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم [قال:] «اللهم أعز الدين بعمر».

وقال أبو بكر محمد بن جعفر العسكري: حدثنا علي بن حرب، حدثنا القاسم بن يزيد، حدثنا المسعودي، عن القاسم، عن أبي وائل، عن عبد الله رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أيد الإسلام بعمر».

وقد ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر رضي الله عنه.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث أبي نعيم، حدثنا مسعر، عن القاسم قال: قال عبد الله بن مسعود: إن كان إسلام عمر لفتحا، وهجرته لنصرا، وإمارته لرحمة، والله ما استطعنا أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر رضي الله عنه، فلما أسلم عمر رضي الله عنه؛ قاتلهم حتى تركونا فصلينا.

ورواه أيضا من حديث أبي نعيم: حدثنا المسعودي، عن القاسم بنحوه.


#1525#

تابعه يونس بن بكير، فحدث به في "المغازي" عن عبد الرحمن بن عبد الله، هو المسعودي.

وحدث أيضا من حديث عبد الحميد الحماني، عن النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال القوم: انتصف القوم منا.

وروى يونس بن عبيد عن الحسن قال: لقد فرح أهل السماء بإسلام عمر رضي الله عنه.

ورواه أبو عبد الله بن ماجه فقال: حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحي، أخبرنا عبد الله بن خراش، عن العوام بن حوشب، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أسلم عمر رضي الله عنه، نزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر رضي الله عنه.

ورواه عبد الله بن محمد البغوي: حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثنا عبد الله بن خراش، فذكره.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا عبدان –يعني ابن أحمد-، حدثنا زيد بن الحريش، حدثنا عبد الله، عن العوام، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، مثله.

وقال خيثمة بن سليمان: أخبرنا محمد بن عوف بن سفيان الطائي، قال: قراءة على إسحاق بن إبراهيم الجندي قال: ذكر أسامة بن زيد، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه أسلم قال: قال لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أتحبون أن أعلمكم كيف كان بدء إسلامي؟


#1526#

قلنا: نعم.

قال: كنت من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا أنا في يوم حار شديد الحر بالهاجرة في بعض طرق مكة، إذ لقيني رجل من بعض قريش فقال: أين تذهب يا ابن الخطاب؟ إنك تزعم هكذا وقد دخل عليك الأمر في بيتك؟

قال: قلت: وما ذاك؟

قال: أختك قد صبأت.

قال: فرجعت مغضبا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين إذا أسلم عنده الرجل به قوة، فيكونان معه يصيبان من طعامه.

قال: وقد ظهر إلى زوج أختي الرجلين.

قال: فجئت حتى قرعت الباب فقيل: من هذا؟ قلت: عمر بن الخطاب.

قال: وكان القوم جلوسا يقرؤون صحيفة معهم، فلما سمعوا صوتي؛ تبادروا واختفوا، وتركوا ونسوا الصحيفة بين أيديهم.

قال: فقامت المرأة ففتحت لي الباب، قال: فقلت لها: يا عدوة نفسها، قد بلغني إنك قد صبوت.

قال: فأرفع شيئا في يدي فأضربها به، فسال الدم.

قال: فلما رأت المرأة الدم بكت ثم قالت: يا ابن الخطاب! ما كنت فاعلا فافعل، فقد أسلمت.


#1527#

قال: فدخلت وأنا مغضب فجلست على السرير، فنظرت فإذا بكتاب في ناحية البيت فقلت: ما هذا الكتاب؟ أعطنيه.

فقالت: لا أعطيك، لست من أهله، أنت لا تغتسل من الجنابة ولا تطهر، وهذا لا يمسه إلا المطهرون.

فلم أزل بها حتى أعطتنيه، فإذا فيه: {بسم الله الرحمن الرحيم} ولما مررت بـ {الرحمن الرحيم} ذعرت ورميت الصحيفة من يدي.

قال: ثم رجعت إلى نفسي –يعني- فأخذتها فإذا فيها: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم} وكلما مررت بالاسم من أسماء الله عز وجل ذعرت، ثم ترجع إلي نفسي، حتى بلغت: {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} إلى قوله: {إن كنتم مؤمنين} قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.

قال: فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوه مني، وحمدوا الله عز وجل، ثم قالوا: يا ابن الخطاب! أبشر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يوم الاثنين فقال: «اللهم أعز الإسلام بأحد الرجلين، إما أبو جهل بن هشام، وإما عمر بن الخطاب»، وأنا نرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك فأبشر.

فلما عرفوا مني الصدق، قلت لهم: أخبروني بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟


#1528#

قالوا: هو في بيت أسفل الصفا، وصفوه.

قال: فخرجت حتى قرعت الباب، قيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب.

قال: وقد عرفوا شدتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلموا إسلامي، فما اجترأ أحد منهم أن يفتح الباب.

قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افتحوا له، فإن يرد الله به خيرا يهده».

قال: ففتحوا لي، وأخذ رجلان بعضدي حتى دنوت من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أرسلوه».

قال: فأرسلوني، فجلست بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: فأخذ بمجمع قميصي فجذبني إليه ثم قال: «أسلم يا ابن الخطاب، اللهم اهده».

قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بطرق مكة.

قال: وقد كان استخفى، ثم خرجت فكنت لا أشاء أن أرى رجلا إذا أسلم ضرب إلا رأيته، فلما رأيت ذلك قلت: لا أحب أن لا يصيبني ما أصاب المسلمين.

قال: فذهبت إلى خالي -وكان شريفا فيهم- فقرعت الباب عليه، فقال: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب، قال: فخرج إلي، فقلت له: أشعرت أني قد صبوت؟ قال: أو فعلت؟ قلت: نعم قال: لا تفعل، قلت: قد فعلت، قال: لا تفعل، وأجاف الباب دوني وتركني، قلت: ما هذا بشيء


#1529#

قال: فخرجت حتى جئت رجلا من عظماء قريش، فقرعت عليه الباب فقال: من هذا؟ قلت: عمر بن الخطاب، فخرج إلي، فقلت: أشعرت أني قد صبوت؟ قال: أو فعلت؟ قلت: نعم، قال: فلا تفعل، قلت: قد فعلت، قال: لا تفعل، ثم قام وأجاف الباب دوني.

فلما رأيت ذلك انصرفت، قال لي رجل: تحب أن يعلم إسلامك؟ قلت: نعم، قال: فإذا جلس الناس في الحجر واجتمعوا، فأت فلانا -رجلا لم يكتم السر- فأصيخ إليه، فقل له فيما بينك وبينه: إني قد صبوت، فإنه سوف يظهر عليك ذلك، ويصيح ويعلنه.

قال: فلما اجتمع الناس في الحجر، جئت إلى الرجل فدنوت منه فأصغيت إليه فيما بيني وبينه فقلت: أعلمت أني قد صبوت؟

قال: فقال: صبوت؟ قلت: نعم. قال: فرفع صوته بأعلاه فقال: ألا إن ابن الخطاب قد صبأ.

قال: فما زال الناس يضربوني وضربتهم.

قال: فقال خالي: ما هذا؟ قال: فقيل له: ابن الخطاب، قال: فقام على الحجر فأشار بكمه فقال: ألا أني قد أجرت ابن أختي، قال: فانكشف الناس عني.

قال: فكنت لا أشاء أن أرى أحدا من المسلمين يضرب إلا رأيته، وأنا لا أضرب.

قال: فقلت: ما هذا بشيء حتى يصيبني ما يصيب المسلمين، قال: وأمهلت حتى جلس الناس في الحجر، وصلت إلى خالي فقلت:


#1530#

اسمع، فقال: ما أسمع؟ قلت: جوارك رد عليك، قال: لا تفعل يا ابن أختي قال: قلت: بل هو ذاك، فقال: ما شئت.

قال: فما زلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الإسلام.

رواه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال: حدثنا علي ابن زيد الفرائضي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنيني، حدثنا أسامة ابن زيد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أتحبون أن أعلمكم أول إسلامي؟ قلنا: نعم، فذكره.

ورواه الحسن بن سفيان فقال: حدثنا علي بن ميمون العطار، والحسن البزار قالا: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنيني، حدثنا أسامة بن زيد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه، فذكره بنحوه.

والرجل الذي صرح بإسلام عمر رضي الله عنه عندما أسر إليه هو: جميل بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي الذي يقال له: ذو القلبين، وفيه نزل -في أحد الأقوال- قوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}، وكان لا يكتم سرا يوم، وقد أسلم يوم الفتح وهو شيخ مسن، وشهد فتح مصر، ومات زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وحزن عليه حزنا شديدا فيما ذكر ابن يونس، وهو الذي قال فيه الشاعر:

وكيف ثواي في المدينة بعدما ... قضى وطرا منها جميل بن معمر

قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أي


#1531#

أهل مكة أنقل للحديث؟

قالوا: جميل بن معمر الجمحي، فخرج عمر إليه، وخرجت وراء أبي -وأنا غليم أعقل كل ما رأيت- حتى أتاه فقال: يا جميل! هل علمت أني قد أسلمت؟

فوالله ما راجعه الكلام حتى قام يجر رداءه، وخرج عمر معه وأنا مع أبي، حتى إذا قام على باب المسجد الكعبة؛ صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! إن عمر قد صبأ.

فقال عمر رضي الله عنه: كذبت، ولكني أسلمت، فناوروه فقاتلوه وقاتلهم حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وذكر بقيته.

قال ابن إسحاق: وكان إسلام عمر رضي الله عنه فيما بلغني: أن فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها -وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهما- كانت قد أسلمت، وأسلم زوجها سعيد ابن زيد، وهم يستخفون بإسلامهم من عمر رضي الله عنه، وكان نعيم بن عبد الله النحام رجلا من قومه -من بني عدي بن كعب- قد أسلم، وكان أيضا يستخفي بإسلامه فرقا من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة يقريها القرآن.

فخرج عمر متوشحا بسيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث.

إلى أن قال: فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: إلى أين تريد؟

قال: أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه [أحلامهم]،


#1532#

وعاب دينها وسب آلهتها؛ فأقتله.

فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم.

قال: وأي أهل بيتي؟

قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمدا صلى الله عليه وسلم على دينه، فعليك بهما.

فرجع عمر عامدا لختنه وأخته، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها: {طه} يقريهما إياها، وذكر القصة.

ثم قال في آخرها: فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر رضي الله عنه.

وروى هذه القصة ابن عائذ فقال: أخبرني الوليد بن مسلم، حدثني عمر بن محمد، حدثني أبي محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، فذكرها، وفيها: إن الصحيفة كان فيها {طه}.

وقال ابن سعد: أخبرنا إسحاق بن يوسف الأزرقي، أخبرنا القاسم ابن عثمان البصري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرج عمر رضي الله عنه متقلدا بسيفه، فلقيه رجل من بني زهرة فقال: أين تعمد يا عمر؟

قال: أريد أن أقتل محمدا.

قال: وكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدا صلى الله عليه وسلم؟


#1533#

فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينك الذي أنت عليه.

قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر؟ إن أختك وختنك قد صبوا، الحديث.

وفيه: أن الكتاب كان فيه {طه}.

تابعه محمد بن عبيد الله المناوي، عن إسحاق بن الأزرقي.

وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ: حدثنا محمد بن أبان، عن إسحاق بن عبد الله، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأي شيء سميت: الفاروق؟

قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام.

وفي غير هذا الطريق -بعد هذا- قال عمر رضي الله عنه: فخرجت إلى المسجد، فأسرع أبو جهل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسبه، فأخبر حمزة، فأخذ قوسه وجاء إلى المسجد لحلقة قريش التي فيها أبو جهل، فاتكأ على قوسه مقابل أبي جهل، فنظر إليه فعرف أبو جهل السر في وجهه.

فقال: مالك يا أبا عمارة؟، فرفع القوس فضرب بها أخدعه فقطعه، فسالت الدماء، فأصلحت ذلك قريش مخافة الشر.

قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، فانطلق حمزة فأسلم، وخرجت بعده بثلاثة أيام، فإذا فلان


#1534#

المخزومي، فقلت له: أرغبت في دين آبائك واتبعت دين محمد؟

قال: إن فعلت؛ فقد فعله من أعظم عليك حقا مني.

قلت: ومن هو؟ قال: أختك وختنك.

فانطلقت فوجدت همهمة، فدخلت فقلت: ما هذا؟ فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس أختي فضربته وأدميته، فقامت إلي أختي فأخذت برأسي وقالت: وقد كان ذلك على رغم أنفك، فاستحييت حين رأيت الدماء، فجلست وقلت: أروني هذا الكتاب.

فقالت: أنه لا يمسه إلا المطهرون، فقمت فاغتسلت، فأخرجوا إلي صحيفة فيها: {بسم الله الرحمن الرحيم}

قلت: أسماء طيبة طاهرة {طه . ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} إلى قوله: {له الأسماء الحسنى}.

وفي طريق محمد بن أبي شيبة قال: ثم شرح الله صدري للإسلام فقلت: {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى}، فما في الأرض نسمة أحب إلي من نسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقلت: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ [قالت] أختي: هو في دار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصفا.

فأتيت الباب، وحمزة وأصحابه جلوس في الدار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، فضربت الباب، فاستجمع القوم، فقال لهم حمزة رضي الله عنه: ما لكم؟

قالوا: عمر بن الخطاب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ


#1535#

بمجامع ثوبه فنتره نترة، فما تمالك إن وقع على ركبتيه فقال: «ما أنت بمنته يا عمر؟»

قال: قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

قال: فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد.

قال: فقلت يا رسول الله! ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟

قال: «بلى، والذي نفسي بيده؛ إنكم على الحق إن متم وإن حييتم»

فقلت: ففيم الاختفاء ككديد الطحين؟

قال: يعني: فخرجنا حتى دخلنا المسجد، فنظرت إلي قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق يومئذ.

وروى أبو جعفر الوراق، عن إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن بعض آل عمر، وعن بعض أهله قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لما أسلمت تلك الليلة، تذكرت أي أهل مكة أشد على رسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت.

قال: قلت: أبو جهل بن هشام، وكان من أخواله –أم عمر رضي الله عنه حنتمة بنت هشام بن المغيرة- قال: فأقبلت حتى أصبحت حتى ضربت عليه بابه، فخرج إلي فقال: مرحبا وأهلا بابن أختي، ما جاء بك؟

قلت: جئت أخبرك أني قد آمنت بالله ورسوله محمد، وصدقته بما


#1536#

جاء به، فضرب الباب في وجهي وقال: قبحك الله، وقبح ما جئت به.

فزعموا: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في إسلامه حين أسلم، يذكر فيه بدء إسلامه، وما كان بينه وبين أخته فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها حين كان من أمرها وأمره ما كان، فقال:

الحمد لله ذي الفضل الذي وجبت ... منه علينا أياد ما لها غير

وقد بدانا فكذبنا فقال لنا ... صدق الحديث نبي عنده الخبر

وقد ظلمت بنت الخطاب ثم هدى ... ربي عشيته قالوا قد صبا عمر

وقد ندمت على ما كان من زللي ... بظلمها حين تتلى عندها السور

لما دعت ربها ذو العرش جاهدت ... والدمع من عينها عجلان ينحدر

أيقنت أن الذي تدعو لخالقها ... وكاد يسبقني من غيرها درو

فقلت: أشهد أن الله خالقنا ... وأن أحمد فينا اليوم مشتهر

نبي صدق أتى بالصدق من ثقة ... وفي الأمانة ما في عوده خور

من هاشم في الذرى والأنف حيث أنت ... منها الدوئب والأسماع والبصر

وحيث يلجأ ذو خوف ومفتقر ... وحيث يسموا إذا ما فاخرت مضر

يتلو من الله آيات منزلة ... يظل يسجد منها النجم والشجر

به هدى الله قوما من ضالتهم ... وقد أعدت لهم إذ يلبسوا سقر

في معنى هذا الحديث قول ابن إسحاق عن أبي جهل بن هشام: أنه كان من أخوال عمر، وقال: أم عمر رضي الله عنه حنتمة بنت هشام بن المغيرة.


#1537#

وقد خطأه في هذا جماعة، وإنما خاله العاصي بن هشام، وقد ذكر الدارقطني على الصواب فقال: هي [حنتمة] بنت هاشم ذي الرمحين، أخي هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة، هذا هو الصحيح.

قال: ومن ثم قال: بنت هشام، فقد وهم، لأن هشام بن المغيرة والد أبي جهل وأخوته، وهذه بنت عم الحارث بن هشام، وأبي جهل بن هشام، فهاشم وهشام أخوان.

وقد ذكر ابن عبد البر: أن من قال في أم عمر رضي الله عنه: بنت هشام، فقد أخطأ، فإنها لو كانت كذلك؛ كانت أخت أبي جهل، والحارث ابني هشام، وإنما هي ابنة عمهما، لأن هاشم بن المغيرة، وهشام بن المغيرة أخوان، فهاشم والد حنتمة، وهشام والد أبي جهل.

وقال عبد الغني المقدسي: والصحيح ما قاله ابن عبد البر والدارقطني إن شاء الله، أن كثيرا مما ذكره من التواريخ والأنساب في صحته والوقوف على حقيقته بعد، والسلامة منه إضافته إلى قائله.

وقال عبد الغني بن سعيد الحافظ: هي حنتمة بنت سعيد بن المغيرة، وهو غلط، قاله ابن الجوزي في كتابه "مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه".


#1538#

$مطلب في إسلام حمزة رضي الله عنه$

وكان حمزة رضي الله عنه قد اسلم، وسبب إسلامه ما رواه مسلم ابن معاذ: حدثنا أبو داود -وهو سليمان بن سيف-، حدثنا سعيد -يعني ابن بزيع- قال: قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من أسلم – وكان داعية-: أن أبا جهل بن هشام مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك، ثم انصرف عنه، فعمد إلى ناد من أندية قريش عند الكعبة فجلس معهم.

ولم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أن أقبل متوشحا سيفه، راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه؛ لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك؛ لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان من أعز قريش وأشدها شكيمة.

فلما مر بالمولاة، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى بيته، فقالت له: لو رايت ما لقي ابن أخيك محمد –أنفا قبل أن تأتي- من أبي الحكم بن هشام، وجده هاهنا جالسا فسبه وآذاه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد.


#1539#

فاحتمل حمزة الغضب -لما أراد الله تعالى من كرامته- فخرج سريعا لا يقف على أحد كما كان يصنع، يريد الطواف بالكعبة معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به، فلما دخل المسجد؛ نظر إليه جالسا في القوم، فأقبل نحوه حتى أقام على رأسه؛ رفع القوس فضربه بها ضربة شجه بها شجة منكرة.

ثم قال: أتشتمه؟ فأنا على دينه أقول ما يقول، فاردد ذلك علي إن استطعت.

وقامت رجال بني مخزوم لينظروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا [أبا] عمارة، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا.

وتم حمزة على إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، وقال فيما يذكر من ضربته أبا جهل:

ذق أبا جهل بما غشيتا ... عن أمرك الظالم إذ عييتا

تؤذي رسول الله إذ نهيتا ... ولا تركت الحق إذ دعيتا

ولا هويت قبل ما هويتا ... تؤذي رسول الله قد عويتا

ما كنت أخي بعد ما غدوتا ... حتى تذوق الذل ما بقيتا

فقد شفيت النفس واشتفيتا

تابعه يونس بن بكير، وغيره، عن ابن إسحاق.

وحدث بهذه القصة أبو الحسن محمد بن حامد –خال والد السني- في كتابه "السنة"، عن علي بن حرب، حدثنا محمد بن عمارة، عن ابن موهب، عن محمد بن كعب القرظي قال: كان إسلام حمزة بن


#1540#

عبد المطلب رضي الله عنه حمية، كان فتى قانصا يحب الصيد، يخرج بقوسه فيغيب الأيام، وذكر القصة بنحوها.

زاد يونس بن بكير في روايته عن ابن إسحاق قال: ثم رجع حمزة إلى بيته، فأتاه الشيطان فقال له: أنت سيد قريش، اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك؟ للموت كان خير لك من هذا.

فأقبل على حمزة رضي الله عنه بثه فقال: ما صنعت؟ اللهم إن كان رشدا؛ فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا.

فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان وتزيينه، حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي! أني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري ما هو أرشد هو أم غي؛ شديد، فحدثني حديثا؛ فقد اشتهيت يا ابن أخي أن تحدثني.

فأقبل عليه صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه وخوفه وبشره، فألقى الله عز وجل في قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد إنك صادق، شهادة المصدق للعارف، فأظهر يا ابن أخي دينك، فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء وأني على ديني الأول.

فكان حمزة رضي الله عنه ممن أعز الله به الدين.

قال: وقال حمزة بن عبد المطلب:

حمدا لله حين هدى فؤادي ... إلى الإسلام والدين الحنيف

لدين جاء من رب عزيز ... خبير بالعباد بهم لطيف

إذا تليت رسائله علينا ... تحدر دمع ذي اللب الحصيف


#1541#

رسائل جاء أحمد من هداها ... بآيات مبينة الحروف

وأحمد مصطفى فينا مطاع ... فلا تغشوه بالقول العنيف

وذكر أبياتا أخر.

وقال ابن إسحاق: حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عقبة بن ربيعة لما أسلم حمزة رضي الله عنه قال له: يا أبا الوليد! كلم محمدا.

فأتاه فقال: يا ابن أخي! إنك منا حيث علمت من السطة والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به بينهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم، فاسمع مني.

قال: «قل يا أبا الوليد».

قال: إن كنت تريد مالا جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك وملكناك، وإن كان الذي يأتيك رئيا؛ طلبنا لك المطب.

حتى إذا فرغ قال: «اسمع مني». قال: أفعل.

قال: {بسم الله الرحمن الرحيم} {حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته}، ومضى، فأنصت عتبة، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما، فسمع منه.

فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة سجد، ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد، فأنت وذاك».

فقام إلى أصحابه، فقال بعضهم يحلف: والله لقد جاءكم أبو الوليد


#1542#

بغير الوجه الذي ذهب به.

فلما جلس قالوا: ما وراءك؟

قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش! أطيعوني وخلو بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله نبأ، فإن تصبه العرب؛ فقد كفيتموه بغيركم، وأن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.

قالوا: سحرك لسانه.

قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.

وقال محمد بن فضيل بن غزوان: حدثنا الأجلح، عن الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: لقد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه، ثم أتانا ببيان من أمره.

فقال عتبة –يعني بن ربيعة-: لقد سمعت بقول السحرة والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى علي إن كان كذلك، فأتاه.

فلما أتاه قال: يا محمد! أنت خير أم هاشم؟، أنت خير أم عبد المطلب؟، أنت خير أم عبد الله؟، فلم يجبه.

قال: فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا، فإن كنت إنما بك الرئاسة؛ عقدنا لك ألويتنا فكنت رأسنا فأبقيت، وإن كان بك الباءة؛ زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت، وإن كان بك المال؛ جمعنا لك من


#1543#

أموالنا ما تستغني أنت وعقبك من بعدك.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بسم الله الرحمن الرحيم} {حم . تنزيل من الرحمن الرحيم}، فقرأ حتى بلغ: {أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود}، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه -يعني فكف عنه-، فمضى عتبة فلم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم.

فقال أبو جهل: يا معشر قريش! والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه، فأتوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك قد صبوت، فإن كانت بك حاجة؛ جمعنا ما يغنيك عن طعام محمد؟.

فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته -وقص عليهم القصة-، فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا بشعر، ولا كهانة، قرأ: {حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} حتى إذا بلغ: {أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود}، فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب.

وروى ابن المثنى بن زرعة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة: {حم . تنزيل من الرحمن الرحيم} أتى أصحابه فقال


#1544#

لهم: يا قوم! أطيعوني في هذا اليوم، واعصوني فيما بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي قط كلاما مثله، وما دريت ما أرد عليه.


#1545#

$مطلب في أمر الصحيفة$

وحدث معمر بن سليمان، عن أبيه: أن قريشا أظهروا لبني عبد المطلب العداوة والشتم، فجمع أبو طالب رهطه، فقاموا بين أستار الكعبة يدعون الله على من ظلمهم.

وقال أبو طالب: إن أبى قومنا إلا البغي علينا؛ فعجل نصرنا، وحل بينهم وبين الذي يريدوا من قتل ابن أخي، ثم دخل بآله الشعب.

قلت: ولعل هذا حين كتبت قريش تلك الصحيفة على بني هاشم وبني المطلب، وحصروهم في شعب أبي طالب.

وذلك فيما رواه أبو جعفر أحمد بن محمد الوراق: حدثنا إبراهيم بن سعد قال: قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا أمنا وقرا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، فائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب، على أن لا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم.

فلما أجمعوا لذلك؛ كتبوا في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم، وكان كاتب الصحيفة: منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، فلما


#1546#

فعلت ذلك قريش؛ انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش وظاهرهم عليهم.

وروي: أن أبا طالب قال لما اجتمعت قريش على ذلك وصنعوا فيه الذي صنعوا، يخاطبهم:

ألا من لهم آخر الليل معتم ... وهم وأخرى النجم لما يعجم

طواني وقد نامت عيون كثيرة ... وسامر أخرى ساهرا لم ينوم

بأحلام أقوام أرادوا محمدا ... بظلم ومن لا يتق الظلم يظلم

سعوا سفها واقتادهم سوامرهم ... على قائل من رأيهم غير محكم

مرجاة أمور لم ينالوا نظامها ... وإن حشدوا في كل بدو وموسم

يرجون منا خطة دون نيلها ... ضراب وطعن بالوشيج المقوم

يرجون أن نسخى بقتل محمد ... ولم تخضب سمر العوالي من الدضم

كذبتم وبيت الله حتى تغرقوا ... جماجم تلقى بالحطيم وزمزم

وتقطع أرحام وتنسى خليلة ... خليلا وتغشى محرم بعد محرم

فيا لبني فهر أفيقوا ولم تقم ... نوائح قتلى تدعى بالتضندم

في ما مضى من بغيكم وعقوقكم ... وغشيانكم في أمركم كل مأثم

وظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى ... وأمر أتى من عند ذي العرش قيم

فلا تحسبونا مسلميه ومثله ... إذا كان في قوم فليس بمسلم

فهذي معاذير وتقدمة لكم ... لئلا تكون الحرب قبل التقدم


#1547#

وفي رواية زياد بن عبد الله، عن ابن إسحاق قال: فلما اجتمع على ذلك قريش، وصنعوا فيه الذي صنعوا، قال أبو طالب:

ألا بلغا عني ذات بيننا ... لؤيا وخصا من لؤي بني كعب

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا ... نبيا كموسى خط في أول الكتب

وأن علي في العباد تحية ... ولا خير ممن خصه الله بالحب

وأن الذين لصقتم من كتابكم ... لكم كائنا نحسا كراعية السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثراءة ... ويصبح من لا يجن ذنبا كذي ذنب

ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا ... أوامرنا بعد المودة والقرب

وتستجلبوا حربا عوانا وربما ... أمر على من ذاقه جالب الحرب

فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا ... لعز من يمض الزمان ولا كرب

ولما نبن منا ومنكم سوالف ... وأيد تراءت بالقساسية الشهب

وذكر بقية الأبيات.

قال ابن إسحاق في رواية إبراهيم بن سعد، عنه: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني هاشم وبني المطلب في شعب أبي طالب على ذلك سنتين، أو ثلاثا حتى جهدوا، لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخف به من أراد صلتهم من قريش، فلقي أبو جهل بن هشام يوما حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد معه غلاما يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد -وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه في الشعب-، فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرح


#1548#

أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة.

فجاءه أبو البختري العاصي بن هشام بن الحارث بن أسد قال: ما لك وله؟

قال: يحمل الطعام إلى بني هاشم.

فقال أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلي سبيله.

فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ له أبو البختري لحى بعير فضربه به فشجه، ووطئه وطئا شديدا، وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه قريبا يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشتموا بهم، وقال أبو البختري:

ذق أبا جهل فقد لقيت غما ... لذلك الجهل يكون ذما

سوف ترى عودي ألما ... لذلك اللوم يكون دما

هكذا ذكره أبو جعفر الوراق في "المغازي" فقال: حدثنا إبراهيم بن سعد قال: قال ابن إسحاق، فذ    كره.

وقد قيل: إن الصحيفة لم تعلق في جوف الكعبة، بل قال بعضهم: كانت عند أم الجلاس بنت مجرية الحنظلية خالة أبي جهل، وكانوا ختموا عليها ثلاث خواتيم.

وفي رواية إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق قصة نقض الصحيفة، وهي ما قال:

وفي رواية: ثم أنه قام في نقض الصحيفة التي تكاتب فيها قريش على


#1549#

بني هاشم وبني المطلب نفر من قريش، ولم يبل فيها أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن الحارث، وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف بن قصي لأمه، كان نضلة وعمرو أخوين، فكان هشام لبني هاشم واصلا، وكان ذا شرف في قومه، فكان –فيما بلغني- يأتي بالبعير قد أوقره طعاما، وبنو المطلب في الشعب ليلا، حتى إذا أقبله فم الشعب؛ خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه، فدخل الشعب عليهم، ويأتي به وقد أوقره برا، فيفعل به مثل ذلك.

ثم أنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقالت له: يا زهير! أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت لا يباعوا ولا يبتاعوا منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما أني أحلف بالله أنهم لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل الذي دعاك إليه منهم؛ ما أجابك إليه أبدا.

قال: ويحك يا هشام، فماذا أصنع؟ أنما أنا رجل واحد، لو كان معي رجل آخر؛ لقمت في نقضها حتى أنقضها.

قال: قد وجدت رجلا، قال: من هو؟ قال: أنا.

قال زهير: ابغنا ثالثا.

فذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقال: يا مطعم! أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافقا لقريش؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه؛ لتجدنهم إليها منكم سراعا.


#1550#

قال: ويحك فماذا أصنع، أنما أنا رجل واحد.

قال: قد وجدت ثانيا، قال: من؟ قال: أنا، قال: ابغنا ثالثا، قال: قد فعلت، قال: من؟

قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعا.

قال: فذهبت إلى أبي البختري بن هشام -فقال له نحو ما قال للمطعم بن عدي-، قال: وهل من أحد يعينني على هذا؟

قال: نعم، [قال:] من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي.

قال: ابغنا خامسا.

قال: فذهبت إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ابن قصي، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم، قال: وهل على الأمر الذي تدعونا إليه أحد؟

قال: نعم، ثم سمى له القوم، فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك، فأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها.

وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أولكم يتكلم.

فلما أصبحوا، غدوا على أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية على حلة له، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة! أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة.


#1551#

قال أبو جهل بن هشام وكان في ناحية المجلس -: كذبت، والله لا تشق.

قال زمعة: أنت والله أكذب، ما رضينا حتى كتب.

قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتبت فيها ولا نقر به.

قال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها.

وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.

فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تشور فيه بغير هذا المكان، وأبو طالب جالس في ناحية المجلس، وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا: باسمك اللهم.

