دعاء الاموات لمشاري

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate

السبت، 4 مارس 2023

الجزء الرابع4. من جامع الاثار/هدم قريش الكعبة، وبنيانها، وأسماء مكة، وكم بُنيت الكعبة مرة، ووضعه صلى الله عليه وسلم الحجر بيده

الجزء الرابع4. من جامع الاثار          #5#

&هدم قريش الكعبة، وبنيانها، وأسماء مكة، وكم بُنيت الكعبة مرة، ووضعه صلى الله عليه وسلم الحجر بيده&

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة هدمت قريش الكعبة وبنتها، وهذا هو المشهور.

وقيل: كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ خمسا وعشرين سنة.

وقيل: ثلاثين سنة، وهو غريب.

وقيل: كان بنيان قريش الكعبة وقد ناهز النبي صلى الله عليه وسلم الحلم قبل خروجه في تجارة خديجة.

روى عبد الرزاق في "مغازيه" عن معمر، عن الزهري قال: فلما بلع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترقت ووهت، فتشاورت قريش في هدمها.

فقال لهم الوليد بن المغيرة: ما تريدون بهدمها؛ الإصلاح أم تريدون الإساءة؟


#6#

قالوا: بل نريد / الإصلاح.

قال: فإن الله عز وجل لا يهلك المصلح.

قالوا: فمن الذي يعلوها فيهدمها؟

قال الوليد بن المغيرة: أنا أعلوها فأهدمها.

فارتقى الوليد بن المغيرة على ظهر البيت ومعه الفأس، فقال: اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح. ثم هدم, فلما رأته قريش قد هدم منها ولم يأتهم ما خافوا من العذاب هدموا معه, حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن: أي القبائل تلي رفعه, حتى كاد يشجر بينهم.

فقالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة, فاصطلحوا على ذلك, فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة, فحكموه, فأمر بالركن، فوضع في ثوب, ثم أمر سيد كل قبيلة, فأعطاه ناحية من الثوب, ثم ارتقى، ورفعوا الركن, فكان هو صلى الله عليه وسلم يضعه.

وحدث به أبو الوليد الأزرقي في "التاريخ" عن مهدي بن أبي المهدي, حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر, عن الزهري: سمعت بعض مشايخنا الكبار يقول ما معناه: لما قال الله عز وجل للسموات والأرض: {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} أجابته السماء طائعة بلسان وهو مكان البيت المعمور, فجعله الله بيتاً محجوجاً للملائكة, يدخله كل يوم سبعون ألف ملك, إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه إلى يوم القيامة, وأجابته الأرض طائعة بلسان وهو مكان البيت العتيق, فجعله الله بيتاً محجوجاً يحجه بنو آدم في الأرض. انتهى.


#7#

وقد وجدت معنى ذلك قد علقه الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" فقال في قول الله تعالى: {فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين}, قال: وفي قولهما ذلك وجهان:

أحدهما: أن ظهور الطاعة منهما قام مقام قولهما.

والثاني: أنه تبارك وتعالى خلق فيهما كلاماً نطق بذلك.

وقال أبو نصر السكسكي: فنطق من الأرض موضع الكعبة, ونطق من السماء ما بحيالها, فوضع الله تعالى فيهما حرمه.

قال الماوردي: وأما مكة فلها اسمان: "مكة" و "بكة", وقد جاء القرآن بهما.

واختلف في الاسمين هل هما لمسمى واحد أو لمسميين؟ على قولين:

أحدهما: أنه لمسمى واحد؛ لأن العرب تبدل الميم بالباء، فتقول: "ضربة لازم" و "لازب"؛ لقرب المخرجين.

والقول الثاني: -وهو أشبه: أنهما اسمان لمسميين.

واختلف من قال هذا الاسم في المسمى بهما على قولين:

أحدهما:


#8#

أن "مكة" اسم البلد, و "بكة" اسم البيت, وهذا قول إبراهيم / النخعي.

والقول الثاني: أن "مكة" الحرم كله, وبكة المسجد كله. وهذا قول زيد بن أسلم. انتهى.

وقيل: اسم مكان البيت العتيق "مكة" بالميم, واسم البلد "بكة" بالموحدة.

قال الماوردي: فأما "مكة" مأخوذة من قولهم: "تمككت المخ" إذا استخرجته؛ لأنها تمك الفاجر, أي: تخرجه, وفي ذلك يقول الشاعر:

يا مكة, الفاجر مكي مكا ... ولا تمكي مذحجاً وعكا

وأما "بكة": قال الأصمعي: سميت بذلك لأن الناس يبك بعضهم بعضاً, أي: يدفع. وأنشد قول الشاعر حيث قال:

إذا الشريب أخذته أكه ... فخله حتى يبك بكه.

وفي "مختصر العين" للزبيدي: و"بك الناس بعضهم بعضاً": إذا ازدحموا, وبه سميت "بكة".


#9#

وقال نحوه أبو عبيدة.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا سنيد, حدثنا وكيع، عن سفيان, عن الأسود بن قيس, عن أخيه, عن ابن الزبير قال: إنما سميت "بكة".

لأنهم يأتونها من كل جانب حجاجاً.

وقال سعيد بن منصور: حدثنا إسماعيل بن زكريا, عن سفيان, عن حماد قال: سألت سعيد بن جبير, يعني: عن قوله: "إنما سميت: "بكة" لأن الرجال يتباكون فيها والنساء جميعاً". فقال: التباك: التدافع. أي: يدفع بعضهم بعضاً, كما تقدم عن الأصمعي.

وقيل: سميت "بكة" لأنها تبك أعناق الجبابرة, إذا ألحدوا فيها لم يمهلوا.

وقال ياقوت الحموي في "معجم البلدان": ويقال: إنما سميت "بكة" لأن العرب كانت تقول في الجاهلية: لا يتم حجناً حتى نأتي مكان الكعبة فنمك فيه. أي: نصفر صفير المكاء حول الكعبة, وكانوا يصفرون ويصفقون بأيديهم إذا طافوا بها, و "المكاء" بتشديد الكاف: طائر يأوي الرياض.


#10#

قال: ويقال: إنما سميت "مكة" من "مك الثدي" أي: مصه لقلة مائها؛ لأنهم كانوا يتمكون الماء أي: يستخرجونه. وقيل: إنها تمك الذنوب, أي: تذهب بها, كما يمص الفصيل ضرع أمه فلا يبقي فيه شيئاً.

$[مطلب في أسماء مكة [1]]$

ومن أسماء "مكة" – شرفها الله تعالى: "الناسة" بالنون والسين المهملة؛ لأنه من بغى فيها أو أحدث فيها حدثاً أخرج عنها, فكأنها نسته, أي: ساقته.

وتسمى أيضاً "النساسة" على المعنى الأول, و "الناشة" بالشين المعجمة أيضاً, و "الناسة" بالمهملة.

ذكره الإمام مجد الدين الشيرازي في كتابه "تحبير الموشين في التعبير بالسين والشين".

ومن أسمائها: "الباسة" بالموحدة المهملة؛ لأنها تبس من ألحد فيها, أي: تحطمه وتهلكه, وكذا "البساسة", و "الحاطمة" يعني: "الباسة" بالموحدة, و "السيل" وزان "خيل".


#11#

و"مخرج الصدق والنية" / و "المعاد" بالدال المهملة, و "أم رحم" بالراء المهملة, و"أم راحم", و "الرحم" و "الرحم" في اللغة: الرحمة والعظمة.

و"أم زم" بالزاي, و "أم صلح", و "أم القرى", و "البلد", و "البلد الأمين", و "المأمون", و "البلد الحرام", و "البلدة", و "بلد الله".

و"المقدسة", و "القادسية", و "القاديس" مأخوذ من التقديس, وهو التطهير.

و "الرتاج", و "حرم الله", و "فاران", و "طيبة", و "قرية النمل", و "نقرة الغراب", و "قرية الخمس".

و "صلاح" بفتح أولها وبالحاء المهملة في آخرها, مؤنثة لا تجري, قاله أبو عبيد البكري في "المعجم", وقيل: بكسر أولها. وقيل: بالفتح مع بنائها على الكسر كـ: "قطام".

و"صلاح" بالتنوين.

و "كوثى" وهو اسم لمحلة بني عبد الدار من مكة.

و "سبوحة", و "السلام", و "العذراء", و "نادرة", و "الوادي", و "الحرم", و "النجر", و "القرية", و "بكة", و "مكة", و "العرش",


#12#

و "العرش", و "العريش", و "العروش", ومن معاني "العرش" في اللغة: الملك والعز, وقوام الأمر, وسرير الملك وما يستظل به.

و "الحرمة" بالضم,, و "الحرمة" بالكسر, و "برة", و "ساق", و "البيت العتيق", و "الرأس", و "المسجد الحرام", و "المعطشة", و "المكتان" على التثنية, و "النابية", و "أم روح", "وأم كوثى", و"الدوار" بفتح الدال المهملة وضمها ذكره ياقوت في "معجم البلدان".

وليس تخلو من طائف لله عز وجل حتى لقد بلغنا: أن يوم قتل ابن الزبير رضي الله عنهما اشتد الحرب واشتغل الناس، فلم ير طائف يطوف بالبيت, إلا جمل يطوف به.


#13#

$[ما روي في بناء البيت في سالف الدهر]$

وبعد هذه الفتنة: نقض البيت, وبني, وكان بناؤه في سالف الدهر مرات:

خرج الحاكم من طريق أبي يحيى – وهو: زاذان القتات – عن مجاهد, عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان البيت قبل الأرض بألفي سنة, {وإذا الأرض مدت} قال: من تحته مداً.

تابعه منصور عن مجاهد.

وجاء عن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وضع البيت على أربعة أركان, قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام, ثم دحيت الأرض من تحت البيت.

وعن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أراد الله سبحانه أن يخلق الخلق خلق الريح, فأرسلها فسجت الماء, حتى جرت على حشفة, وهي التي تحت الكعبة, ثم مد الله الأرض منها حتى بلغت حيث شاء في الطول والعرض.


#14#

وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت الكعبة حشفة على الماء قبل الأرض بألفي سنة, وعليها ملكان يسبحان الليل والنهار.

وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت الكعبة حشفة على الماء.

قيل: وقد جاء: أن الملائكة بنت البيت حين أسسته انشقت الأرض إلى منتهاها, وقذفت فيها حجارة أمثال الإبل.

فتلك القواعد من البيت التي رفع عليها إبراهيم – عليه / السلام, وإسماعيل عليه السلام: البيت, ثم بناه بعد الملائكة: آدم عليه السلام.

خرج الحاكم من طريق ابن لهيعة, عن يزيد, عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بعث الله عز وجل جبريل إلى آدم وحواء عليهما السلام, فقال لهما: ابنيا لي بناء. فخط لهما جبريل عليه السلام فجعل آدم يحفر وحواء تنقل, حتى أجابه الماء نودي من تحته: حسبك يا آدم. فلما بنياه أوحى الله إليه أن يطوف به, وقيل له: أنت أول الناس, وهذا أول بيت, ثم تناسخت القرون, حتى حجه نوح عليه السلام ثم تناسخت القرون, حتى رفع إبراهيم القواعد منه)).

تفرد برفعه ابن لهيعة.

وقد قدمنا ما رواه عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة: وضع الله البيت مع آدم عليه السلام أهبط الله آدم إلى الأرض, وكان مهبطه بأرض الهند, وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض, فكانت الملائكة تهابه, فنقص إلى ستين ذراعاً, فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم, فشكا ذلك إلى الله تعالى, فقال الله تعالى: يا آدم, إني قد أهبطت لك


#15#

بيتاً تطوف فيه كما يطاف حول عرشي, وتصلي عنده كما يصلى عند العرش. الحديث, وفي آخره: فطاف به ومن بعده من الأنبياء.

وخرج البيهقي في "الدعوات" من طريق: سليمان بن بريدة [عن أبيه] رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أهبط الله عز وجل آدم عليه السلام طاف بالبيت أسبوعاً, وصلى حذاء المقام ركعتين .... )) الحديث.

وقال الشافعي: أخبرنا سفيان, عن [ابن] أبي لبيد, عن محمد بن كعب القرظي وغيره: حج آدم فلقيته الملائكة عليهم السلام, فقالوا: بر نسكك, لقد حججنا قبلك بألفي عام.