وكاتب الصحيفة: منصور بن عكرمة، فشلت يده –فيما يزعمون-، فلما مزقت وبطل ما كان فيها، قال أبو طالب فيما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقضها يمتدحهم:

ألا هل أتى بحرينا كيف صنعا ربنا ... على نائه والدهر بالناس أورد

فيخبرهم أن الصحيفة مزقت ... وأن كل ما لم يرضه الله مفسد

يراوحها إفك وسحر مجمع ... ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد

جزا الله رهطا بالحجون تتابعوا ... على ملأ تهدي لخير وترشد

قعودا لدى حطم الحجون كأنهم ... مقاولة بل هم أعز وأمجد

أعان عليها كل صقر كأنه ... إذا ما مشى في رفرف الدهر أحرد


#1552#

قضوا ما قضوا من ليلهم ثم أصبحوا ... على مهل وسائر الناس رقد

هم رجعوا سهل بن بيضا راضيا ... وسر أبو بكر بها ومحمد

وذكر ابن سعد: أن الذي كتب الصحيفة: نعيض بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، فشلت يده.

وقيل: كاتب الصحيفة هو: منصور بن عبد شرحبيل بن هاشم.

حكى هذين القولين: الزبير بن بكار، ولم يذكر منصور بن عكرمة.

وحدث الواقدي بقصة الصحيفة على غير ما تقدم فقال: حدثني الحكم بن القاسم، عن زكريا بن عمرو، عن شيخ من قريش: أن قريشا لما تكاتبت على بني هاشم حين أبوا أن يدفعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا تكاتبوا أن لا يناكحوهم ولا ينكحوا لهم، ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم، ولا يخالطوهم في شيء، ولا يكلموهم، فمكثوا ثلاث سنين في شعبهم محصورين؛ إلا ما كان من أبي لهب، فإنه لم يدخل معهم، ودخل معهم بنو المطلب بن عبد مناف، فلما مضت ثلاث سنين، أطلع الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر صحيفتهم، وأن الأرضة قد أكلت ما كان فيها من جور وظلم، وبقي ما كان فيها من علم وذكر.

فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، فقال أبو طالب: أحق ما تخبرني يا ابن أخي؟

قال: «نعم».

قال: فذكر ذلك أبو طالب لأخوته فقال: ما ظنك به؟ قال: ما كذبني


#1553#

قط.

قالوا: فما ترى؟ قال: أرى أن تلبسوا أحسن ما تجدون من الثياب، ثم تخرجون إلى قريش فتذكرون ذلك لهم؛ قبل أن يبلغهم الخبر.

قال: فخرجوا حتى دخلوا المسجد، فصمدوا إلى الحجر، وكان لا يجلس فيه إلا [ ؟ ] قريش وذو نهاهم، فرفعت إليهم المجالس ينظرون ماذا يقولون.

فقال أبو طالب: إنا قد جئنا لأمر، فأجيبوا فيه بالذي يعرف لكم.

قالوا: مرحبا وأهلا وسهلا، وعندنا ما يسرك فيما طلبت.

قال: إن ابن أخي قد أخبرني –ولم يكذبني قط- أن الله عز وجل سلط على صحيفتكم الأرضة، فلحست كل ما فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم، وبقي فيها كل ما ذكر الله فيه، فإن كان ابن أخي صادقا؛ نزعتم سوء رأيكم، وإن كان كاذبا؛ دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه إن شئتم.

قالوا: قد أنصفتنا.

فلما أتي بها، قال أبو طالب: اقرؤوها، فلما فتحوها إذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أكلتها الأرضة كلها إلا ما كان من ذكر الله فيها.

قال: فسقط في أيدي القوم، ثم نكسوا على رؤوسهم.

فقال أبو طالب: هل تبين لكم أنكم أولى بالظلم والقطيعة؟

فلم يراجعه أحد من القوم، وتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا


#1554#

ببني هاشم، وذكر بقيته.

وقال أبو عمر ابن عبد البر: أخبرنا عبد الله بن محمد، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن سلمة المرادي، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي الأسود.

وأخبرنا عبد الوارث بن أبي سفيان، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا مطرف بن عبد الرحمن بن قيس، حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب.

وأخبرنا عبد الله بن محمد، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي قالا: حدثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب -دخل حديث بعضهم في بعض- قال: ثم إن كفار قريش أجمعوا أمرهم، واتفق رأيهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقالوا: قد أفسد أبناءنا ونساءنا، فقالوا لقومه: خذوا منا دية مضاعفة، ويقتله رجل من غير قريش وتريحوننا وتريحون أنفسكم.

فأبى قومه بنو هاشم من ذلك، وظاهرهم بنو المطلب بن عبد مناف، فاجتمع المشركون من قريش على منابذتهم وإخراجهم من مكة إلى الشعب.

فلما دخلوا الشعب؛ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من المؤمنين أن يخرجوا إلى أرض الحبشة، وكانت متجر قريش، وكان يثني على النجاشي، فإنه لا يظلم عنده أحد، فانطلق إليها عامة من آمن بالله ورسوله، ودخل بنو هاشم وبنو المطلب شعبهم، مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن دينا والكافر حمية.


#1555#

فلما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منعه قومه، أجمعوا على أن لا يبايعوهم ولا يخرجوا ولا يدخلوا إليهم شيئا من الرفق، وقطعوا عنهم الأسواق، ولم يتركوا طعاما، ولا إداما، ولا بيعا؛ إلا بادروا إليه واشتروه دونهم، ولا ينكاحوهم ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا، ولا تأخذهم بهم رأفة، حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في الكعبة، وتمادوا على العمل بما فيها من ذلك ثلاث سنين، فاشتد البلاء على بني هاشم، وعلى كل من معهم.

فلما [كان] رأس ثلاث سنين، تلاوم قوم من قصي –ممن ولدتهم بنو هاشم- ومن سواهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر، والبراءة، بعث الله على صحيفتهم الأرضة، فأكلت ولحست ما فيها من ميثاق وعهد.

وكان أبو طالب في طول مدتهم في الشعب، يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي فراشه كل ليلة حتى يراه من أراد به شرا أو غائلة، فإذا نام الناس، أمر أحد بنيه أو إخوته، أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم، فيرقد عليها.

فلم يزالوا في الشعب على ذلك تمام ثلاث سنين، ولم تترك الأرض في الصحيفة اسما لله عز وجل إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك، أو ظلم أو قطيعة رحم، فأطلع الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب.


#1556#

فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبتني.

فانطلق في عصابة من بني عبد المطلب حتى أتوا المسجد وهم خائفون لقريش، فلما رأتهم قريش في جماعة أنكروا ذلك، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم برمته إلى قريش، فتكلم أبو طالب خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أين يأتوا بها، فأتوا بصحيفتهم معجبين لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع إليهم.

وقالوا لأبي طالب: قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم.

فقال أبو طالب: إنما أتيتكم في أمر هو نصف بيننا وبينكم، إن ابن أخي أخبرني -ولم يكذبني- أن هذه الصحيفة التي في أيديكم، قد بعث الله [عليها] دابة فلم تترك فيها اسم له إلا لحسته، وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم، وإن كان الحديث كما يقول، فأفيقوا، فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا، دفعنا إليكم صاحبنا فقتلتم واستحييتم.

فقالوا: قد رضينا بالذي تقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر بخبرها قبل أن تفتح، فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: هذا سحر ابن أخيك، زادهم الله بغيا وعدوانا.

ورواه الطبراني، عن محمد بن عمرو بن خالد الحراني، حدثنا أبي، حدثنا ابن لهيعة، عن الأسود، عن عروة بن الزبير، فذكر القصة بنحوها.


#1557#

وكان دخول النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب هو وأبو طالب في بني هاشم، وبني المطلب، وبني عبد مناف ليلة غرة محرم سنة سبع من البعثة، وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب؛ فيما قاله أبو عمر ابن عبد البر وغيره بعد عشرة أعوام من البعثة.

قال أبو الحسن أحمد بن يحيى البلاذري الحافظ: أخبرنا المدائني، عن أبي زيد الأنصاري، عن أبي عمرو بن العلاء، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حصرنا في الشعب ثلاث سنين، فقطعوا عنا الميرة، حتى أن الرجل ليخرج بالنفقة فما يباع شيئا، حتى مات منا قوما.

وقد روي: أن أبا طالب في هذه الأيام إذا نام الناس، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد مكرا به واغتياله، فإذا نام الناس، أمر أحد بنيه أو إخوته فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فراش ذلك فينام عليه، إلى أن نقضت الصحيفة، وفرج الله عنهم.

ولما بطل حكم الصحيفة، وظهر النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب، جعلت قريش يحذرون الناس ومن قدم عليهم من العرب، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله صابرا محتسبا، مؤديا إلى قومه النصيحة على ما يلقى منهم من التكذيب والأذى، وكانوا يذلون له إذا رأوه، وأقام على ذلك بعد نقض الصحيفة ستة أشهر، أو نحوها، فدنت وفاة عمه أبي طالب.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يلقى من الأذى، في حماية عمه أبي طالب، إلى أن اشتكى وثقل في شكواه، فقالت قريش


#1558#

بعضها لبعض: إن حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب .. .. وقد فشا أمر محمد صلى الله عليه وسلم في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه، وليعطه منا، فإنا والله ما نأمن أن يبزونا أمرنا.

قال محمد بن سعد في "الطبقات": وأخبرنا محمد بن عمر، حدثني محمد بن لوط النوفلي، عن عدي بن عبد الله بن الحارث بن نوفل.

ح وحدثني عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث.

ح وحدثني محمد بن عبد الله –ابن أخي الزهري-، عن أبيه، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري، -دخل حديث بعضهم في حديث بعض-، قالوا: لما رأت قريش ظهور الإسلام وجلوس المسلمين حول الكعبة، سقط في أيديهم، فمشوا إلى أبي طالب حتى دخلوا عليه فقالوا: أنت سيدنا، وأفضلنا في أنفسنا، وقد رأيت الذي فعل هؤلاء السفهاء مع ابن أخيك، من تركهم آلهتنا وطعنهم علينا، وتسفيههم أحلامنا، وجاؤا بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا: قد جئناك بفتى قريش جمالا ونسبا ونهادة وشعرا، ندفعه إليك، فيكون لك نصره وميراثه، وأفضل في عواقب الأمور منعة.

فقال أبو طالب: والله ما أنصفتموني، تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابن أخي تقتلونه؟ ما هذا بالنصف، تسوموني سوم العزيز الذليل.


#1559#

قالوا: فأرسل إليه فلنعطه النصف.

فأرسل أبو طالب في النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي! هؤلاء عمومتك وأشراف قومك، وقد أرادوا ينصفونك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا أسمع».

قالوا: تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك.

قال أبو طالب: قد أنصف القوم، فاقبل منهم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم إن أعطيتكم هذه! هل أنتم معطوني كلمة إن أنتم تكلمتم بها ملكتم العرب، وأدانت لكم بها العجم».

قال أبو جهل: إن هذه كلمة مريحة، نعم –وأبيك- لنقولنها وعشر أمثالها.

قال: «قولوا لا إله إلا الله»، فاشمأزوا ونفروا منها وغضبوا، وقاموا وهم يقولون: إن هذا لشيء يراد.

ويقال: المتكلم بهذا: عقبة بن أبي معيط.

وقالوا: لا نعود إليه أبدا، وما خير من أن نغتال محمدا.

فلما كان مساء تلك الليلة، فقد محمد صلى الله عليه وسلم، وجاء أبو طالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه، فجمع فتيان من بني هاشم وبني المطلب، ثم قال: ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة، ثم ليتبعني إذا دخلت المسجد، ولينظر كل فتى فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية –يعني أبا جهل- فإنه لم يغيب عن شر إن كان محمدا


#1560#

قد قتل.

فقام الفتيان، فجاء زيد بن الحارثة، فوجد أبا طالب على تلك الحالة فقال: يا زيد! أحسست ابن أخي محمدا قد قتل.

فقال زيد: نعم، كنت معه أنفا.

فقال أبو طالب: لا أدخل بيتي حتى أراه، فخرج زيد سريعا، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت عند الصفا، ومعه أصحابه يتحدثون، فأخبره الخبر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي طالب فقال: يا ابن أخي! أين كنت؟ أكنت في خير؟

قال: «نعم» قال: ادخل بيتك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح أبو طالب غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده، فوقف على أندية قريش، ومعه الفتيان الهاشميون والمطلبيون.

فقال: يا معشر قريش! هل تدرون ما هممت به؟

قالوا: لا، فأخبرهم الخبر، وقال للفتيان: اكشفوا عما في أيديكم، فكشف كل رجل معه حديدة صارمة، فقال: والله لو قتلتموه؛ ما أبقيت منكم أحدا حتى نتفانا نحن وأنتم، فانكسر القوم، وكان أشدهم انكسارا أبو جهل.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يحيى عن سفيان، حدثني سليمان –يعني الأعمش-، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرض أبو طالب، فأتته قريش، وأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، وعند رأسه مقعد رجل.


#1561#

فقام أبو جهل فقعد فيه، فقالوا: إن ابن أخيك يقع في آلهتنا.

قال: ما شأن قومك يشكونك؟

قال: «يا عم! أريدهم على كلمة واحدة تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية».

قال: ما هي؟ قال: «لا إله إلا الله».

فقاموا: فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا.

قال: نزل {ص والقرآن ذي الذكر} فقرأ، حتى بلغ: {إن هذا لشيء عجاب}.

وقال أحمد: وحدثنا أبو أسامة، حدثنا الأعمش، حدثنا عباد، فذكره بنحوه.

وقال الأشجعي يحيى بن عباد: ورواه مسدد في "مسنده" الذي رواه أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، عنه، عن يحيى، عن سفيان، حدثني الأعمش، عن عمارة، عن سعيد بن جبير قال: مرض أبو طالب، فذكره.

وحدث به ابن حبان في "صحيحه"، عن الفضل بن الحباب، لكنه قال: عن يحيى بن عمارة، وهو الأشبه.

وكذلك ذكره البخاري في "تاريخه الكبير".

وفي بعض طرق هذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، في


#1562#

رجال من أشرافهم.

فقالوا: يا أبا طالب! إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ لنا منه، وليكف عنا ولنكف عنه، يدعنا وديننا وندعه ودينه.

فبعث أبو طالب فجاءه فقال: يا ابن أخي! هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك، فليعطوك ولتأخذ منهم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، كلمة يعطونيها يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم».

فقال أبو جهل: نعم –وأبيك- وعشر كلمات.

قال: «تقولوا لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دون الله».

قال: فصفقوا بأيديهم ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن أمرك لعجب.

ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل يمنعكم شيء تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا.

فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي! ما رأيتك سألتهم شططا.

قال: فلما قالها أبو طالب؛ طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: «أي عم، فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة».

قال: فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي! لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش


#1563#

أنما قلتها جزعا من الموت؛ لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها.

وجاء عن أيوب السختياني، عن ابن سيرين قال: لما احتضر أبو طالب دعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي! أنا إذا مت، فأت أخوالك من بني النجار، فإنهم أمنع الناس في بيوتهم.

وروي عن محمد بن كعب القرظي قال: بلغني أنه لما اشتكى أبو طالب شكواه التي قبض فيها، قالت له قريش: يا أبا طالب! أرسل إلى ابن أخيك فيرسل إليك من هذه الجنة التي يذكرها شفاءا.

قال: فخرج الرسول حتى وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه معه جالس فقال: يا محمد! عمك يقول لك: يا ابن أخي! إني كبير ضعيف سقيم، فأرسل إلي من جنتك هذه التي تذكر من طعامها وشرابها بشيء يكون لي فيه شفاء.

قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن الله حرمها على الكافرين، فرجع الرسول فأخبرهم.

فقال: قد بلغت محمدا الذي أرسلتموني إليه، فلم يحر إلي فيه شيئا.

فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن الله حرمها على الكافرين، فسكت محمد.

قال: حملوا أنفسهم عليه حتى أرسل رسولا من عنده، فوجد الرسول في مجلسه، فقال له مثله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرمها على الكافرين طعامها وشرابها»، ثم قام في إثر الرسول حتى دخل معه البيت، فوجده


#1564#

مملوءا رجالا، فقال: «خلوا بيني وبين عمي».

فقالوا: ما نحن بفاعلين، فما أنت بأحق به منا، إن كانت له قرابة؛ فإن لنا قرابة مثل قرابتك.

فجلس إليه فقال: «يا عم! جزيت عني خيرا، كفلتني صغيرا وحضنتني كبيرا، فجزيت عني خيرا يا عماه، أعني على نفسك بكلمة واحدة أشفع لك بها عند الله عز وجل يوم القيامة».

قال: وما هي يا ابن أخي؟

قال: «قل، لا إله إلا الله وحده لا شريك له».

قال: إنك لي ناصح، والله لولا أن تعير بها بعدي فيقال: جزع عمك عند الموت؛ لأقررت بها عينيك.

قال: فصاح القوم: يا أبا طالب! أنت رأس الحنيفية ملاذ الأشياخ.

قال: لا تحدث قريش أن عمك جزع عند الموت.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أزال أستغفر لك ربي حتى يردني».

فاستغفر له بعد ما مات، فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قرابتنا، وقد استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه، وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يستغفر لعمه، فاستغفروا للمشركين، حتى نزلت: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين}، حتى فرع من الآية.

وصح من حديث يزيد بن كيسان: حدثني أبو حازم، عن أبي هريرة


#1565#

رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: «قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة».

فقال: لولا تعيرني قريش يقولون: إنما حمله عليه الجزع؛ لأقررت بها عينك، فأنزل الله: {إنك لا تهدي من أحببت}، الآية.

وحدث يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني العباس ابن عبد الله بن معبد، عن بعض آله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طالب في مرضه قال: «أي عم! قل: لا إله إلا الله، أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة».

قال: والله يا ابن أخي، لولا أن تكون مسبة عليك وعلى آل بيتك من بعدي يرون أني قلتها جزعا حين نزل بي الموت؛ لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها.

فلما ثقل أبو طالب روي يحرك شفتيه، فأصغى إليه العباس فسمع قوله، فرفع العباس عنه فقال: يا رسول الله! قد قال والله الكلمة التي سألته.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أني لم أسمع».

قال أبو القاسم السهيلي: شهادة أبو العباس لأبي طالب لو أداها بعد ما أسلم كانت مقبولة، لأن العدل إذا قال: سمعت، وقال من هو أعدل منه: لم أسمع، أخذ بقول من أثبت السماع، لكن العباس رضي الله عنه شهد بذلك قبل أن يسلم.

لكن يرد عليه: أن العباس رضي الله عنه بعد ما أسلم، سأل


#1566#

النبي صلى الله عليه وسلم عن حال أبي طالب.

وذلك فيما صح من حديث عبد الملك بن عمير، حدثنا عبد الله بن الحارث، حدثنا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك؟ فإنه كان يحوطك ويغضب لك.

قال: «هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا؛ لكان في الدرك الأسفل من النار».

ورواه سفيان الثوري، وأبو عوانة، عن عبد الملك.

ورويناه في "مسند الحميدي" من طريق عبد الملك، سمعت عبد الله ابن الحارث بن نوفل، سمعت العباس رضي الله عنه قلت: يا رسول الله! أن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل ينفعه ذلك؟

قال: «نعم، وجدته في غمرات من النار، فأخرجته إلى ضحضاح».

وقال أبو السري هناد بن السري التميمي الكوفي في كتابه "الزهد": حدثنا يعلى بن عبيد الطنافسي، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليعلمن عمي أني قد نفعته يوم القيامة، إنه لفي ضحضاح من النار وينتعل بنعلين من نار تغلي منه دماغه».

"الضحضاح" في اللغة: الماء القريب القعر، وقد فسر فيما صح من حديث يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: -وذكر عنده عمه أبو طالب- فقال: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في


#1567#

ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منه أم دماغه».

رواه الليث، والدراوردي، وابن أبي حازم، عن يزيد.

و"أم الدماغ": الجلدة التي على مجمعه.

قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث قال: قال العباس رضي الله عنه: يا رسول الله! أترجو لأبي طالب؟

قال: «كل الخير أرجو من ربي عز وجل».

ورواه زيد بن الحباب، حدثنا حماد عن ثابت، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عن العباس رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترجو لأبي طالب؟

قال: «كل الخير من ربي».

قال أبو جعفر أحمد بن سنان القطان في "مسنده": حدثنا أبو أحمد الزبير، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب الأسدي، عن علي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن عمك الضال قد مات.

قال: «اذهب فواره، ولا تحدث حدثا حتى تأتيني».

قال: فواريته ثم جئت فأخبرته، ثم أمرني فاغتسلت، ثم دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء.

تابعه أبو نعيم، عن سفيان -وهو الثوري- وقال: حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا ورقة، عن أبي إسحاق، فذكره بنحوه.


#1568#

ورواه عبد الرحمن بن سلام الجمحي أبو حرب: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق الهمداني، عن ناجية بن كعب، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما مات أبو طالب، أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن عمك الشيخ الضال قد مات.

قال: «اذهب فواره».

فقلت: ما أريد أن أواريه.

قال: «اذهب فواره، ولا تحدث حدثا حتى تأتيني».

ففعلت الذي أمرني به، ثم أتيته فقال لي: «اغتسل»، وعلمني دعوات هن أحب لي من حمر النعم.

تابعه فرات القزاز، عن ناجية.

وتابع سفيان الثوري: ورقاء، وإبراهيم بن طهمان جماعة منهم: شعبة، وإسرائيل، وشريك، وزهير، عن أبي إسحاق.

ورواه الحسين بن واقد، وأبو حمزة السكري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن علي رضي الله عنه.

قال الدارقطني في "العلل": ووهما في ذكر الحارث، وذكر أنه عن عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي رضي الله عنه.

ورواه نمير، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن رجل غير مسمى، عن علي.

وله طرق منها: ما قال أبو جعفر أحمد بن سنان القطان في "مسنده":


#1569#

حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا معن بن عيسى، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خلاس، عن عمر، عن علي رضي الله عنه قال: لما مات أبو طالب، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن الشيخ قد مات.

قال: «ادفنه، ثم اغتسل».

وقال أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا الحسن بن يزيد الأصم قال: سمعت السدي يذكر عن إسماعيل، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه قال: لما توفي أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: عمك الشيخ قد مات.

قال: «اذهب فواره، ثم لا تحدث شيئا حتى تأتيني».

قال: فواريته، ثم أتيته قال: «اذهب فاغتسل، حتى لا تحدث شيئا حتى تأتيني».

قال: فأمرني فاغتسلت ثم أتيته.

قال: فدعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بها حمر النعم وسودها، الحديث.

وخرجه البزار في "مسنده".

وخرجه أبو داود، والنسائي، إلى قوله: "فدعا لي".

وفي رواية عن علي رضي الله عنه قال: أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب فبكى، ثم قال: «اذهب فاغسله وكفنه وواره، غفر الله له ورحمه».


#1570#

قال: ففعلت، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر أياما ولا يخرج من بيته، حتى نزل عليه جبريل عليه السلام بهذه الآية: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى}.

قال علي رضي الله عنه: وأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلت.

وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي: أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب بعد الموت لا يصح، قال: وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه: «لأستغفرن لك»، قال: أنه عنى قبل أن تموت، وهو في السياق، فأما أن يكون استغفر له بعد الموت فلا، وانقلب ذلك على الرواة، وبقي ذلك على انقلابه. انتهى.

وقال أبو أحمد ابن عدي: حدثنا محمد بن هارون، حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا الفضل بن موسى -يعني السناني-، عن إبراهيم بن عبد الرحمن -هو الخوارزمي-، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم عارض جنازة عمه أبي طالب فقال: «وصلتك رحم، وجزيت خيرا يا عم».

ورواه أبو بكر محمد بن الحسن النقاش فقال: حدثنا الدارمي أحمد ابن عبيد، حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثنا أمير المؤمنين المأمون، حدثنا أمير المؤمنين الرشيد، حدثنا أمير المؤمنين الهادي، عن أبيه، عن جده، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم عارض جنازة أبي طالب قال: «وصلتك رحم، وجزاك الله يا عم خيرا».


#1571#

وخرجه أبو داود في كتابه "المراسيل" فقال: حدثنا أبو المغيرة، عن صفوان بن أبي اليمان الهوزني قال: لما توفي أبو طالب، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض جنازته.

قال ابن عوف: فجعل يمشي بجانبا لها ويقول: «برتك رحم، وجزيت خيرا»، ولم يقم على قبره.

وخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" من طريق أبي داود، وسمى أبا اليمان الهوزني: وائلا، والمعروف الذي جزم به مسلم وغيره أنه: عامر، فهو عامر بن عبد الله بن يحيى، أبو اليمان الهوزني، تفرد بالرواية عنه صفوان بن عمرو، ووثقه ابن حبان، ولينه ابن القطان.

ولما مات أبو طالب، قال أخوه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه يبكيه:

أرقت لنوح آخر الليل غردا ... نعيم الحليم والرئيس المسودا

أبا طالب مأوى الصعاليك ذا ... وذا الحلم لا جلفا ولم يلف قعددا

أخاك خلا ثلمة سيدها ... بنو هاشم أن تستباح وتضهدا

فأمست قريش يفرحون لفقده ... ولست ترى حيا لشيء مخلدا

رجا أمور زينتها حلومهم ... ستوردهم يوما من الغي موردا

يرجون تكذيب النبي وقتله ... وأن يفتروا بهتا عليه ويجحدا

كذبتم وبيت الله حتى نذيقكم ... صدور العوالي والصفيح المهندا

ويبدو منا منظر ذو كريهة ... إذا ما تسربلنا الحديد المسردا


#1572#

فإما تبيدونا وإما نبيدكم ... وإما تروا سلم العشيرة أرشدا

وإلا فإنا لحي دون محمد ... بني هاشم خير البرية محتذى

وأن له منهم من الله ناصرا ... ولست تلاقي من صاحب الله أوحدا

نبي أتى من كل حي بخطه ... وسماه ربي في الكتاب محمدا

أغر كان البدر صور وجهه ... جلا الغيم عنه ضوؤه فتبددا

أمين على ما استودع الله قلبه ... وإن قال قولا كان فيه مسردا

ووقع في "مغازي" يونس بن بكير، عن ابن إسحاق أنها لعلي بن أبي طالب، رثى بها أباه، ورثى أبو طالب بقصائد جمة، ذكر منها هذه لاشتمالها على مدحه صلى الله عليه وسلم.

وقد وردت رواية أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أحمد بن الحسن المقري دبيس: حدثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم العلوي، حدثنا عم أبي الحسن الحسين بن موسى، عن أبيه، عن علي بن الحسن المقري، عن علي رضي الله عنه: سمعت أبا طالب يقول: حدثني محمد ابن أخي -وكان والله صدوقا- قال: قلت له: بم بعثت يا محمد؟

قال: «بصلة الأرحام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة».

خرجه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه "روايات الإنسان دبيس".

ودبيس هذا صاحب مناكير وغرائب، وهذا منها، قال الدارقطني ليس بثقة.

وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الحافظ: حدثنا محمد بن فارس بن


#1573#

حمدان العنبري ببغداد، حدثنا علي بن سراج البرقعيدي بها، حدثنا جعفر ابن عبد الواحد القاضي قال: قال لنا محمد بن عباد، عن إسحاق بن عيسى، عن مهاجر مولى بني نوفل قال: سمعت أبا رافع رضي الله عنه: سمعت أبا طالب يقول: حدثني محمد صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل أمر بصلة الرحم الأرحام، وأن يعبد الله وحده، وأن لا يعبد معه أحد، ومحمد عندي الصدوق الأمين.

حدث به أبو بكر الخطيب في كتابه "رواية الآباء عن الأبناء"، عن أبي نعيم، به.

وهذا لا يثبت أيضا، وفي إسناده مجاهيل، وجعفر بن سليمان الهاشمي القاضي، رماه الدارقطني بالوضع، وأظنه سرق هذا الحديث وأتى به من هذا الطريق، والله أعلم.

وقال أبو ذر عبد بن أحمد: حدثنا منصور بن عبد الله الخالدي، حدثنا إسحاق بن محمد الكوفي، حدثنا علي بن محمد القفلي، حدثنا حصن بن أبان، حدثنا حسن بن علي الرافقي، عن يونس، عن إبراهيم، عن محمد بن الحنفية، عن عروة بن عمرو الثقفي: سمعت أبا طالب يقول: سمعت ابن أخي الأمين صلى الله عليه وسلم يقول: «أشكر ترزق، ولا تكفر فتعذب».

إسناده واه، ومنصور الخالدي مرمي بالكذب، رماه أبو سعد الإدريسي.

وقال محمد بن إبراهيم البناني: أخبرنا ابن البخاري، أخبرنا أبو اليمن زيد بن حسن الكندي، أخبرنا أبو علي الحسن بن علي بن المفرج ابن


#1574#

عبد الرحمن الصقلي، أخبرنا أبو ذر -هو عبد بن أحمد الهروي-، حدثنا منصور بن عبد الله الخالدي، حدثنا أبو أحمد إسحاق بن محمد بن علي الكوفي، حدثنا علي بن محمد، حدثنا خضر بن أبان، حدثنا حسن ابن علي الرافقي، عن يونس، عن إبراهيم، عن محمد بن الحنفية، عن عروة بن عمرو الثقفي قال: سمعت أبا طالب: سمعت ابن أخي الأمين صلى الله عليه وسلم يقول: «أشكر ترزق، ولا تكفر فتعذب».

توفي أبو طالب وهو ابن بضع وثمانين سنة، بعد عشر سنين من المبعث، قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين، ذكره ابن إسحاق وغيره، وكان في النصف من شوال، ويقال: في ذي القعدة.

وقيل: مات في السنة الثامنة من المبعث قبل فرض الصلوات الخمس.

وذكر ابن الحسين ابن فارس اللغوي: أنه لما مات أبو طالب، كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما.


#1575#

$مطلب وفاة خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها$

وماتت خديجة رضي الله عنها بعده بثلاثة أيام، وكذلك ذكر ابن قتيبة، وغيره

قال البيهقي في "الدلائل": وبلغني أن موت خديجة رضي الله عنها كان بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام، والله أعلم.

ذكره أبو عبد الله بن منده في كتاب "المعرفة"، وكذلك ذكره شيخنا أبو عبد الله الحافظ رحمهما الله تعالى.

وقيل: كان بين موت أبي طالب وموت خديجة خمسة أيام، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ماتت بعده بشهر وخمسة أيام، قاله الواقدي.

وروى يونس بن بكير، وزياد البكائي، وغيرهما، عن إسحاق: أن خديجة رضي الله عنها وأبا طالب ماتا في عام واحد.

ذكره أبو جعفر أحمد بن محمد الوراق، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق.

رواه يونس بن بكير أيضا، عن ابن إسحاق.

وقال أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الأنصاري الدولابي في كتابه "الذرية الطاهرة" من تأليفه: حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قال: توفيت خديجة رضي الله عنها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، وهي أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم


#1576#

وقال: حدثنا إبراهيم بن يعقوب، حدثنا عبد الله بن يوسف بن الليث، حدثه قال: حدثني عقيل بن خالد قال: قال ابن شهاب: توفيت خديجة بمكة قبل الهجرة.

وقيل: ماتت خديجة قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بأربع سنين.

وقيل: بعد الإسراء، فكان النبي صلى الله عليه وسلم -فيما روي عنه- يسمي ذلك العام: عام الحزن.

ذكره أبو محمد ابن صاعد.

وقال بعضهم: توفيت خديجة قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة.


#1577#

$مطلب فيما نال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين بعد موت عمه$

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي، عن محمد بن صالح بن دينار، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، والمنذر بن عبد الله، عن بعض أصحابه، عن حكيم بن حزام

ح وحدثنا محمد بن عبد الله، عن أبيه، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قالوا: لما توفي أبو طالب وخديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وكان بينهما شهر وخمسة أيام، اجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان، فلزم بيته، وأقل الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال، ولا تطمع به.

فبلغ ذلك أبا لهب فجاءه فقال: يا محمد! امض لما أردت، وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا فاصنعه، لا واللآت لا يوصل إليك حتى أموت.

وسب ابن الغيطلة -وهو الحارث بن قيس بن عدي- النبي صلى الله عليه وسلم، فاقبل عليه أبو لهب فنال منه، فولى وهو يصيح: يا معشر قريش! صبأ أبو عتبة، فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب فقالوا: فارقت دين عبد المطلب؟

[قال: لا،] ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد.


#1578#

فقالوا: قد أحسنت وأجملت، ووصلت الرحم.

فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياما يذهب ويأتي لا يعترض له أحد من قريش، وهابوا أبي لهب؛ إلى أن جاء عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل بن هشام إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟

فقال أبو لهب: يا محمد! أين مدخل عبد المطلب؟

قال: «مع قومه» فخرج أبو لهب إليهما فقال: قد سألته فقال: مع قومه.

فقالا: يزعم أنه في النار.

فقال: يا محمد! أيدخل عبد المطلب النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار».

فقال أبو لهب: والله لا برحت لك عدوا أبدا، وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار. فاشتد عليه، هو وسائر قريش.

وقال إبراهيم بن مهدي بن عبد الرحمن الأيلي: حدثنا أبو حاتم –وهو سهل بن محمد السختياني-، حدثنا الأصمعي، أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه قال: اصطرع أبو طالب وأبو لهب، فصرع أبو لهب أبا طالب وجلس على صدره، فمد النبي صلى الله عليه وسلم بذؤابة أبي لهب والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غلام.

فقال له أبو لهب: أنا عمك وهو عمك، فلم أعنته علي؟

قال: «لأنه أحب إلي منك»، فمن يومئذ عادى أبو لهب النبي صلى الله عليه وسلم،


#1579#

واختياله هذا الكلام في نفسه.

قال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور، حدثنا أبو بلال الأشعري، حدثنا قيس بن الربيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زالت قريش كافة عني حتى مات أبو طالب».

لم يرو هذا الحديث عن هشام بن عروة؛ إلا قيس، تفرد به أبو بلال، قاله الطبراني.

وقال أبو الفضل عباس بن محمد الدوري في "تاريخ يحيى بن معين" الذي ألفه: حدثنا يحيى، حدثنا عقبة المجدر، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زالت قريش كافة عني حتى مات أبو طالب».

تابعه يونس بن بكير، فحدث به في "المغازي" عن هشام بن عروة، عن أبيه رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما زالت قريش كاعين؛ حتى مات أبو طالب».

كاعين: من قولهم: رجل كع وكاع: جبان.

ورواية أبي الفضل الدوري، ويونس؛ مرسلة.

وقال دعلج بن أحمد في كتابه "مسند المقلين": أخبرنا موسى بن سهل، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا أبو الوليد، حدثنا عبد الغفار بن إسماعيل، حدثني الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، حدثني الحارث بن الحارث الغامدي قال: قلت لأبي: ما هذه الجماعة؟


#1580#

فقال: هؤلاء اجتمعوا على صابئ لهم.

قال: فتشوفنا، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل والإيمان به، وهم يردون عليه ويؤذونه، حتى ارتفع النهار وانصدع عنه الناس، وأقبلت امرأة قد بدا نحرها، تبكي وتحمل قدحا ومنديلا، فتناوله منها فشرب وتوضأ، ثم رفع رأسه إليها فقال: «يا بنية! خمري عليك نحرك، ولا تخافي على أبيك غلبة ولا ذلا».

قلنا: من هذه؟ [قالوا: هذه] ابنته زينب رضي الله عنها.

وخرج الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله في "فرائد الفوائد" له من حديث منيب بن مدركة الأزدي، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول للناس في الجاهلية: «قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا»، فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبه حتى انتصف النهار، فجاءت جارية بعس من ماء فغسل وجهه ثم قال: «يا بنية! لا تحزني ولا تخشي على أبيك غلبة ولا ذلا».

فقلت: من هذه؟ قالوا: هذه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي يومئذ جارية وصيفة.

خرجه عبد الباقي بن قانع في كتابه "معجم الصحابة".

وقال أبو الحسن علي بن محمد بن علي الإسفراييني المقري: أخبرنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثني يوسف بن يعقوب –هو القاضي-، حدثنا أبو الربيع، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن ابن مالك رضي الله عنه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم


#1581#

وهو خارج من مكة قد خضبه أهل مكة بالدماء، فقال: ما لك؟

قال: «خضبني هؤلاء بالدماء، وفعلوا وفعلوا».

قال: تريد أن أريك آية؟ قال: ادع تلك الشجرة، فدعاها صلى الله عليه وسلم، فجاءت تخط الأرض حتى قامت بين يديه.

قال: مرها فلترجع.

فقال: «ارجعي مكانك» فرجعت إلى مكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسبي».

حديث صحيح، قاله الذهبي بعد أن علقه في "تاريخ الإسلام" عن يوسف القاضي: وهو على شرط مسلم، لا أعرف له علة.

وحدث به نصر بن المهاجر المصيصي، عن بشر بن السري، حدثنا سفيان، عن إبراهيم بن ميسرة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين، وذكر الحديث بنحوه.

وحدث حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على الحجوم لما آذاه المشركون، فقال: «اللهم أرني اليوم آية لا أبالي من كذبني بعدها».

قال: فأمر فنادى شجرة، فأقبلت تخذ الأرض حتى انتهت إليه، ثم أمرها فرجعت.


#1582#

وروي عنه، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن مرسلا.

قال القاضي عياض: وحزنه صلى الله عليه وسلم لتكذيب قومه، وطلب الآية لهم، لا له صلى الله عليه وسلم، انتهى.

وخرج أبو عبد الله ابن منده في كتابه "معرفة الصحابة" من حديث عبد الملك بن هارون بن عنترة: حدثني أبي: سمعت أبا ثروان قال: كنت أرعى لبني عمرو بن تميم في إبلهم، فهرب النبي صلى الله عليه وسلم من قريش، فجاء حتى دخل في إبلي، فنفرت الإبل.

فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقلت: من أنت؟ فقد أنفرت إبلي، قال: «أردت أن استأنس إليك وإلى إبلك».

فقلت: من أنت؟ قال: «ما يضرك أن لا تسألني».

قلت: إني أراك الرجل الذي خرج نبيا، قال: «أجل، أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله».

قلت: اخرج من بين إبلي، فلا يبارك في إبل أنت فيها.

فقال: «اللهم أطل شقاه وبقاه».

قال أبي: فأدركته شيخا كبيرا يتمنى الموت، فقال القوم: ما نراك يا أبا ثروان إلا هالك، دعا عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: كلا، إني أتيته بعد ما ظهر الإسلام، فأسلمت واستغفر لي، ولكن دعوته الأولى سبقت.

رواه إبراهيم بن زكريا، عن عبد الملك، هكذا.

تابعه محمد بن سليمان بن الحارث الباغندي، عن عبد الملك بنحوه.


#1583#

وقال يحيى بن عبد الحميد الحماني: حدثنا أبو بكر بن عياش، ويحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خيثمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الملأ من قريش اجتمعوا على الحجر فتعاقدوا باللآت والعزى ومناة الثالثة الأخرى لئن رأينا محمدا؛ لنقومن إليه قيام رجل واحد فلنقتلنه.

فدخلت فاطمة عليها السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: «يا بنية! ما يبكيك؟».

فقالت: وما لي لا أبكي وقد تعاقدت قريش على أن رأوك؛ ليقومن إليك مقام رجل واحد فليقتلنك.

فقال: «أدلي وضوءا».

قالت: فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلى المسجد حتى دخل فقالوا: ها هو ذا، ها هو ذا، فخفضوا رؤوسهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، فلم يصل إليه منهم رجل، وعقروا في مجالسهم، فأخذ قبضة من تراب فحصبهم بها وقال: «شاهت الوجوه» فما أصابت حصاة من حصاته أحدا؛ إلا قتل يوم بدر كافرا.

خرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وتقدم.

وقال إبراهيم بن المنذر الحربي: حدثني إبراهيم بن الحسن بن علي ابن أبي رافع، حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: سمعت ربيعة بن عباد الديلمي يقول: أما ما أسمعكم تقولون أن قريش كانت تنال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أكثر ما رأيت، فإن منزله صلى الله عليه وسلم كان بين منزل أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، فكان ينقلب


#1584#

رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجد الأرحام والدماء والأفحاث قد نصبت على بابه لسية قوسه ويقول: «بئس الجوار يا معاشر قريش».

تابعه واحد "الأفحاث" ويقال: حفث، ويقال: حفثة، وهي ذات الطرائف من الكرش كهيئة الرمانة، كأنها من أطباق الفرث.

وقال أبو حاتم: وهي مؤنثة، وهي مما ينفض في الكرش كهيئة الرمانة، وتخطيء الجراون فيها فيسمونها: الحفت، بالتاء، أي: بالمثناة، وإنما هي بالثاء، أي: بالمثلثة، لأنهم لا يدرون، وأما التخفيف فجائز، والحفثة تؤدي إلى المبعر.

وقال أبو يعقوب: الفحث هي القبة، ويقال أيضا: حفته.


#1585#

$[مطلب] خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وأذاهم له، ودعاء الطائف، وعدم استجابة ثقيف له$

ولما اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذى، خرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف المنعة له من قومه، ورجا أن يقبلوا ما جاءهم به من عند الله تعالى، وذلك بعد موت خديجة رضي الله عنها بثلاثة أشهر في ليال بقين من شوال سنة عشر، ومعه زيد بن حارثة رضي الله عنه مولاه، فأقام بالطائف شهرين يدعوهم إلى الله عز وجل؛ فلم يجيبوه.

وقال الواقدي فيما علقه عنه ابن سعد في "الطبقات": فأقام بالطائف عشرة أيام، لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فلم يجيبوه، وخافوا على أحداثهم فقالوا: يا محمد! أخرج من بلدنا والحق بمجابك من الأرض. وأغروا بهم سفهاءهم، فجعلوا يرمونه بالحجارة، حتى إن رجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدميان، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى لقد شج في رأسه شجاج.

فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة وهو محزون، لم يستجب رجل واحد ولا امرأة، وذكر بقيته.

وخرج البخاري في "تاريخه الكبير" من حديث عبد ربه بن الحكم، أخبرتني أمي بنت رقيقة، عن أمها رقيقة أنها أخبرتها قالت: لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يبتغي النصر بالطائف فدخل عليها، فأمرت له بشراب


#1586#

من سويق، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «يا رقيقة! لا تعبدي طاغيتهم ولا تصلي إليها».

قالت: إذن يقتلوني، قال: «فإذا قالوا لك ذاك فقولي: رب رب هذه الطاغية، فإذا صليت، فوليها ظهرا».

فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندهم، قالت بنت رقيقة: فأخبرني أخواي سفيان، ووهب ابنا قيس بن أبان قالا: لما أسلمت ثقيف خرجنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما فعلت أمكما؟».

قلنا: هلكت على الحالة التي تركتها، قال: «لقد أسلمت أمكما إذن».

قال ابن إسحاق: فحدثني زيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرفهم، وهم أخوة ثلاثة: عبد ياليل ابن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم، لما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه.

فقال أحدهم: أنا أمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.

وقال الآخر: ما وجد الله أحدا أرسله غيرك؟

وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا كما تقول؛ لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله؛ ما ينبغي لي أن أكلمك.


#1587#

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم –فيما ذكر لي- «إذا فعلت ما فعلت، فاكتموا عني».

وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه فيزئرهم ذلك عليه، فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويضحكون به، حتى اجتمع إليه الناس وألجؤه إلى حائط لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، فدخل وهما فيه، ورجع عنه من كان يتبعه من سفهاء ثقيف، فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف.

وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما ذكر لي- المرأة من بني جمح فقال لها: «ماذا لقينا من أحمائك اليوم؟»، فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: -فيما ذكر لي-: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى غريب ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك».

ورواه أبو القاسم الطبراني فقال: أخبرنا محمد بن جعفر، حدثنا علي ابن المديني، حدثنا وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق،


#1588#

عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: لما توفي أبا طالب، خرج النبي صلى الله عليه وسلم ماشيا على قدميه إلى الطائف، فدعاهم إلى الله عز وجل فلم يجيبوه، فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت أرحم بي من أن تكلني إلى عدو يتجهمني أو إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبانا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك».

وقد رويت قصة الطائف من وجوه.

قال موسى بن عقبة في هذا الحديث، عن ابن شهاب قال: وقعدوا أهل الطائف له -يعني بالنبي صلى الله عليه وسلم- صفين على طريقه، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين صفيهم؛ جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، حتى أدموا رجليه.

وفي رواية سليمان التيمي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ألقته الحجارة، قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقومونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون.

وفي رواية ابن سعد: وزيد بن حارثة رضي الله عنه يقيه بنفسه، حتى لقد شج في رأسه شجاج.

قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: فخلص منهم وهما –يعني رجليه- يسيلان الدماء، فعمد إلى حائط من حوائطهم، فاستظل في ظل


#1589#

حبلة منه، وهو مكروب موجع، وإذا في الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة، فلما رآهما، كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله.

قال: فلما رآه ابنا ربيعة؛ تحركت له رحمهما.

وقال ابن إسحاق: فلما رآه عتبة وشيبة ابنا ربيعة وما لقي، تحركت له رحمهما، فدعا غلاما لهما نصرانيا يقال له: عداس، فقالا: خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له فليأكل منه.

ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: كل.

فلما وضع صلى الله عليه وسلم فيه يده قال: «بسم الله» ثم أكل.

فنظر عداس في وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟».

قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى.

فقال له صلى الله عليه وسلم: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟».

فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك أخي، وكان نبيا، وأنا نبي»، فأكب عداس على النبي صلى الله عليه وسلم فقبل رأسه ويديه


#1590#

وقدميه.

قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس فقالا: ويحك يا عداس! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟

فقال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي.

قال: ويحك يا عداس! لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.

وقال أبو محمد إسماعيل بن علي بن إسماعيل بن يحيى بن بيان الخطبي: حدثنا أحمد بن علي الأبار، حدثنا عبد الجبار بن عاصم، حدثني عبد الله بن زياد أبو عبد الرحمن، عن زرعة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيفا على أن يكفلوه حتى يظهر النبي صلى الله عليه وسلم ولهم الجنة، فأقبل إليه مشيختهم فقالوا: تريد أن ترمينا العرب عن كبد قوس واحد عنك؟

وأقبلوا فأمسكوا بضبعيه وأمروا الصبيان أن يرموا ساقيه بالحجارة، فخلوا سبيله، فنزل حائطا حتى ألقى نفسه في البستان، فنظر إليه صاحب البستان فقال لأخيه: هذا والله أحمد قد فر، قال: أجل.

فقالوا لغلام لهم: انطلق إلى طبق فضع فيه أقطافا من عنب، ثم اذهب إليه، فإن سألك ما هذا؟ فقل: هدية.

فانطلق الغلام حتى وضع الطبق بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم،


#1591#

فقال: ما هذا؟ فقال: هدية، فقال: «بسم الله» ووضع يده فأكل.

فقال للغلام: «كأني أراك أعجميا؟»، فقال: نعم.

قال: «من أي البلاد أنت؟» قال: من بلاد لا تعرف في هذه البلاد.

قال: «فسمها لي؟»، قال: أنا من نينوى.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من مدينة العبد الصالح يونس بن متى؟».

قال: ومن أين تعرف يونس بن متى في هذه البلاد؟

قال: «أخبرني به جبريل عليه السلام».

قال: ورأيت جبريل: قال: «نعم»

قال: فأنت نبي، فقام إليه وقبل رأسه وقال: آمنت بك.

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع الغلام إلى مواليه فقالوا: ما قال لك الكذاب؟

فقال: ليس بكذاب، ولكنه صادق، حدثني عن جبريل عليه السلام، ولا يرى جبريل إلا نبي، وحدثني عن نبي كان في بلادي.

قال عبد الله بن زياد: وبلغني أن صاحب البستان كان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

وثبت من حديث يونس بن يزيد، عن الزهري: أخبرني عروة: أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟


#1592#

قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، كان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي؛ فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك، وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين».

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا».


#1593#

$مطلب خبر الجن الذين أسلموا وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم$

لما يئس النبي صلى الله عليه وسلم من خير ثقيف، انصرف راجعا من الطائف إلى مكة، حتى إذا كان بنخلة، قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر الذي ذكر الله عز وجل من أهل نصيبين، فيما ذكره ابن إسحاق، وكان عمره صلى الله عليه وسلم حينئذ إحدى وخمسون سنة وثلاثة أشهر، فيما ذكره أبو الحسين ابن فارس اللغوي.

وجن نصيبين أشراف الجن، وقد ذكرهم الله تعالى في كتابه العزيز في قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه}.

قال داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة قال: قلت لابن مسعود رضي الله عنه: هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟

فقال: ما صحبه منا أحد، ولكن فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا: اغتيل، استطير، ما فعل؟ فبتنا بشر ليلة بات فيها قوم، فلما كان في وجه الصبح –أو قال: في السحر-، إذ نحن به يجيء من قبل حراء.


#1594#

فقلت: يا رسول الله!، فذكر الذي كانوا فيه.

فقال: «إنه أتاني داعي الجن، فأتيتهم فقرأت عليهم»، فانطلق فأرانا آثارهم، آثار نيرانهم.

خرجه مسلم في "الصحيحين". قال مسعر، عن معن: حدثنا أبي، سألت مسروقا: من أذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن؟

فقال: حدثني أبوك -يعني ابن مسعود- أنه أذنته بهم شجرة.

معن هو: ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي، إمام ثقة.

وقال زهير بن محمد التميمي، عن ابن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن، قال: «مالي أراكم سكوتا، للجن كانوا أحسن ردا منكم، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد».

وقد اختلفت الرواية في حضور ابن مسعود رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فرواية الشعبي، عن علقمة، عنه، المتقدمة تشعر أنه ما حضر.

وقال عبد الله بن صالح: حدثني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني أبو عثمان بن سنة الخزاعي –من أهل الشام- أنه سمع ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو بمكة: «من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن، فليفعل».

فلم يحضر منهم أحد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة، خط


#1595#

لي برجله خطا، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام فاستفتح القرآن، فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أستمع صوته، ثم انطلقوا وطفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، حتى ما بقي منهم رهط، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فانطلق فتبرز، ثم أتاني فقال: «ما فعل الرهط؟».

فقلت: هم أولئك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عظما وروثا فأعطاهم إياه.

زاد: ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم، أو بروث.

وخرجه النسائي مختصرا بنحوه من حديث ابن وهب، عن يونس.

وروى سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي: أن ابن مسعود رضي الله عنه أبصر زطا في بعض الطريق فقال: ما هؤلاء؟

قال: هؤلاء الزط.

قال: ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن، وكانوا مستنفرين يتبع بعضهم بعضا.

وقال عثمان بن عمر بن فارس، عن مستمر بن الريان، عن أبي الجوزاء، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون، فخط علي خطا، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه، فقال -سيدهم، يقال له: وردان-: إني أنا أرحلهم عنك، فقال: {إني لن يجيرني من الله أحد}.

ووردان هذا، لم يجيء له ذكر في أسماء وفد نصيبين.


#1596#

ذكر أبو جعفر أحمد بن محمد البغدادي، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق: أن هؤلاء النفر كانوا سبعة، وأن أسماؤهم: حسا، ومسا وشاصر، وناصر، وأينا، والأرد، والأخطم، استمعوا لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم لبعض: أنصتوا، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا، وأجابوا إلى من سمع، فقص الله تعالى خبرهم في القرآن، وذكر كلاما آخر.

وأخبرنا أبو بكر بن إبراهيم بن الغر قراءة عليه وأنا أسمع، في يوم السبت التاسع والعشرين من شوال سنة ثمان وتسعين وسبع مئة بصالحية دمشق، أخبرتنا زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم، أنبأنا أبو الحسن محمد ابن علي بن بقاء، وأبو عبد الله محمد بن أبي الفتوح قالا: أخبرنا عبيد الله من لفظه سماعا.

ح وأخبرنا أبو بكر، أخبرنا الحافظ أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن القضاعي، ومحمد بن أحمد بن عبد الله المقدسي، وأخوه أبو محمد عبد الله من لفظه قالوا: أخبرنا أحمد بن عبد الحميد المقدسي، وإسماعيل بن عبد الرحمن الفراق، أخبرنا الموفق عبد الله بن أحمد بن قدامة، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن النقور قالا: حدثنا علي بن العلاف، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد المقري، أخبرنا عثمان -هو ابن أحمد بن السماك-، حدثنا ابن البراء -يعني محمد بن أحمد-، حدثنا الزبير بن بكار قال: كان حمزة بن عتبة بن أبي لهب يسمي جن نصيبين الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: حسا، ومسا، وشاصر، وناصر، والأفخر، والأرد، وأينان.


#1597#

وقال أحمد بن منيع: حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان الثوري عن عاصم، عن زر، عن عبد الله رضي الله عنه قال: اهبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ببطن نخلة، فلما سمعوا قالوا: أنصتوا، قالوا: صه، وكانوا سبعة، أحدهم زوبعة.

ورواه عمرو بن علي، عن أحمد الزبيري فلم يجاوز به زر، أسقط ابن مسعود، وقد جاء في تسميته أحدهم غير ما ذكر.

قال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "الهواتف": حدثني محمد بن عباد بن موسى العكلي، حدثنا محمد بن زياد بن زبار الكلبي، حدثنا أبو مصبح الأسدي، حدثني يحيى بن صالح، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، عن حذيفة بن غانم العدوي، قال: خرج حاطب بن أبي بلتعة من حائط يقال له: قران، يريد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالمسحاء؛ التفتت عليه عجاجتان، ثم انجلتا عن حية لين الجوران –يعني الجلد-، فنزل ففحص له بسية قوسه، ثم واراه، فلما كان الليل؛ إذ هاتف يهتف به شعرا.

يا أيها الراكب المزجي مطيته ... اربع عليك سلام الواحد الصمد

وأريت عمرا قد ألقى كلاكله ... دون العشيرة كالضرغامة الأسد

أشجع من خادر في الخيس منزله ... وفي الخباء من العذراء في الخلد

قال شرقي: الخلد، قال الله تعالى: {ولدان مخلدون}: محلون.

فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «ذاك عمرو بن الحرماز وافد نصيبين الشامية، لقيه محصن بن جوشن النصراني فقتله، أما أني قد


#1598#

رأيتها، ورفعها إلي جبريل، فسألت الله أن يعذب نهرها، ويطيب ثمرها، ويكثر مطرها».

وقد جاء: أن النفر كانوا: ثمانية.

قال أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي في "السير": وقالوا: وعارض الناس في مسيرهم -يعني إلى تبوك- حية، ذكر من عظمها وخلقها وإيضاع الناس عنها-، فأقبلت حتى وافقت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلا، والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى انبرأت الطريق، فقامت قائمة حتى لحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقال لهم: «هل تدرون من هذه؟».

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: «فإن هذه أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إلي يستمعون القرآن، فرأى عليه من الحق حين ألم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببلده أن يسلم عليه، هو ذا يقرئكم السلام، فسلموا عليه».

فقال الناس جميعا: وعليه السلام ورحمة الله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحبوا عباد الله من كانوا».

وقد ورد: أن النفر كانوا: تسعة.

قال أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي: حدثنا يونس –يعني ابن بكير-، عن الأعمش قال: بلغني أن الجن الذين خاطبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا تسعة.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث سلم بن قتيبة: حدثنا


#1599#

عمر بن نبهان، حدثني أبو عيسى سلام، حدثنا صفوان بن المعطل رضي الله عنه قال: خرجنا حجاجا فلما كان بالعرج، إذ نحن بحية تضطرب، فلم نلبث أن ماتت، فأخرج لها منا خرقة من عيبة له فلفها فيها، وخد لها في الأرض، ثم قدمنا مكة، فإنا لبالمسجد الحرام؛ إذ وقف علينا شخص فقال: أيكم صاحب عمرو بن جابر؟

فقلنا: ما نعرفه.

فقال: أيكم لصاحب الجان؟

قالوا: هذا.

قال: أما إنه كان آخر التسعة موتا الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن.

وخرجه الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه".

قد جاء: أن الرجل الذي دفن هذه الحية: أبو رجاء العطاردي.

قال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "الهواتف": حدثني محمد بن الحسين، حدثني أبو الوليد الكندي، حدثنا كثير بن عبد الله أبو هاشم الباجي قال الحسن: دخلنا على أبي رجاء العطاردي فسألناه: هل عندك علم من الجن ممن تابع النبي صلى الله عليه وسلم؟

فتبسم وقال: أخبركم بالذي رأيت، وبالذي سمعت، كنا في سفر، حتى إذا نزلنا على الماء وضربنا أخبيتنا، وذهبت أقيل، إذا أنا بحية دخلت


#1600#

الخباء وهي تضطرب، فعمدت إلى أدواتي ونضحت عليها من الماء، فلما نضحت عليها سكنت، وكلما حبست عليها الماء اضطربت، حتى أذن المؤذن بالرحيل.

فقلت لأصحابي: انتظروني حتى أعلم علم هذه الحية إلام تصير.

فلما صلينا العصر ماتت، فعمدت إلى عباءتي فأخرجت منها خرقة بيضاء، فلففتها بها وحفرت لها ودفنتها، وسرنا بقية يومنا ذلك وليلتنا، حتى إذا أصبحنا ونزلنا على الماء، وضربنا أخبيتنا وذهبت أقيل، فإنا أنا بأصوات مرتين: سلام عليك، لا واحد ولا عشرة ولا مئة، إلا أكثر من ذلك.

فقلت: من أنتم؟

قالوا: نحن الجن، بارك الله عليك، قد صنعت إلينا ما لا نستطيع أن نجازيك.

قلت: وماذا صنعت إليكم؟

قالوا: إن الحية التي ماتت عندك، كان ذلك آخر من بقي ممن تابع النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أيضا: حدثني محمد بن عباد بن موسى العكلي، حدثنا مطلب ابن زياد الثقفي، حدثنا أبو إسحاق: أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في مسير لهم، وأن حيتين اقتتلتا، فقتلت إحداهما الأخرى، فعجبوا لطيب ريحها وحسنها، فقام بعضهم فلفها في خرق ثم دفنها، فإذا قوم يقولون: السلام عليكم، السلام عليكم، لا يرونهم، أي:


#1601#

دفن عمرا، إن مسلمينا وكفارنا اقتتلوا فقتل مسلمنا، فكان من الرهط الذين أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرج الحافظ أبو نعيم في كتابه "الحلية" من حديث نصر بن داود ابن طوق: حدثنا محمد بن الفضل، حدثنا العباس بن راشد، عن أبيه راشد قال: زار عمر بن عبد العزيز مولاي، فلما أراد الرجوع قال لي: شيعه، فلما برزنا؛ إذ نحن بحية سوداء ميتة، فنزل عمر فدفنها، فإذا هاتف: يا خرقا يا خرقا! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهذه الحية الميتة: «لتموتن بفلاة من الأرض، وليدفنك خير أهل الأرض يومئذ».

فقال: ناشدتك الله إن كنت ممن يظهر إلا ظهرت لي، فقال: أنا من السبعة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الوادي، وإني سمعته يقول لهذه الحية: «لتموتن بفلاة من الأرض، وليدفنك خير أهل الأرض، يومئذ»، فبكى عمر رضي الله عنه حتى كاد يسقط عن راحلته وقال: يا راشد! أنشدتك الله أن لا تخبر بهذا الخبر حتى تواريني التراب.

وخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "الهواتف" بنحوه، فقال: حدثني محمد بن الحسين، حدثني يوسف بن الحسن الرقي، حدثني فياض بن محمد الرقي: أن عمر بن عبد العزيز بينا هو يسير على بغلة له، ومعه ناس من أصحابه، إذا هو بجان ميت على قارعة الطريق، فنزل عمر فأمر به فعدل عن الطريق، ثم حفر له فدفنه وواراه، ثم مضى، فإذا هو بصوت عال يسمعونه ولا يرون أحدا وهو يقول: لتهنك البشارة من الله يا أمير المؤمنين، أنا وصاحبي هذا الذي دفنته آنفا؛ من النفر الذين قال الله عز وجل: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن}، وأنا لما


#1602#

أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبي هذا: «أما إنك ستموت في أرض غربة، يدفنك فيها يومئذ خير أهل الأرض».

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث عبد الحميد الحماني، عن النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه} قال: كان تسعة من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم.

قال الفضل بن الحسن بن الأعين أبو العباس الأهوازي: حدثني عبد الله بن الحسن المصيصي قال: دخلت طرسوس فقيل: هاهنا امرأة قد رأت الجن الذين وفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت فإذا امرأة مستلقية على قفاها.

فقلت: ما اسمك؟ قالت: منوس.

قال: قلت: يا منوس، هل رأيت أحدا من الجن الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قالت: نعم، حدثني عبد الله سمحج قال: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وذكر الحديث بطوله.

حدث به أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الشافعي، عن الأهوازي.

تابعه أبو القاسم الطبراني، فحدث به في "النوادر" عن عبد الله بن


#1603#

الحسين المصيصي، به.

وقال سلمة بن شبيب التمار قال: غدوت يوما قبل الفجر إلى المسجد الجعفري، يعني: الحسن بن أبي جعفر، قال: فإذا باب المسجد مغلقا، وإذا حسن جالس يدعو، وإذا ضجة في المسجد، وجماعة يؤمنون على دعائهم، وحسن يدعو.

قال: فجلست على باب المسجد حتى فرغ من دعائه، فقام فأذن وفتح باب المسجد، فدخلت فلم أر في المسجد أحدا، فلما أصبح وتفرق عنه الناس؛ قلت: يا أبا سعيد! والله رأيت عجبا، قال: ما رأيت؟

فأخبرته بالذي رأيت وسمعت، قال: أولئك جن نصيبين، يجيئون فيشهدون معي ختم القرآن كل ليلة جمعة، ثم ينصرفون.

خرجه أبو نعيم في "الحلية" لسلمة بن شبيب.