وقال أحمد بن إسحاق بن نيخاب الطيبي: حدثنا الحسن بن بشر الكوفي, حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري, عن القاسم بن عبد الرحمن, عن أبي جعفر, عن أبيه.


#16#

وعن أبي حازم, عن ابن عباس رضي الله عنهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أتى آدم عليه السلام ألف آتية من الهند على رجليه لم يركب فيهن)).

قال محمد: من ذلك ثلاث مائة حجة وسبعمائة عمرة.

فأول حجة حجها آدم وهو واقف بعرفات أتاه جبريل عليه السلام فقال: السلام عليك يا آدم, بر الله نسكك, أما إنا فقد طفنا بهذا البيت قبل أن تخلق بخمسة آلاف سنة.

وبعد آدم عليه السلام بنى البيت شيث بن آدم / عليهما السلام بالطين والحجارة, ثم بناه إبراهيم عليه السلام, وقصة بنائه البيت مخرجة في "الصحيح" من طريق سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ويروى: أن "يعرب" قال لهود عليه السلام: ألا بنيته؟

قال: إنما يبنيه نبي كريم يأتي من بعدي, يتخذه الرحمن خليلاً. فلما بعث الله إبراهيم عليه السلام وشب إسماعيل عليه السلام بمكة أمر إبراهيم ببناء الكعبة, فدلته عليه السكينة وظللت على موضع البيت, فكانت عليه كالجحفة, وبناه من خمسة أجبل, كانت الملائكة تأتيه بالحجارة منها, وهي: "طور سيناء", و "طور زيتا" اللذين بالشام, و "الجودي"


#17#

وهو بالجزيرة, و "لبنان" و "حراء" وهما في الحرم.

وحدث سعيد بن أبي عروبة في كتابه "المناسك" – من تأليفه – عن قتادة قال: ذكر لنا: أن قواعد البيت من "حراء", وذكر لنا: أن البيت بني من خمسة أجبل: من "حراء", و "لبنان", و "الجودي" و "طور سيناء" و "طور زيتا".

وجاء عن سماك بن حرب, عن خالد بن عرعرة, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسأله رجل عن {أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} , هو أول بيت بني في الأرض؟ قال: لا, ولكنه أول بيت وضع فيه البركة, والهدى, ومقام إبراهيم, ومن دخله كان آمناً.

قال علي رضي الله عنه: وإن شئت أنبأتك كيف بناه – يعني: إبراهيم – إن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم: أن ابن لي بيتاً في الأرض.

فضاق به ذرعاً, فأرسل الله السكينة – وهي: ريح خجوخ لها رأس – فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت, ثم تطوقت إلى موضع البيت تطوق الحية, فبنى إبراهيم, فكان يبني هو ساقاً كل يوم, حتى إذا بلغ مكان الحجر قال لابنه: أبغني حجراً. فالتمس ثم حجراً حتى أتاه به, فوجد الحجر الأسود قد ركب. فقال له ابنه: من أين لك هذا؟

قال: جاء به من لم يتكل على بنائك, جاء به جبريل عليه السلام فأتمه.

قال علي: فمر الدهر عليه فانهدم, فبنته العمالقة, فمر عليه الدهر,


#18#

فانهدم, فبنته جرهم, فمر عليه الدهر, فانهدم, فبنته قريش.

وهذه المرة التي شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم, وساعد في بنائه.

وبناه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حين احترقت في عهده.

قال الواقدي: عن عبد الله بن جعفر الزهري قال: سألت أبا عون: متى كان احتراق الكعبة؟ قال: يوم السبت لليال خلون من شهر ربيع الأول, قبل أن يأتينا نعي يزيد بن معاوية بتسعة وعشرين يوماً, وجاء نعيه في هلال ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين.

قلت: وما كان سبب احتراقها؟ قال: جاءنا موت يزيد توفي لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين, وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر, والحصين بن نمير يومئذ عندنا, وكان احتراقها بعد الصاعقة التي أصابت أهل الشام بعشرين ليلة.

قال أبو عون: ما كان احتراقها إلا منا, وذلك أن رجلاً منا وهو: مسلم بن أبي خليفة المذحجي كان هو وأصحابه يوقدون في خصاص له حول البيت, فأخذ ناراً في زج رمحه في النفط, وكان يوم ريح,


#19#

فطارت منها شرارة فاحترقت الكعبة حتى صارت إلى الخشب, فقلنا لهم: هذا عملكم, رميتم بيت الله بالنار والنفط. فأنكروا ذلك.

وحدث سعيد بن سالم القداح, عن عثمان بن ساج, قال: أخبرتني عجوز من أهل مكة كانت مع عبد الله بن الزبير بمكة, فقلت لها: أخبريني عن احتراق الكعبة كيف كان؟

قالت: كان المسجد فيه خيام كثيرة, فطارت النار من خيمة منها, فاحترقت الخيام والتهب المسجد, حتى تعلقت النار بالبيت فاحترق.

وقال عثمان: وبلغني: أنه لما قدم جيش الحصين بن نمير أحرق بعض أهل الشام على باب بني جمح, والمسجد يومئذ خيام وفساطيط, فمشى الحريق حتى أخذ بالبيت فظن الفريقان كلاهما أنهم هالكون, فضعف بناء البيت, حتى إن الطير ليقع عليه فتتناثر حجارته.

وقيل: احترقت من امرأة أرادت أن تجمرها, فطارت شرارة من المجمرة في أستارها, فاحترقت.

والمشهور: [أن] ذلك كان في الجاهلية, وبسبب ذلك بنت قريش الكعبة في رواية عبد الله بن معاذ الصنعاني عن معمر عن الزهري قوله.

وقيل: طارت نار من أبي قبيس فوقعت في أستارها فاحترفت.


#20#

والأول أكثر؛ لأن عبد الله بن الزبير لما تخلف عن بيعة يزيد بن معاوية ولجأ إلى الحرم وبلغ "يزيد" فحلف لا يؤتى به إلا مغلولاً, وأرسل إليه رجلاً في خيل من أهل الشام, فعمل له على فضة, وكلمه ليناً, فأبى عن إتيان يزيد وجمع مواليه ومن تألف إليه من المكيين وغيرهم, فكان يقال لهم: "الزبيرية", فجهز يزيد إلى المدينة ومكة مسلم بن عقبة المري في أهل الشام للقتال, فبلغ المري المدينة, ففعل فيها الأفاعيل الشنيعة, وأسرف في القتل, فسمي مسرفاً لذلك, ثم خرج إلى مكة, فهلك قبل أن يصل إليها.

وكان عهد إلى برذعة الحمار: الحصين بن نمير الكندي بإذن يزيد, فمضى إلى مكة, وحصر ابن الزبير وأصحابه / في المسجد الحرام, ونصب المنجنيق على أبي قبيس والأحمر – أخشبي مكة – فضرب أصحاب ابن الزبير في المسجد خياماً ورقاقاً يكتنون من الشمس ومن حجارة المنجنيق.

قال ابن المرتفع: كنا مع الزبير في الحجر, فأول حجر من المنجنيق وقع في الكعبة فسمعنا له أنيناً كأنين المريض: "آه آه" انتهى.

وكانت الكعبة يومئذ مبنية بناء قريش: مدماك من ساج ومدماك


#21#

من حجارة, من أسفلها إلى أعلاها, فكان الخشب خمسة عشر مدماكاً, والحجارة ستة عشر مدماكاً, وكان عليها الكسوة.

فذهب رجل من أصحاب الزبير يوقد ناراً في تلك الخيام مما يلي "الصفا" بين: الركن الأسود والركن اليماني, فطارت شرارة في الخيمة فاحترفت, وكان في ذلك اليوم رياح شديدة, فاحترفت كسوة الكعبة, واحترق الساج بين البناء.

وكان احتراقها يوم السبت لثلاث ليال خلون من شهر "ربيع الأول" قبل أن يأتي نعي يزيد بتسعة وعشرين يوماً, وجاء نعيه في هلال ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين.

واحترق الركن الأسود فتصدع, وضعفت جدران الكعبة, حتى إنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها, وفزع لذلك أهل الشام.

ثم إن الحصين بن نمير لما بلغه موت يزيد رجع بعسكره إلى الشام, وكان خروجه من مكة لخمس ليال خلون من ربيع الأول سنة أربع وستين, فلما أدبر جيش الشام استشار ابن الزبير أشراف الناس في هدم الكعبة وبنائها أو إصلاح ما وهى منها, فاختلفوا عليه.

وكان ممن أشار بهدمها وبنائها: جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في آخرين.

وممن أبى هدمها: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وقال لابن الزبير فيما ثبت في "صحيح مسلم" عن عطاء قال: أرى أن تصلح ما وهى منها, وتدع بيتاً أسلم الناس عليه, وأحجاراً أسلم الناس عليها, وبعث عليها [النبي] صلى الله عليه وسلم.


#22#

فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجده, فكيف بيت ربكم؟! إني مستخير ربي ثلاثاً, ثم عازم على أمري, فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها, فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء.

وفي رواية لغير مسلم: أن ابن عباس قال لابن الزبير: دعها على ما أقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها, فلا تزال تنهدم وتبنى, فيتهاون الناس بحرمتها, / ولكن أرقعها.

فقال ابن الزبير: ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه, فكيف أرقع بيت الله سبحانه وتعالى وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلا أسفله, حتى إن الحمام ليقع عليه فتتناثر حجارته.

ثم أجمع على هدمها, فخرج أهل مكة إلى منى فأقاموا بها ثلاثاً, فرقا من العذاب أن ينزل عليهم لهدمها.


#23#

قال داود بن سابور عن مجاهد قال: لما عزم ابن الزبير على هدم الكعبة خرجنا إلى منى ننتظر العذاب ثلاثاً. انتهى.

فأمر ابن الزبير عبيداً من الحبش يهدمونها, رجاء أن يكون فيها الحبشي المذكور في حديث الزهري عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة)).

فما ترجلت الشمس من ذلك اليوم الذي ابتدأ فيه بهدم الكعبة, حتى هدموها إلى الأرض من جوانبها جميعاً، وكان هدمها في يوم السبت النصف من جمادى الآخر سنة أربع وستين.

وأرسل ابن عباس إلى ابن الزبير: لا تدع الناس بغير قبلة، انصب لهم حول الكعبة الخشب، واجعل عليها الستور، حتى يطوف الناس بها من ورائها، ويصلون إليها.

ففعل، فلما سواها إلى الأرض كشف عن أساس إبراهيم عليه السلام فوجده داخلا في الحجر نحوا من ستة أذرع وشبر، [وأصاب فيه


#24#

موضع قبر وهو سفط من الحجارة أخضر، فأعلم أنه قبر إسماعيل، فقال ابن الزبير: هذا قبر إسماعيل عليه السلام.

وذلك الموضع فيما يرون ما بين "الميزاب" إلى باب الحجر الغربي.

ووجد حجارة الأساس] كأنها أعناق الإبل آخذا بعضها بعضا كتشبيك الأصابع بعضها ببعض، يحرك الحجر من القواعد فتتحرك الأركان كلها، فدعا ابن الزبير خمسين رجلا من أعيان الناس وأشرفهم، فأشهدهم على ذلك الأساس وموضع القبر، وكان منهم عبد الله بن مطيع العدوي، وكان شديدا، وكان في يده عتلة، فأدخلها في ركن من أركان البيت، فتزعزعت الأركان كلها. ويقال: إن مكة رجفت من ذلك رجفة شديدة، وخاف الناس حتى ندم من أشار بهدمها، فأقروا الأساس على حاله، ثم عزم على بناء البيت على تلك القواعد.

وكان أراد أن يبنيها بالورس، فقيل: إن الورس يزفت ويذهب، ولكن ابنها بالقصة، فسأل عن القصة، وأخبر: أن القصة صنعاء هي خير القصة وأجودها، فأرسل / إلى "صنعاء" بأربع مائة دينار يشتري له بها قصة، ويكترى عليها، ثم سأل رجالا من أهل العلم عن مقلع الحجارة التي بنت منه قريش الكعبة، فأعلموه أنه من جبل "حراء" و "ثبير"،


#25#

أو من الجبل المشرف على مسجد القاسم بن عبيد بن خلف بن الأسود الخزاعي، وهو "المقطع" من قافية الخندمة، والجبل: جبل في أرض أبي قبيس في شعب أبي سفيان دون شعب الخوز، ومن جبل عند المثنية البيضاء التي في طريق "جدة"، وهو الجبل المشرف على "ذي طوى" يقال له: "حلحلة"، وبين جبل بأسفل مكة على يسار من انحدر من ثنية بني عضل، ويقال لهذا الجبل: "مقلع الكعبة"، ومن "مزدلفة" من حجر بها يقال له: "المفجري"، فمن هذه السبعة بنتها قريش.

وأعلم أهل العلم ابن الزبير بذلك، فنقل منها حجارة قدر ما يحتاج إليه، ثم بناها من تلك الحجارة على مقتضى حديث خالته عائشة رضي الله عنها، وهو ما قال إسماعيل بن زكريا، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد عن عبد الله بن الزبير، حدثتني عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ((إن قومك استقصروا حين بنوا هذا البيت، فتركوا بعضه فيه الحجر)).

فلما هدمه ابن الزبير وجد القواعد داخلة في الحجر، فدعا قريشا فاستشارهم فقال: كيف ترون هذا القواعد؟ قالوا: ابن عليها.


#26#

فبنى عليها، وأدخلها البيت، وجعل له بابين فلما جاء الحجاج قال: إن ابن الزبير لم يدعه الشيطان حتى أدخل في البيت ما ليس منه فهدمه وبناه كما كان.

وثبت من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود قال: قال لي ابن الزبير: كانت عائشة رضي الله عنها تسر إليك كثيرا، فما حدثتك في الكعبة؟

قلت: قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم – قال ابن الزبير: بكفر- لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس وباب يخرجون منه))، ففعله عبد الله بن الزبير.

تابعه الأشعث بن سليمان، عن الأسود بن يزيد نحوه.

وصح أيضا من حديث مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سالم ابن عبد الله، أن ابن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟))، فقلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال: ((لولا حدثان قومك بالكفر .. )) الحديث رواه / عن مالك: عبد الله بن مسلمة القعنبي، وعبد الله بن


#27#

يوسف، ويحيى بن يحيى، وغيرهم.

وابن أبي بكر المذكور هو: عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وهو: ابن أبي عتيق.

وحدث به أبو جعفر هارون بن سعيد بن الهيثم الأيلي السعدي وغيرهم، عن عبد الله بن وهب، أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه، سمعت نافعا مولى ابن عمر يقول: سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة يحدث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية – أو قال: بكفر – لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحجر)).

ولما هدم ابن الزبير الكعبة أخذ الحجر وكان قد تصدع من الحريق بثلاث فرق وطارت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد ذلك دهرا طويلا، فشد ابن الزبير الحجر بفضة، إلا تلك الشظية من أعلاها، فموضعها في أعلى الركن.

حدث الواقدي، عن شرحبيل، عن أبي عون، عن أبيه قال: رأيت الحجر قد انفلق واسود من الحريق، فأنظر إلى جوفه أبيض كأنه الفضة.

وقال عكرمة بن خالد المخزومي: فرأيت الحجر، فإذا هو ذراع وأزيد.


#28#

ولما أخذ ابن الزبير الحجر الأسود جعله في ديباجة وأدخله في تابوت وأقفل عليه ووضعه عنده في "دار الندوة" وعمد على ما كان في الكعبة من حلية فوضعه في خزانة الكعبة في "دار شيبة بن عثمان" ثم شرع في البناء من وراء الستر، فكانوا يبنون والناس يطوفون من خارج، فلما ارتفع البنيان إلى موضع الركن الأسود أمر ابن الزبير ولده: عبادا وجبير بن شيبة بن عثمان الحجبي أن يجعلا الركن الأسود في ثوب، وقال لهما: إذا دخلت في صلاة الظهر فاحملاه واجعلاه في موضعه / فأنا أطول الصلاة، فإذا فرغتم فكبروا حتى أخفف صلاتي.

فخرج عباد وجبير بالحجر من دار الندوة والناس في صلاة الظهر، وكان حرا شديدا، فخرقا به الصفوف حتى أدخلا في الستر، فوضعه عباد مكانه، وأعانه عليه جبير، فلما أقراه مكانه وطوبق عليه الحجران كبروا، فخفف ابن الزبير الصلاة، ثم علم الناس بذلك فغضب رجال من قريش. حيث لم يحضرهم ابن الزبير.

فلما بلغ البناء ثمانية عشر ذراعا في السماء، وكان ذلك ارتفاعها في بناء قريش، فقصرت للزيادة التي زيدت فيها من الحجر، وصارت عريضة لا طول لها.

قال ابن الزبير: فكانت قبل قريش سبعة أذرع، فزادت فيها قريش تسعة أذرع، فأنا أزيد فيها تسعة أذرع أخرى فجعل طولها سبعة وعشرين ذراعا، وهي سبعة وعشرون مدماكا، وعرض جدارها ذراعان، وجعل فيها ثلاث دعائم في صف، وكانت قريش جعلت فيها ست دعائم في صفين.


#29#

وأرسل ابن الزبير إلى "صنعاء" فأتى منها برخام يقال له: "البلق" فجعل في الروازن التي في سقفها للضوء، وكان باب الكعبة مصراعا واحد، فجعله ابن الزبير مصراعين طولهما إحدى عشر ذراعا من الأرض إلى منتهى أعلى الباب اليوم، وجعل الباب الآخر الذي في ظهرها بإزائه على الشاذروان الذي على الأساس مثله، وجعل ميزابها يسكب في الحجر، وجعل له درجة في بطنها في الركن الشامي من خشب معرجة يصعد فيها على ظهرها، وجعل ميزابا في سطحها وروازن للضوء، فلما فرغ من بناء ذلك خلق الكعبة من داخلها وخارجها، من أعلاها إلى أسفلها، بالمسك والعنبر، وألطخها بالمسك، وكساها القباطي، وقال: من كان لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، فمن قدر أن ينحر بدنه فليفعل، ومن لم فليذبح شاة، فمن لم يقدر فليتصدق بقدر [طوله، وخرج ماشيا، وخرج الناس معه مشاة حتى اعتمروا من التنعيم] شكرا لله سبحانه وتعالى.

ولم ير يوما كان أكثر عتيقا ولا أكثر بدنة منحورة ولا شاة مذبوجة ولا صدقة من يومئذ، ونحر ابن الزبير مائة بدنه، فلما طاف استلم الأركان الأربعة جميعا، فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا طاف الطائف استلم الأركان كلها؛ لأن البيت صار تاما، ويدخل الناس من الباب الشرقي ويخرجون من الباب الغربي، والبابان لاصقان بالأرض، إلى أن قتل ابن الزبير رضي الله عنه، فنقض ما بناه وأعيد على ما بنته قريش.


#30#

وهذه هي المرة الخامسة في بناء البيت، وذلك أن عبد الملك بن مروان لما استقام له الأمر ودخل الحجاج مكة كتب على عبد الملك: أن ابن الزبير زاد في البيت ما ليس منه، وأحدث فيه بابا آخر. فكتب إليه يأمره بسد الباب الغربي الذي فتحه ابن الزبير وهدم ما زاد فيها.

ففعل ذلك الحجاج، هدم منها ستة أذرع وشبرا مما يلي الحجر وبناها على أساس قريش، وسد الباب الغربي، وترك سائرها، لم يحرك منه شيئا، فكل شيء فيها بناء ابن الزبير، إلا الجدران الذي في الحجر، فإنه بناء الحجاج.

وما تحت عتبة الباب الشرقي الذي يدخل / منه اليوم إلى الأرض أربعة أذرع وشبر، كل هذا فإنه بناء الحجاج، والدرجة التي في بطنها اليوم والبابان اللذان عليها اليوم هما أيضا من بناء الحجاج.

وبعد فراغ الحجاج من ذلك وفد الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على عبد الملك فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب – يعني: ابن الزبير – سمع من عائشة رضي الله عنها ما كان يزعم أنه سمع منها في أمر الكعبة.

فقال الحارث: أنا سمعته من عائشة رضي الله عنها.

قال: سمعتها تقول ماذا؟

قال: سمعتها تقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قومك استقصروا في بناء البيت، ولولا حداثة عهد قومك بالكفر أعدت فيها ما تركوا، فإن بدا


#31#

لقومك أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا))، فأراها قريبا من سبعة أذرع، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وجعلت لها بابين موضوعين على الأرض: بابا شرقيا يدخل الناس منه وبابا غربيا يخرج الناس منه)).

قال عبد الملك للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟

قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا سمعت هذا منها.

فجعل ينكت منكسا بقضيب في يده ساعة طويلة، ثم قال: وددت أني كنت تركت ابن الزبير على ما تحمل من ذلك.

خرج قصة الرفادة بنحوها مسلم في "صحيحه" من طريق ابن جريج, عن عبد الله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء, عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة.

ولما ولي أبو جعفر المنصور أراد أن يبينها على ما بناها ابن الزبير, وشاور في ذلك مالك بن أنس رضي الله عنه فقال له: أنشدك الله يا أمير المؤمنين بأن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك, لا يريد أحد منهم أن يغيره إلا غيره, فتذهب هيبته من قلوب الناس. فصرفه عن رأيه فيه.

وذكر موسى بن عقبة في "المغازي" عن الزهري في سبب بنيان قريش الكعبة غير ما ذكرناه من رواية عبد الرزاق في "المغازي" عن


#32#

معمر عن الزهري, فذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب أنه قال: وإنما حمل قريشاً على بنيانها: أن السيل كان أتى من فوقها من فوق الردم الذي صنعوا فأخربه, فخافوا أن يدخلها الماء, فكان رجل يقال له: "مليح" سرق طيب الكعبة، فأرادوا أن يشيدوا بنيانها ويرفعوا بابها حتى لا يدخل إلا من شاءوا, فأعدوا لذلك نفقة وعمالاً, ثم عمدوا إليها ليهدموها على حذر وشفق أن يمنعهم الله الذي أرادوا.

فكان أول رجل / طلعها وهدم منها شيئاً الوليد بن المغيرة, فلما رأوا الذي فعل الوليد بن المغيرة تتابعوا فوضعوها, فأعجبهم ذلك, فلما أرادوا أن يأخذوا في بنيانها أحضروا عمالهم, فلم يقدر رجل منهم أن يمضي أمامه موضع قدمه, وزعموا أنهم قد رأوا حية أحاطت بالبيت, رأسها عند ذنبها, فأشفقوا منها شفقة شديدة, وخشوا أن يكونوا مما فعلوه في هلكة, وكانت الكعبة حرزهم ومنعتهم من الناس وشرفاً لهم.

فأشار عليهم المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بالذي ذكر في هذه الحية, فلما فعلوا ذهبت الحية في السماء فتغيبت منهم, ورأوا أن ذلك من الله عز وجل.

يقول بعض الناس: خطفها طائر فألقاها نحو جياد الصغير.

وفي غير رواية موسى بن عقبة: أن الزبير بن عبد المطلب قال فيما كان من أمر الحية والطائر:


#33#

عجبت لما تصوبت العقاب ... إلى الثعبان وهي لها اضطراب

وقد كانت يكون لها كشيش ... وأحياناً يكون لها وثاب.

إذا قمنا إلى التأسيس شدت ... تهيبنا البناء وقد تهاب

فلما أن خشينا الرجز جاءت ... عقاب تتلئب لها أنصاب

فضمتها إليها ثم خلت ... لنا البنيان ليس له حجاب

فقمنا حاشدين إلى بناء ... لنا منه القواعد والتراب

غداة ترفع التأسيس منه ... وليس على مسوينا ثياب

أعز به المليك بني لؤي ... فليس لأصله منهم ذهاب

وقد حشدت هناك بنو عدي ... ومرة قد تقدمها كلاب

فبوأنا المليك بذاك عزاً ... وعند الله يلتمس الثواب


#34#

ويروى: أن الطائر الذي اختطف الحية من بئر الكعبة طرحها بـ "الحجون" فالتقمتها الأرض, فهي الدابة التي تكلم الناس قبل يوم القيامة.

قاله النقاش في "تفسيره".