وقال الحافظ أبو سعيد ابن السمعاني في "تاريخه": حدثنا أبو القاسم ابن أبي الفضل بن محمد بن الحافظ من لفظه بآمل وكتب لي بخطه، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن حاتم بن أحمد الطوسي بقراءتي عليه في زاوية بحرم الله تعالى، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبي الوفا السمرقندي بمكة، حدثتني الواعظة سعيدة بنت محمد بن الحسن بن أحمد مملولة الأصفهانية، أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى بن عبد العزيز بن الصباح الهمداني شيخ الصوفية بهمدان، وعلي بن محمد الخلاوي قالوا: حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن جعفر، حدثني عمر بن واصل، سمعت سهل بن عبد الله رحمه الله يقول:

بناحية من ديار عاد، إذ رأيت مدينة من حجر منقور، في وسطها قصر


#1604#

من حجارة منقورة، مسقوفة سقوفه وأبوابه تاويها الجن، فدخلت معتبرا، فإذا فيه شيخ عظيم الخلق، يصلي نحو الكعبة، عليه جبة من صوف فيها طراوة.

قال سهل: إن الأبدان لا تخلق الثياب، وإنما تخلقها روائح الذنوب وطعام السحت، وإن هذه الجبة علي من سبع مئة سنة، فيها لقيت عيسى بن مريم، ومحمد صلى الله عليه وسلم فآمنت به.

فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا الذي نزلت في: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن}.

وقال الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب "دلائل النبوة": حدثني عبد الله بن محمد بن عيسى، وأبو عمرو بن حكيم، وابن شهاب قالوا: حدثنا علي بن محمد الثقفي، حدثني منجاب بن الحارث، حدثنا أبو عامر الأسدي، عن ابن خربوذ، عن موسى بن عبد الملك، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هتف هاتف الجن على أبي قبيس بمكة يقول:

قبح الله رأي كعب بن فهر ... ما أراق العقول والأحلام

ذنبها أنه تعنف فيها ... دين آبائها الحماة الكرام

حالف الجن جن بصرى عليكم ... ورجال التحيل والآطام

يوشك الخيل أن تروها تهادي ... تقتل القوم في البلاد التهام

هل كريم منكم له نفس حر ... ماجد الوالدين والأعمام

ضارب ضربة تكون نكالا ... ورواحا من كربة واعتمام


#1605#

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا شيطان يكلم الناس في الأوثان، يقال له: مسعر، والله مخزيه.

قال: فمكثوا ثلاثة أيام، فإذا هاتف يهتف على الجبل يقول:

نحن قتلنا مسعرا ... لما طغى واستكبرا

وسفه الحق وسن المكرا ... فبغته سيفا حروفا مبترا

بشتمه نبينا المطهرا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلكم عفريت من الجن يقال له: سمحج، سميته: عبد الله، آمن بي وأخبرني أنه في طلبه منذ أيام».

فقال علي بن أبي طالب: جزاه الله خيرا يا رسول الله.


#1606#

$مطلب في استجارة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخوله مكة راجعا من الطائف من المشركين$

قال ابن هشام: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته، سار إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن [شريق] ليجيره، قال: إني حليف، والحليف لا يجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدي، فأجابه إلى ذلك.

ثم تسلح المطعم وأهل بيته فخرجوا حتى أتوا المسجد، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى عنده، ثم انصرف إلى منزله.

وفي رواية: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى حراء، أرسل رجلا إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد نوفل بن عبد مناف القرشي: «أدخل في جوارك؟» قال: نعم، ودعا المطعم بنيه وقومه: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدا صلى الله عليه وسلم.

فدخل صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة رضي الله عنه، حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش! إني أجرت محمدا فلا يهجمه أحد منكم، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن، فاستلمه وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته، والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى


#1607#

دخل بيته.

وقال أبو جعفر محمد بن جرير في "تاريخه": وذكر بعضهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف يريد مكة، مر به بعض أهل مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل أنت مبلغ عني رسالة أرسلك بها؟».

قال: نعم.

فقال: «ائت الأخنس بن شريق فقل له: يقول لك محمد: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالة ربي؟».

فأتاه فقال له ذلك، فقال الأخنس: إن الحليف لا يجير على الصريح، وذكر نحو ما تقدم.

وقال في آخره: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فأقام بها، فدخل يوما المسجد الحرام والمشركون عند الكعبة، فلما رآه أبو جهل قال: هذا نبيكم يا بني عبد مناف.

فقال عتبة بن ربيعة: وما تنكر أن يكون منا نبي، أو ملك؟ .

فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، أو سمعه، فأتاه فقال: «أما أنت يا عتبة بن ربيعة، فوالله ما حميت لله ولا لرسوله، ولكن حميت لأنفك، وأما أنت يا أبا جهل بن هشام، فوالله لا يأتي عليك غير كبير من الدهر حتى تضحك قليلا وتبكي كثيرا، وأما أنتم يا معشر قريش، فوالله لا يأتي عليكم غير كبير من الدهر حتى تدخلوا فيما تنكرون وأنتم كارهون».


#1608#

$مطلب المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم$

وحدث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله محتسبا، مؤديا إلى قومه النصيحة على ما كان من الثائرة والأذى والاستهزاء، وكان عظماء المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني زيد بن رومان، عن عروة، أو غيره من العلماء قال:

كان المستهزؤون برسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة: الأسود بن عبد يغوث بن وهب، والأسود بن المطلب بن أسد، والوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والحارث بن الطلاطلة –أحد خزاعة-، فكانوا يهزؤون برسول الله صلى الله عليه وسلم، يغمزونه، فأتاهم جبريل عليه السلام فوقف عند الكعبة وهم يطوفون بها، فمر به الأسود بن عبد يغوث، فأشار جبريل إلى بطنه فمات حبنا، ومر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي، ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى جرح في كعب رجله، وكان أصابه قبل ذلك بسنتين، فانتقض به فقتله، ومر به العاصي بن وائل فأشار إلى أخمص رجله، فركب إلى الطائف على


#1609#

حمار، فربض به على شبرقة فدخلت في أخمس قدمه شوكة فقتلته، ومر الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه فامتخض قيحا حتى قتله، ففيهم أنزل الله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين}.

وحدث سفيان الثوري، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {إنا كفيناك المستهزئين} قال: المستهزؤون: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، وأبو زمعة الأسود بن المطلب –من بني أسد بن عبد العزى-، الحارث بن عيطل السهمي، والعاصي بن وائل.

فأتاه جبريل عليه السلام فشكاهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه، فأراه الوليد، وأومأ جبريل إلى الجملة فقال: «ما صنعت؟» فقال: كفيته.

ثم أراه أبا زمعة فأومأ إلى رأسه، فقال: «ما صنعت؟»، فقال: كفيته، ثم أراه الحارث، فأومأ إلى رأسه، أو بطنه، وقال: كفيته، ومر به العاص، فأومأ إلى أخمصه وقال: كفيته.

فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو: يريش سهامه فأصاب أكلحه فقطعها، وأما الأسود فعمي، وأما ابن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات، وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها، وأما العاص فدخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت فمات منها.

وقال محمد بن مروان الكوفي –السدي الصغير-، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الوليد بن المغيرة المخزومي قال حين حضر الموسم: يا معشر قريش! أن محمدا رجل حلو الكلام، وقد أغار أمر ذكره في البلاد وأنجد، وإني لا آمن أن يصدقه


#1610#

الناس، فابعثوا رهطا من ذوي الرأي والحجال إلى أنقاب مكة على مسيرة ليلة أو ليلتين ليلتقوا الناس، فمن سأل عن محمد، فليقل بعضهم: إنه ساحر، وبعضهم: إنه مجنون، وبعضهم: إنه كاهن، وبعضهم: إنه شاعر، إن لم تروه خيرا من أن تروه.

فبعثوا ستة عشر رجلا في أربعة من الطرق، في كل طريق أربعة نفر، وأقام الوليد بن المغيرة بمكة يقول لمن سأل عن محمد صلى الله عليه وسلم: إنه كاهن ومجنون، ففعلوا ذلك، وتصدع الناس عن قولهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرجو أن يلقى الناس أيام الموسم فيعرض عليهم أمره، فمنعه هؤلاء. وفرحت قريش، وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا دأبنا ودأبك ما عشنا.

فنزل جبريل عليه السلام، والنبي صلى الله عليه وسلم في الحجر، فمر به الوليد بن عتبة، فقال جبريل: كيف تجد هذا؟ قال: «بئس عبد الله»، فأهوى جبريل بيده إلى فوق كعبه فقال: كفيت أمره، فمر الوليد بحائط فيه نبل لبني المصطلق –وهم حي من خزاعة- وعليه بردان يتبختر فيهما، فعلق سهم بإزاره، فمنعه الخيلان أن ينزعه، فنفض السهم فأصاب أكحله فقتله.

ومر به العاصي بن وائل السهمي، فقال جبريل: كيف تجد هذا؟ قال: «عبد سوء»، فأهوى جبريل إلى باطن قدميه فقال: كفيت أمره، فركب حمارا يريد الطائف، فصرعه الحمار على شوك، فدخلت شوكة باطن قدمه؛ فنفخت فقتلته.

ومر به الحارث بن قيس بن عمرو بن ربيعة بن سهم، فقال جبريل:


#1611#

كيف تجد هذا؟ فقال: «عبد سوء»، فأهوى جبريل إلى رأسه وقال: كفيت أمره، فنفخ رأسه ومات.

ومر به الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، فقال جبريل: كيف تجد هذا؟ قال: «عبد سوء»، فأهوى جبريل إلى بطنه وقال: قد كفيت أمره، فعطش، فجعل يشرب ولا يروى حتى مات.

ومر به الأسود بن المطلب بن عبد العزى بن قصي، فقال جبريل: كيف تجده؟ قال: «بئس العبد هو»، فضربه بجندل في وجهه وقال: قد كفيته، فعمي ثم مات منها.


#1612#

$مطلب الإسراء، ونزول سورة النجم، وأول سورة سبحان$

وبعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة من الطائف واستقراره بمكة آمنا غير خائف، خصه الله بخصيصة فضلها لا يحصى، وهو: أنه سبحانه أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وكان ذلك بعد وفادة جن نصيبين بخمسة أشهر ونيف من الأيام، على خلاف في ذلك بين حفاظ الإسلام.

وقد نبه الله تعالى على قصة الإسراء بقوله تعالى: {والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى}، إلى قوله: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى}، وهذه أول سورة أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرم والمشركون يسمعون، وفيها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن، غير ذلك الشيخ الضال، فإنه أخذ كفا من تراب فرفعه إلى جبهته فقال: يكفيني هذا، فقتله الله عز وجل ببدر كافرا.

وهذا الشيخ هو: أمية بن خلف، جزم بهذا جماعة.

وقال أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري في "زياداته" على كتاب أبي إبراهيم المزني: حدثني جعفر بن محمد بن مخلد الخفاف بأنطاكية، حدثنا حجاج بن محمد، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أول سورة نزلت على


#1613#

رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها سجدة: النجم، فقرأها، فسجد وسجد المسلمون والمشركون إلا رجلا من قريش فرفع إلى جبهته كفا من تراب، وأبى أن يسجد، فرأيته قد قتل كافرا، وهو: أمية بن خلف.

قال أبو بكر: فيه زيادة لا أعلمها إلا في حديث حجاج، انتهى.

وقيل: هو أبو أحيحة سعيد بن العاصي: أخذ ترابا فسجد عليه.

ووقع في "معجم الطبراني الكبير" من رواية عمرو بن خالد الحراني، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة رضي الله عنه: أنه –يعني النبي صلى الله عليه وسلم- سجد وسجد معه كل من حضره من مسلم ومشرك، غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا، فرفع على كفه ترابا فسجد عليه، وذكر الحديث.

وذكر سنيد بن داود في "تفسيره" عن ابن جريج: إنه عتبة بن ربيعة.

وقد جاء: بأن المطلب بن أبي وداعة الحارث بن ضبيرة بن سعيد السهمي، وهو صحابي، وأبوه صحابي رضي الله عنهما، كان حاضرا حين قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم وسجد وسجد الناس معه، وكان المطلب يومئذ مشركا فلم يسجد.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عبد الله بن طاووس، عن عكرمة بن خالد، عن المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في "النجم"، قال: فسجد الناس معه.

قال المطلب: ولم أسجد معهم. وهو يومئذ مشرك.


#1614#

قال المطلب: فلا أدع أن أسجد فيها أبدا.

وقال النسائي في "سننه": أخبرنا عبد الكريم بن عبد الحميد، حدثنا حنبل، حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح بن معمر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن جعفر بن المطلب، عن أبي وداعة، عن أبيه رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة "النجم"، فسجد من عنده، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد، ولم يكن يومئذ أسلم المطلب.

عكرمة بن خالد سمع من جعفر، ومن أبيه.

وسبب نزول هذه السورة –والله أعلم- قول المشركين: إن محمدا يختلق القرآن، فأقسم الله تعالى بالنجم تنزيه نبيه صلى الله عليه وسلم عما رمي به، فقال تعالى: {والنجم إذا هوى}، الآيات.

والأقسام في القرآن تقع على أصناف: تارة تقع على التوحيد كقوله تعالى: {والصافات صفا} إلى قوله: {إن إلهكم لواحد}.

وتارة تقع على أن القرآن حق، كقوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم . وإنه لقسم لو تعلمون عظيم . إنه لقرآن كريم} الآية.

وتارة تقع على الجزاء والوعد والوعيد، كقوله تعالى: {والطور . وكتاب مسطور} إلى قوله {إن عذاب ربك لواقع}، ونحو ذلك.

وتارة تقع على حال الإنسان، كقوله تعالى: {والليل إذا يغشى}


#1615#

إلى قوله: {إن سعيكم لشتى}.

وتارة تقع على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، وعلى تنزيهه عما رمي به، كقوله تعالى في هذه السورة: {والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى}.

وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: {والنجم} على أقوال: فروى عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النجوم التي ترمى بها الشياطين إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع، وهو قول الحسن، وأظهر الأقوال، ويكون النجم اسم جنس، والمراد النجوم، وعلى هذا أقسم الله تعالى بهذه الآية الظاهرة التي نصبها آية وحفظا للوحي من استراق الشياطين له، على أن ما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وصدق، ولا سبيل للشيطان عليه.

وقيل: النجم: الثريا، قاله مجاهد، وهويها سقوطها مع الفجر، ولا تقول العرب النجم مطلقا إلا للثريا.

وقيل: النجم: القرآن، رواه عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، ونقل عن مجاهد، وهو قول الضحاك، ومقاتل، والكلبي.

و{هوى} على هذا القول: نزل من علو إلى سفل، نزل في ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم جعل ينزل نجوما شيئا بعد شيء كما ذكرناه قبل، فيكون قد أقسم تعالى بالقرآن ونزوله على تنزيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبراءته مما نسب إليه أعداؤه من الضلالة والغي في العلم والعمل.


#1616#

وقيل: النجم: قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو انشرح من الأنوار. وهو قول جعفر بن محمد، فيكون أقسم تعالى بقلب نبيه صلى الله عليه وسلم دليل على شرفه وعظيم قدره.

وقوله تعالى: {ما ضل صاحبكم وما غوى} قال تعالى: {ما ضل صاحبكم} ولم يقل: ما ضل محمد، تأكيدا لإقامة الحجة عليهم، فإنه صاحبهم، وهو أعلم الناس به، وبحاله وأقواله وأعماله، وأنهم لا يعرفونه بكذب ولا غي ولا ضلال، بل كانوا يسمونه صلى الله عليه وسلم: الأمين.

{وما ينطق عن الهوى} أي: عن هوى نفسه ورأيه، ولم يقل تعالى: وما ينطق بالهوى، لأنه نفي نطقه صلى الله عليه وسلم عن الهوى أبلغ، فإذا لم ينطق عن الهوى؛ فكيف ينطق بالهوى؟، فنفى عنه الأمرين، فنطقه بالحق ومصدره عن الهوى والرشاد، لا الغي والضلال.

وقوله تعالى: {إن هو إلا وحي يوحى}أي: أن نطقه وحي إليه من الله تعالى.

وخرج الإمام الزاهد أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي رحمة الله عليه في كتابه "الحجة" من حديث المعافى بن عمران بن نفيل بن جابر –فقيه أهل الموصل وزاهدهم-، عن الأوزاعي، عن أبي عبيدة –يعني صاحب سليمان بن عبد الملك-، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبي نضلة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يسألني الله عن سنة أحدثتها فيكم؛ لم يأمرني الله عز وجل بها».

وقوله تعالى: {علمه شديد القوى} أخبر الله تعالى عن وصف


#1617#

من علم النبي صلى الله عليه وسلم الوحي والقرآن؛ بما يعلم أنه مضادا لأوصاف الشيطان معلم الضلالة والغواية، قال تعالى: {علمه شديد القوى} لأن الوحي أخذه النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل، وجبريل عن رب العالمين جلت عظمته.

وفي وصف جبريل بالقوي؛ تنبيها على أمور: منها: أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو منه، وينالوا منه شيئا، أو يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، بل إذا أراه الشيطان هرب ولم يقربه، ومنها: أنه موال لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كذبوا به، ومعاضد له، وموادده وناصره، كما في قوله تعالى: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} ومن كان هذا القوي الشديد وليه؛ فهو المهدي المنصور، والله تعالى هاديه وناصره.

ومنها: أنه من عادى هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد غالب صاحبه ووليه جبريل ذا القوة، ومن عادى ذا القوة والشدة، فهو عرضة للهلاك.

ومنها: أنه قادر على تنفيذ ما أمر به لقوته، فلا يعجز عن ذلك.

وقوله تعالى: {ذو مرة} أي: جميل المنظر، حسن الصورة، ذو جلال.

وقوله تعالى: {فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى} ذكر الله تعالى استواء جبريل بالأفق الأعلى، ودنوه وتدليه وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيحائه إليه ما أوحى، وأخبر سبحانه وتعالى على مسافة


#1618#

القرب بأنه قاب قوسين أو أدنى من ذلك، وليس هذا على وجه الشك، بل تحقيق لقدر المسافة، وأنها لا تزيد عن قاب قوسين البتة.

وقوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى} أخبر تعالى عن تصديق فؤاد نبينا صلى الله عليه وسلم لما رأته عيناه، وتطابق رؤية القلب برؤية البصر، وموافقتهما، وتصديق كل منهما صاحبه، والمعنى والله أعلم: ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم ير، ولا اتهم بصره.

وقوله تعالى: {أفتمارونه على ما يرى} أنكر الله سبحانه وتعالى عليهم مكابرتهم وجحدهم له على ما رآه، كما ينكر على الجاهل مكابدته للعالم، ومما رأته على ما علمه.

وقوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى} الآية، أخبر سبحانه وتعالى عن رؤيته لجبريل عليه السلام مرة بعد أخرى، فالأولى كانت بالأفق دون السماء، والثانية فوق السماء عند سدرة المنتهى.

وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه: {ما كذب الفؤاد ما رأى} قال: رأى جبريل في صورته، له ست مئة جناح.

وفيهما: عن زر بن حبيش أنه سئل عن قوله [تعالى]: {فكان قاب قوسين أو أدنى} قال: أخبرني ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ست مئة جناح.

ذكره بنحوه أبو عبد الله ابن القيم في كتابه "التبيان"، ثم ذكر أدلة على


#1619#

نفي رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل، وبالغ في ذلك.

وتفسير ابن مسعود رضي الله عنه هذا رواه عنه جماعة، منهم: أبو وائل، وعلقمة، وعبد الرحمن بن يزيد، متابعة لزر بن حبيش.

وفي بعض الطريق من رواية محمد بن يوسف الفريابي، عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، له ست مئة جناح، ما منها جناح إلا قد سد ما بين المشرق والمغرب.

خرجه الطبراني في "معجمه الكبير".

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا حجاج، حدثنا شريك، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ست مئة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت،


#1620#

ما الله به عليم.

وقد جاء في هذا تفسير مسند.

قال الإمام أحمد في "مسنده" أيضا: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال في هذه الآية: {ولقد رآه نزلة أخرى} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى عليه ست مئة جناح، ينتثر من ريشه التهاويل والدر والياقوت».

ورواه أيضا عن حسن بن موسى، عن حماد، نحوه.

وخرجه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، حدثنا القواريري، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى وعليه ست مئة جناح، ينتثر من ريشه تهاويل الدر والياقوت».

وحدث به يعقوب بن شيبة في "مسنده" عن عفان بن مسلم: حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: {ولقد رآه نزلة أخرى} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى عليه ست مئة جناح، ينتثر من ريشه التهاويل من الدر والياقوت».

وجاء في بعض الروايات: أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في


#1621#

حلتي رفرف، قد ملأ ما بين السماء والأرض.

ويعضد هذه الرواية الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} قال: رأى رفرفا أخضر يسد الأفق.

والرفرف: الثياب الخضر، يقال: رف النبات يرف رفيفا، تلألأ خضرة. حكاه الزبيدي في "مختصر العين".

وهذا التفسير في هذه الآية الشريفة {ولقد رآه نزلة أخرى} الآية، هو المشهور من مذهب ابن مسعود رضي الله عنه في تفسيرها.

وذهب الجمهور من المفسرين إلى أن المراد: أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه وتعالى، وفي الرواية اختلاف مشهور.

فذهب جماعة من السلف كـ: أبي هريرة، وابن مسعود –في أحد قوليهما-، وأنس، وابن عباس، وأبي ذر، وعروة بن الزبير، وكعب، وعكرمة، والحسن البصري: أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل، وكان الحسن يحلف على ذلك، وكان عروة يشتد عليه إنكار خالته عائشة رضي الله عنها للرؤيا.

وقال أبو الحسن محمد بن حامد بن السري –خال ولد السني- في كتابه "السنة": حدثنا زيد بن أخزم الطائي، ومحمد بن عبد الله المخزومي، واللفظ ليزيد، قال: حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما ينكر أقوام أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم؟


#1622#

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث حفص بن عمر العدني: حدثنا موسى بن سعد، عن ميمون القناد، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نظر محمد صلى الله عليه وسلم إلى ربه تبارك وتعالى.

وقال عكرمة: فقلت لابن عباس: نظر محمد إلى ربه عز وجل؟

قال: نعم، جعل الكلام لموسى، والخلة لإبراهيم، والنظر لمحمد صلى الله عليه وسلم.

لم يرو هذا الحديث عن ميمون القناد؛ إلا موسى بن سعد، تفرد به حفص بن عمر العدني، قاله الطبراني.

وخرج في "المعجم الكبير" من حديث قيس بن الربيع، عن عاصم ابن سليمان، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الله اصطفى إبراهيم عليه السلام بالخلة، واصطفى موسى عليه السلام بالكلام، واصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم بالرؤية.

وخرجه أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب "السنة"، والآجري في كتابه "الشريعة"، عن قيس بن الربيع.

وروي عن بشر بن عبيد الدارسي: حدثنا موسى بن سعيد الراسبي، حدثنا قتادة، عن سليمان بن قيس اليشكري، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل أعطاني الرؤية، وأعطى موسى الكلام، وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود».


#1623#

وروي عن عطاء أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل مرتين.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى} قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل بقلبه مرتين.

وفي "جامع" الترمذي من حديث مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن كعب قال: أن الله عز وجل قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى صلى الله عليهما وسلم، فكلم موسى عليه السلام مرتين، ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين.

وهو عند الشعبي، عن غير ابن عباس، عن كعب.

قال: قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "الرؤية والفتون": حدثنا يحيى، عن إسماعيل، حدثنا عامر، حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل، سمعت كعبا قال: أن الله عز وجل قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فرآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين، وكلمه موسى عليه السلام مرتين.

وروي الحديث من طريق أخرى، قاله أبو يعقوب يوسف بن يعقوب.

زاد النجيرمي: حدثنا أبو القاسم عمر بن محمد البغدادي إملاء بالبصرة، حدثنا شعيب بن محمد الذراع، حدثنا يوسف بن إبراهيم العثري –من أهل اليمن-، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن عيينة، عن مجالد، عن الشعبي، عن عبد الله بن الحارث، سمعت ابن عباس،


#1624#

وكعب يقول: إن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين، فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، ثم قال: أن الله قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله عليهما وسلم، وكلم موسى، ورآه محمد صلى الله عليه وسلم.

معنى قول عبد الله بن الحارث: سمعت ابن عباس، أي: وكعب حاضر قول ابن عباس رضي الله عنهما: إن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فكبر كعب، يعني تصديقا لإثبات الرؤيا، والله أعلم.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث إسماعيل بن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأى محمدا صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل مرتين، مرة ببصره، ومرة بفؤاده.

وخرج مسلم في "صحيحه" عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن حفص ابن غياث، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رآه بقلبه، يعني قوله: {ولقد رآه نزلة أخرى} قال: رأى ربه عز وجل.

وخرج في "المعجم" أيضا من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد ابن عمار الموصلي قالا: حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {ولقد رآه نزلة أخرى} قال: رأى ربه عز وجل.

وروي: أن ابن عمر راجع ابن عباس رضي الله عنهم في الرؤية، فأخبره أنه رآه.

وكذلك روي عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأى


#1625#

محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل.

قال عكرمة: فقلت: أليس الله تعالى يقول: {لا تدركه الأبصار}؟

فقال: ويحك، إذا جاء بنوره الذي هو نوره، قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرتين. خرجه الترمذي.

وفي رواية عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل.

فقلت لابن عباس: أليس الله تعالى يقول: {لا تدركه الأبصار}؟

قال: اسكت لا أم لك، إنما ذلك إذا تجلى بنوره؛ لم يقم لنوره شيء.

وخرجه النسائي مختصرا: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل.

وفي كتاب "السنة" لأبي بكر بن أبي عاصم من حديث أنس رضي الله عنه قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه عز وجل.

فقال بعضهم: ما من آية أوتيها نبي من الأنبياء أو فضيلة؛ [إلا و] قد أوتي نبينا صلى الله عليه وسلم مثلها أو أعظم منها، وخص من بينهم بتفضيل الرؤية.

وقال أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد: حدثنا محمد بن يونس، حدثنا بشر بن عبيد الله، حدثني موسى بن سعيد الراسبي، عن قتادة، عن سليمان بن قيس اليشكري، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل أعطاني الرؤية وفضلني بالمقام المحمود، والحوض المورود».


#1626#

وذهب آخرون –كأم المؤمنين عائشة، وابن مسعود رضي الله عنهما –في أشهر قوليهما-، وغيرهما إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم [لم ير] ربه عز وجل بعد.

ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه -وبه قال جميع الشيعة- وقال ابن القيم: وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة رضي الله عنهم: أنه لم يره.

قلت: قد ذكرنا آنفا: أن أنسا، وابن عباس، وأبا ذر رضي الله عنهم، وغيرهم ممن أثبت الرؤيا، فانتفى الاتفاق، وبطل قول عائشة رضي الله عنها الذي هو غير مشهور.

روي من حديث أحمد بن إبراهيم الدورقي: حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج، عن صفوان بن سليم، عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن {والنجم إذا هوى} أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه؟

قالت: نعم رآه، وذكرت قصة.

حدث به الطبراني عن علي بن سعيد الرازي، عن الدورقي.

وذهبت طائفة من السلف والخلف إلى السكوت والوقوف، وقالوا: رؤية الله عز وجل في الدنيا جائزة، وسؤال موسى عليه السلام إياها دليل على جوازها؛ أن لا يجهل نبي ما يجوز ويمتنع على ربه عز وجل، ولكن الجمهور على أنها لا تقع في الدنيا.

وقال قوم -منهم إبراهيم التيمي-: إنه رآه بعين قلبه.


#1627#

قال أبو الحسن محمد بن حامد بن السري، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي في قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى}، قال: رآه بقلبه، ولم يره ببصره.

وقال الإمام أحمد في كتابه "الرؤية والفتون": حدثنا هشيم، أخبرنا العوام، عن إبراهيم التيمي، فذكره.

وقال أيضا: حدثنا هشيم، أخبرنا منصور –يعني ابن زادان-، عن الحكم بن عتيبة، عن يزيد بن شريك، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: ولقد رآه بالأفق الأعلى المبين.

قال: رآه بقلبه.

وخرجه في كتاب "الرؤية" أيضا بالإسناد المذكور، ولفظه: رآه بقلبه، ولم يره بعينه.

وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" من طريق هشيم، ولفظه: رآه بقلبه، ولم يره ببصره.

وذكر الطبراني: أنه لم يروه عن منصور، إلا هشيم.

وحدث به النسائي في "سننه" عن يعقوب بن إبراهيم، عن هشيم، ورواه خال ولد السني في كتابه "السنة" عن زياد بن أيوب، وحميد بن الربيع قالا: حدثنا هشيم، فذكره.

وقد نقل المروذي عن الإمام أحمد بن حنبل وسأله: بم يدفع قول عائشة؟

قال: بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ربي».


#1628#

وهذا الحديث خرجه الإمام أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ربي عز وجل»، إسناده قوي.

وخرجه أحمد أيضا قال: حدثنا عفان، حدثنا عبد الصمد بن كيسان، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ربي عز وجل».

تابعهما إبراهيم بن أبي الأسود، ويحيى بن كثير العنبري أبو غسان، عن حماد، وقد صححه الإمام أبو زرعة.

وقال الحاكم أبو عبد الله: سمعت أبا أحمد محمد بن أحمد الكرابيسي، سمعت عبد الله بن محمد بن الحسن، سمعت محمد بن عقيل، سمعت حفص بن عبد الله، سمعت إبراهيم بن طهمان يقول: والله الذي لا إله إلا هو؛ لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل.

وروى سفيان بن وكيع، عن أبيه، عن عباد بن منصور: سمعت عكرمة، وسئل: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟

قال: نعم، فما زال يقول: رآه، حتى انقطع صوته.

وقد اشتهر عن الإمام أحمد أنه سئل: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟

قال: رآه رآه، حتى انقطع صوته.

رواه عبد الله بن أحمد، عن أبيه.


#1629#

وهذا مروي عن عكرمة فيما رواه الإمام أحمد في كتاب "الرؤية والفتون" فقال: حدثنا وكيع، حدثنا عباس بن منصور الناجي قال: سألت عكرمة: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل؟

قال: نعم، رآه رآه، حتى انقطع نفسه.

وبلغت عن الإمام أبي بكر أحمد بن سليمان النجاد المحدث الفقيه أنه قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل إحدى عشر مرة.

ومنها بالسند: تسع مرات في ليلة المعراج حين كان يترده بين موسى وبين ربه عز وجل يسأل أن يخفف عن أمته الصلاة خمسة وأربعين صلاة في تسع مقامات، ومرتين بالكتاب.

وقال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء: والدلالة على إثبات رؤيته قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء}، فوجه الدلالة على أنه تعالى قسم تكليمه لخلقه على ثلاثة أوجه.

أحدها: بإنفاد الرسل، وهو كلامه لسائر الأنبياء والمكلفين.

الثاني: من وراء حجاب، وهو تكليمه موسى عليه السلام، وهذا الكلام بلا واسطة، لأنه لو كان بواسطة؛ دخل تحت القسم الذي ذكرناه وهو إنفاد الرسل.

الثالث: من غير رسول وحجاب، وهو كلامه صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء، إذ لو كان من وراء حجاب أو كان رسولا؛ دخل تحت القسمين، ولم يكن للتقسيم فائدة، فثبت أنه كان كلامه له عن رؤية.


#1630#

انتهى.

وهذا فيه إقامة الدليل على إثبات الرؤية، من حجة عائشة رضي الله عنها وغيرها على نفي الرؤية.