رجعنا إلى رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب:

قال: فلما سقط في أيديهم ولبس عليهم أمرهم قام المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم, فزعموا أنه قال: هل لكم في أمر تتبعون فيه مرضات رب هذا البيت, فإذا أشهدتم رأيكم وحمدتم جهدكم نظرتم, فإن خلى الله بينكم وبين بنيانها فذلك الذي أردتم, وإن حال بينكم وبينه كان ذلك وقد اجتهدتم؟

قالوا: أشر / علينا.

قال: إنكم قد جمعتم لنفقة هذا البيت ما قد علمتم, وإنكم قد أخذتم في هدمه وبنيانه على تحاسد بينكم, وإني أرى أن تقسموا البيت على أربعة أقسام على منازلكم في الآل والأرحام, ولا يخلو أحد بجانب من جواب البيت كاملاً بكل ربع, ولكن اقسموا أنصافاً من كل جانب من جوانب البيت, فإذا فعلتم ذلك فليبن كل ربع منكم نصيبه, ولا تجعلن في نفقة هذا البيت شيئاً أصبتموه غصباً أو قطعتم به رحماً ولا انتهكتم فيه ذمة بينكم وبين أحد من الناس, فإذا فعلتم ذلك فاقترعوا أيضاً بفناء


#35#

الكعبة, ولا تنازعوا, ولا تنافسوا, وليصر كل ربع منكم بموضع سهمه, ثم انطلقوا بعمالكم, فلعلكم إذا فعلتم ذلك أن تخلصوا إليها.

فلما سمعوا قول المغيرة رضوا به, وانتهوا إليه، وفعلوا الذي أمرهم, فيزعم علماء أولية قريش أن باب الكعبة إلى الحجر الأسود بالنصف من جابنها الذي يلي اليمن صار في سهم ابن عبد مناف.

فلما انتهى البنيان إلى موضع الحجر الأسود تنافسوا في رفعه وتحاسدوا عليه, فحكموا فيهم أول رجل يطلع عليهم, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم – كما بلغنا – ذلك الرجل, فأعانوه على رفعه على اصطلاح منهم، وجماعة. فيزعمون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه وسط ثوب ثم قال لهم: ((خذوا بزواياه وجوانبه كلها)), وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يرفع الحجر, فوضعه صلى الله عليه وسلم بيده موضعه, وذلك قبل مبعثه بخمس عشرة سنة.

وزعم ابن عباس: أن أولية قريش كانوا يتحدثون: أن رجالاً من قريش لما اجتمعوا ليقلعوا الحجارة انتهوا إلى أساس إبراهيم عليه السلام عمد رجل منهم إلى حجر من الأساس الأول, فرفعه وهو لا يدري أنه من الأساس الأول, فأبصر القوم برقة تحت الحجر كادت تلمع بصر الرجل, ونز الحجر من يده فوقع في موضعه, وفزع الرجل والبناءة.

فلما ستر الحجة ما تحته عادوا إلى بنيانهم وقالوا: لا تخرجوا هذا الحجر ولا شيئاً بحذائه.


#36#

فلما انتهوا إلى أس البيت الأول وجدوا في حجر منها – ولا أدري لعله ذكر أنه في أسفل المقام – كتاباً لم يدروا ما هو, حتى أتاهم حبر من يهود اليمن, فنظر إلى الكتاب فحدثهم أنه قرأه, فاستحلفوه لتحدثنا بما فيه, ولتصدقنا عنه.

فأخبرهم / أن فيه: إني أنا الله ذو "بكة", حرمتها يوم خلقت السموات والأرض والشمس والقمر ويوم وضعت هذين الجبلين, وحففتها بسبعة أملاك حنفاء.

وهذا الرجل الذي عهد إلى حجر من الأساس الأول فرفعه, ونز من يده, فوقع في موضعه هو: حزن بن أبي وهب بن عمرو المخزومي جد سعيد بن المسيب.

وقيل: هو: أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم, وذلك فيما حدث به أبو الوليد الأزرقي في "تاريخه": عن جده, حدثنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه قال: جل رجال من قريش في المسجد الحرام, فيهم حويطب بن عبد العزى


#37#

ومخرمة بن نوفل, فتذاكروا بنيان الكعبة وما هاجهم على ذلك, وذكروا كيف كان بناؤها قبل ذلك. قالوا: كانت الكعبة مبنية برضم يابس ليس بمدر, وكان بابها بالأرض, ولم يكن لها سقف, وإنما تدلى الكسوة على الجدر من خارج, وتربط من أعلى الجدر من بطنها, وكان في بطن الكعبة عن يمين من دخلها جب يكون فيه ما يهدى للكعبة من مال وحلية, كهيئة الخزانة, وكان يكون على ذلك الجب حية تحرسه، بعثها الله عز وجل منذ زمن جرهم, وذلك أنه عدا على ذلك الجب قوم من "جرهم", فسرقوا مالها وحليتها مرة بعد مرة, فبعث الله تلك الحية فحرست الكعبة وما فيها خمسمائة سنة, فلم تزل كذلك حتى بنت قريش الكعبة.

وذكر القصة مطولة, وفيها: فهدمت قريش معه – أي: مع الوليد بن المغيرة – حتى بلغوا الأساس الذي رفع عليه إبراهيم وإسماعيل عليها السلام القواعد من البيت, فأبصروا حجارة كأنها الإبل الخلف, لا يطيق الحجر منها ثلاثون رجلاً يحرك الحجر منها, فترتج جوانبها, قد تشبك بعضها ببعض, أدخل الوليد بن المغيرة عتلة بين الحجرين فانفلقت منه فلقة, فأخذها أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم, فنزت من يده فلقة الحجر حتى عادت في مكانها, وطارت من تحتها برقة كادت أن تخطف أبصارهم, ورجفت "مكة" بأسرها, فلما رأوا ذلك أمسكوا أن ينظروا ما تحت ذلك .... وذكر باقي القصة.


#38#

وأبو وهب الذي نزت من يده فلقة الحجر هو: جد سعيد بن المسيب بن حزن بن وهب.

وروى عبد الرزاق بن همام في "جامعه" / عن معمر, عن عبد الله بن عثمان بن خثيم, عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدر, وكانت قدر ما تقتحمها العناق, وكانت غير مسقوفة, إنما توضع ثيابها عليها ثم تسدل سدلاً عليها, وكان الركن الأسود موضوعاً على سورها بادياً, وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة, فأقبلت سفينة من أرض الروم,, حتى إذا كانوا قريباً من جدة انكسرت السفينة, فخرجت قريش ليأخذوا خشبها, فوجدوا رومياً عندها، فأخذوا الخشب أعطاهم إياه, وكانت السفينة تريد الحبشة, وكان الرومي الذي في السفينة نجاراً, فقدموا بالخشب وقدموا بالرومي, فقالت قريش: نبني بهذا الخشب الذي في السفينة بيت ربنا.

فلما أرادوا هدمه إذا هم بحية على سور البيت مثل قطعة الجائز سوداء الظهر بيضاء البطن, فجعلت كلما دنا أحد إلى البيت ليهدمه ويأخذ من حجارته سعت إليه فاتحة فاها, فاجتمعت قريش عند المقام, فعجوا إلى الله عز وجل وقالوا: ربنا لم نزع, أردنا تشريف بيتك وتزيينه, فإن كنت ترضى بذلك, وإلا فما بدا لك فافعل.

فسمعوا خواراً في السماء, فإذا هم بطائر أسود الظهر أبيض البطن والرجلين, أعظم من النسر, فغرز مخلابه في رأس الحية حتى انطلق بها يجرها, ذنبها أعظم من كذا وكذا ساقطاً, فانطلق بها نحو "أجياد"


#39#

فهدمتها "قريش", وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي, تحملها "قريش" على رقابها, فرفعوها في السماء عشرين ذراعاً.

فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من "أجياد" وعليه نمرة, فذهب يضع النمرة على عاتقه فتبرز عورته من صغر النمرة, فنودي: يا محمد, خمر عورتك. فلم ير عرياناً بعد ذلك, وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل الله عليه خمس سنين, وبين مخرجها وبنيانها خمس عشرة سنة.

وخرجه الطبراني في "معجمه" عن إسحاق بن إبراهيم, عن عبد الرزاق, فذكره كذلك.

وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عن عبد الرزاق مختصراُ دون ذكر قصة السفينة والحية.

وحدث به أبو الوليد الأزرقي في "تاريخه" عن جده, عن داود بن عبد الرحمن العطار, حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري, عن أبي الطفيل قال: قلت: يا خالي, حدثني / عن بنيان الكعبة قبل أن تبنيها "قريش" قال: كانت برضم يابس بمدر, وذكر القصة بنحوها.

ورواه محمد بن كثير المصيصي, عن عبد الله بن واقد, عن عبد الله بن عثمان بن خثيم, عن نافع بن جرجس قال: سألت أبا الطفيل, فذكره بنحوه.


#40#

وفي هذا الحديث قوله: "فضاقت عليه النمرة فخالف الما".

قال الحافظ أبو محمد روح بن عبادة بن العلاء بن حسان القيسي البصري أحد الأعيان: حدثنا زكريا بن إسحاق, حدثنا عمرو بن دينار, سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره, فقال له العباس عمه: يا ابن أخي, لو حللت إزارك فجعلت على منكبيك دون الحجارة. قال: فحله فجعله على منكبه، فسقط مغشياً عليه, فما رئي بعد ذلك عرياناً صلى الله عليه وسلم.

أخرجه البخاري عن مطر بن الفضل, ومسلم عن زهير, قالا: حدثنا روح, فذكره.

وقد رواه عبد الرزاق مرة على اللفظ المشهور, فقال الحاكم في "مستدركه": أخبرناه محمد بن علي بن عبد الحميد الصنعاني [ثنا] إسحاق بن إبراهيم بن عباد, أخبرنا عبد الرزاق [أنبأ] معمر, عن عبد الله بن عثمان بن خثيم, عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: لما بني البيت كان الناس ينقلون الحجارة والنبي صلى الله عليه وسلم معهم, فأخذ الثوب ووضعه على عاتقه, فنودي: لا تكشف عورتك. فألقى الحجر ولبس ثوبه.

قال الحاكم: وهذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه.


#41#

وقال عاصم بن علي: حدثنا سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: قال العباس بن عبد المطلب: كنا ننقل الحجارة إلى البيت حين كانت "قريش" تبني البيت, وكان الرجال من قريش ينقلون الحجارة, وكانت النساء تنقل, وكنت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم, فكنا نحمل الحجارة على رقابنا, وأزرنا تحت الحجارة, فإذا غشينا الناس اتزرنا, فبينا أنا أمشي ومحمد صلى الله عليه وسلم أمامي ليس عليه شيء إذ خر محمد صلى الله عليه وسلم فانبطح. قال: فألقيت حجري وجئت أسعى, فإذا هو ينظر إلى السماء فوقه, فقلت: ما شأنك؟ فقام فأخذ إزاره فقال: ((نهيت أن أمشي عرياناً)) قال: وكنت أكتمه الناس مخافة أن يقولوا: مجنون, حتى أظهر الله عز وجل نبوته صلى الله عليه وسلم.

أخرجه الدينوري في "المجالسة" فقال: حدثنا أحمد بن ملاعب, حدثنا عصام, فذكره.

وأخرج الحاكم في "مستدركه" فقال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب, حدثنا العباس بن محمد الدوري, حدثنا أبو يحيى الحماني عبد الحميد بن عبد الرحمن, حدثنا النضر أبو عمر الخزاز, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أبو طالب يعالج زمزم, وكان النبي صلى الله عليه وسلم ممن ينقل الحجارة وهو يومئذ غلام, فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم إزاره


#42#

فتعرى واتقى به الحجر, فقيل لأبي طالب: أدرك ابنك فقد غشي عليه.

فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم من غشيته سأله أبو طالب عن غشيته فقال: ((أتاني آت عليه ثياب بياض, فقال: استتر)) فقال ابن عباس رضي الله عنهما: فكان ذلك أول ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة, أن قيل له: "استتر", فما رئيت عورته من يومئذ.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد, ولم يخرجاه, وشاهده حديث أبي الطفيل. ثم ذكر الحاكم حديثه الذي قدمناه عنه.

وفي مسند حديث ابن عباس هذا: أبو يحيى الحماني: ضعفه أحمد بن حنبل, لكن وثقه يحيى بن معين.

وشيخه النضر بن عبد الرحمن الخزاز الكوفي: متروك, ضعفه جماعة, حتى قال يحيى بن معين مرة: لا يحل لأحد أن يروي عنه.

وهذه القصة مشهورة في بنيان قريش الكعبة كما تقدم, وفيها كانت قصة تحكيم قريش النبي صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر الأسود, كما تقدمت من رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب.

وقال إسماعيل بن محمد الصفار: حدثنا الحسن بن مكرم, حدثنا عبيد الله بن محمد, حدثنا حماد بن سلمة, عن داود بن أبي هند, عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي رضي الله عنه، وذكر في عقب بناء الكعبة لما تشاجروا في الحجر أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب, فكان أول من دخل النبي صلى الله عليه وسلم, فقالوا: قد جاء الأمين.

#43#

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عبد الصمد, حدثنا ثابت – يعني: أبا زيد – حدثنا هلال –يعني: ابن خباب – عن مجاهد, عن مولاه أنه حدثه: أنه كان فيمن يبني في الجاهلية, قال: ولي حجر أنا نحته بيدي أعبده من دون الله, فأجيء باللبن الخاثر الذي أنفسه على نفسي, فأصب عليه, فيجيء الكلب فيلحسه ثم يشغر فيبول, فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر, وما يرى الحجر أحد / فإذا هو وسط حجارتنا مثل رأس الرجل, يكاد يترايا منه وجه الرجل, فقال بطن من "قريش": نحن نضعه.

قال آخرون: نحن نضعه. فقالوا: اجعلوا بينكم حكماً. قالوا: أول رجل يطلع من الفج, فجاء النبي صلى الله عليه وسلم, فقالوا: أتاكم الأمين. فقالوا له, فوضعه في ثوب, ثم دعا بطونهم فأخذوا بنواحيه معه, فوضعه هو صلى الله عليه وسلم.

مولى مجاهد هو: السائب بن أبي السائب صيفي بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي رضي الله عنه, وتقدم ذكره في حديث مشاركته للنبي صلى الله عليه وسلم في التجارة.

وقد رويت قصة التحكيم بلفظ آخر, وهي: أن القبائل اختصموا في رفعه, فكل قبيلة تريد أن ترفعه, حتى تواعدوا للقتال, وقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً, وأدخلوا أيديهم في الدم وتعاقدوا على الموت, فسموا "لعقة الدم", فمكثوا على ذلك ليالي, ثم تشاوروا للقتال, فقال


#44#

أبو أمية بن المغيرة – وهو أسن قريش – اجعلوا بينكم أول من يدخل من باب هذا المسجد, فكان أول من دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما رأوه قالوا: هذا الأمين, قد رضينا. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال: ((هلموا ثوباً)), فأتي به, فأخذ الركن, فوضعه فيه بيده صلى الله عليه وسلم, ثم أمر كل قبيلة أن ترفع بقرنة من قرن الثوب, ففعلوا, فلما وصل إلى مكانه أخذه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ووضعه مكانه, ثم بني عليه.

والثوب الذي وضع فيه النبي صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود اختلفت الرواية فيه:

قال الواقدي: حدثنا خالد بن القاسم,. عن ابن أبي تجراة, عن أمه قالت: أنا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع الركن بيده, فقلت: لمن الثوب الذي [وضع] فيه الحجر؟ قالت: للوليد بن المغيرة.

وروي: أن الثوب كان كساء طارونياً للنبي صلى الله عليه وسلم.

والطاروني: ضرب من الخز.

وروى عبد الرزاق في "مغازيه" عن معمر, عن الزهري عقب قصة وضع الحجر الأسود مكانه, قال: ثم طفق – يعني. النبي صلى الله عليه وسلم – لا يزداد فيهم بمر السنين إلا رضى, حتى سموه الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي, وطفقوا لا ينحرون جزوراً إلا دعوه ليدعو لهم فيها.


#45#

كان نبينا صلى الله عليه وسلم يعرف بـ "الأمين" لما شاهدوا من صدقه وأمانته, واختبروه من / عفته وطهارته, فكان أفضلهم مروءة, وأحسنهم خلقاً, وأكرمهم مخالطة, وأحسنهم جوداً, وأعظمهم حلماً وأمانة, وأصدقهم حديثاَ, وأبعدهم من الفحش والأذى، ما رئي صلى الله عليه وسلم ملاحياً ولا ممارياً أحداً, حتى سماه قومه "الأمين" لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة, كما قاله داود بن الحصين وغيره.

وقال معاوية بن هشام: عن الثوري, عن أبي إسحاق, عن ناجية بن كعب, عن علي رضي الله عنه قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك, وإنما أنت فينا بمكذب, ولكن نكذب الذي جئت به. فأنزل الله عز وجل: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}.

وجاء عن الثوري, عن أبي إسحاق, عن ناجية مرسلاً.

وهو المحفوظ فيما ذكره الدارقطني في "العلل".

ورواه إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة": لما دنا مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة رسولاً, وإلى الخلق بشيراً ونذيراً انتشر في الأمم أن الله سيبعث نبياً في هذا الزمان, وأن ظهوره قد قرب, وآن, فكانت كل أمة لها كتاب, تعرف ذلك من كتابها, والتي لا كتاب لها ترى من الآيات المنذرة ما تستدل عليه بعقولها, وتتنبه عليه بهواجس فطرها إلهاماً أعان به الفطن اللبيب, وأنذر به الحازم الأريب, هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم غافل عنها وغير عالم أنه مراد بها ومؤهل لها, لم يشعر حتى نودي, ولا تحققها حتى


#46#

نوجي؛ ليكون أبعد من التهمة وأسلم من الظنة, فيكون برهانه أظهر, وحجابه أقهر, وكان صلى الله عليه وسلم مع تميزه عن قومه بشرف أخلاقه, وكرم طباعه, لم يعبد معهم صنماً, ولا عظم وثناً, وكان متديناً بفرائض العقول في قول جميع الفقهاء والمتكلمين من توحيد الله تعالى وقدمه وحدوث العالم وفنائه. وشكر المنعم وتحريم المظالم, ووجوب الإنصاف وأداء الأمانة. انتهى.

وقال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس, حدثنا أبو الأحوص, عن سعيد بن مسروق, عن منذر قال: قال الربيع بن خثيم – رحمة الله عليه: كان يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم / في الجاهلية قبل الإسلام, ثم اختص في الإسلام, قال ربيع: حرف وما حرف: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} آمنه؛ أي: أن الله عز وجل آمنه على وحيه.

قال الإمام أحمد بن حنبل: فيمن قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه" فهو على قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب.

وأما ما قال أبو الحسن عثمان بن أبي شيبة: حدثنا جرير بن عبد الحميد, عن سفيان الثوري, عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب, عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم .... الحديث.


#47#

فهو حديث باطل, ووهم فيه عثمان؛ لأن جريراً إنما رواه: عن سفيان الثوري عن عبد الله بن جرير بن زياد القمي مرسلاً فيما ذكر.

لكن قال الخطيب: لا أعلم أحداً روى هذا الحديث عن جرير غير عثمان بن أبي شيبة, وقال الأزدي: وقد رواه أبو يعلى عن عثمان, تفرد به جرير, إن كان عثمان حفظه فإنه لم يتابع عليه. انتهى.

وقد قال عبد الله اابن الإمام أحمد في كتاب "العلل": وعرضت على أبي حديثاً حدثنا عثمان, عن جرير, عن شيبة, عن نعامة, عن فاطمة بنت حسين, عن فاطمة الكبرى, عن النبي صلى الله عليه وسلم في العصبة, وحديث جرير, عن الثوري, عن ابن عقيل, عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد عيداً للمشركين. فأنكرها جداً, وعدة أحاديث من هذا النحو, فأنكرها جداً وقال: هذه أحاديث موضوعة, أو كأنها موضوعة. وقال: ما كان أخوه – يعني عبد الله بن شيبة – يطنف نفسه لشيء من هذه الأحاديث, نسأل الله السلامة في الدين والدنيا. وقال: نراه يتوهم هذه الأحاديث, نسأل الله السلامة, اللهم سلم سلم.


#48#

وقال القاضي عياض في "الشفا": وقد سئل أحمد بن حنبل عن حديث رواه عثمان بن أبي شيبة بسند له عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه، أحدهما يقول لصاحبه: اذهب حتى تقوم خلفه. فقال الآخر: كيف أقوم خلفه وعهده باستلام الأصنام، فلم يشهدهم بعد.

فأنكره أحمد بن حنبل جدا وقال: هو موضوع، أو شبه الموضوع.

وقال عياض: "وقال الدارقطني: يقال: إن عثمان وهم في إسناده".

والحديث بالجملة منكر / غير متفق على إسناده، فلا يلتفت إليه، والمعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه عند أهل العلم من قوله صلى الله عليه وسلم: ((بغضت إلي الأصنام)).

وقوله في الحديث الآخر الذي روته أم أيمن حين كلمه عمه وآله في حضور بعض أعيادهم وعزموا عليه فيه بعد كراهيته لذلك، فخرج معهم ورجع مرعوبا فقال: ((كلما دنوت منها من صنم تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك، لا تمسه))، فما شهد بعد لهم عيدا، وقوله في قصة "بحيرا" حين استحلف النبي صلى الله عليه وسلم باللات والعزى إذ لقيه بالشام في سفرته مع عمه أبي طالب وهو صبي، ورأى فيه علامات النبوة، فاختبره بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: ((لا تسألني بهما، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما)) فقال له "بحيرا": فبالله إلا [ما] أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال: ((اسأل عما بدا لك)).


#49#

وكذلك المعروف من سيرته صلى الله عليه وسلم وتوفيق الله تعالى: أنه كان قبل نبوته يخالف المشركين في وقوفهم بـ"مزدلفة" في الحج، فكان هو يقف بـ"عرفة" لأنه كان يقف موضع إبراهيم -صلوات الله عليهما وسلامه. انتهى.

وخبر أم أيمن الذي أشار إليه القاضي عياض هو: ما رواه الواقدي، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال حدثتني أم أيمن رضي الله عنها قالت: كانت "بوانة" صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك له النسائك، ويحلقون رءوسهم عنده، ويعكفون عنده يوما إلى الليل، وذلك يوما في السنة، فكان أبو طالب يحضره مع قومه، وكان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العبد، فيأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.

قالت: حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن: إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، وجعلن يقلن: يا محمد، ما تريد أن تحضر لقومك عيدا، ولا تكثر لهم جمعا. قال: فلم يزالوا به صلى الله عليه وسلم حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع إلينا مرعوبا فزعا، فقلن عماته: ما دهاك؟ فقال: ((إني أخشى أن يكون بي لمم)) فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما / فيك، فما الذي رأيت؟ قال: ((إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك يا محمد لا تمسه)) قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى نبئ صلى الله عليه وسلم وزاده شرفا وتعظيما.


#50#

وقال أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده": حدثنا محمد بن إسحاق وأبو علي الرازي، قالا: أخبرنا يعلى بن عبيد، حدثنا صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: دخل جبريل عليه السلام مسجد الحرام، فطفق يتقلب، فبصر بالنبي صلى الله عليه وسلم نائما في ظل الكعبة، فأيقظه، فقام ينفض رأسه ولحيته من التراب، فانطلق به نحو باب بني شيبة، فلقيهما ميكائيل عليه السلام فقال جبريل لميكائيل عليهما السلام: ما يمنعك أن تصافح النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجد من يده ريح النحاس. فكأن جبريل أنكر ذلك فقال: أوفعلت ذلك؟ وكان النبي صلى الله عليه و سلم نسي ثم ذكر، فقال: ((صدق أخي، مررت أول من أمس على "إساف" و "نائلة" فوضعت يدي على أحدهما فقلت: إن قوما رضوا بكما إلها لقوم سوء)).

قال صالح: فقلت لابن بريدة: ما "إساف" و "نائلة"؟ فقال: كانا إنسانين من "قريش" فكانا يطوفان بالكعبة، فأصابا منه خلوة، فأراد أحدهما صاحبه، فنكسهما الله تعالى نحاسا، فجاءتهما قريش فقالوا: إن الله تعالى رضي أن نعبد هؤلاء الإنسانين لما نكسهما نحاسا.