وقال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: فعائشة رضي الله عنها نفت، ومن أثبت فمعه زيادة علم.

وذكر نحوه الإمام أبو عبد الله محمد بن الفضل الأصبهاني: أن ابن عباس رضي الله عنه أثبت شيئا نفاه غيره، والمثبت قدم على النافي.

قال الشيخ أبو زكريا النووي رحمه الله تعالى: فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل –بعيني رأسه- ليلة الإسراء لحديث ابن عباس رضي الله عنهما وغيره مما تقدم، وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه.

وكذلك اختلفوا في أن نبينا صلى الله عليه وسلم هل كلمه ربه سبحانه وتعالى ليلة الإسراء بغير واسطة، أم لا؟

قال القاضي عياض: فحكي عن الأشعري، وقوم من المتكلمين أنه كلمه، وعزا بعضهم هذا إلى جعفر بن محمد، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم.

وقال الإمام أبو بكر بن العربي في كتابه "أحكام القرآن": وإذا أراد الله أن يكرم أحدا من خلقه؛ أسمعه كلامه من غير واسطة، كما فعل بموسى عليه السلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء.


#1631#

وروى أبو بكر محمد بن علي الحمال الواعظ في "أماليه"، عن محمد بن أسرار الكردي قال: سئل الشبلي: لم سمي إبراهيم خليلا، وذكره في القرآن، وموسى كليما وذكره، ولم يذكر الحبيب محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم؟

فقال: لأن من أحب الباري –يعني أنعم عليه- فشهره، ومن أحبه الباري غار عليه فستره، ألا ترى أن موسى عليه السلام نودي، ومحمد صلى الله عليه وسلم نوجي، وكلم الله موسى عليه السلام على جبل الطور، وناجى محمد صلى الله عليه وسلم على بساط النور، ليس كمن نودي كمن نوجي، من كان في الحجاب ناداه، ومن لم يكن في الحجاب ناجاه، كان مناداة موسى عليه السلام جبليا، ومناجاة محمد صلى الله عليه وسلم سماويا.

وقوله تعالى: {ما زاغ البصر وما طغى} قال أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {ما زاغ البصر وما طغى}.

قال: ما ذهب يمينا ولا شمالا، وما طغى: ما جاوز ما أمر به.

تابعه أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي البصري، وغيره، عن سفيان –هو الثوري-.

فأخبر الله سبحانه وتعالى عن كمال أدب نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام الشريف، وفي تلك الحضرة العظيمة، إذ لم يلتفت جانبا، ولا مد بصره إلى غير ما أري من الآيات، وما هنالك من عجائب الملكوت،


#1632#

بل قام مقام العبد الذي أوجب أدبه إطراقه وإقباله على ما أريه دون التفاته إلى غيره، مع ثبات الجأش، وسكون الفؤاد، وطمأنينة القلب، وهذا غاية الكمال.

وقوله تعالى: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} انحسرت الأفهام عن تفضيل ما أوحى، وتاهت الأحلام في تعبير تلك الآيات الكبرى، فلا تحيط العبارات بما كاشفه من ذلك الجبروت، وشاهده من عجائب الملكوت، فاشتملت هذه الآيات على قسم الله جل جلاله على هداية المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتنزيهه عن الهوى، وصدقه فيما تلى، وأنه وحي يوحى، أوصله إليه جبريل الشديد القوى، عن الله العلي الأعلى، واحتوت أيضا على تزكية جملة نبينا صلى الله عليه وسلم وعصمتها من الآفات في هذا المسرى.

ثم أخبر الله تعالى عن فضيلة بقصة الإسراء، وانتهى به إلى سدرة المنتهى، وتصديق بصره فيما يرى، وأنه رأى من آيات ربه الكبرى.

وقد نبه الله تعالى على مثل ذلك في سورة الإسراء فقال تعالى: {سبحان الذين أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير}.

قوله تعالى: {ليلا} أسري به صلى الله عليه وسلم ليلا لفوائد فيما قيل، منها: أن الليل يختص بمناجاة الأحبة، فخصه ربه بالمحبة، وأسرى به للمناجاة.

ومنها: أنه سبحانه وتعالى أسرى به ليلا ليكون المصدق به أعظم.


#1633#

لأنه إيمان بالغيب، ولو كان بالنهار لشوهد، والله أعلم.

وقوله عز وجل: {من المسجد الحرام} أي-والله أعلم- من الحرم الذي هو مسجد، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الحرم كله مسجد.

روي عن يوسف بن أسباط، عن سفيان الثوري قال: صلاة بالحرم بمئة ألف صلاة. قال الله عز وجل: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} وإنما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من شعب أبي طالب، فالحرم كله مسجد.

وقوله: {إلى المسجد الأقصى} ولم يسر به إلى غيره، قيل: كان لفوائد، منها: أن هجرة الأنبياء عليهم السلام قبله صلى الله عليه وسلم إليه كانت إلى بيت المقدس، فأراد الله تعالى أن يجمع له الهجرتين؛ ليشارك الأنبياء في بيت المقدس ويختص عليهم بطيبة، والله أعلم.

ويحتمل: أن الله تعالى أراد أن يريه القبلة التي صلى إليها كما لو كان وجهه إلى الكعبة، فتحها عليه وأدخله إليها.


#1634#

$الاختلاف هل كان الإسراء بروحه الشريفة المطهرة أو بجسده صلى الله عليه وسلم$

وقصة الإسراء عجيبة وأمورها غريبة، تضمنت فضائل كثيرة، ومناقب جليلة جمعت لنبينا صلى الله عليه وسلم في بعض ليلة يقظة لا في المنام.

منها: ركوب البراق وأمامه الأنبياء، والعروج إلى السموات، ثم إلى سدرة المنتهى إلى ما لا يعلمه إلا العلي الأعلى، وما رأى من آيات ربه الكبرى، والمناجاة والرؤية وغير ذلك، مما سنذكر بعضه إن شاء الله تعالى.

ولا خلاف بين المسلمين في صحة قصة الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والعروج به إلى السموات العلى، إذ هي في القرآن مذكورة وفي الأحاديث النبوية مدونة مأثورة بين الثقات منقولة، وعند الأمة مقبولة، وهي من عهد أئمة السنة السلف والخلف.

وكان الإسراء بجسد رسول الله يقظة على الصحيح من المقالات الثلاث، والمقالة الثانية، والمقالة الثالثة أسري بروحه صلى الله عليه وسلم مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء وحي، وإلى هذا ذهب: معاوية، وعائشة رضي الله عنهما، والحسن في قول، والمشهور عنه خلافه.

قال أبو عبد الله ابن القيم: وطائفة قالت: عرج بروحه صلى الله عليه وسلم ولم يفقد بدنه، وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناما، وإنما


#1635#

أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها، عرج بها حقيقة، وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة في صعودها إلى السموات سماءا سماء، حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة، فتقف بين يدي الله تعالى فيأمر فيها بما يشاء، ثم تنزل إلى الأرض.

والذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء؛ أكمل ما يحصل للروح عند المفارقة، ومعلوم أن هذا فوق ما يراه النائم، لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام خرق العوائد، حتى يشق بطنه وهو حي لا يتألم؛ كذلك عرج بروحه المقدسة حقيقة من غير إماتة، ومن سواه لا تنال ذات روحه الصعود إلى السماء، إلا بعد الموت والمفارقة. انتهى.

ودليل أصحاب هذه المقالة قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس}.

وما جاء عن عبد الرحمن ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أسري بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على فراشه.

وعن معمر، عن قتادة، عن الحسن، قال: أسري بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على فراشه.

واستدلوا أيضا بقول أنس رضي الله عنه: وهو نائم في المسجد الحرام، وفي آخر القصة: «استيقظت وأنا في المسجد الحرام».

ويرد على أصحاب هذه المقالة قوله سبحانه وتعالى: {سبحان الذي


#1636#

أسرى بعبده ليلا}.

والإسراء يقال: في النوم أيضا، فإنه سبحانه قال: بعبده، ولم يقل: بروح عبده، وقوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} يريد: أنها رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم، لا رؤيا منام، كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما فيما صح عنه.

رواه سفيان بن عيينة، حدثنا عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس}.

قال: هي رؤيا عين، أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث سعيد بن منصور: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس}.

قال: هي رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، وليست رؤيا منام.

وقال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا روح، حدثنا زكريا ابن إسحاق، حدثنا عمرو بن دينار، سمع عكرمة يقول: كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس}.

قال: هي شيء أريه النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، رآه بعينه حين ذهب إلى بيت المقدس.

وقال أبو الشيخ في كتابه "السنة": حدثنا أبو علي أحمد بن محمد بن


#1637#

إبراهيم، حدثنا محمد بن غالب تمام، حدثنا محمد بن الفضل عارم، حدثنا ثابت، حدثنا هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس حين أسري به، فكانت تلك فتنة للكافرين.

وقال محمد بن يوسف: حدثنا سفيان الثوري، عن عيسى، عن مجاهد في قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس}: لمحمد صلى الله عليه وسلم.

ورواه أيضا محمد بن يوسف، عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم النخعي –يعني: في الآية- قال: ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس.

ورواه أيضا عن إسرائيل، عن فرات القزاز: أنه سأل سعيد بن جبير عن هذه الآية؟

فقال: ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم.

ومما يرد على أصحاب هذه المقالة أيضا: أنه لو كان الإسراء مناما، لم يكن فتنة، ولا استبعده الكفار، ولا كذبوا به. لأن مثل هذا من المنامات لا تنكر.

وعقد لهذا ترجمة الإمام أبو عبد الله محمد بن منده في كتابه "التوحيد" فقال: ذكر ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج ببدنه يقظانا، وأن قريشا أنكرت ذلك، ولو كان رؤيا لم تنكر عليه.

وكذلك فعل أبو الشيخ في كتابه "السنة"، فقال: ونقول: إن


#1638#

النبي صلى الله عليه وسلم أسري ببدنه وروحه، وعرج به، ثم ذكر الأدلة لذلك.

وفعل نحوه أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة" وقال بعد أن روى قصة الإسراء وبعض ما كان من تميز: جميع ما تقدم ذكري له، علم أن الله عز وجل أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم إليه بجسده وعقله، لا أن الإسراء كان مناما، وذلك أن الإنسان لو قال وهو بالمشرق: رأيت البارحة في النوم كأني بالمغرب! لم يرد عليه قوله، ولم يعارض. وإذا قال: كنت ليلتي بالغرب، لكان قوله كذباً وكان قد تقول بعظيم إذا كان مثل ذلك البلد غير واصل إليه في ليلة، لا خلاف في هذا. والنبي صلى الله عليه وسلم لو قال لأبي جهل، ولسائر قومه: رأيت في المنام كأنني في بيت المقدس على وجه المنام، لقبلوا منه ذلك، ولم يتعجبوا من قوله، ولقالوا له صدقت: وذلك أن الإنسان قد يرى في النوم كأنه في أبعد مما أخبرنا.

ولكنه لما قال صلى الله عليه وسلم لهم: «أسري بي الليلة إلى بيت المقدس»، كان خلاف المنام عند القوم، وكان هذا في اليقظة بجسده وعقله، فقالوا له: في ليلة واحدة ذهبت إلى الشام، وأصبحت بين أظهرنا؟

ثم قولهم لأبي بكر رضي الله عنه هذا: صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، ثم رجع من ليلته، وقول أبي بكر لهم، وما رد عليهم؛ هذا كله دليل لمن عقل وميز؛ علم أن الله عز وجل خص نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه أسري به بجسده وعقله.

وشاهد جميع ما رأى في السموات، ودخوله الجنة، وجميع ما رأى


#1639#

من آيات ربه عز وجل، وفرض الصلاة عليه؛ كل ذلك لا يقال مناما، بل بجسده وعقله؛ فضيلة خصه الله عز وجل بها، فمن زعم أنه مناما؛ فقد أخطأ في قوله، وقصر في حق نبيه صلى الله عليه وسلم، ورد القرآن والسنة، وتعرض لعظيم. انتهى.

ومع استدلال من يقول: أن الإسراء كان مناما بقوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك} الآية، فقد قيل: إن هذه الآية نزلت في قصة الحديبية، وما وقع في نفوس الناس من ذلك، وقيل غير ذلك.

وأما استدلالهم بقول عائشة رضي الله عنها، فلا دليل فيه، لأن عائشة رضي الله عنها –إن صح عنها ذلك- لم تحدث به عن مشاهدة، لأنها لم تكن حينئذ زوجة، ولا في سن من يضبط، ولعلها لم تكن ولدت بعد، على الخلاف في الإسراء متى كان، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

فلنرجح خبر غيرها عليها حين أنكرت الرؤيا.

فقال لها مسروق: فأين قوله: {ثم دنا فتدلى}؟

فقالت: ذاك جبريل عليه السلام، رآه في صورة وخلقه سادا ما بين الأفق.

فلو كان الإسراء عندها مناما، لما أنكرت الرؤية وأعظمتها بقولها لمسروق: ولقد قف شعري مما قلت.

وأما استدلالهم بقول أنس رضي الله عنه: وهو نائم في المسجد، وفي آخر القصة: فاستيقظت. لا دليل فيه، لأنه يحتمل أن وصول الملك إليه وهو نائم، وأول حمله والإسراء به نائما، ثم استيقظ، لأنه ليس من نص


#1640#

الأحاديث أنه كان نائما في القصة كلها، وقوله: فاستيقظ –بمعنى: أصبحت- ومن نوم آخر، لأن الإسراء كان في بعض ليلة، فيحتمل أنه نام في بيته بعد وصوله إليه، ثم استيقظ وهو فيه.

وقد يكون قوله: «استيقظت»، لما كان غمره من عجائب ما رأى من ملكوت السموات والأرض، وخامر باطنه من مشاهدة الملأ الأعلى، وما رأى من آيات ربه الكبرى، وعاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد، فلم يستفق ويرجع إلى حال البشرية إلا هو بالمسجد الحرام، وقيل غير ذلك، والله أعلم.

فإن هذه اللفظة وقعت من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر، وهو ثقة كثير الحديث، لكنه سيء الحفظ، ولرداءة حفظه –والله أعلم- قال النسائي وغيره: ليس بالقوي.

وغير شريك من الثقات الحفاظ كابن شهاب، وثابت، وقتادة؛ رووا هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه، ولم يذكروا هذا اللفظ.

وهناك أوهام في الحديث أنكرها عليه جماعة من العلماء، وهي محتمل لما يزيح الإبهام والأوهام، وقد أجبت بذلك عنها غير شيء واحد منها.

وقد أشار مسلم بن الحجاج في "صحيحه" إلى أوهام شريك في الحديث بقوله عليه: "فقدم وأخر، وزاد ونقص".

وقال أبو محمد عبد الحق الإشبيلي في "الجمع بين الصحيحين" عند حديث شريك هذا: وقد زاد فيه زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة. انتهى.


#1641#

فوجب العدول لما قدمناه عن رواية شريك إلى غيرها، وترجيح غيرها عليها، ومع هذا، فقد قيل: إن المسرى كان مرتين، مرة يقظة، ومرة مناما. وحديثه روي عن معاوية رضي الله عنه وغيره.

قال أبو القاسم السهيلي لما ذكر الخلاف: هل كان يقظة، أو مناما؟ قال: وذهبت طائفة ثالثة –منهم شيخنا أبو بكر بن العربي- إلى تصديق المقالتين وتصحيح المذهبين، وأن الإسراء كان مرتين، أحدهما في نومه، توطئة له وتيسيرا عليه، كما كان بدء نبوته الرؤيا الصالحة قد يسهل عليه أمر النبوة، فأنه عظيم تضعف عنه القوى البشرية، وكذلك الإسراء سهلة عليه بالرؤيا لأن هوله عظيم، فجاء في اليقظة على توطئة وتقدمة؛ رفق من الله تعالى بعبده وتسهيلا عليه. انتهى.

ومال السهيلي إلى هذا القول، وذكر له أدلة تقويه.

وقيل: كان الإسراء مرتين، مرة قبل النبوة، ومرة قبل الوحي.

وقيل: كان ثلاث مرات، مرة قبل الوحي، ومرتين بعده.

قال أبو عبد الله ابن القيم: وكل هذا خبط، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الرواة؛ فجعلوا مرة أخرى.

قال: والصواب الذي عليه أئمة النقل: الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة. انتهى.

قلت: القول الأول الذي ذهب إليه الإمام أبو بكر بن العربي وغيره: أن المسرى كان مرتين، مرة مناما، ومرة يقظة، هو القول الراجح


#1642#

للأحاديث الواردة في ذلك الصحيح.

وخرج أبو القاسم الطبراني في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح فقال: «إني رأيت رؤيا هي حق فاعقلوها، أتى رجل فأخذ بيدي فاستتبعني حتى أتى بي جبلا وعرا طويلا فقال لي: ارقه، فقلت: لا أستطيع، فقال: إني سأسهله لك، فجعلت كلما رفعت قدمي وضعتها على درجة حتى استوى بنا إلى سواء الجبل، فانطلقنا فإذا نحن برجال ونساء مشققة أشداقهم، فقلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يقولون ما لا يعلمون، ثم انطلقنا فإذا نحن برجال ونساء مسمرة أعينهم وآذانهم فقلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يرون أعينهم ما لا يرون، ويسمعون آذانهم ما لا يسمعون، ثم انطلقنا فإذا نحن بنساء معلقات بعراقيبهن، مصوبة رؤوسهن ينهش ثداهن الحيات، قلت: ما هؤلاء؟ قال: الذين يمنعون أولادهن من ألبانهن، ثم انطلقنا فإذا نحن برجال ونساء معلقات بعراقيبهن مصوبة رؤوسهن، يلحسن من ماء قليل وحما، فقلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يصومون ويفطرون قبل تحلة صومهم، ثم انطلقنا فإذا نحن برجال ونساء على أقبح شيء منظرا، وأقبحه لبوسا وأنتنه ريحا، كأنما ريحهم المراحيض قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزانون والزناة، ثم انطلقنا فإذا نحن بموتى أشد شيء انتفاخا وأنتنه ريحا، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء موتى الكفار، [ثم انطلقنا وإذا نحن نرى دخانا، ونسمع غواء، قلت: ما هذا؟، قال: هذه


#1643#

جهنم فدعها.] ثم انطلقنا فإذا نحن برجال نيام تحت ظلال الشجر، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء موتى المسلمين، [ثم انطلقنا فإذا نحن بغلمان وجوار يلعبون بين نهرين، قلت: ما هؤلاء؟ قال: ذرية المؤمنين] ثم انطلقنا فإذا نحن برجال أحسن شيء وجها وأحسنه لبوسا وأطيبه ريحا، كان وجوههم القراطيس، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الصديقون والشهداء والصالحون، ثم انطلقنا فإذا نحن بثلاثة نفر يشربون خمرا لهم ويتغنون، قلت: ما هؤلاء؟ قال: زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة، فملت قبلهم فقالوا لي: قد نالك قد نالك، قال: ثم رفعت رأسي، فإذا ثلاثة نفر تحت العرش، قلت: ما هؤلاء؟ قال: ذاك أبوك إبراهيم، وموسى، وعيسى صلى الله عليهم وسلم، وهم ينتظرونك». إسناده جيد.

وخرجه الطبراني أيضا من حديث صدقة بن خالد، وعبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن جابر، عن أبي يحيى سليم بن عامر الحمصي بنحوه، لكن لفظه يشعر –والله أعلم- إشعارا إما أنه كان يقظة لأن فيه: «بينا أنا نائم إذ أتيت، فانطلقا بي إلى جبل وعر فقيل لي: اصعد»، الحديث.

وحدث به أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "مساوئ الأخلاق"، عن العباس بن عبد الله الترقفي: حدثنا أبو مسهر، حدثنا صدقة، عن ابن جابر، فذكره مختصرا.

وخرجه مطولا بنحوه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا بشر بن بكر، حدثني ابن جابر، حدثني سليم بن عامر، حدثني أبو أمامة الباهلي


#1644#

رضي الله عنه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بينا أنا نائم، إذ أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتياني جبلا وعرا»، الحديث بطوله.

وخرجه أبو بكر الخرائطي في كتابه "مساوئ الأخلاق"، مختصرا.

وقال محمد بن يونس الكديمي: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن حماد البجالي، حدثنا أبو خالد الواسطي، عن زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الفجر فيغلس ويسفر ويقول: «ما بين هذين وقت؛ لكيلا يختلف المؤمنون» فصلى بنا ذات يوم بغلس، ثم التفت إلينا كأن وجهه ورقة مصحف فقال: «هل رأى أحد منكم اليوم في منامه الليلة شيئا؟» قلنا: لا يا رسول الله، إلا خيرا، قال صلى الله عليه وسلم: «ولكني رأيت كأني أتاني ملكان فأخذا بضبعي فصعدا بي إلى السماء، فإذا أنا بروضة خضراء لا شيء أحسن منها، وإذا شيخ حوله ولدان، وإذا شجرة ورقها كآذان الفيلة، فقلت للملكين: ما هذا؟ فقالا لي: اصعد، فصعدت، فإذا أنا بمنازل من لؤلؤ وياقوت أحمر، وزمرد أخضر، فقلت: للملكين: ما هذا؟ فقالا لي: امض، قال: فمضيت، فإذا أنا بنهر عليه جسر من ذهب وجسر من فضة، وعليه قدحان عدد النجوم ذهب وفضة، وعلى حافتيه المنازل، المنزل من لؤلؤة جوفاء وياقوتة حمراء وزبرجدة خضراء، فقلت للملكين: ما هذا؟ فقالا لي: أما الروضة الخضراء التي رأيت فهي الجنة، وأما الشيخ الذي رأيت؛ فهو أبوك إبراهيم عليه السلام، وحوله ولدان المسلمين. وأما الشجرة التي صعدت؛ فهي سدرة المنتهى، وأما المنازل التي رأيت؛ فهي منازل أهل عليين من النبيين والصديقين


#1645#

والشهداء والصالحين، وأما هذا النهر الذي أتيت عليه؛ فهو نهرك الذي أعطاك ربك الكوثر، وأما هذه المنازل؛ فمنازلك ومنازل أهل بيتك.

قال: فضربت بيدي إلى قدح من القدحان فشربت، أحلى من العسل وأبرد من الثلج، وألين من الزبد».

قال: «ثم نوديت: يا محمد! سل تعطه، فقلت: اللهم إني أسألك أن تثبت شفاعتي، وأن تلحق بي أهل بيتي».

قال: «فهبطت فلقيني إبراهيم عليه السلام فبشرني وعانقني، ثم نزل جبريل وأنا خارج من المنزل إلى المسجد بهذه الآية: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}»، الآية.

وخرجه الطبراني من طريق عبد الله بن خبيق: حدثنا يوسف بن أسباط، حدثنا أبو خالد الواسطي، فذكره.

وأبو خالد عمرو بن خالد القرشي مولاهم، أحد المتروكين.

وقال أبو حفص عمر بن شاهين في كتابه "دلائل النبوة": حدثنا أبي رحمه الله، حدثنا العباس بن محمد بن أبو حاتم الدوري، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا أبو قدامة الحارث أبي عبيد الإيادي، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا قاعد؛ إذ جاء جبريل عليه السلام فوكز بين كتفي، فقمت إلى مثل وكري الطائر فقعد في إحداهما، وقعدت في الأخرى، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين، فأنا أقلب طرفي ولو شئت أن أمس السماء لمست، فالتفت إلى جبريل فإذا هو كأنه حلس لاطئ، فعرفت


#1646#

فضلي عليه، وفتح لي باب من أبواب السماء ورأيت النور الأعظم، وإن دوني لحجابا رفرف الدر والياقوت، فأوحي إلي ما شاء أن يوحى».

وحدث به ابن سعد في "الطبقات الكبرى" عن مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا الحارث بن عبيد، فذكره بنحوه.

وخرجه أبو نعيم في "الحلية" فقال: حدثنا حبيب بن حسن، حدثنا خلف بن عمرو العكبري. وحدثنا سهل بن عبد الله التستري، حدثنا حسين ابن إسحاق التستري قالا: حدثنا سعيد بن منصور، فذكره بنحوه.

وقال: غريب لم نكتبه إلا من حديث عمران، عن أنس. تفرد به عن الحارث بن عبيد أبو قدامة. انتهى.

وحدث به القاسم بن ثابت في "الدلائل" فقال: حدثنا محمد بن علي، حدثنا سعيد بن منصور، فذكره بنحوه.

وقال أبو بكر البزار في "مسنده": حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا الحارث بن عبيد، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا قاعد؛ إذ جاء جبريل عليه السلام فوكز بين كتفي، فقمت إلى شجرة كوكري الطير، فقعد في إحداهما وقعدت في الآخر، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين، وأنا أقلب طرفي ولو شئت أن أمس السماء لمست، فالتفت إلى جبريل عليه السلام كأنه حلس لاطئ فعرفت فضل عليه بالله علي، وفتح لي باب من أبواب السماء ورأيت النور الأعظم، وإذا دوني الحجاب رفرفة الدر والياقوت، فأوحي ما شاء الله أن يوحى».

وهذا الحديث لا نعلم رواه إلا أنس، ولا نعلم رواه عن أبي عمران؛


#1648#

إلا الحارث بن عبيد، قاله البزار.

والمقالة الثالثة: أن الإسراء كان بجسده صلى الله عليه وسلم يقظة إلى بيت المقدس، والعروج إلى السماء بالروح، واستدل أصحابها بقوله تعالى: {سبحان الذين أسرى بعبده ليلا}، الآية.

قالوا: فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء.

قالوا: ولو كان الإسراء بجسده إليه زائدا على المسجد الأقصى؛ لذكره ليكون أبلغ في المدح.

ويرد عليهم قوله تعالى: {ما زاغ البصر وما طغى} فلو كان معراجا مناما؛ ورقيه صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى في عالم السنة وغلبة الفكر كوقائع العارفين؛ لما كان للمصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك كبير مزية على كثير من صالحي أمته، ولما كانت فيه آية ولا معجزة، ولا كذب به الكفار كما قدمناه.

وقال أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" بعد ذكر المعراج والإسراء قال: وجملة هذه الأشياء في الإسراء رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم بجسمه عيانا دون أن يكون ذلك رؤيا، أو تصويرا صور له، إذ لو كان ليلة الإسراء وما رأى فيها نوما دون اليقظة؛ لاستحال ذلك، لأن البشر قد يرون في النوم السموات والملائكة والأنبياء والجنة والنار، وما أشبه هذه الأشياء، فلو كانت رؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم ما وصف في ليلة الإسراء في النوم دون اليقظة؛ لكانت هذه حالة معجزة يفضل بها على غيره، ضد قول من أبطل هذه الأخبار، وأنكر قدرة الله تعالى وإمضاء حكمه لما يجب؛ جل ربنا وتعالى عن مثل هذا وأشباهه. انتهى.


#1648#

والصحيح في المقالات الثلاث –والمقالة التي حكاها السهيلي عن طائفة، منهم: شيخه أبو بكر بن العربي-، المقالة الأولى؛ أنه أسري بجسده صلى الله عليه وسلم وفي اليقظة.

قاله الشيخ الأصبهاني في كتابه "السنة": حدثنا أبو عبيد الله محمد بن يحيى قال: أعطاني الحسن بن علي كتابا سمعه من أبي سفيان قال: سمعت جبر يقول: سألت سفيان عن ليلة أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم؟

فقال: أسري ببدنه.

جبر هو: عاصم بن يزيد الأصبهاني، لقيه: جبر، ويقال: شبر.

وقال الحافظ أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي: فاعلم –رحمك الله وهداك لرشدك- أن مذهب أهل الحق القائلين بكتاب الله، القائمين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم كان بجسده وروحه يقظة لا مناما، لا ينكر ذلك مسلم، ولا يأباه إلا مجرم، وقد نطق به نص القول العزيز، وورد الخبر الصحيح فقال عز وجل: {سبحان الذين أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}، الآية.

وتواترت الأحاديث الصحيحة التي يدفعها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ بأنه أسري به إلى بيت المقدس، ثم عرج به من بلدته إلى فوق سبع سموات إلى سدرة المنتهى.

وذكره الحافظ عبد الغني في مسألة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليلة الإسراء.


#1649#

وإلى المقالة الأولى التي ذكرناها، أنه أسري به صلى الله عليه وسلم بجسده وروحه يقظة لا مناما، ذهب معظم السلف والمسلمين، وهو قول: عمر بن الخطاب، وأنس، وجابر، وحذيفة، وابن عباس، وابن مسعود، ومالك ابن صعصعة، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، والضحاك، وابن جريج، وعكرمة، ومجاهد، وابن شهاب، ومسروق وغيرهم. وهو قول أكثر المتأخرين من المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين وجماعة عظيمة من المسلمين. وكان المسرى وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل، قاله ابن إسحاق.

قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، وغيره من رجاله قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يريه الجنة والنار؟ فلما كان ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائما في بيته ظهرا، أتاه جبريل وميكائيل عليهما السلام فقالا: انطلق إلى ما سألت الله، فانطلقا به إلى ما بين المقام وزمزم، فأتي بالمعراج، فإذا هو أحسن شيئا منظرا، فعرجا به إلى السموات سماء سماء، فلقي فيها الأنبياء، فانتهى إلى سدرة المنتهى، وأري الجنة والنار، [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولما انتهيت إلى السماء السابعة، لم أسمع إلا صريف الأقلام»]، وفرضت عليه الصلاة الخمس، ونزل جبريل فصلى برسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات بمواقيتها.

وقال أيضا: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني أسامة بن زيد الليثي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.


#1650#

وحدثني موسى بن يعقوب الزمعي، عن أبيه، عن جده، عن أم سلمة رضي الله عنها.

ح قال موسى: وحدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها.

ح وقال محمد بن عمرو، وحدثني إسحاق بن حازم، عن وهب ابن كيسان، عن أبي مرة مولى عقيل، عن أم هانئ بنت أبي طالب.

قال: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن زكريا بن عمرو، عن ابن مليكة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيرهم أيضا، قد حدثني دخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة سبع عشر من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة من شعب أبي طالب إلى بيت المقدس. وذكر الحديث.

ولم يذكر فيه العروج إلى السموات، ففرق الواقدي وغيره بين الإسراء والمعراج فجعلوها في وقتين، كما تقدم.

والجمهور على أن الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة.

قال إبراهيم الحربي: كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الأول، قبل الهجرة بسنة.

وقيل: بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر شهرا، ذكره القاضي عياض، وغيره.

وقيل: قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بثمانية عشر شهرا.

حكاه أبو عمر ابن عبد البر قال: وقال أبو بكر عمر: ولا أعلم أحد من


#1651#

أهل السير قال ذلك، ولا أسند قوله إلى أحد مما يضاف إليه هذا العلم. انتهى.

وقال عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، عن الزهري: كان ذلك بعد بعثته بخمس سنين.

وقيل: كان قبل الهجرة بستة أشهر، حكاه الماوردي، عن البنديجي.

وقال أبو عمر ابن عبد البر: كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران.

وقال أبو الفضل محمد بن ناصر، وقال آخرون: كان قبل الهجرة بستة أشهر، فيكون ذلك في رمضان.

ومن الآخرين الذين ابهمهم ابن نصار: السدي، فيما رواه عنه أسباط.