قال ابن بريدة: فأما "إساف" فرجل، وأما "نائل" فامرأة من بني عبد الدار بن قصي.

وقال الحاكم أبو عبد الله: أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب: أخبرنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا


#51#

محمد بن عمرو، عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد بن حارثة، عن أبيه رضي الله عنهما قال: كان صنم من نحاس يقال له "إساف" أو "نائلة" يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمسه)) قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي: لأمسه حتى أنظر ما يكون فمسحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألم تنه؟!))

رواه أبو يعلى الموصلي عن بندار، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن محمد بن عمرو، مطولا بقصة فزيد بن عمرو بن نفيل في أوله.

وجاء من طريق أخرى: عن محمد بن عمرو، وفيه: قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه / الكتاب ما استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أكرمه.

وقال أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق قال: وحدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما هممت بقبيح مما يهم به أهل الجاهلية إلا مرتين من الدهر، كلتاهما عصمني الله عز وجل منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم أهلنا نرعاها: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر


#52#

الفتيان قال: نعم. فخرجت، فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانة -لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش- فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت، حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم فعلت ليلة أخرى مثل ذلك، فخرجت فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل، فسمعت كما سمعت، حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت.؟ قلت: ما فعلت شيئا)).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فو الله، ما هممت بعدهما بسوء مما يعمله أهل الجاهلية، حتى أكرمني الله بنبوته)).

أخرجه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا عمر بن محمد الهمداني، حدثنا أحمد بن المقدام العجلي، فذكره.

تابعه أبو الفضل يحيى بن الفياض الرماني في "المغازي" عن وهب عن أبيه.

ورواه أحمد بن عبد الجبار بن محمد بن العلاء، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق.

وله شاهد عن عمار بن ياسر.


#53#

$هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة متعبدا بشرع أم لا؟$

قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "الوفا": قال أبو الوفاء بن عقيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متدينا قبل بعثه ونزول الوحي عليه بما يصح عنده أنه من شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

وقال بعضهم: وهو الأشبه الأقوى، وحكى القاضي عياض في "الشفا" اختلاف الناس في حال نبينا صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه: هل كان متبعا لشرع قبله أم لا.

قال: فقال جماعة: لم يكن متبعا لشيء. وهو قول الجمهور. وقال: ثم اختلفت حجج القائلين هذه المقالة عليها، فذهب سيف السنة ومقتدى فرق الأمة القاضي أبو بكر إلى أن طريق العلم بذلك النقل وموارد الخبر من طريق السمع.

وحجته: أنه لو كان ذلك لنقل ولما أمكن كتمه وستره في العادة، إذ كان من مهم أمره وأول ما اهتبل به من سيرته صلى الله عليه وسلم، ولفخر أهل تلك الشريعة ولاحتجوا به عليه، ولم يؤثر شيء من ذلك جملة.

وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا، قالوا: لأنه يبعد أن يكون متبوعا


#54#

من عرف تابعا، وبنوا هذا على التحسين والتقبيح، وهي طريقه غير سديدة.

قال: وقالت فرقة أخرى بالوقف في أمره صلى الله عليه وسلم وترك قطع الحكم عليه بشيء في ذلك، إذا لم يحل الوجهين منها العقل ولا استبان عندها في أحدهما طريق النقل. وهذا مذهب أبي المعالي.

وقالت فرقة ثالثة: إنه كان صلى الله عليه وسلم عاملا بشرع من قبله، ثم اختلفوا: هل يتعين ذلك الشرع أم لا؟؟ فوقف بعضهم عن تعيينه وأحجم، وحبس بعضهم على التعيين وصمم، ثم اختلفت هذه المعينة فيمن كان يتبع، فقيل: نوح. وقيل: إبراهيم. وقيل: موسى. وقيل: عيسى صلوات الله عليهم.

فهذه جملة المذاهب في هذا المسألة، والأظهر فيها: ما ذهب إليه القاضي أبو بكر، وأبعدها: مذاهب المعينين، إذ لو كان شيء من ذلك لنقل كما قدمناه، ولم يخف جملة ولا حجة لهم في أن عيسى آخر الأنبياء، فلزمت شريعته من جاء بعدها، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى، بل الصحيح: أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم، ولا حجة أيضا للآخرين في قوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) ، والأخرى في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً) فحمل هذه الآية على اتباعهم في التوحيد. انتهى.

ومذهب الفرقة الأولى حكاه أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" عن أكثر المتكلمين وبعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما وحكى مذهب الفرقة الثالثة عن بعض المتكلمين وأكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة بأنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بشريعة


#55#

من تقدمه من الأنبياء. قال الماوردي: لأنهم دعوا إلى شرائعهم / من عاصرهم ومن يأتي بعدهم، ما لم ينسخ بنبوة حادثه، فدخل الرسول الله صلى الله عليه وسلم في عموم الدعاء قبل مبعثه، لأن الله تعالى لا يخلي زمانا من شرع متبوع ولا متدينا من متعبد مسموع.

ثم حكى اختلاف أهل هذا المذهب بنحو ما حكاه القاضي عياض، ثم قال: فسلم صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه من جرح في دينه وقدح في نفسه، وهذا من أمارات الاصطفاء ومقدمات الاجتباء.

قال أبو محمد ابن قتيبة: لم تزل العرب على بقايا من دين إسماعيل عليه السلام من ذلك حج البيت، والختان، وإيقاع الطلاق ثلاثا، وأن للزوج الرجعة بالواحدة والاثنتين، ودية النفس مائة من الإبل، والغسل من الجنابة، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه من الإيمان بالله تعالى والعمل بشرائعهم في الختان والغسل والحج.

قال: وقوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} يعني به: شرائع إيمان، ولم يرد به الإيمان الذي هو الإقرار بالله عز وجل، لأن آباءه الذين ماتوا في الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون له مع شركهم. انتهى.

وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عثمان بن أبي سليمان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه: جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على بعير له بـ"عرفات" من بين قومه حتى يدفع معهم، توفيقا من الله تعالى له صلى الله عليه وسلم.


#56#

&بعثته ونبوته صلى الله عليه وسلم وزاده شرفا&

ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعين العناية ملحوظا، محروسا من دنس الجاهلية محفوظا، مؤيدا بعصمة الله ورعايته، إلى أن اختصه الله تعالى برسالته، وأيده بالسكينة والقوة، وأكرمه بالبعثة، وأجله بالنبوة، وأرسله كافة للناس أجمعين، وجعله خاتما للأنبياء والمرسلين، الذين عدتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، منهم ثلاث مائة وثلاثة عشر رسولا، كما هو مصرح به في حديث إبراهيم بن هشام بن يحيى بن الغساني، عن أبيه، عن جده، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا به.

وجاء في طريق محمد بن مصفى التي قدمنا ذكرها عن بقية بن الوليد، حدثني شيخ / من أهل "فلسطين" عن القاسم بن محمد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: دخلت المسجد، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، فقال: ((يا أبا ذر، إن للمسجد تحية، وتحيته: ركعتان)) الحديث بطوله، وفيه: قلت: يا رسول، كم الأنبياء؟ قال: ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا)) قلت: يا رسول الله، كم الرسل من ذلك؟ قال: ((ثلاث مائة وخمسة عشر)).

وخرج الطبراني من حديث معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام: أنه سمع أبا سلام، حدثني أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله ، أنبي كان آدم؟ قال: ((نعم)) قال: كم بينه وبين نوح؟ قال: ((عشرون)).


#57#

قال: كم بين نوح وإبراهيم؟ قال: ((عشرة قرون)). قال: يا رسول الله، كم كانت الرسل؟ قال: ((ثلاث مائة وخمسة عشر رجلا)).

تفرد به معاوية بن سلام.

وروي عن عمر بن إسماعيل بن مجالد، عن أبيه، عن جده، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إني لخاتم ألف نبي أو أكثر)) الحديث.

ورواه عبيد الله بن عمر القواريري، عن يحيى - وهو: القطان - عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لخاتم ألف نبي وأكثر، ما من نبي بعث إلا وقد أنذر أمته الدجال)) الحديث.

وروى زكريا بن عبدي، عن مسلم بن خالد، عن زياد بن سعد، عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سليم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت على [أثر] ثمانية آلاف نبي، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل)).

وحدث به محمد بن سعد في "الطبقات" عن أحمد بن محمد بن الوليد، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، فذكره.


#58#

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا سليمان بن داود الزهراني أبو الربيع، حدثنا محمد بن ثابت العبدي، حدثنا معبد بن خالد الأنصاري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي، ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا بعده)).

تابعه موسى بن عبيدة الربذي، عن الرقاشي.

وقال جعفر بن محمد بن عبد الرحمن الصغار: حدثنا أحمد بن سعيد – يعني: الدارقي - حدثنا / أبو معاوية – هو: الزعفراني – عن صالح بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أصدق الرؤيا ما كان نهارا، لان الله عز وجل خصني بالوحي نهارا)).


#59#

$[ابتداء البعثة واليوم الذي بعث فيه صلى الله عليه وسلم وزاده شرفاً [2]]$

كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم على رأس الأربعين من عمره، وهو سن الكمال،, ولها تبعث الرسل فيما قيل.

حدث الإمام أحمد في "مسنده" عن عبد الصمد بن عبد الوارث, حدثنا أبي, حدثنا نافع أبو غالب الباهلي, شهد أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: فقال العلاء بن زياد العدوي: يا أبا حمزة, لسن [أي] الرجال كان نبي صلى الله عليه وسلم إذ بعث؟ قال: ابن أربعين سنة ويوماً, وروي عن مجاهد.

وقيل: أربعين سنة وشهرين.

وقيل: بعث صلى الله عليه وسلم بعد ثنتين وأربعين سنة, وروي عن مكحول.

وقيل: كان ذلك سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة للإسكندر, وسنة عشرين من ملك كسرى أنوشروان.

وكان ابتداء البعثة نهاراً: كما تقدم من طريق أبي الزبير عن جابر, وكان الاثنين.


#60#

حدث غيلان بن جرير, عن عبد الله بن معبد الزماني, عن أبي قتادة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين, قال: ((ذلك يوم أنزلت علي فيه النبوة)).

حدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" عن سليمان بن حرب, حدثنا أبو هلال, عن غيلان, فذكره.

وحدث به أيضاً عن موسى بن إسماعيل [عن] أبي هلال, حدثنا غيلان بن جرير, عن عبد الله بن معبد الزماني, عن أبي قتادة, عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: مررنا برجل, فقال: يا رسول الله, صوم يوم الاثنين؟ قال: ((ذاك يوم أنزلت علي فيه النبوة)).

ورواه الحسن بن عبد الملك, عن قتادة, عن عبد الله بن معبد, عن


#61#

أبي قتادة قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: ((فيه أنزل علي)), لم يذكر عمر رضي الله عنه.

وجاء عن محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أما الاثنين فهو اليوم الذي أنزل علي الوحي فيه)).

واختلف في أي شهر كان المبعث:

فقال أبو محمد ابن حزم: يوم الاثنين لثمان مضين من / ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل.

وبهذا قال الجمهور, وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقيل: لثمان بقين من ربيع الأول.

وقيل: في أوله.

وقيل: لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.

وقيل: لليلتين خلتا منه. قاله ابن زيد.

وقيل: كان في شهر رمضان, وبه قال جماعة, وذكره الشيخ أبو زكريا يحيى بن يوسف الصرصري – رحمه الله تعالى – في قوله مادحاً للنبي صلى الله عليه وسلم:

وأتت عليه أربعون فأشرقت ... نور النبوة منه في رمضان


#62#

واختلف القائلون أن البعثة في رمضان، على أقوال:

فقيل: كانت البعثة يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان. وروي عن البراء بن عازب وغيره.

قال الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة, عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة, عن أبي جعفر قال: نزل الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ "حراء" يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أربعين سنة, وجبريل الذي كان ينزل عليه بالوحي.

وقيل: لسبع خلت من رمضان.

وقيل: لأربعة وعشرين ليلة خلت منه.

واحتج من قال: "في رمضان" بقوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان} .

قالوا: أول ما أكرمه الله بنبوته أنزل عليه القرآن.

وأجيب عن هذا: أن إنزال القرآن في شهر رمضان إنما كان جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة في سماء الدنيا, ثم أنزل منجماً بحسب الوقائع, في ثلاث وعشرين سنة.

وقيل في قوله تعالى: {أنزل فيه القرءان}: أي: في شأنه وتعظيمه وفرض صومه.

والظاهر – والله أعلم: أن ابتداء النبوة كان في شهر ربيع الأول كما تقدم.


#63#

وأول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا في النوم, وتم ذلك إلى "مضان", فأنزل الله عليه القرآن في "غار حراء".

قال أبو جعفر الباقر: نزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة السبت وليلة الأحد, ثم ظهر له بـ"حراء" برسالة الله عز وجل يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان.

وذكره أبو الحسن محمد بن أحمد بن البراء العبدي.

وبهذا المعنى فسروا قوله صلى الله عليه وسلم: ((الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)), لأنا / إذا قلنا: إن مبدأ النبوة كان في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه على خلاف في ذلك, وعددنا من ثم إلى السابع عشر من رمضان كان ستة أشهر ونيفاً, ومدة النبوة كانت ثلاثاً وعشرين سنة, فحينئذ كانت الرؤيا جزءاً من أربعين جزءاً من النبوة.

وبهذا يجمع بين قول من قال: "إن مبدأ النبوة في شهر ربيع الأول" ومن قال: "في شهر رمضان", والله أعلم.

وقيل: كان المبعث في شهر رجب.

يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم سبع وعشرين من شهر رجب, وهو أول يوم هبط فيه. وبهذا قال الليث بن سعد.

قال مغلطاي فيما أنبأونا عنه: في كتاب "العتقي": ابن خمس وأربعين لسبع وعشرين من رجب – يعني: أنزل عليه – قاله الحسين – يعني: ابن علي – وجمع بأن ذلك حين حمي الوحي وتتابع.


#64#

وقيل: إن إسرافيل عليه السلام وكل به صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين قبل جبريل عليه السلام وأنكر ذلك الواقدي, وصححه الحاكم. انتهى.

وإنكار الواقدي هذا قاله عنه ابن سعد, لكن سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا: أن الواقدي ما أنكؤه, وإنما ذكره الواقدي لمحمد بن صالح بن دينار التمار المدني, فأخبره: أن عبد الله بن أبي بكر بن حزم وعاصم بن عمر بن قتادة أنكروا ذلك حين ذكره لهما رجل من "العراق".


#65#

$[ما روي في كم كان بين الأنبياء, وما روي في نبوة خالد بن سنان, وأنه كان بعد عيسى عليه السلام]$

قال أبو بكر بن أبي خيثمة: منذ خلق الله عز وجل آدم عليه السلام إلى أن بعث محمداً صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة.

وذكر ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير الشيباني عنه في "المغازي" قال: كان من آدم إلى نوح عليه السلام ألف ومائتا سنة, وبين نوح إلى إبراهيم, عليهما السلام ألف ومائة واثنتان وأربعون سنة, وبين إبراهيم وموسى عليهما السلام خمسمائة وخمس وستون سنة, ومن موسى إلى داود عليهما السلام خمسمائة سنة وتسع وستون سنة, ومن داود إلى عيسى عليهما السلام ألف وثلاث مائة سنة وستة وخمسون, ومن عيسى عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة؛ فذلك خمسة آلاف وأربع مائة سنة.

وخالف ابن إسحاق: أيوب بن عتبة. فقال: يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثني ابن نمير, حدثنا إسحاق – ابن بنت داود أبي هند – حدثني عامر بن يساف اليمامي, عن أيوب بن عتبة قال: كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة آباء / وذلك ألف سنة, وكان بين نوح وإبراهيم عليهما السلام عشرة آباء, وذلك ألف سنة, وكان بين إبراهيم وموسى عليهما السلام سبعة آباء, ولم يسم السنين, وكان بين موسى وعيسى عليهما السلام ألف وخمسمائة سنة, وكان بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة, وهي الفترة.


#66#

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب "العلل": حدثني أبي، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه, حدثني عبد الصمد, أنه سمع وهباً يقول: قد خلا من الدنيا – يعني: خمسة آلاف وستمائة سنة – إني لأعرف كل زمان منها ما كان فيه من الملوك والأنبياء, قلنا لوهب: كم الدنيا؟ قال: ستة آلاف سنة.

وذكر القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي في كتابه "عيون المعارف" عن الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ما بين آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف وسبعمائة وخمسون سنة.

وذكره أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه "سير العالم": أن اليهود تزعم أن جميع ما ثبت عندهم على ما في التوراة التي في أيديهم اليوم من عهد آدم عليه السلام إلى هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف سنة وستمائة سنة واثنتان وأربعون سنة.

ثم قال ابن جرير بعد ذلك: وأما اليونانية من النصارى فإنها تزعم أن الذي ادعت اليهود من ذلك باطل، وأن الصحيح من القول في التوراة التي في أيديهم من مدة أيام الدنيا من لدم خلق الله تعالى آدم عليه السلام إلى وقت


#67#

الهجرة على سياق ما عندهم خمسة آلاف وتسع مائة سنة واثنتان وتسعون سنة وأشهر.

وقال أبو بكر بن [أبي] خيثمة في "تاريخه": حدثنا هارون بن معروف, حدثنا ضمرة بن هاشم قال: قال سعيد بن جبير: إنما الدنيا جمعة من جمع الآخرة.

هذا آخر حديث في "التاريخ".

وخرجه ابن جرير في "تاريخه" من طريق يحيى بن واضح, حدثنا يحيى بن يعقوب, عن حماد, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة, سبعة آلاف سنة.

وخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" بزيادة فقال: حدثنا أبي, حدثنا يزيد بن عبد العزيز, حدثنا أبو يوسف يعقوب القاضي, عن يحيى بن يعقوب: أبي طالب, عن حماد بن أبي سليمان, عن سعيد بن جبير,


#68#

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة, فقد مضى منها ستة آلاف ومائتان من سنين, وتبقى الدنيا وليس عليها مؤخر.

قال أبو طالب: أظنه مائتين من سنين.

وفي لفظ: وليس عليها موحد.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا ابن الأصبهاني, أخبرنا معاوية بن هشام, عن سفيان, عن الأعمش, عن ذكوان, عن كعب قال: الدنيا ستة آلاف سنة. الحديث.

وخرجه أبو نعيم في "الحلية" من حديث منجاب بن الحارث, حدثنا أبو عامر الأسدي, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن كعب قال: الدنيا ستة آلاف سنة.

وحديث ابن قبيصة, عن سفيان, عن الأعمش, عن كعب، فلم يذكر أبا صالح.


#69#

ورواه ابن نمير, عن وكيع, حدثنا الأعمش, عن أبي صالح, عن كعب قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة, ثم جعل مع كل يوم ألف سنة.

وقال أبو اليمان الحكم بن نافع, أخبرنا أبو بكر بن عبد الله, عن راشد بن سعد، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إني لأرجو أن لا يعجز أمتي عند ربي أن يؤخرهم نصف يوم)) فقيل لسعد: وكم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة.

تابعه يحيى بن عبد الله البابلتي, عن أبي بكر بن عبد الله. مثله.

وحدث ابن جرير, عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب, حدثني عمر ابن عبد الله بن وهب, حدثني معاوية بن صالح, عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير, عن أبيه: جبير بن نفير, أنه سمع أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم الذي كان مقداره ألف سنة)).


#70#

ثم قال ابن جرير في كلام له: وإذا كان ذلك كذلك وكان الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحاً بأنه أخبر عن الباقي من ذلك في حياته أنه نصف يوم ذلك خمسمائة عام, أو كان ذلك نصف يوم من الأيام التي قدر اليوم الواحد منها ألف عام كان معلوماً أن الماضي من الدنيا إلى وقت قول النبي صلى الله عليه وسلم ما رويناه عن أبي ثعلبة عنه: كان سبعة آلاف سنة وخمس مائة سنة, أو نحواً من ذلك أو قريباً منه, والله أعلم. انتهى.

وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثني إبراهيم بن أيوب / الحوراني سمعت الوليد بن مسلم يقول: إذا أفنى الله عز وجل الخلق أقام يمجد نفسه قبل أن يبعثهم مثل عمر الدنيا أربع مرات. قال أحمد: وكان يقال: عمر الدنيا سبعة آلاف سنة.

وجاء عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة.

وثبت من حديث أبي عوانة, عن عاصم الأحول, عن أبي عثمان, عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: فترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة.

وبهذا قال مقاتل والجمهور.


#71#

ويروى عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان بين ميلاد عيسى عليه السلام وبين ميلاد نبينا صلى الله عليه وسلم خمسمائة وتسعة وستون سنة, وهي فترة, فكان بعد عيسى من الرسل, فذلك قوله عز وجل: {إذا أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث} قال: الرابع لا أدري من هو, فكان بين السنين مائة سنة وأربع وثلاثون سنة نبوة, وسائرها فترة.

قال أبو سليمان الدمشقي: والرابع – والله أعلم: خالد بن سنان الذي فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضيعه قومه)).

قلت: وهذا الحديث مطروح, رواه عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني, حدثنا المنذر – وهو: ابن محمد القابوسي – حدثنا الحسين – وهو: ابن محمد بن علي الأزدي – حدثنا عائذ بن حبيب العبسي, عن أبيه, حدثني مشيخة من بني عبس, عن سباع بن يزيد العبسي: أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له خالد بن سنان فقال: ((ذلك نبي ضيعه قومه)).


#72#

أو: جاء الحديث من أفراد قيس بن الربيع الأسدي – ذلك الجوال الذي أتي من قبل ابنه – رواه عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت بنت خالد بن سنان إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فبسط لها ثوبه وقال: ((بنت نبي ضيعه قومه)) لا أعلم أحداً رواه عن قيس سوى محمد بن الصلت الأسدي, ولا عن ابن الصلت سوى يحيى بن المعلى بن منصور الرازي, وعنه انتشر, فرواه عن يحيى بنحوه الحافظ أبو بكر البزار.

وحدث به الطبراني عن أحمد بن زهير التستري, حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور الرازي فذكره.

وخالف قيساً الثوري فرواه – فيما قاله البزار – عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير مرسلاً.

قلت: حدث بذلك محمد / بن عبد الله بن زبر, عن الخضر بن أبان, حدثنا عمرو بن محمد, حدثنا سفيان الثوري, عن سالم, عن سعيد بن جبير قال: أتت ابنة خالد بن سنان العبسي رسول الله صلى الله عله وسلم فقال: ((مرحبا بابنة أخي, نبي ضيعه قومه)).


#73#

وابنة خالد هذه اسمها: المحياة.

فجاء عن هشام بن محمد ابن الكلبي, عن أبيه, عن أبي بن عمارة العنسي, عن أبيه قال: كان خالد بن سنان بن غيث بن مريطة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس نبياً يوحى إليه, وكانت "حرة الحدثان" إذا كان الليل فهي نار تأجج, وإذا كان النهار فهي دخان يسطع.

قال هشام بن محمد: قال أبي: فحدثني عمرو بن سالم, عن أبيه: أن طيباً كانت تغشى إبلها بضوئها من مسيرة سبع ليال, وكانت تلك النار قد أضرمت بالناس, وربما خرج منها العنق فساح, فلا يمر بشيء إلا يأكله.

قال هشام: ثم رجع الحديث إلى أبي بن عمارة, قال أبي: وأخبرني أبي قال: أتانا خالد بن سنان فقال: يا معاشر بني عبس, إن الله قد أمرني بإطفاء هذه النار, فليقم معي من كل بطن منكم رجل.

قال أبي: وكان عمارة أبي هو الذي قام معه من بين بني خزيم. قال فانتهى بهم إلى طرف الحرة, فإذا عنق لها قد خرج علينا, ثم أحدق بنا, فصرنا في مثل كفة الميزان, ثم جعل يدنو, وجعلنا نتقيه بالعصي والنعال والقلانس وهو يدنو, فقلنا: يا خالد؛ أهلكتنا. فقال: كلا. فجعل يضربه بالدرة, ويقول: بداً بداً, كل هدى لله مؤدى, أنا عبد الله, أنا خالد بن سنان.