وقد قيل: كان في ليلة سبع وعشرين من رجب، قاله ابن الجوزي، ولا يصح إسناده.

وذكر ابن إسحاق، وابن سعد وغيرهم، حديث الإسراء عند ذكر رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف.

وقال قتيبة: أسري به –يعني من مكة إلى بيت المقدس- بعد سنة ونصف من رجوعه من الطائف إلى مكة، ثم أمره الله عز وجل بالهجرة، وافترض عليه الجهاد.

وقال الشيخ أبو زكريا النووي رحمه الله تعالى: وأشبه هذه الأقوال قول الزهري، وابن إسحاق، ولم يختلفوا أن خديجة رضي الله عنها صلت معه صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلاة عليه، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة بمدة، قيل: بثلاث سنين، وقيل: بخمسة. انتهى.


#1652#

والعلماء يجمعون: أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء.

ودفع الحافظ الدمياطي هذا القول: لم يختلفوا أن خديجة صلت معه صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلاة، وقال: فيه نظر، لأنه روي من غير وجه، واشتهر أنهم صلوا أول البعثة، فروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث يوم الاثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء، وذكر كلاما آخر.

ثم قال: وارتد جماعة عند الإسراء كانوا قد أسلموا وصلوا، ولم يجر ذكر في الإسراء لخديجة وأبي طالب، وإنما جرى ذكر العباس، وأم هانئ رضي الله عنهما، فدل على أنه بعد موتهما. انتهى.

قلت: قال القاضي عياض: وقد روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الإسراء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثم رجعت إلى خديجة، وما تحولت عن جانبها».

وتقدم أيضا قول الزهري: إن الإسراء كان بعد المبعث بخمس سنين، رواه عنه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، ورجحت روايته في هذا عن الزهري على رواية من روى خلافه، والله أعلم.

وذكر الأمير محمد بن عبيد الله المسيحي في "تاريخه": أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به وله إحدى وخمسون سنة وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوما، ووافقه أبو الحسين ابن فارس اللغوي في "السيرة" في السن، لكن خالفه في الإسراء فقال: إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر، وكذا ذكره أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى وإيانا.

وقد رويت قصة الإسراء فيما وقع لنا من أحاديث الصحابة الذين قدمنا ذكرهم، ومن حديث: علي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وأسامة


#1653#

ابن زيد، وبريدة بن الحصيب، وأبي أيوب الأنصاري، وأبي سعيد الخدري، وسمرة بن جندب، وشداد بن أوس، وأبي أمامة الباهلي، وصهيب بن سنان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن قرط، وأبي حبة، وأبي الدرداء، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي الحمراء، وأبي ليلى الأنصاري، وعائشة بنت أبي بكر، وأختها أسماء، وأم هانئ رضي الله عنهم، وغيرهم، من رواية جماعة كثيرة من التابعين ممن ذكرنا.

ومن رواية: ثابت، وجبير بن نفير، والحسن بن أبي الحسن البصري، وأبي العالية، ورفيع، وزر بن حبيش، وسليمان التيمي، وشريك بن عبد الله بن أبي نمر، وعبد الله بن شقيق، وعبد العزيز بن صهيب، وعلقمة، وقتادة، ويحيى بن عبد الله بن الزبير، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبي الزبير، وأبي سلمة، وخلف من التابعين وغيرهم من طرق شتى ووجوه كثيرة، بعضها مطولة، وبعضها مختصرة جدا، وبعضها بين ذلك يطول سردها ويشق حصرها.

وقد دخل حديث بعضهم في بعض، فيما نورده إن شاء الله تعالى، وبعضهم يصدق بعضا، وقد جمعت غالب طرقهم، وإن كان بعضها أثبت من بعض، وأكمل سياقا، وفي إسناد بعضها مقال.

فكان من الحديث –فيما بلغني- عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه جاءه جبريل وميكائيل عليهما السلام -وفي رواية: ثلاثة نفر-، وهو نائم في الحجر –وقيل: في بيت أم هانئ بنت أبي طالب-، فقال أولهم: أيهم هو؟

فقال: أوسطهم هو خيرهم.


#1654#

فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى، وكان قد صلى بأصحابه العتمة بمكة معتما، فلم يكلموه حتى احتملوه ووضعوه عند بك زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق ما بين نحره إلى لبته، حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده.

وفي رواية جعفر الرازي، عن عيسى بن أبي عيسى السعدي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، وغيره، عن الزهري قال: فقال جبريل لميكائيل: إيتني بطست من ماء زمزم لكيما أطهر قلبه، وأشرح له صدره.

قال: فشق عنه بطنه فغسله ثلاث مرات، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طساس من ماء زمزم –وفي رواية غيره: حتى أنقى جوفه-، ثم أتي بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشوا إيمانا وحكمة، فحشا به صدره ولغاريده –يعني عروق بطنه- ثم أطبقه.

وشرح صدره صلى الله عليه وسلم في هذه المرة؛ للوفود على الملأ الأعلى ولقاء الرحمن، وعند ظئره حليمة وهو طفل؛ لإزالة حظ الشيطان.

وذكر شيخنا أبو الفضل ابن العراقي الحافظ: أن حكمة غسل صدر النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم؛ ليقوى على ملكوت السموات والجنة والنار، لأن من خواص ماء زمزم أنه؛ يقوي القلب ويسكن الروع. انتهى.


#1655#

ثم أتاه جبريل عليه السلام بالبراق مسرجا ملجما، وهو دابة أبيض طويل الظهر، بين البغل والحمار، مضطرب الأذنين طويلهما، في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه، إذا أخذ في هبوط، طالت يداه وقصرت رجلاه، وإذا أخذ في صعود، طالت رجلاه وقصرت يداه، وسمي: براقا تشبيها بالبرق في سرعة حركته، ولشدة بريقه، وقيل: لكونه أبيض.

قال القاضي عياض: ويحتمل أن يكون ذو لونين، من قولهم: شاة برقاء.

قال الشيخ أبو زكريا النووي رحمة الله عليه: قال الزبيدي في "مختصر العين"، وصاحب "التحرير": وهي دابة كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يركبونها.

وقد قدمنا في أوائل الكتاب من طريق ابن سعد في "الطبقات"، عن علي بن محمد، عن سليمان القاقلاني، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما أمر إبراهيم عليه السلام بإخراج هاجر، حمل على البراق، وذكر القصة.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا موسى ابن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم


#1656#

العدوي، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة العدوي، عن أبي جهم بن حذيفة بن غانم رضي الله عنه قال: أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم يأمره بالمسير إلى بلده الحرام، فركب إبراهيم البراق، وحمل إسماعيل أمامه وهو ابن سنتين، وهاجر خلفه، ومعه جبريل عليه السلام يدله على موضع البيت [حتى قدم به مكة، فأنزل إسماعيل وأمه إلى جانب البيت]، ثم انصرف إبراهيم إلى الشام.

وقال أبو موسى يونس بن عبد الأعلى الصدفي في جمعه أحاديث الزهري: حدثنا ابن وهب، حدثني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، أخبرني ابن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به على البراق، وهي دابة إبراهيم عليه السلام التي كان يزور عليها البيت الحرام، يقع حافرها موضع طرفها، وذكر بقيته.

وقال أبو سعيد محمد بن علي بن عمرو بن مهدي النقاش: أخبرنا الحسني بن محمد بن سعيد التستري، حدثنا عبد الله بن محمد بن زياد، حدثنا أحمد بن حفص، حدثني أبي، حدثني إبراهيم بن طهمان، عن عبادة بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان إبراهيم خليل الرحمن يزور إسماعيل على البراق، وهي دابة جبريل عليه السلام تضع حافرها حيث ينتهي طرفها، وهي الدابة التي ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به.

ورواه أبو العباس محمد بن إسحاق السراج فقال: حدثنا محمد بن


#1657#

عقيل، حدثنا حفص، حدثني إبراهيم عن عبادة، عن محمد بن عبد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان إبراهيم عليه السلام يزور إسماعيل على البراق، وهي دابة جبريل عليه السلام، تضع حافرها حيث ينتهي طرفها، وهي الدابة التي ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به.

وقال أبو جعفر أحمد بن محمد الوراق: حدثنا إبراهيم بن سعد قال: قال ابن إسحاق: فكان ابن مسعود –فيما بلغني- يقول: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق، وهي الدابة التي كانت تحمل الأنبياء عليهم السلام قبله، وذكر الحديث.

وقال أبو العباس محمد بن إسحاق السراج: حدثنا قتيبة، حدثنا نوح ابن قيس الحراني، حدثنا أبو هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله! حدثنا ما رأيت ليلة أسري بك؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت بدابة هي أشبه الدواب بالبغل، غير أنه مضطرب الأذنين، يقال له: البراق، وهو الذي كانت تحمل عليه الأنبياء، يضع حافره حيث يبلغ طرفه، فحملت عليه من المسجد الحرام»، الحديث بطوله.

تابعه أبو حفص القاضي عمر بن مدركة، عن قتيبة.

وحدث به الحسن بن عرفة، عن عمار ابن أخت سفيان الثوري.

ورواه الحارث بن أبي أسامة، عن داود بن المحبر، عن حماد بن سلمة.


#1658#

وهو عند ابن أبي أحمد الغطريفي، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن شيرويه، عن إسحاق بن راهويه: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر.

وخرجه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" فقال: حدثنا أبو أحمد هارون بن يوسف، حدثنا ابن أبي عمر العدني، حدثنا عبد الرزاق، وعبيد الله بن معاذ قال: أخبرنا معمر، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قول الله عز وجل: {سبحان الذين أسرى بعبده ليلا} قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به فقال: «أتيت بدابة هي أشبه الدواب بالبغل، له أذنان مضطربتان، وهو البراق التي كانت الأنبياء تركبه قبلي، فركبته فانطلق بي، تقع يداه عند منتهى بصره»، وذكر الحديث بطوله.

وخرجه الطبراني في "السنة" عن المقدام بن داود، عن أسد بن موسى، عن مبارك بن فضالة. وعن أحمد بن داود المكي، عن محمد بن كثير، عن أخيه سليمان بن كثير.

وعن محمد بن جعفر ابن الإمام الدمياطي، عن فضل بن عامر، عن سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، حدثني روح بن القاسم، كلهم عن أبي هارون العبدي، فذكره بنحوه، وألفاظهم متقاربة.

وحدث به البيهقي في "الدلائل" عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ رحمه الله، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثني أبو بكر يحيى بن أبي طالب، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء، أخبرنا أبو محمد راشد الحماني، عن أبي هارون العبدي، فذكره بنحوه.

وقال أبو حامد بن بلال: حدثنا أبو الأزهري، حدثنا يزيد بن أبي


#1659#

الحكم قال: رأيت في النوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! رجل من أمتك يقال له: سفيان الثوري، لا بأس به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بأس به»، حدثنا عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، عنك ليلة أسري بك إنك قلت: «رأيت في السماء»، فحدثته بالحديث، قال: «نعم».

فقلت: يا رسول الله! أن ناسا من أمتك يحدثوني عنك في المسرى بعجائب، فقال لي: «ذاك حديث القصاص».

وأبو هارون اسمه: عمارة بن جوين البصري العبدي، تركه يحيى القطان، قاله البخاري.

وحديثه هذا فيه تصريح بأن البراق كانت تحمل عليه الأنبياء عليهم السلام قبل نبينا صلى الله عليه وسلم.

وروى هاشم بن القاسم، عن أبي جعفر الرازي –واسمه: عيسى بن ماهان التميمي مولاهما-، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أو غيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: {سبحان الذين أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}.

قال: أتي بفرس فحمل عليه، خطوه منتهى بصره، وذكر الحديث مطولا.

تابعه يونس بن بكير، وحجاج بن محمد الأعور، عن أبي جعفر الرازي.


#1660#

وقال إبراهيم بن حمزة الزبيري: حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثني عيسى بن هامان، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة رضي الله عنه فذكره، مرفوعا من غير شك، وهو حديث طويل منكر، تفرد به أبو جعفر الرازي، وقد ضعفوه، إلا أبا حاتم فوثقه.

وفي رواية عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عفريتا يطلبه بشعلة من نار، كلما التفت رآه.

فقال له جبريل: ألا أعلمك كلمات إن قلتهن طفيت شعلته وخر لفيه؟

قال: «بلى»، قال: قل أعوذ بوجه الله الكريم وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار؛ إلا طارق يطرق بخير يا رحمن.

رواه مالك بن أنس في "الموطأ"، عن يحيى بن سعيد.

وهو في "سنن النسائي"، حدث به عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك، مرسلا.

وعن محمد بن يحيى بن عبد الله النيسابوري، عن سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن عياش السلمي، عن ابن مسعود مرفوعا.

قال حمزة بن محمد الكناني الحافظ: هذا الحديث ليس بمحفوظ،


#1661#

والصواب مرسل.

وخرجه أبو القاسم الطبراني في كتابه "الدعاء" ليحيى بن سعيد، عن ابن أبي ليلى، عن ابن مسعود، به.

وقال أبو محمد دعلج: حدثنا إبراهيم بن علي النيسابوري، حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن أبي التاج قال: جاء رجل لعبد الرحمن بن حبيش [فقال:] حدثني كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كادته الشياطين؟

قال: تحدرت الشياطين من الجبال والأودية يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم شيطان معه شعلة من نار، يريد أن يحرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فزع منهم.

فجاء جبريل عليه السلام فقال: قل ما أقول لك، قال: قل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وما ذرأ، ومن شر ما نزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق، إلا طارق يطرق إلا بخير يا رحمن.

قال: فطفئت نار الشياطين، وهزمهم الله تبارك وتعالى.

لا يعرف لعبد الرحمن بن حبيش سوى هذا الحديث.

ولما قدم البراق للنبي صلى الله عليه وسلم ذهب ليركبه، فاستصعب عليه، وفي رواية: فشمس، فأمسك جبريل بأذنه ووضع يده على معرفته ثم قال: ألا تستحي يا براق مما تصنع بمحمد صلى الله عليه وسلم؟، فوالله


#1662#

ما ركبك عبد لله أكرم على الله منه، فاستحى البراق حتى ارفض عرقا، ثم قر حتى ركبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال محمد بن أحمد بن جميع: حدثنا محمد بن صالح بن زكريا بن يحيى بن داود بن زكريا العثماني، حدثنا أحمد بن العلاء، حدثنا زيد بن أسامة، عن مسعر، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أتي بدابة فوق الحمار ودون البغل، خطوه مد البصر، فلما دنا منه اشمأز، فقال جبريل: اسكن، فما ركبك أحد أكرم على الله من محمد».

وخرجه الترمذي، عن إسحاق بن منصور: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن قتادة، عن أنس، بنحوه.

تابعه أحمد بن حنبل، عن عبد الرزاق.

وفي رواية في قصة البراق قال: يعني ما ركبها، فعملت بأذنها وقبضت الأرض حتى كان منتهى وقع حافرها طرفها، وسار النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل لا يفوت أحدهما صاحبه.

وفي رواية: يرى الآيات فيما بين السماء والأرض حتى بلغا أرض ذات نخل، فقال له جبريل عليه السلام: انزل فصل، فقال له جبريل عليه السلام: أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة، وإليها المهاجر، ثم سار قليلا فقال له جبريل عليه السلام: انزل فصل، فنزل فصلى، فقال له جبريل عليه السلام: أتدري أين صليت؟ صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى عليه السلام.

وفي رواية: بمدين عند شجرة موسى.


#1663#

وخرج النسائي في "سننه" من حديث حماد بن سلمة، عن سليمان التيمي، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت ليلة أسري بي على موسى عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره».

وهو في "صحيح مسلم" من طريق حماد، من طريق سفيان الثوري، وجرير بن عبد الحميد، وعيسى بن يونس، عن سليمان التيمي.

وهو في "سنن" النسائي أيضا من طريق عيسى بن يونس، ومن طريق معتمر بن سليمان، عن ابن قتيبة، عن ابن عدي، عن سليمان التيمي، عن أنس رضي الله عنه، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، مر على موسى عليه السلام وهو يصلي في قبره.

وقد جاء: أن جبريل عليه السلام مر بالنبي صلى الله عليه وسلم على قبر إبراهيم عليه السلام فقال له: انزل فصل ركعتين هاهنا، فإن هاهنا قبر أبيك إبراهيم عليه السلام، وسار حتى بلغا أرضا وبدت لهما قصورا، فقال له جبريل: انزل فصل، فنزل فصلى، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد المسيح عيسى عليه السلام.

ثم دخل بيت المقدس من بابه اليماني، فربط النبي صلى الله عليه وسلم البراق بحلقة باب المسجد التي ربط بها الأنبياء.

وفي رواية: فانتهى البراق إلى موقفه الذي كان يقف فيه، فربطه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مربط الأنبياء عليهم السلام قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم.


#1664#

وفي رواية أخرجها الترمذي من حديث ابن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما انتهينا إلى باب بيت المقدس، قال جبريل عليه السلام بأصبعه فخرق بها الحجر، وشد به البراق».

وفي رواية أبي هارون العبدي البصري التي ذكرنا أولها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فحملت عليه –أي: البراق- من المسجد الحرام، فتوجه بي إلى المسجد الأقصى، فإذا مناديا ينادي عن يميني: يا محمد! على رسلك أسألك، يا محمد! على رسلك أسألك، يا محمد! على رسلك أسألك، ثلاث مرات، فلم أعرج إليه ومضيت، فإذا مناديا ينادي عن شمالي: يا محمد! على رسلك أسألك، يا محمد! على رسلك أسألك، يا محمد! على رسلك أسألك، ثلاث مرات، فلم أعرج إليه، ومضيت فاستقبلتني امرأة مادة يديها على قارعة الطريق، وعليها من كل شيء زين الله به نساء الدنيا تقول: يا محمد! على رسلك أسألك، يا محمد! على رسلك أسألك، يا محمد! على رسلك أسألك، فلم أعرج عليها، ومضيت حتى دفعت إلى المسجد الأقصى، فاستقبلني جبريل عليه السلام بإناءين، إناء من لبن وإناء من خمر، فقال: اشرب يا محمد، فأخذت اللبن فشربته، فقال: أصبت الفطرة، ثم عمدت إلى دابة فأوثقتها بالحلقة التي توثق بها الأنبياء، ودخلت المسجد فصليت، ثم خرجت إلى جبريل عليه السلام فسألني: ما رأيت يا محمد في طريقك الذي أقبلت فيه؟ قال: سمعت مناديا ينادي: على رسلك أسألك يا محمد، على رسلك أسألك يا محمد، على رسلك أسألك يا محمد، فلم أعرج إليه،


#1665#

ومضيت، فقال جبريل: ذاك داعي اليهود، أما إنك لو وقفت عليه لتهودت أمتك، قال: فسمعت مناديا ينادي عن شمالي: يا محمد! على رسلك أسألك، يا محمد! على رسلك أسألك، يا محمد! على رسلك أسألك، فلم أعرج إليه، ومضيت، قال: ذاك داعي النصارى، ولو وقفت عليه لتنصرت أمتك، ثم استقبلتني امرأة على قارعة الطريق عليها من كل شيء زين الله به نساء الدنيا، مادة يديها تقول: يا محمد! على رسلك أسألك، يا محمد! على رسلك أسألك، يا محمد! على رسلك أسالك، فلم أعرج عليها، ومضيت. قال: فإن تلك الدنيا تمثلت لك، ولو أنك وقفت عليها؛ لاخترت الدنيا على الآخرة».

قال: «ثم أتيت بالمعراج»، وذكر الحديث بطوله.

وجاء نحوه عن أنس بن مالك.

وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام لما أتيا بيت المقدس، دخلا المسجد من باب تميل الشمس والقمر، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حيث شاء الله ركعتين.

وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجد هنالك إبراهيم، وموسى، وعيسى، وداود، وسليمان، وعيسى عليهم السلام في نفر من الأنبياء قد جمعوا لي.

وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فظننت أنه لا بد من أن يكون لهم إمام، فقدمني جبريل عليه السلام حتى صليت بين يديه، فسألتهم فقالوا: بعثنا بالتوحيد».

وجاء من حديث أبي حمزة ميمون القصاب التمار الكوفي، -وقد


#1666#

ضعفوه-، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت بالبراق فركبته خلف جبريل عليه السلام، فسار بنا، فكان إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه، فسار بنا إلى أرض فيحاء طيبة، فأتينا على رجل قائم يصلي، فقال: من هذا الذي معك يا جبريل؟ قال: أخوك محمد صلى الله عليه وسلم، فرحب ودعا لي بالبركة، وقال: سل لأمتك اليسر، ثم سار، فذكر أنه مر على موسى وعيسى، قال: ثم أتينا على مصابيح، فقلت: ما هذا؟ قال: هذه شجرة أبيك إبراهيم تحب أن تدنو منها؟ قلت: نعم، فدنونا منها فرحب بي، ثم مضينا حتى أتينا بيت المقدس ونشر لي الأنبياء من سمى الله ومن لم يسم، وصليت بهم إلا هؤلاء النفر الثلاثة: موسى، وعيسى، وإبراهيم عليهم السلام، فربطت الدابة بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد، فعرفت إلي الأنبياء، من سمي ومن لم يسم، فصليت بهم».

وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل من باب بيت المقدس وجبريل أمامه، فأضاء له فيه ضوء كما تضيء الشمس، ثم تقدم جبريل أمامه حتى كان من شامي الصخرة، فأذن جبريل ونزلت الملائكة من السماء، وحشر الله له المرسلين فأقام الصلاة، ثم تقدم جبريل فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالملائكة والمرسلين.

وفي رواية عيسى بن ماهان أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «ثم لقيت أرواح الأنبياء عليهم السلام، فأثنوا على ربهم عز وجل، ثم إن كلا منهم أثنى


#1667#

على ربه عز وجل بثناء، فقال إبراهيم عليه السلام: الحمد لله الذي اتخذ إبراهيم خليلا، وأعطاني ملكا عظيما، وجعلني أمة قانتا يؤتم بي، وأنقذني من النار وجعلها علي بردا وسلاما. قال: ثم إن موسى عليه السلام أثنى على ربه عز وجل فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليما، واصطفاني برسالاته وبكلامه وقربني نجيا، وأنزل التوراة علي، وجعل هلاك فرعون على يدي، وأنجى بني إسرائيل على يدي. ثم إن داود عليه السلام أثنى على ربه عز وجل فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وأنزل علي الزبور وألان لي الحديد، وسخر لي الطير والجبال، وآتاني الحكمة وفصل الخطاب. ثم إن سليمان أثنى على ربه عز وجل فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح والجن، وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وعلمني منطق الطير وكل شيء، وأسال لي عين القطر، وأعطاني ملكا لا ينبغ لأحد من بعدي. ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه عز وجل فقال: الحمد لله الذي أعطاني الإنجيل، وعلمني التوراة، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص، وأحيي الموتى بإذن الله، ورفعني وطهرني من الذين كفروا، وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان علينا سبيل».

ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه عز وجل فقال صلى الله عليه وسلم: «فقلت: كلكم قد أثنى على ربه عز وجل، وإني مثن على ربي

فقلت: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس أجمعين بشيرا ونذيرا، بشيرا بالجنة ونذيرا بالنار، وأنزل علي الفرقان تبيانا


#1668#

لكل شيء، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي وسطا، وجعل أمتي هم الآخرون وهم الأولون، وهم أول من يدخل الجنة، وشرح لي صدري، ووضع لي وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحا وخاتما».

وقال إبراهيم عليه السلام: بهذا أفضلكم محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر بقيته. وهو حديث منكر.

وقال أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي الحافظ: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء، حدثنا عبد الله بن رجاء الحمصي، حدثنا شراحيل بن الحكم، عن حكيم بن عمير، عن أبي راشد –هو الحبراني-، حدثني أبو ثابت شيخ من قريش كان يدعى: جار الوحي، بيته عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يوحى إليه فيه، قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة، قال: فناداه جبريل عليه السلام، كما حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن شئت جئتني»، فقال جبريل عليه السلام: بل آتيك، فجاء جبريل


#1669#

فانصدع له الجدار حتى دخل، فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق به حتى حمله على دابة كالبغلة، قال: «فمررنا على ثلاثة نفر يذكرون الله تعالى في بيت المقدس، ثم على أربعة يذكرون الله تعالى، ثم على خمسة يذكرون الله تعالى كذلك رفاقا، كل رفقة تزيد على التي تليها رجلا، حتى بلغنا اثني عشر رجلا، قال: قلت: من هؤلاء؟ فلم يجبني، قال: فذهبنا حتى دخلنا المدينة من بابها الغربي، فجاءت ريح ففتحت لنا الباب، فإذا نحن بعشرة نفر يحرسون الباب، على كل رجل منهم ترس مذهب، وذلك أوان ما رأيت التراس المذهبة.

ثم قال: إنك ستجد عيسى عند هذا الباب، فإذا سلم عليك فأجبه السلام وقل: وعليك السلام يا روح الله وكلمته، فلم يجده، ثم جاء عيسى بعد، فإذا كل شيء منه أحمر كأنه الذهب، يقطر رأسه [كالجمان]، فقال: السلام عليك يا نبي الله الأمي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليك [السلام] يا روح الله وكلمته، فقال: أما أني قد كنت بشرت بك.

ثم قلت لجبريل عليه السلام: من الجالسين الذين يذكرون الله [الذين] مررنا بهم؟ قال: أولئك الأنبياء، بعثوا، فمنهم من اتبعه الواحد والاثنان، ومنهم من اتبعه الثلاثة، إلى اثنا عشر».

حديث غريب لا يعرف إلا بهذا الإسناد، انفرد به أبو حاتم، قاله أبو عبد الله بن منده.

ورواه مخلد بن كامل البهراني، عن عبد الله بن رجاء، بنحوه.

وجاء: أن الوليد بن مسلم قال: حدثني الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة رضي الله عنه: أنه رأى عبادة بن الصامت على حائط


#1670#

بيت المقدس يبكي، فقيل: ما يبكيك؟

فقال: من هاهنا حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى ملكا يقلب جمرا كالقطن.

وجاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل بيت المقدس أتي بثلاث آنية، إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء، وثبت أنه أتي بإناء فيه عسل، فسمع قائلا يقول حين عرضت الآنية عليه: إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته، وإن أخذ الخمر غوي وغويت أمته، وإن أخذ اللبن هدي وهديت أمته.

فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أناء اللبن فشربه حتى قرع جبينه.

فقال له جبريل عليه السلام: هديت وهديت أمتك يا محمد.

وفي رواية: وحرمت عليكم الخمر.

وفي رواية: أما أنها ستحرم على أمتك.

وفي رواية لعبيد الله بن عمير الليثي، عن صهيب رضي الله عنه قال: لما عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء، ثم الخمر، ثم اللبن، أخذ اللبن.

فقال له جبريل عليه السلام: أخذت الفطرة، وبها غذيت كل دابة، ولو أخذت الخمر؛ غويت وغويت أمتك، الحديث.

ثم أتى جبريل صخرة بيت المقدس التي في وسط المسجد، فصعد به أعلاها من جهة الشرق، فلانت الصخرة من تلك الجهة لهيبته صلى الله عليه وسلم، فأمسكته الملائكة من الجهة الأخرى لما لانت.


#1671#

قال القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي رحمه الله: رأيت صخرة بيت المقدس، وهي من عجائب الدنيا في أرضه، فإنها صخرة شنعاء في وسط المسجد الأقصى مثل الظرب، وانقطعت من كل جهة، ما يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، في أعلاها من جهة الجرف قدم النبي صلى الله عليه وسلم حين ركب البراق، وقد مالت من تلك الجهة لهيبته صلى الله عليه وسلم، ومن الجهة الأخرى أثر أصابع الملائكة التي أمسكتها إذا أمالت به، عليهم أجمعين الصلاة والسلام، ومن تحتها الغار الذي انفصلت منه من كل جهة عليه بأن يفتح للناس للصلاة والاعتكاف والدعاء، تهيبتها مدة أن أدخل تحتها لأني كنت أقول: أخاف أن تسقط علي بالذنوب، ثم رأيت الظلمة والمجاهرين بالمعاصي يدخلونها ويخرجون من تحتها سالمين، فهممت بدخولها أيضا وقلت: لعلهم أمهلوا وأعاجل.

فوقفت مدة أيضا، ثم عزم علي فدخلت فرأيت العجب العجاب يمشي في جوانبها من كل جهة، فتراها منفصلة عن الأرض، ولا يتصل بها من الأرض شيء، وبعض الجهات أبعد انفصالا من بعض.

وقال بعضهم: ولم يختلف اثنان أنه عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم من عند القبة التي يقال لها: قبة المعراج، عن يمين الصخرة.

زاد غيره فقال: هي قبة الدنيا، عن يمين الصخرة.

ثم أتي بالمعراج. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولم أر شيئا قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه، فأصعدني صاحبي فيه».

وفي رواية: أن جبريل عليه السلام وضع له مرقاة من ذهب، ومرقاة


#1672#

من فضة.

وخرج البغوي في "معجمه" من حديث إسحاق بن منصور، عن جعفر الأحمر، عن هلال الصيرفي، عن ابن كثير الأنصاري، عن عبد الله ابن سعد بن زرارة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسري بي في قفص من لؤلؤ فراشه من ذهب».

خرجه في ترجمة عبد الله بن سعد هذا، ويقال: ابن سعد رضي الله عنهما.

ولما عرج جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم وصلا إلى السماء الدنيا، فضرب جبريل بابا من أبوابها يقال له: باب الحفظة، عليه ملك من الملائكة يقال له: إسماعيل، تحت يده اثني عشر ألف ملك، تحت يد كل ملك منهم اثني عشر ألف ملك.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حدث بهذا: «وما يعلم جنود ربك إلا هو».

قال صلى الله عليه وسلم: «صلوا علي واستغفروا لي»، فنادى أهل السماء: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: فمرحبا به أهلا، فيستبشر به أهل السماء بما يريد به الله في الأرض حتى يعلمهم، فتلقته الملائكة حين دخل السماء الدنيا ضاحكين مستبشرين، يقولون خيرا ويدعون.

وفي رواية: أنه لم يمر على ملأ من الملائكة إلا قالوا له: مر أمتك بالحجامة، ولقيه ملك من الملائكة فقال خيرا ودعا، ولم ير منه من البشر


#1673#

مثل ما رأى من غيره من الملائكة، فقال: «يا جبريل! ما هذا الملك الذي قال لي كما قالت الملائكة ولم يضحك، ولم أر منه من البشر مثل الذي رأيت منهم؟».

فقال جبريل: أما أنه لو كان ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك، ولكنه لا يضحك أبدا، هذا مالك صاحب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تأمره أن يريني النار؟» قال: بلى، يا مالك! أر محمد النار، قال: «فكشف عنها غطاؤها، فغارت وارتفعت حتى ظننت لتأخذن ما أرى».

قال: فقلت لجبريل: «مره فليردها إلى مكانها» فأمره فقال لها: اخبي، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه، فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل، حتى إذا دخلت من حيث خرجت رد عليها غطاءها.

وفي رواية: فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هدة، فقال: «يا جبريل! ما هذه الهدة؟».

قال: حجر أرسله الله من شفير جهنم، فهو يهوي فيها منذ سبعين عاما، فبلغ قعرها الآن.

ثم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في السماء الدنيا جالسا، على يمينه أسودة، وعلى يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى.

فقال له جبريل عليه السلام: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فرد السلام، وقال: مرحبا وأهلا بابني، نعم الابن أنت.


#1674#

فقال جبريل: هذه الأسودة التي عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى.

وفي رواية: أنه رأى رجلا جالسا تعرض عليه أرواح بني آدم، فيقول لبعضها إذا عرضت عليه خيرا، ويسر به ويقول: روح طيبة خرجت من جسد طيب، ويقول لبعضها إذا عرضت عليه: أف، ويعبس بوجهه ويقول: رح خبيثة خرجت من جسد خبيث.

فقال له جبريل: هذا أبوك آدم تعرض عليه أرواح ذريته، فإذا روح به روح المؤمن منهم سر بها وقال: روح طيبة خرجت من جسد طيب، وإذا مرت به روح الكافر منهم أفف منها وكرهها وساءه وقال: روح خبيثة خرجت من جسد خبيث

وفي رواية أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل السماء الدنيا قال: «فإذا بشيخ جالس تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء؛ كما ينقص من خلق البشر، وعن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة، وعن يساره باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر إلى الباب الذي عن يساره بكى وحزن».

فقلت: «يا جبريل! ما هذا الشيخ، وما هذان البابان؟».

قال: هذا أبوك آدم عليه السلام، وهذا الباب عن يمينه باب الجنة، إذا رأى من يدخل من ذريته الجنة ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا نظر من يدخل ذريته جهنم بكى وحزن، وذكر بقية


#1675#

الحديث.

ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل، في أيديهم قطع من نار كالأنهار يقذفون في أفواههم فتخرج من أدبارهم.

فقال لجبريل عليه السلام: «من هؤلاء يا جبريل؟» قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما. ثم رأى رجالا لهم بطون لم ير مثلها قط بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المحمومة حتى يعرضوا على النار، بطونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا.

ثم رأى رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب، إلى جانبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب.

فقال: «من هؤلاء يا جبريل؟».

قال: هؤلاء يتركون ما أحل الله لهم من النساء، ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهم، ثم رأى نساء معلقات بثديهن، ومنهن بأرجلهن منكسات، ولهن صراخ وخوار.

فقلت: «يا جبريل! من هؤلاء؟».

قال: هؤلاء اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن ويجعلن لأزواجهن ورثة من غيرهم.

ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا أقواما تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت وقعت، فقال: «من هؤلاء يا جبريل؟».


#1676#

قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون.

وفي رواية: يقرؤون كتاب الله ولا يعملون.

وفي رواية: خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم؛ وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟

ومر بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم فقال: «من هؤلاء يا جبريل؟».

قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم.

وفي رواية: أنه رأى أكلة الربا في السماء السابعة.

رواها حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي الصلت، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت، فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا».

خرجه ابن ماجه في "سننه" عن أبي بكر بن أبي شيبة: حدثنا الحسن ابن موسى، عن حماد.

ورواه أحمد في "مسنده" عن الحسن. وعفان، عن حماد، وزاد فيه: «رأيت ليلة أسري بي لما انتهينا إلى السماء السابعة .. .. ».

ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه حماد بن سلمة بن دينار في كتاب "أخبار بني إسرائيل": أخبرنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة فقلت: يا جبريل! ما هذه


#1677#

الرائحة؟ فقال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها كانت تمشطها، فوقع المشط من يدها فقالت: بسم الله، فقالت ابنته: أبي، فقالت: لا، ولكن ربي وربك أبيك الله، فقالت: أخبر بذلك أبي، فقالت: نعم، فأخبرته فدعا بها فقال لها: من ربك؟ أهل لك رب غيري؟ فقالت: ربي وربك الله الذي في السماء، فأمر ببقرة من نحاس فأحميت ثم دعا بها وبولدها، فقالت: إن لي إليك حاجة، فقال: وما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنا جميعا. قال: ذلك لك علينا من الحق، فأمر بولدها واحدا واحدا فألقوا في البقرة حتى كان آخر ولدها صبيا مرضعا فقال: يا أمه، اصبري فإنك على الحق، فألقيت في النار مع أولادها، فهذه رائحتهم».

قال ابن عباس رضي الله عنهما: فتكلم أربعة صغار: هذا، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم.

هكذا حدث به أبو سلمة موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي البصري، عن حماد في الكتاب المذكور.

وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" عن أبي عمر الضرير، عن حماد، بنحوه.

وهو في "صحيح أبي حاتم ابن حبان"، لهدبة بن خالد، عن حماد، وفي "معجم الطبراني الكبير" لآدم، تفرد ابن أبي إياس، وأبي نضر التمار، وحفص بن عمر، عن حماد.

وخرجه أبو يعلى الموصلي في "مسنده"، وقد تفرد به حماد، عن عطاء فيما ذكره الحافظ عبد الغني المقدسي في كتابه"المعراج".


#1678#

وقال أبو بكر في كتابه "اعتلال القلوب": حدثنا أحمد بن إسحاق الوزان، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد بن بشر، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ليلة أسري به، وجد ريحا طيبة فقال: «يا جبريل! ما هذه الرائحة الطيبة؟» فقال: هذه رائحة قبر الماشطة وابنها وزوجها، وذلك أن الخضر كان من أشراف بني إسرائيل، وكان يأتي راهبا في صومعته، فيطلع عليه الراهب فيعلمه الإنسان، فلما بلغ الخضر؛ زوجه أبوه امرأتين، وعلمهما الخضر، وأخذ عليهما أن لا يعلمان أحدا، وكان لا يقرب النساء فطلقهما، فنكثت إحداهما فأفشت عليه، فانطلق هاربا حتى أتى جزيرة في البحر، فأقبل رجلان يحتطبان فرأياه، فكتم أحدهما وأفشى الآخر وقال: قد رأيت الخضر، فقيل: من رآه معك؟ قال: فلان، فسئل فكتم، وكان في دينهم أن من كذب قتل، فتزوجت المرأة الكاتمة، فبينا هي تمشط ابنة فرعون، إذا سقط المشط من يدها فقالت: تعس فرعون، فأخبرت أباها بذلك، وكان للمرأة ابنان وزوج، فأرسل إليهم فراود المرأة وزوجها أن يرجعا عن دينهما فأبيا، فقال: إني قاتلكما، قالا: إحسانا منك إن قتلتنا، فقتلهما، فلما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم وجد ريحا طيبة فسأل جبريل فأخبره.

تابعه أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن ماجه، فرواه في "سننه" عن هشام بن عمار، بنحوه.

وحدث به يعقوب بن سفيان في "تاريخه" عن سفيان بن صالح: حدثنا الوليد بن مسلم، فذكره مختصرا، وذكر يعقوب: أن قتادة لم يسمع من


#1679#

مجاهد شيئا.

ثم مضى جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم في السماء الدنيا، فإذا هو بنهر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك أذفر، فقال: «ما هذا يا جبريل؟».

قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك. ثم عرج إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه السلام فقالت الملائكة: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: قد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبا به وأهلا، نعم المجيء جاء، ففتح لهما، فلما دخلا وجد فيها يحيى بن زكريا، وعيسى بن مريم عليهما السلام، وهما ابنا خالة، فقال له جبريل: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلم عليهما، فردا عليه السلام، وقالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ووصف النبي صلى الله عليه وسلم عيسى فقال: «رجل أحمر بين القصير والطويل، سبط الشعر، كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس، يخال رأسه يقطر ماء، وليس به ماء، أشبه رجالكم به عروة بن مسعود الثقفي».

ثم عرج به إلى السماء الثالثة فاستفتح فقالت الملائكة: من هذا؟ فقال: جبريل، فقالوا: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: قد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبا به وأهلا، نعم المجيء جاء، ففتح لهما، فدخلا فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر، فإذا هو قد أعطي شطر الحسن.

قال: «من هذا يا جبريل؟» قال: هذا أخوك يوسف بن يعقوب عليهما


#1680#

السلام, فسلم عليه، فرد عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم عرج به إلى السماء الرابعة فاستفتح، فقالت الملائكة: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: قد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبا به وأهلا، نعم المجيء جاء، ففتح لهما، فدخلا فإذا فيها رجل فقال له جبريل: هذا إدريس عليه السلام، فسلم عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصلاح. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ورفعناه مكانا عليا}.

ثم عرج به إلى السماء الخامسة فاستفتح، فقالت الملائكة: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: قد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبا به وأهلا، نعم المجيء جاء، ففتح لهما، فدخلا فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية، عظيم العشون.

والعشون ما تحت اللحية من شعرها، قاله الزبيدي في "مختصر العين".

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم أر كهلا أجمل منه»، فقال له جبريل: هذا المحبب في قومه هارون بن عمران عليه السلام، فسلم عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم عرج به إلى السماء السادسة فاستفتح، فقالت الملائكة: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: قد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبا به وأهلا، نعم المجيء جاء، ففتح لهما، فدخلا فإذا فيها رجل آدم طويل أقنى جعد، كأنه من رجال شنوءة.


#1681#

وفي رواية العبدي: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثم انطلق إلى السماء السادسة فإذا نحن برجل جعد الشعر غليظ الشعر لو لبس قميصا أو قميصين كاد شعره ينفد من غلظ شعره»، وذكر الحديث بطوله.

فقال جبريل: هذا أخوك موسى بن عمران، فسلم عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلما تجاوزت بكى، فقيل: ما يبكيك؟

قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي».

وفي رواية: فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع علي أحدا.

ثم عرج به إلى السماء السابعة فاستفتح، فقالت الملائكة: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: من معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: قد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبا به وأهلا، نعم المجيء جاء، ففتح لهما، فدخلا فإذا فيها كهل جالس على كرسي إلى باب البيت المعمور، يدخل كل يوم سبعون ألف ملك يصلون فيه، إذا خرجوا لم يعودوا إليه إلى يوم القيامة.

وفي رواية: يدخله كل يوم سبعون ألف دحية، عند كل دحية سبعون ألف ملك.

وفسر الدحية بـ: الرئيس.


#1682#

وفي رواية رواها هشام بن عمار منفردا بها، عن الوليد بن مسلمة: حدثنا روح بن جناح –أبو سعيد أخو مروان-، عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيت المعمور في السماء الدنيا، وفي السماء السابعة نهر يقال له: الحيوان، يدخله جبريل عليه السلام في كل يوم طلعت فيه الشمس، فإذا خرج انتفض انتفاضة، فخر عنه سبعون ألف قطرة، يخلق الله تعالى من كل قطرة منها ملك، فيؤمرون أن يأتوا البيت المعمور فيصلون فيه، ثم لا يعودون إليه أبدا، يؤتى عليهم أحدهم يؤمر أن يقف لهم من السماء موقفا يسبحون الله تعالى إلى أن تقوم الساعة».

وقد جاء الخلاف في مكان البيت المعمور أين هو؟ فالأول كما تقدم أنه في السماء السابعة، وعليه الجمهور، وجاءت الرواية الصحيحة به.

والقول الثاني: أنه في السماء الدنيا، روي عن ابن عباس، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.

والقول الثالث: في السماء السادسة، روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وربما يفهم من رواية شريك، عن أنس رضي الله عنه في قصة المعراج قال: وإبراهيم عليه السلام في السادسة، وموسى عليه السلام في السابعة، بتفضيل كلام الله.

وجاء تسمية البيت المعمور عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره بالضراح، وهو بالضاد المعجمة المضمومة بعدها واو وحاء مهملة.

قال يحيى بن غيلان: حدثنا إبراهيم بن أبي يحيى، حدثنا صفوان بن


#1683#

سليم، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيت المعمور الذي في السماء السابعة يقال له: الضراح، وهو على بناء بيت الله الحرام، وأن سقط سقط عليه، يعوده –أو يعمره- في كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه إلى أن يكون يوم القيامة، وأن في السماء السادسة لحرما على قدر حرم مكة».

وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى إبراهيم جالسا على كرسي إلى باب البيت المعمور، قال له جبريل عليه السلام: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح.


#1684#

$مطلب سؤال: لم قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: مرحبا بالنبي الصالح، ولم يقل: بالرسول الصالح، وجوابه$

جاء فيما رويناه من طريق المعراج ورويناه: أن الأنبياء الكرام لما رأوا نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام، كل خاطبه بلفظ النبوة لا بالرسالة التي هي أبلغ قوة في قولهم المحرر الراجح: "مرحبا بالنبي الصالح".

وقد نقل إلي في سنة ست عشر: أن بعض الحفاظ المهرة سئل: بأي معنى ما خاطبوه بالرسالة التي هي تبلغ من مقام التعظيم كما له، بل قيل له: "مرحبا بالنبي"، ولم يقل: بالرسول؟، في كلام هذا ملخص المنقول، فلم يذكر له جوابا، ولا طرق لسلوك معناه بابا.

ثم فتح الله علي بالجواب فقلت –والله الموفق للصواب-: إن من القواعد العربية والمدارك الأدبية: التحفظ والاحتراس من ألفاظ يقع بها في الخطاب الالتباس، ودخول النبي صلى الله عليه وسلم على النبيين كان مع جبريل القوي الأمين، وجبريل في الوصف بالرسالة موافقه، وفي النعت بالنبوة مفارقه، قال الله تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس}، وجاء في قول شاعر الإسلام حسان بن ثابت رضي الله عنه وصف جبريل عليه السلام الرسالة قال:

فلو قيل: مرحبا بالرسول، لتعذر إلى معرفة المرحب به منهما الوصول.


#1685#

فقيل: "مرحبا بالنبي"، ليعلم أن المراد نبينا صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: يحسن هذا الكلام إلا في قول إبراهيم، وآدم عليهما السلام، لأن بقولهما: "والابن الصالح"، يرتفع اللبس ويزول التخمين والدس، والسؤال حينئذ بحاله ولم يشمله الجواب بكماله.

قلت: الجواب له شامل، وفي جميعه عامل، ففي الأول: قيل: "مرحبا بالنبي" لتحقيق المراد، وفي الثاني: قيل للتخصيص في الترحيب والانفراد. وفي هذا كفاية لمن له أدنى دراية.

وقد أخبرنا الحافظ أبو محمد عبد الله بن إسحاق السنجاري الأصل بقراءتي عليه: أخبرك أبو عبد الله محمد التقي الصالح قراءة عليه وأنت تسمع فأقر به: أخبرنا أبو الحسن علي بن الفقيه أبي العباس السعدي، وأم أحمد زينب بنت الحرم الحراني قراءة على الأول وأنا أسمع، وإجازة من الثانية قالا: أخبرنا حنبل بن عبد الله الرصافي سماعا، أخبرنا هبة الله بن الشيباني، أخبرنا الحسن بن علي التميمي، أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد الشيباني، حدثني أبي، حدثني أبو النضر، حدثنا عبد الحميد، حدثنا شهر، حدثني عن ابن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته بمكة جالسا، إذ مر به عثمان بن مظعون، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا تجلس؟» قال: بلى.

قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله، فبينما هو يحدث إذ شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فنظر


#1686#

ساعة إلى السماء، فأخذ يضع بصره حتى وضعه عن يمينه في الأرض، فتحرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في جلسته إلى عثمان حيث وضع بصره، وأخذ ينغض رأسه كأنه يستفته ما يقال له: وابن مظعون ينظر إليه، فلما قضى حاجته، واستفقه ما يقال له، شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة، فأتبعه بصره حتى توارى في السماء، فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى قال: يا محمد! فيما كنت أجالسك وآتيك، ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة؟، قال: «وما رأيتني فعلت؟» قال: رأيت تشخص بصرك إلى السماء ثم وضعته –عن يمينك حيث وضعته، فتحرفت إليه وتركتني، فأخذت تغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك، قال: «وفطنت لذلك؟» قال عثمان: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس» قال: رسول الله؟! قال: «نعم»، قال: فما قال لك؟ قال: «{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}».

قال عثمان رضي الله عنه: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم.

تابعه أبو عبد الله محمد بن سعد، فحدث به في "الطبقات"، عن هاشم بن القاسم –هو أبو النضر-: حدثنا عبد الحميد بن بهرام، فذكره.

ولما رأى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إبراهيم أباه، أخبر عنه بشبهه إياه فقال: «لم أر رجلا أشبه به من صاحبكم، ولا صاحبكم أشبه به منه».


#1687#

قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا إسرائيل، حدثنا سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قريشا أتوا امرأة كاهنة فقالوا: أخبرينا أشبهنا أثرا بصاحب المقام، فقالت: إن أنتم جررتم كساء على هذه السهلة، ثم مشيتم عليها أنبأتكم، فجروا كساء، ثم مشى الناس عليها؛ فأبصرت أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هذا أقربكم إليه شبها.

ثم مكثوا بعد ذلك عشرين سنة، أو ما شاء الله، ثم بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم.

وخرجه أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا إسرائيل، فذكره بنحوه، وقد قدمنا قبل.

وشبه النبي صلى الله عليه وسلم بأبيه إبراهيم عليه السلام كان شديدا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما روي في بعض طرق أحاديث المعراج: لما رأى إبراهيم عليه السلام قال: «وأنا أشبه ولده به».

وفي رواية: إن إبراهيم عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما لقيه: أقرئ أمتك السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.

وفي رواية من طريق أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به جبريل عليه السلام، مر على إبراهيم فقال له إبراهيم: يا محمد! مر أمتك فليكثروا من غرس الجنة، فإن أرضها واسعة وتربتها طيبة.


#1688#

قال محمد لإبراهيم صلى الله عليه وسلم: «وما غراس الجنة؟».

قال إبراهيم: لا حول ولا قوة إلا بالله.

وحدث به حيوة، عن أبي صخر، عن عبد الله بن عبد الرحمن.

وفي رواية أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل السماء السابعة قال:

«فإذا برجل جالس على كرسي عند باب الجنة، وعنده قوم بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقوم سود الوجوه، في ألوانهم شيء، فأتوا نهرا فاغتسلوا منه، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء، ثم أتوا نهر آخر فاغتسلوا منه، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء، ثم أتوا النهر الثالث فخرجوا وقد خلصت ألوانهم مثل ألوان أصحابهم، فجلسوا إلى أصحابهم فقلت: يا جبريل! من هؤلاء البيض الوجوه وهؤلاء الذي في ألوانهم شيء خلصت ألوانهم؟

قال: هذا أبوك إبراهيم عليه السلام، وهو أول رجل شمط على الأرض، وهؤلاء البيض الوجوه، قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتاب الله عليهم، وأما النهر الأول فرحمة الله، وأما النهر الثاني فنعمة الله، وأما النهر الثالث فسقاهم ربهم شرابا طهورا»، وذكر بقية الحديث.

وفي رواية: ثم دخل به جبريل عليه السلام جنة المأوى.

قال أبو عمران موسى بن سهل، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي،


#1689#

حدثنا حميد، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليلة أسري بي دخلت الجنة فإذا أنا بنهر يجري، حوالي ذلك النهر خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي إلى طينه لأشمه؛ فإذا هو مسك أذفر، فقلت: لمن هذا؟ فقيل: إلى شاب من قريش، فقلت: أنا شاب من قريش، فقيل لي: هو الكوثر الذي أعطاك الله تعالى يا محمد».

وفي رواية في "الصحيح": قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ العالية، وإذا ترابها المسك».

وفي رواية: «قلت: لمن هذه يا جبريل؟ قال: للمؤذنين من أمتك والأئمة».

وفي رواية: قال: «فرأيت فيها جارية لغساء فسألتها: لمن أنت؟ -وقد أعجبتني حين رأيتها- فقالت: لزيد بن حارثة».

ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلته، ومنازل أصحابه وأمته، وفيها جنة المأوى، ودار المقامة أعدها الله لأوليائه، مخلوقة مهيئة بما فيها، سقفها عرش الرحمن، وهي خارجة عن أقطار السموات والأرض.

قاله الإمام أبو بكر بن العربي في كتابه "شرح الترمذي".

وجاء من حديث مجاهد: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: أين الجنة؟

قال: فوق سبع سموات.

قلت: فأين النار؟

قال: تحت سبعة أبحر مطبقة.


#1690#

ومن حديث عطية، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الجنة في السماء السابعة.

خرجه أبو نعيم.

وقال أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، حدثنا ابن عباس رضي الله عنهما قال: ليلة أسري بنبي الله صلى الله عليه وسلم، دخل الجنة فسمع في جانبها وحشا، قال: «يا جبريل! من هذا؟».

قال: هذا بلال المؤذن.

فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم حين جاء إلى الناس: «قد أفلح بلال، رأيت كذا وكذا».

قابوس هو: ابن أبي ظبيان، حصين بن جندب الجنبي الكوفي، لينوه، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.


#1691#

$مطلب في وصف سدرة المنتهى$

ثم عرج جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ثم انطلق به حتى جاء سدرة المنتهى.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنها سميت بذلك لكونها ينتهي إليها ما يهبط من فوقها، وما يصعد من تحتها من أمر الله عز وجل.

وروي عن كعب: أنها سدرة على رؤوس حملة العرش، ينتهي إليها علم الخلائق، وليس لأحد وراءها علم.

وقال علي بن حرب: حدثنا أبو داود، حدثنا يعقوب القمي، عن شهر بن عطية: أن ابن عباس رضي الله عنهما سأل كعبا عن قوله عز وجل: {عند سدرة المنتهى}.

قال: انتهى إليها علم كل، وما وراء ذلك غيب لا يعلمه إلا الله.

وفي رواية: أن جبريل عليه السلام قال: هذه سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل أحد من أمتك، خلي علي سبيلك.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كأنه آذان الفيول، في أصلها أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران، فسألت جبريل فقال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات».

وفي رواية حدث بها هناد بن السري في كتابه "الزهد" عن يونس،


#1692#

حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا ابن عباد، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر سدرة المنتهى فقال: «يسير في ظل الفنن منها الراكب مئة سنة».

وقال: «يستظل في الفنن منها مئة راكب -شك يحيى- فيها فراش من الذهب، وكان ثمرها القلال».

وفي رواية: أن جبريل عليه السلام قال له: هذه سدرة المنتهى، يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما، وأن ورقة منها مظلة الخلق.

قال: فغشيها نور وغشيتها الملائكة، فلما غشيها من الله ما غشي، تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها، من حسنها، فهو قوله تعالى: {إذ يغشى السدرة ما يغشى}.

وفي رواية: فلما غشيها من أمر ربها؛ تحولت ياقوتا وزمردا، أو نحو ذلك.

وفي رواية أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثم انطلق بي إلى السدرة يغشي الله السدرة ملائكته، فليس ورقة إلا عليها ملك»، وذكر الحديث.

وفي رواية جاءت عن محمد بن علي الباقر، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما أراد الله عز وجل أن يعلم نبيه صلى الله عليه وسلم الأذان، أتاه جبريل عليه السلام بدابة يقال لها:


#1693#

البراق، فلما ذهب ليركبها استعصت عليه، فقال لها جبريل عليه السلام: اسكني، فما ركبك أكرم على الله عز وجل من محمد صلى الله عليه وسلم، فسكنت فركبها حتى انتهت به إلى الحجاب، إذ خرج ملك من وراء الحجاب –يعني: الذي حجب الله من شاء من ملائكته عن الاطلاع على ما دونه من سلطانه وعظمته وعجائب ملكوته وجبروته- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل! من هذا؟».

فقال: والذي بعثك بالحق، أني لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه.

فقال الملك: الله أكبر الله أكبر، فنودي: صدق عبدي، أنا أكبر أنا أكبر.

فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فنودي: صدق عبدي، أنا الله لا إله إلا أنا.

فقال الملك: أشهد أن محمدا رسول الله، فنودي من وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا أرسلت محمدا رسول الله.

فقال الملك: حي على الصلاة حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، فنودي: صدق عبدي، دعا إلى عبادتي.

فقال الملك: الله أكبر الله أكبر، فنودي: صدق عبدي، أنا أكبر أنا أكبر.

فقال الملك: أشهد أن لا إله إلا الله، فنودي: صدق عبدي، أنا الله لا إله إلا أنا.


#1694#

ثم نودي: يا محمد! أكمل الله تعالى لك الشرف على الأولين والآخرين.

وحدث بنحو هذا الحديث: الحافظ أبو بكر البزار في "مسنده" فقال: حدثنا محمد بن عثمان بن مخلد، حدثنا أبي، عن زياد بن المنذر، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما أراد الله عز وجل أن يعلم رسوله الأذان، وذكر الحديث.

وقال في آخره: ثم أخذ بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه، فأم أهل السماء، فيهم آدم ونوح عليهما السلام.

قال أبو جعفر محمد بن علي: يومئذ أكمل الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم الشرف على أهل السماء والأرض.

وفي رواية رواها محمد بن الوليد بن أبان القرشي، عن زينب بنت سليمان بن علي، عن أبيها، عن جدها، عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لما أسري بي، انتهيت إلى سدرة المنتهى، فوقف بي جبريل عندها، فإذا نبقها أمثال القلال، وإذا الفنن منها يغطي ما بين المشرق والمغرب، فقلت: يا جبريل! امض معي.

فقال: هذا موضع لست أقدر أن أجوزه.

قال: فسمعت نداء من السماء: أدن حبيبي، فدنوت فرأيت ربي عز وجل».


#1695#

وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فارقني جبريل عليه السلام، وانقطعت عني الأصوات».

وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه، من طريق أبي جعفر الرازي التي تقدم ذكرها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن سدرة المنتهى: «فغشيها نور الخالق عز وجل وغشيتها الملائكة، وكلمني ربي عز وجل عند ذلك فقال لي: سل تعطه.

فقلت: إنك اتخذ إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما –وفي رواية- وأعطيت داود ملكا عظيما، وألنت له الحديد، وأعطيت سليمان ملكا عظيما، وسخرت له الجبال والأرض، وسخرت له الشياطين والرياح، وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن له عليهن سبيل.

فقال لي ربي تبارك وتعالى: قد اتخذتك حبيبا. –قال: فأنا مكتوب في التوراة خليل الرحمن- وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وشرحت لك صدرك، ووضعتك عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي –يعني الأذان-، وجعلت أمتك أقواما في قلوبهم أناجيلهم، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا إنك عبدي ورسولي، وجعلتك أول النبيين خلقا وآخرها بعثا، وآتيتك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ولم أعطها نبيا قبلك وجعلتك فاتحا وخاتما»، وذكر بقيته.

وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فأوحى إلى عبده ما


#1696#

أوحى}، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم هبط بي جبريل عليه السلام حتى بلغ موسى عليه السلام فاحتبسه موسى –قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ونعم الصاحب كان لكم-

قال: يا محمد! ما فرض ربك على أمتك في كل يوم وليلة؟ ، قال: خمسين صلاة.

قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة.

وفي رواية: أنه قال: «إن الصلاة ثقيلة وإن أمتك ضعيفة، وإني قد خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع فليخفف عنك ربك».

حدث عبد الرحمن بن يونس الرقي، حدثنا مخلد بن يزيد، عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي، عن يزيد بن مالك، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا من الصلاة على موسى، فما رأيت أحدا من الأنبياء أحوط على أمتي منه».

ولما أشار موسى عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع وطلب التخفيف، التفت إلى جبريل عليه السلام كأنه يستشيره بذلك، فأشار عليه جبريل: أن نعم، إن شئت، فعلا به إلى الجبار تبارك وتعالى: فقال وهو مكانه: «يا رب! خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا»، فوضع عنه عشر صلوات.

ثم رجع إلى موسى قال: بم أمرت؟ قال: «بأربعين صلاة كل يوم وليلة».


#1697#

قال: إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم، وإني خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك.

فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه، فقال له جبريل: نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار تبارك وتعالى، فقال: «يا رب! خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا»، فوضع عنه عشر صلوات.

ثم رجع فقال: بم أمرت؟ قال: «أمرت بثلاثين صلاة كل يوم».

قال: إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم، وإني خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك.

فعلا به جبريل إلى الجبار تبارك وتعالى، فقال: «يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا»، فوضع عنه عشر صلوات.

فرجع إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قال: «بعشرين صلاة كل يوم».

قال: إن أمتك لا تستطيع عشرين صلاة كل يوم، وإني خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسأله التخفيف لأمتك.

فعلا به جبريل عليه السلام إلى الجبار تبارك وتعالى، فقال: «يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا»، فوضع عنه عشر صلوات.

فرجع إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قال: «أمرت بعشر صلوات كل يوم».


#1698#

فقال: إن أمتك لا تستطيع عشر صلوات كل يوم، وإني خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك.

فعلا به إلى الجبار تبارك وتعالى، فقال: «يا رب! خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا»، فوضع عنه خمس صلوات.

فرجع إلى موسى عليه السلام فقال: بم أمرت؟ قال: «بخمس صلوات كل يوم».

فقال: يا محمد! قد والله راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا وتركوه، فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبصارا وأسماعا، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم.

كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل.

فرفعه جبريل فقال: «يا رب! إن أمتي ضعفا أجسادهم وقلوبهم وأبصارهم وأسماعهم؛ فخفف عنا».

فقال الجبار تبارك وتعالى: يا محمد! قال: «لبيك وسعديك».

قال: إنه لا يبدل القول لدي كما فرضته عليك في أم الكتاب، فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب له شيئا، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة.


#1699#

فرجع حتى انتهى إلى موسى عليه السلام فقال: كيف فعلت؟

فقال: «خفف الله عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها».

قال موسى: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضا.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا موسى! قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه».

وفي رواية: أن موسى عليه السلام قال عن الصلوات الخمس: إنه لن يحافظ عليها منهم إلا قليل، ثم قال: فاهبط بسم الله. فهبط به جبريل عليه السلام.

وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما نزلت إلى السماء الدنيا، نظرت إلى أسفل مني، فإذا بريح ودخان وأصوات فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟»

قال: هؤلاء الشياطين يحرفون على بني آدم أن لا يتفكرون في ملكوت السموات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب.

ثم هبط به جبريل، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد الحرام.

وفي رواية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم رجعت إلى خديجة، وما تحولت عن جانبها الآخر».

حدث بذلك أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا أحمد بن عمرو، حدثني الحسن بن سهل، حدثنا أبو أسامة، عن


#1700#

عيسى بن سنان الشامي، عن المغيرة، عن أبيه قال:

صليت مع عمرو رضي الله عنه في كنيسة يقال لها: كنيسة مريم، في وادي جهنم.

قال: ثم دخلنا المسجد فقال عمرو رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صليت ليلة أسري بي في مقدم المسجد، ثم دخلت إلى الصخرة إلى بيت المقدس، فإذا أنا بملك قائم معه آنية ثلاثة، فقال: يا محمد! وأشار بالآنية، قال: فتناولت العسل فشربت منه قليلا، ثم تناولت الآخر فشربت منه حتى رويت، فإذا هو لبن، قال: اشرب من الآخر، فإذا هو خمر، قال: قد رويت، قال: أما لو إنك شربت من هذا؛ لم تجتمع أمتك على الفطرة أبدا. ثم انطلق بي إلى السماء ففرضت علي الصلاة، ثم رجعت إلى خديجة وما تحولت عن جانبها الآخر».

قال الحافظ أبو محمد دعلج في كتابه "مسند المقلين": أخبرنا ابن زيد الصائغ، حدثنا سعيد، حدثنا مسكين بن ميمون مؤذن مسجد الرملة، حدثنا عروة بن رويم، عن عبد الرحمن بن قرط رضي الله عنه قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ثم رجع، حتى إذا كان بين المقام وزمزم، فكان جبريل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، فطارا به حتى بلغ السموات العلى فلما رجع، قال: سمعت تسبيحا في السموات السبع كلها مع تسبيح كثير، سبحت العلي الذي علا بما علا، سبحان العلي الأعلى، سبحانه وتعالى.

وخرجه أبو نعيم في "الحلية" فقال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا علي بن عبد العزيز، ومعاذ بن المثنى، ومحمد بن علي المكي الصائغ


#1701#

قالوا: حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا مسكين بن ميمون، فذكره.

وهو في "معجم الطبراني" كما ساقه أبو نعيم.

وقال الذهبي في كتاب "الميزان": رواه أبو نعيم في عوالي سعيد وصححه. انتهى.

قلت: العوالي هي من جملة الجزء، والذي جمعه أبو نعيم في الرواة عن سعيد بن منصور أبي عثمان الحرستاني نزيل مكة، فقال في الجزء المذكور: حدثنا سعيد بن منصور، قال أبو نعيم: وحدثنا فاروق الخطابي، حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، حدثنا سعيد بن منصور، فذكره، ثم قال: هذا حديث صحيح غريب، لم يروه عن عروة بن رويم؛ غير مسكين بن ميمون فيما قالوا: وعبد الرحمن بن قرط يعد في الصحابة، وقد تفرد بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر التسبيح، ومسكين بن ميمون هو الرملي، وروى عنه هشام بن عمار وغيره هذا الحديث. انتهى.

ورواه أبو الحسين ابن قانع فقال: أخبرنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا سعيد بن منصور، فذكره بنحوه.

ولم يبلغنا في حديث ثابت أنه ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم البراق في رجوعه، لكن قد يفهم من اللفظ، لأنه معلوم بذكره في الصعود، فيفهم ذلك في الرجوع أيضا. كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} يعني: تقيكم الحر والبرد، وكذلك لم يأتنا في حديث مجود أنه صلى الله عليه وسلم عرج به إلى السماء على البراق إلا ما ذكرناه قبل من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.


#1702#

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يونس –يعني بن محمد-، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض طويل يضع حافره عند منتهى طرفه، فلم نزايل ظهره أنا وجبريل حتى أتيت بيت المقدس، وفتحت لنا أبواب السماء. ورأينا الجنة والنار».

وتابعه حسن بن موسى عن حماد، نحوه.

ورواه الإمام أحمد مرة فقال: حدثنا أبو النضر، حدثنا شيبان، عن عاصم، عن زر بن حبيش قال: أتيت على حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وهو يحدث عن ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «فانطلقا حتى أتيا إلى بيت المقدس، فلم يدخلاه»، قال: قلت: بل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ وصلى فيه، قال: ما اسمك يا صاح؟، فإني أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك، قال: قلت: أنا زر بن حبيش، قال: فمن علمك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه ليلتئذ؟

قال: قلت: القرآن المجيد يخبرني ذلك، قال: من تكلم بالقرآن أفلح، اقرأ، قال: فقرأت: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}.

قال: يا صاح! هل تجد فيه؟

قلت: لا، قال: الله ما صلى فيه ليلتئذ، لو صلى فيه لكتبت عليكم صلاة فيه؛ كما كتب عليكم صلاة البيت العتيق، والله ما زايلا البراق حتى


#1703#

فتحت لهم أبواب السماء فرأيا الجنة والنار، ووعد الآخرة بأجمع، ثم عادا عودهما على بدئهما. الحديث.

وخرجه الترمذي وصححه، عن ابن أبي عمر، عن سفيان.

وحدث به أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى الحميدي، عن سفيان: حدثنا مسعر، عن عاصم بن بهدلة، فذكره بنحوه.

وحدث به النسائي في "سننه" عن محمد، عن ابن بشار، عن يحيى، عن سفيان، عن عاصم.

ورواه أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة، عن عاصم.

وخرجه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا أحمد بن علي ابن المثنى، حدثنا خلف بن هشام البزار، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش قال: أتيت حذيفة رضي الله عنه قال: ما اسمك يا أصلع؟

قلت: أنا زر بن حبيش، حدثني بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس حين أسري به.

قال: من أخبرك يا أصلع؟

قلت: القرآن، قال: القرآن؟ فقرأت: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا}، وهكذا هي قراءة عبد الله، إلى قوله: {هو السميع البصير}.

قال: هل تراه صلى فيه؟ قلت: لا، قال: إنه أتي بدابة.

قال حماد: وصفها عاصم، لا أحفظ صفتها.

قال: فحمله عليه جبريل أحدهما رديف صاحبه، فانطلق معه من ليلته


#1704#

حتى أتى بيت المقدس، فأري ما في السماء وما في الأرض، ثم رجعا عودهما على بدئهما، فلم يصل فيه، ولو صلى فيه لكانت سنة.

وحدث به يونس بن بكير في "المغازي"، عن قيس بن الربيع، عن عاصم، عن زر، بنحوه.

وخرجه البيهقي في "الدلائل" من طريق أبي داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، فذكره بنحوه.

وفيه قال: قلت لحذيفة: أربط الدابة بالحلقة التي كانت تربط الأنبياء؟.

قال: أكان يخاف أن تذهب منه وقد أتاه الله بها؟

قال البيهقي: وكان حذيفة رضي الله عنه لم يسمع صلاته صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس.

وقد روينا في الحديث الثابت عن أبي هريرة رضي الله عنه وغيره: أنه عليه الصلاة والسلام صلى فيه، وأما الربط فقد رويناه أيضا في حديث غيره، والبراق دابة مخلوقة، وربط الدواب عادة معهودة، وإن كان الله عز وجل قادر على حفظها، والخبر المثبت أولى من النافي، وبالله التوفيق.

وسبق البيهقي إلى معنى ما قاله الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه: "مسألة البسملة".

وقال ابن دحية في كتابه "المعراج": فائدة خامسة: عرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء على البراق إظهارا لكرامته، فإنه قادر على أن يكون ذلك بدون براق، إذ لا استحالة فيه، فكان البراق لكرامته، من حيث


#1705#

كرامة الراكب على غيره، وكذلك لم يزل عليه إظهار الكرامة من الله تعالى على ما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه: ما زايل ظهر البراق حتى يرجع. انتهى.

وروى أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة: حدثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد، حدثنا العباس بن محمد، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا أبو معشر، عن أبي وهب مولى أبي هريرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بلغ ذا طوى، فتبدد بنو عبد المطلب يلتمسونه، قال: فصرخ به العباس فأجابه، قال: لبيك، قال: أين كنت يا ابن أخي الليلة؟ عييت قومك.

قال: «أتيت بيت المقدس»، قال: أصابك إلا خير؟ قال: لا. وذكر بقيته.

وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم فقد تلك الليلة فتفرق بنو عبد المطلب يطلبونه ويلتمسونه، وخرج العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه حتى بلغ ذا طوى، فجعل يصرخ: يا محمد، يا محمد، فأجابه صلى الله عليه وسلم: «لبيك»، قال: يا ابن أخي! عييت قومك منذ الليلة فأين كنت؟.

قال: «أتيت من بيت المقدس»، قال: في ليلتك؟ قال: «نعم»، قال: هل أصابك إلا خير؟ قال: «ما أصابني إلا خير».

وروينا من حديث محمد بن إسماعيل الوساوسي –وهو واه جدا-، قال: حدثنا ضمرة، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني، عن أبي صالح مولى أم هانئ قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس وأنا على


#1706#

فراشي فقال: «أشعرت أتي نمت الليلة؟ عنيت في المسجد الحرام، فأتى جبريل فذهب بي إلى باب المسجد، فإذا دابة أبيض فوق الحمار دون البغل، مضطرب الأذنين فركبته، وكان يضع حافره مد بصره، إذا أخذ بي في هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه، وإذا أخذ بي في صعود طالبت رجلاه وقصرت يداه، وجبريل لا يفوتني حتى انتهينا إلى بيت المقدس، فأوثقته بالحلقة التي كانت الأنبياء توثق به، فنشر لي رهط من الأنبياء فيهم: إبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم، فصليت بهم وكلمتهم، وأتيت بإناءان أحمر وأبيض، فشربت الأبيض، فقال لي: شربت اللبن وتركت الخمر، فلو شربت الخمر لارتدت أمتك، ثم ركبته للمسجد الحرام فصليت به الغداة».

قالت: فتعلقت بردائه وقلت: أنشدك الله يا ابن العم، فإن تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك، فضرب بيده على ردائه فانتزعه من يدي فارتفع عن بطنه، فرأيت إلى عكنه فوق إزراره وكأنه القراطيس، وإذا نور ساطع عند فؤاده كاد أن يختطف بصري، فخررت ساجدة، فلما رفعت رأسي؛ إذ هو قد خرج.

فقلت لجاريتي: ويحك اتبعيه فانظري، فلما رجعت أخبرتني أنه انتهى إلى قريش في الحطيم، فيهم المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام، والوليد بن المغيرة، فقص عليهم مسراه.

فقال عمرو كالمستهزئ: صفهم لي.

قال: «أما عيسى عليه السلام [فهو] فوق الربعة، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد الشعر، يعلوه صهبة، كأنه عروة بن مسعود الثقفي. وأما


#1707#

موسى فضخم أدم طوال كأنه من رجال شنوءة، كثير الشعر، غائر العينين متراكب الأسنان، مقلص الشفتين، خارج الكثة عابس، وأما إبراهيم فوالله لأشبه الناس بي خلقا وخلقا».

فضجوا وأعظموا ذلك، فقال المطعم: كل أمرك كان قبل اليوم أمما غير قولك اليوم، أنا أشهد إنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس شهرا، أتيته في ليلة؟!، وذكر باقي الحديث.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا محمد بن جعفر، وروح المعنى قالا: حدثنا عوف، عن زرارة بن أوفى، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما كان ليلة أسري بي وأصبحت بمكة، قطعت بأمري وعرفت أن الناس مكذبي، فقعدت معتزلا حزينا».

فمر عدو الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم»، قال: ما هو؟ قال: «إني أسري بي الليلة»، قال: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس»، قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: «نعم»، قال: فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إذا دعا قومه إليه.

قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم بما حدثتني؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم»، قال: هيا معشر بني كعب ابن لؤي.


#1708#

قال: فانتفضت له المجالس وجاؤوا حتى جلسوا إليهما، قال: حدث قومك بما حدثتني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أسري بي الليلة»، قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس»، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: «نعم».

قال: فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه [متعجبا] لكذب زعم.

قالوا: وهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد –وفي القوم من قد سافر إليه ورأى المسجد الحرام- ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فذهبت أنعت، فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت»، قال: «فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه، حتى وضع دون دار عقال –أو عقيل-، فنعته وأنا أنظر إليه».

قال: «وكان مع هذا نعت لم أحفظه».

قال: فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب.

تابعهما هوذة بن خليفة، والنضر بن شميل، والمعتمر بن سليمان، عن عوف.

وقال محمد بن كثير المصيصي: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس، فارتد ناس ممن آمن وسعوا إلى دار أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس.


#1709#

قال: أوقال ذلك؟ قال: نعم.

قال: لئن قال ذلك لقد صدق.

قالوا: أو تصدقه؟ قال: نعم، أني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة.

فلذلك سمي أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

وفي رواية: أن أبا بكر رضي الله عنه قال لهم: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما تعجبكم من ذلك؟ فوالله أنه ليخبرني أن الخبر يأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار؛ فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه.

ثم أقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا نبي الله، أحدثت هؤلاء إنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: «نعم»، [قال:] يا نبي الله! فصفه لي، فإني قد جئته.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه».

وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتني في الحجر وقريشا تسألني عن مسراي، يسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء؛ إلا أنبأتهم به».

وفي رواية: أن جبريل عليه السلام صور له بيت المقدس على جناحه وأراه إياه، فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم.


#1710#

وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقال بعضهم: كم للمسجد باب؟ ولم أكن عددت أبوابه، فجعلت أنظر إليها وأعدها بابا بابا وأعلمهم».

وفي رواية: فجعل أبو بكر رضي الله عنه كلما وصف النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من بيت المقدس يقول له: صدقت، أشهد إنك رسول الله، حتى انتهى من الوصف.

فقال أبو بكر رضي الله عنه: صدقت، أشهد أنك رسول الله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنت يا أبا بكر الصديق»، فيومئذ سماه: الصديق.

وقيل: سماه بذلك: جبريل عليه السلام.

روي عن محمد بن عبيد، عن نجيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قلت لجبريل: إن قومي لا يصدقوني».

قال: يصدقك أبو بكر، وهو الصديق رضي الله عنه.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن يزيد بن هارون، حدثنا أبو معشر، حدثنا أبو وهب، فذكره.

وحدث به أبو إسحاق بن سليمان، عن يزيد بن هارون.

تابعهما سعيد بن سليمان، عن أبي معشر، هو نجيح، والحديث فيه طول.

وتقدم طرف منه من طريق سعيد بن سليمان.


#1711#

ورواه عمر بن نضر بن عبد الله فقال: حدثنا ابن عبد الله المغربي، حدثنا مسلم بن خالد، سمعت جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أسري بي إلى السماء السابعة قلت: يا جبريل! أخبر قريشا أني زرت ربي، قال: نعم، قلت: تكذبني قريش، قال جبريل: كلا يا محمد، فيهم أبو بكر، وهو مكتوب عند الله: الصديق، وهو يصدقك».

قال أبو جعفر أحمد بن محمد الوراق: حدثنا إبراهيم بن سعد قال: قال ابن إسحاق: وقال أبو بكر في مسرى النبي صلى الله عليه وسلم:

عجبت لما أسرى الإله بعبده ... من البيت ليلا نحو بيت المقدس

كلا طليقيه كان مراي ببعضها ... ذهابا وإقبالا وما من معرس

فآمنت إيمانا بربي وبينت ... لنا كتب من عنده لم تلبس

مبينة فيها شفاء ورحمة ... وموعظة للسائل المتنحس

نرى الوحي فيها مستبينا وخطة ... من الوحي تمحو كل أمر مغمس

كتاب عظيم الشأن أوحى كتابه ... إلى مصطفى ذي عفة لم تدنس

كريم المساعي في ذؤابة هاشم ... تمكن منها في نواص ومعطس

إذا عدت الإنساب أو قيس بالحصى ... فغرسه من هاشم خير مغرس

فلا تواعدوه واقبلوا ما أتاكم ... به من رسالات متى توح تدرس

وإلا فإني خائف أن تعذبوا ... ويضرب على أبصاركم ثم يطمس

وتلقوا كما لاقت قرون كثيرة ... مضت قبلكم من صاعقات وأنحس


#1712#

وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر قريشا بالإسراء قال: بعضهم: أنظروا إلى ابن أبي كبشة، يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة!.

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة، فند لهم بعير، فدللتهم عليه وأنا موجه إلى الشام، ثم انتهيت إلى عير فلان فنفرت مني الإبل، وبرك منها جمل أحمر عليه جوالق مخطط ببياض، لا أدري أكسر البعير أم لا، فاسألوهم عن ذلك.

ثم أقبلت حتى إذا بضجنان –وهو جبل على بريد من مكة-، مررت بعير لبني فلان، فوجدت القوم نياما، لهم أناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء، فكفئت غطاؤه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم تصوب من الثنية البيضاء، ثنية التنعيم يقدمها جمل أورق عليه مسح أسود، عليه غرارتان، أحدهما سوداء والأخرى برقاء»، أي: فيها سواد وبياض.

فلما سمع القوم ذلك ابتدروا الثنية، فلم يلقهم أول من الجمل، كما وصف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية: أنه لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العير؛ وصف لهم الجمل، قالوا: متى يجيء؟ قال: «يوم الأربعاء»، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون، حتى كان قريبا من آخر النهار ولم يجيء، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزيد له في النهار ساعة، وحبست عليه الشمس، فأقبلت العير من الثنية البيضاء يقدمها ذلك


#1713#

الجمل، كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوهم عن الإناء، فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءا ثم غطوه، وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوه، ولم يجدوا فيه ماء.

وسألوا الآخرين وهم بمكة قالوا: صدق والله، لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكر، وند لنا بعير، فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه، حتى أخذناه.

وجاء عن محمد بن كعب القرظي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة إلى قيصر، وذكر الحديث بطوله في سؤال هرقل أبا سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه عن أبي سفيان قال: والله ما يمنعني أن أقول عليه قولا أسقطه من عينه؛ إلا أني أكره أن أكذب عنده، يأخذها علي ولا يصدقني بشيء، قال: حتى ذكرت قوله ليلة أسري بي، فقلت: أيها الملك! ألا أخبركم خبرا يعرف أنه كذب، قال: قلت: وما هو؟

قلت: يزعم أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء إلى مسجدكم هذا مسجد إيليا، ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصباح.

قال: وبطريق إيليا عند رأس الملك قيصر، فقال بطريق إيليا: قد علمت تلك الليلة.

قال: فنظر قيصر وقال: ما علمك بهذا؟

قال: إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كان تلك الليلة، أغلقت الأبواب كلها غير بابا واحدا غلبني، فاستعنت عليه عمالي ومن يحضرني كلهم، فعالجته فغلبني، فلم نستطع أن نحركه، كأنما ناول


#1714#

به جبلا، فدعوت إليه النجاجرة، فنظروا إليه فقالوا: إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان، ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى.

قال: فرجعت وتركت البابين مفتوحين، فلما أصبحت غدوت عليهما، فإذا الحجر الذي من زاوية المسجد منقوب، وإذا فيه أثر مربط الدابة، قال: فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي، وقد وصل الليلة في مسجدنا، وذكر بقيته.

الحديث خرجه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "دلائل النبوة" من طريق الواقدي.

وأنزل الله تعالى تحقيقا لخبر الإسراء وتصديقا لأنباء خير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقال تعالى: {سبحان الذين أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}، الآية.

فثبت هذا الخبر عند أهل اليقين، وصدق به من كان من المتقين، وكذب به ظلما وبغيا وسفها من جعل الله بصره عمى، وعلى بصيرته عمها، وأظلم عليه البين من الأمور {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}.


#1715#

$قصة حبس الشمس$

وفي هذه القصة التصريح بحبس الشمس للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الرواية أيضا بحبسها للنبي صلى الله عليه وسلم في غير قصة الإسراء.

قال الحافظ أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين في كتابه "دلائل النبوة": حدثنا محمد بن أحمد بن محوية العسكري بالبصرة: حدثنا عثمان ابن خرزاد الأنطاكي، حدثنا محفوظ بن بحر التيمي، حدثنا الوليد بن عبد الواحد التيمي، حدثنا معقل بن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الشمس أن تتأخر من النهار، فتأخرت.

ترجمه معقل، عن أبي الزبير، عن جابر، من شرط مسلم، لكن محفوظا كذبه أبو عروبة.

وقال أبو بشر محمد بن أحمد الدولابي: حدثني إسحاق بن يونس، حدثنا سويد بن سعيد، عن المطلب بن زياد، عن إبراهيم بن حيان، عن عبد الله بن حسن، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنهم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان يوحى إليه، فلما سري عنه قال: «يا علي! صليت العصر؟».


#1716#

قال: لا يا رسول الله، قال: «اللهم إنه كان في حاجتك وحاجة رسولك؛ فرد عليه الشمس»؛ فردها عليه، فصلى وغابت الشمس.

كذا وقع في هذا الطريق من مسند الحسين رضي الله عنه، والمعروف أنه عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها.

خرجه أبو جعفر العقيلي في كتابه فقال: وحدثنا أحمد بن داود بن موسى، حدثنا عمار، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسن، عن فاطمة بنت الحسين، عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه في حجر علي رضي الله عنه، ولم يكن علي صلى العصر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن عليا كان في طاعتك؛ فاردد عليه الشمس».

قالت أسماء رضي الله عنها: فوالله لقد رأيتها غابت حتى طلعت ثم بعد ما غابت.

عمار هو: ابن ثوبان، أبو عثمان الرهاوي، وصف بالحفظ، ووثقه بعضهم وضعفه غيره، وشيخه فضيل ثقة، وأن تكلم فيه بعضهم؛ فقد وثقه السفيانان، ويحيى بن معين وغيرهم، واحتج به مسلم في "الصحيح"، وباقي رواة الحديث ثقاة.

وقد تابع عمارا؛ عبيد الله بن موسى العبسي الإمام الثقة المأمون، فرواه عن فضيل بن مرزوق، وفيه قالت أسماء رضي الله عنها: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت.

رواه –فيما ذكره الحافظ أبو سعيد خليل بن العلائي- جماعة عن عبيد الله بن موسى، عن فضيل، فهذا إسناد قوي، وهذا أجود طرقه.


#1717#

وأقواها وأجودها إسنادا أيضا: ما رواه الحافظ أحمد بن صالح المصري وغيره، عن محمد بن إسماعيل، عن أبي فديك، عن محمد بن موسى الفطري، عن عوف بن محمد، عن أمه أم جعفر، عن جدتها أسماء بنت عميس، فذكره بنحوه.

وفي آخره: وذلك بالصهباء في غزوة خيبر.

رواته ثقات، وعون هذا هو: ابن محمد بن علي، المعروف أبوه بابن الحنيفية، وأمه هي أم جعفر ابنة محمد بن جعفر بن أبي طالب.

والفطري أخرج له مسلم، ووثقه الترمذي، وقال أبو حاتم: صدوق يتشيع.

قال في رواية أحمد بن صالح الحافظ فيما حكاه أبو جعفر الطحاوي، عن علي بن عبد الرحمن، عن أحمد بن صالح المصري: لا ينبغي لمن كان سبيله العلم التخلف عن حديث أسماء رضي الله عنها في رد الشمس، لأنه من أجل علامات النبوة، وهذا يقتضي تصحيحه الحديث، والله أعلم.

وللحديث طرق غير ذلك.

منها: ما خرجه أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين في كتابه "دلائل النبوة" فقال: حدثنا أحمد بن محمد ابن سعيد الهمداني، حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي، حدثنا عبد الرحمن بن شريك، حدثنا أبي، عن عروة بن عبد الله بن قشير قال: دخلت على فاطمة بنت علي بن أبي طالب، فحدثتني: أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها حدثتها: أن علي بن أبي طالب دفع إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وقد أوحي إليه وجلله بثوبه، فلم يزل كذلك حتى أدبرت الشمس –تقول: غابت، أو كادت أن تغيب-،


#1718#

ثم إن نبي الله صلى الله عليه وسلم سري عنه، فقال: «أصليت يا علي؟».

قال: لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم رد علي الشمس»، فرفعت حتى بلغت نصف المسجد.

قال عبد الرحمن: وقال أبي: وحدثني موسى الجهني، نحوه.

عبد الرحمن بن شريك بن عبد الله النخعي روى عنه البخاري في "الأدب"، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: ربما أخطئ.

ووهى حديثه أبو حاتم. وأبوه شريك القاضي ثقة صدوق، وابن عقدة شيخ ابن شاهين شيعي جلد حافظ.

وجاء الحديث أيضا من رواية داود بن فراهيج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجر علي بن أبي طالب ولم يكن صلى العصر حتى غربت الشمس، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، فرفعت عليه الشمس حتى صلى، ثم غابت ثانية.

ورواه أحمد بن عمير بن جوصا: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي، حدثنا داود بن فراهيج، عن عمارة بن فيروز، عن أبي هريرة رضي الله عنه، بنحوه.

وعمارة مجهول، والمعروف في هذا الحديث إسقاطه.

إنما رواه أبو بكر بن مردويه، من طريق داود بن فراهيج، عن أبي هريرة كما تقدم، والله أعلم.

داود ضعفه شعبة، ووثقه القطان. وقال ابن معين: لا بأسه به. وقال أبو حاتم: تغير حين كبر، وهو ثقة صدوق.


#1719#

وقال الحافظ أبو سعيد خيل بن العلائي –حين ذكر بعض طرق هذا الحديث-: ولا شك أنه يرتقي بمجموع أسانيده إلى درجة الصحة القوية، قاله في كتابه: "عقيلة الطالب".

فعلى هذا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم آيتان: في القمر، وفي الشمس، تقدم ذكر ذلك، منها: مناغاة القمر وتحديثه للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مهده، وانشقاق القمر فرقتين بأمره، ورجوع الشمس بعد أن غربت، أو كادت في قصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحبسها في قصة الإسراء لقدوم العير تصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما خبر به من قصة الإسراء.

وفي صبيحة تلك الليلة: نزل جبريل عليه السلام وأمه ليريه أوقات الصلوات الخمس التي فرضت عليه ليلة المعراج.

ذكر الإمام أبو القاسم السهيلي: أن أهل الصحيح متفقون على أن هذه القصة كانت في الغد من ليلة الإسراء.

قال الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه "معارف السنن": وروينا من حديث إمامة جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن: جابر بن عبد الله، وأبي مسعود، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.

وروى البيهقي قبل هذا من طريق "المسند"، عن الشافعي: أخبرنا عمرو بن أبي سلمة، عن عبد العزيز بن محمد، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن حكيم بن حكيم، عن نافع ابن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:


#1720#

«أمني جبريل عليه السلام عند باب البيت مرتين، فصلى الظهر حين كان الفيء مثل الشراك، وصلى العصر حين كان كل شيء بقدر ظله، وصلى المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الصبح حين حرم الطعام والشراب على الصائم، ثم صلى المرة الأخرى الظهر حين كان ظل كل شيء قدره قدر العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب المقدر الأول لم يؤخرها، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفر، ثم التفت فقال: يا محمد! هذا وقت الأنبياء قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين».

وحدث به ابن أبي خيثمة في "تاريخه"، عن الفضل بن دكين، عن سفيان، فذكره.

وخرجه أبو داود، عن مسدد: حدثنا يحيى، عن سفيان –هو الثوري-، حدثني عبد الرحمن بن فلان بن أبي ربيعة –قال أبو داود: وهو عبد الرحمن بن الحارث بن عباس بن أبي ربيعة- عن حكيم بن حكيم، بنحوه.

وحدث به الترمذي عن هناد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عباس، وحسنه.

ورواه علي بن المديني، عن أبيه عبد الله بن جعفر بن نجيح المديني، عن عبد الرحمن بن الحارث.

وقال أبو داود في كتابه "المراسيل": حدثنا ابن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: لما جاء بهن


#1721#

رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه –يعني الصلوات الخمس-، خلا عنهن حتى إذا زالت الشمس عن بطن السماء، نودي فيهم بـ: الصلاة جامعة، ففرحوا لذلك واجتمعوا، فصلى بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات لا يقرأ فيهن علانية، جبريل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الناس، يقتدي الناس بنبيهم صلى الله عليه وسلم، ويقتدي نبي الله صلى الله عليه وسلم بجبريل عليه السلام، ثم خلا عنهن حتى إذا تصوبت الشمس وهي بيضاء نقية، نودي فيهم: الصلاة جامعة، فاجتمعوا لذلك، فصلى بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات دون صلاة الظهر.

ثم ذكر ابن المثنى كما ذكر في الظهر.

ثم انصرف عنهم، حتى إذا غابت الشمس نودي فيهم الصلاة جامعة، فاجتمعوا لذلك، فصلى بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاث ركعات يقرأ في ركعتين علانية، والركعة الثالثة لا يقرأ فيها علانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الناس، وجبريل عليه السلام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر كما ذكر في العصر.

حتى إذا غاب الشفق وايتطأ العشاء نودي فيهم الصلاة جامعة، فاجتمعوا لذلك، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات يقرأ في ركعتين علانية، وركعتين لا يقرأ فيهن علانية. فذكر كما ذكر في المغرب.

قال: فباتوا وهم لا يدرون أيزاد دون ذلك أم لا، حتى طلع الفجر


#1722#

نودي فيهم: الصلاة جامعة، فاجتمعوا لذلك، فصلى بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ركعتين يقرأ فيهما علانية، ويطيل فيهما القراءة، جبريل عليه السلام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الناس، يقتدي الناس بنبيهم صلى الله عليه وسلم، ويقتدي نبي الله بجبريل عليه السلام.

وحدث به أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن هدبة بن خالد: حدثنا همام قال: قال قتادة: فحدثنا الحسن أنه ذكر له أنه لما كان عند صلاة الظهر، وذكر الحديث.

في هذا الحديث عدد الركعات في الصلوات الخمس وفي عددها حين فرضت خلاف، وقد ثبت من حديث مالك بن أنس، عن صالح بن كيسان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيدت صلاة الحضر.

وخرجه الطبراني من حديث عثمان بن مقسم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن يسار، عن عمر بن عبد العزيز: حدثني عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في صلاة المقيم، وأثبتت صلاة المسافر كما هي.

ورواه محبوب بن الحسن: حدثنا داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة


#1723#

المغرب لأنها وتر النهار.

وخرجه ابن حبان في "صحيحه".

وقال هذا القول طائفة، منهم: السائب بن يزيد، وميمون بن مهران، ومحمد بن إسحاق، والقائلون بهذا يقولون: إن الصلاة أتمت بالمدينة كما هو مصرح به في رواية الشعبي الذي قدمناه، ويقولون كان الإتمام بعد الهجرة بشهر وعشرة أيام، وقيل: بشهر، وقيل: بعام ونحوه.

وقيل: إن الصلاة أول ما فرضت: أربعا، إلا المغرب، ففرضت ثلاثة، والصبح ركعتين. روى ذلك: الحسن البصري، ونافع بن جبير بن مطعم، وابن جريج.

وقيل: فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.

فثبت من حديث يحيى بن يحيى: حدثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض الله عز وجل الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.

خرجه مسلم في "صحيحه" عن يحيى بن يحيى، وسعيد بن منصور، وأبي الربيع وقتيبة، عن أبي عوانة، به.

وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمر الناقد، عن القاسم بن مالك المزني، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن بكير بن الأخنس، نحوه.

وقيل: أول ما فرضت الصلاة بمكة فرضت ركعتين أول النهار،


#1724#

وركعتين آخره، قاله أبو إسحاق الحربي.

وقد قدمنا في أول البعثة عن مقاتل أيضا، وهو بعيد، لكن قيل: إن الصلاة كانت قبل أن تفرض ركعتين أول النهار وركعتين آخره.

وقال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا همام بن يحيى بن همام بن مسلمة بن عقبة بن همام بن منبه الصنعاني، حدثنا إبراهيم بن أحمد اليمامي، حدثنا يزيد بن أبي الحكيم، حدثنا ياسين الزيات، عن أشعث، عن الحسن، عن أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: أول صلاة فرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر.

ويعضدها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم [صلى] عند زوال الشمس في أول النبوة، وقد مر حديث ذلك في أول البعثة، والله أعلم.

تم

آخر المجلد الثالث، ويتلوه المجلد الرابع، وأوله: فصل: في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

والثمن الجنة لعبد الملك القاسم

سلسلة أين نحن من هؤلاء ؟  كتاب والثمن الجنة لعبد الملك القاسم  بسم الله الرحمن الرحيم  المقدمة  الحمد لله الذي وعد من أطاعه جنات عدن تجري ...