#74#

قال: فرجع ذلك العنق من حيث أقبل, وتبعه خالد حتى انتهى إلى قليب في وسط الحرة فانساب فيه.

قال: وانقدم عليه خالد وعليه إزار ورداء, فمكث ملياً, فقال ابن عم لخالد – يقال له: عروة بن سنة بن غيث بن مريط: لا يخرج منها أبداً, فما كان بأسرع مما خرج علينا وثوباه تنطفان عرقاً وهو يقول: زعم ابن راعية المعز أن لا أخرج منها، وجندي تندي. قال: فسموا بني راعية المعزى إلى اليوم, وأطفئت النار إلى اليوم, وذكر الحديث بطوله, وفيه:

ثم قال: إني ميت لسبع, فإذا رأيتم العير الأبتر يطوف بقبري ويشوف بمنخره فانبشوني تجدوني حياً أخبركم بما يكون إلى أن تقوم الساعة.

فمكث ثلاثاُ, ثم مات, فدفن, فمكثوا ثلاثاً, فرأوا العير الأبتر كما وصف خالد, فأرادوا نبشه فقال بنو مخزوم بن مالك – رهطه: لا لعمري لا تنبشوا موتانا فتعيرنا به العرب. فترك على حاله.

قال هشام: فقدمت المحياة بنت خالد بن سنان على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((مرحبا بابنة أخي, نبي ضيعه قومه)).

ورواه محمد بن عمر الرازي الحافظ, حدثني عمرو بن إسحاق بن العلاء, حدثني جدي: إبراهيم بن العلاء, حدثنا أبو محمد القرشي الهاشمي, حدثنا هشام بن عروة, عن ابن عمارة, عن أبيه: عمارة بن حزن بن شيطان؛ بقصة خالد بن سنان, وفيها: فلما بعث الله عز وجل


#75#

محمداً صلى الله عليه وسلم أتته محياة بنت خالد, فانتسبت له, فبسط لها رداءه وأجلسها عليه وقال: ((ابنة أخي, نبياً ضيعه قومه)).

وقد خرج القصة مطولة الطبراني في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا علي بن عبد العزيز وخلف بن عمرو العكبري, قالا: حدثنا معلى بن مهدي الموصلي, حدثنا أبو عوانة, عن أبي يونس, عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً من بني عبس يقال له: خالد بن سنان قال لقومه: أنا أطفئ عنكم نار الحدثان. قال: فقال له عمارة بن زياد – رجل من قومه: والله ما قلت لنا يا خالد إلا حقاً, فما شأنك وشأن النار؟! تزعم أنك تطفئها. قال: فانطلق معه عمارة بن زياد في ناس من قومه حتى أتوها وهي تخرج من شق جبل في حرة يقال لها: "حرة أشجع". قال: فخط لهم خالد خطة فأجلسهم فيها وقال: إن أبطأت عليكم فلا تدعوني باسمي, فخرجت كأنها خيل شقر يتبع بعضها بعضاً, فاستقبلها خالد فجعل يضربها بعصاة ويقول: بداً بداً, كل هدى مرداً, زعم ابن راعية المعزى أني لا أخرج منها وثيابي تندى, حتى دخل معها الشق, فأبطأ عليهم.

قال: فقال عمارة بن زياد: والله لو كان صاحبكم حياً لقد خرج عليكم, فقالوا: إنه قد نهانا أن ندعوه باسمه, قال: فادعوه باسمه, فوالله لو كان صاحبكم حياً لقد خرج إليكم بعد. قال: فدعوه باسمه, فخرج عليهم وقد أخذ برأسه وقال: ألم أنهكم أن تدعوني باسمي, فقد والله قتلتموني فادفنوني, فإذا مرت بكم الحمر فيها حمار أبتر فانبشوني؛


#76#

فإنكم ستجدونني حياً. قال: فمرت بهم الحمر فيها حمار أبتر, فقالوا: أنبشوه؛ فإنه قد أمرنا أن ننبشه, فقال لهم عمارة: / لا تحدث مضر أنا ننبش موتانا, ولا تنبشوه أبداً.

وقد كان خالد أخبرهم أن في عكم امرأته لوحين, فإذا أشكل عليكم أمر فانظروا فيهما؛ فإنكم سترون ما تسألون عنه. وقال: لا تمسهما حائض.

قال: فلما رجعوا إلى امرأته سألوها عنهما فأخرجتهما وهي حائض فذهب ما كان فيهما من علم.

قال: وقال يونس: قال ابن سماك: إن ابن خالد بن سنان أتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مرحباً بابن أخي)).

تابعهما أبو يعلى الموصلي, عن المعلى بن مهدي الموصلي. روى علي بن المبارك, عن زيد بن المبارك, حدثنا محمد بن ثور, عن ابن جرير قال: وسمعت غير واحد من أهل أرضنا. وذكر قصة خالد بن سنان, ثم قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ابنه قال: ((تعال يا ابن أخي)) لا يقول ذلك لغيره, وسمعت أخته النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: {قل هو الله أحد} فقالت: قد كنت أسمع أخي يقرأ هذه السورة.


#77#

وقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى, الأنبياء أبناء علات, وليس بيني وبين عيسى نبي)).

وقيل: كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة. وقيل: أربع مائة سنة وبضعاً وثلاثين سنة. قاله الضحاك. وقيل: خمسمائة وأربعين سنة.

قاله ابن السائب الكلبي.


#78#

$[كيف كان مبدأ الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم]$

وكان مبدأ الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم: الرؤيا, كما قدمناه, فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح:

خرج البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث الزهري, عن عروة, عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح, الحديث.

وقال يونس بن بكير: أخبرنا محمد بن إسحاق, حدثني الزهري، عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين أراد الله تعالى كرامته ورحمة العباد به أنه لا يرى شيئاً إلا جاءت كفلق الصبح, فمكث على ذلك ما شاء الله أن يمكث, وحبب إليه الخلوة, فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو.

أخرجه الترمذي لابن بكير, وقال: "هذا حديث حسن غريب". وفي نسخة: "صحيح".

وهذه الرؤيا أحد أنواع الوحي وأولها؛ لأن الوحي أتى النبي صلى الله عليه وسلم على أنواع, وكان له صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي حالات:

منها: ما صح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه – وفي لفظ – وغمض عينيه –


#79#

وكنا نعرف ذلك منه.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا عباد بن منصور, حدثنا عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي تربد وجهه, وأمسك عنه أصحابه ولم يكلمه أحد منهم.

وروي عن الفلتان بن عاصم رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه, وكان إذا نزل عليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله عز وجل.

ورآه يعلى بن أمية لما رفع له عمر طرف الثوب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه بـ"الجعرانة" قال: فإذا هو محمر الوجه, وهو يغط كما يغط البكر.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عبد الرزاق, أخبرني يونس بن سليم قال: أملى علي يونس بن يزيد, عن ابن شهاب, عن عروة, عن عبد الرحمن بن عبد القاري, سمعت ابن الخطاب عمر رضي الله عنه يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل, الحديث بطوله في نزول: {قد أفلح المؤمنون}.


#80#

وحدث به أبو محمد عبد بن حميد بن نصر الكسي – بكسر الكاف وتشديد السين المهملة يليه ياء ساكنة النسب – في "مسنده" عن عبد الرزاق بنحوه, إلا أنه سقط يونس بن يزيد من روايته بين ابن سليم وابن شهاب.

وحدث به عن عبد بن حميد: الترمذي في "جامعه" فقال: حدثنا يحيى بن موسى وعبد بن حميد وغير واحد, المعنى واحد, قالوا: حدثنا عبد الرزاق, عن يونس بن سليم عن الزهري عن عروة, فأسقط يونس بن يزيد.

ثم رواه عن غير محمد بن أبان, حدثنا عبد الرزاق, عن يونس بن سليم, عن يونس بن يزيد, عن الزهري: بهذا الإسناد نحوه بمعناه, وقال: هذا أصح من الحديث الأول.

وقال: وكان عبد الرزاق ربما ذكر في هذا الحديث يونس بن يزيد وربما لم يذكره, وإذ لم يذكر فيه يونس مرسل. انتهى.

وحدث به النسائي في "مسنده" عن إسحاق بن إبراهيم, عن عبد الرزاق, عن / يونس بن سليم, قال: أملى علي يونس بن يزيد, عن الزهري, فذكره.

هذا حديث منكر, لا نعلم أحداً رواه غير يونس بن سليم, ويونس: لا نعرفه. قاله النسائي.


#81#

وقال أبو جعفر العقيلي عن يونس بن سليم: لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلا به. انتهى.

وجاء عن ابن لهيعة, حدثني يزيد بن أبي حبيب, عن عمرو بن الوليد, عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قلت: يا رسول الله, هل تحس بالوحي؟ قال: ((نعم, أسمع صلاصل, ثم أثبت عند ذلك, وما من مرة يوحى إلي [إلا] ظننت أن نفسي تفيض منه)).

$[مطلب في حالاته صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي [3]]$

ومن حالاته صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي: أنه يعرق في اليوم الشديد البرد ويتحدر منه عرقه كالجمان, من ثقل الوحي الذي ينزل عليه, وكانت [في] هذه الحالة تحدث له عند نوع من أنواع الوحي, وهو أشدها عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الوحي أتاه كما تقدم على أنواع:

منها: ما تقدم من أحاديث الرؤيا في النوم, جعلها الله تعالى توطئة للإتيان في اليقظة.

ومنها: أن الملك وهو جبريل عليه السلام كان يتمثل له رجلاً, فيكلمه ويعي عنه ما يقول له.

قال أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا إسحاق بن أبي


#82#

حسان الأنماطي, حدثنا هشام بن عمار الدمشقي, حدثنا خالد بن عبد الرحمن, حدثنا إبراهيم بن عثمان, عن الحكم بن عتيبة, عن مقسم, عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من الأنبياء من يسمع الصوت, فيكون بذلك نبياً, وكان منهم من بنفث في أذنه وقلبه, فيكون بذلك نبياً, وإن جبريل عليه السلام يأتيني فيكلمني كما يكلم أحدكم صاحبه)),

وكان منها: أن إسرافيل عليه السلام وكل به, فكان يتراءى له ثلاث سنين, ويأتيه بالكلمة من الوحي, ثم وكل به جبريل عليه السلام فجاءه بالقرآن والوحي.

قال الشعبي فيما رواه أحمد بن حنبل وابن المثنى واللفظ له, قالا: حدثنا ابن أبي عدي, عن داود, عن عامر قال: أنزلت عليه – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم – النبوة, وهو ابن أربعين سنة, فقرن بنبوته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين, فكان بعلمه الكلمة والشيء, لم ينزل القرآن على لسانه, فلما مضى ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام, فنزل القرآن على لسانه عشر سنين بالمدينة.

ورواه أحمد بن حنبل أيضاً عن هشيم, أخبرنا داود, عن الشعبي.

وحدث بنحوه يعقوب بن سفيان في "التاريخ" عن الحجاج, حدثنا حماد, عن داود بن أبي هند, فذكره.


#83#

ورواه ابن أبي خيثمة في "التاريخ" عن موسى بن إسماعيل, عن حماد بن سلمة.

ورواه الهيثم بن عدي في "تاريخه" فقال: أنبأني إسماعيل بن أبي خالد, عن الشعبي قال: قرن إسرافيل عليه السلام برسول الله صلى الله عليه وسلم. ثلاث سنين, يسمع الصوت ولا يرى أحداً, ثم قرن به جبريل عليه السلام عشرين سنة, وذلك حين أوحي إليه.

ورواه الواقدي, عن الثوري, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن الشعبي, وعن منصور, عن أشعث, عن الشعبي قال: قرن إسرافيل بنبوة رسول الله صلى الله وسلم ثلاث سنين, يسمع حسه ولا يرى شخصه.

قال الواقدي: فذكرت ذلك لمحمد بن صالح بن دينار فقال: والله, يا ابن أخي لقد سمعت عبد الله بن أبي بكر بن حزم وعاصم بن عمر بن قتادة يتحدثان في المسجد, ورجل عراقي يقول لهما هذا, فأنكراه جميعاً وقالا: ما سمعنا ولا علمنا, إلا أن جبريل عليه السلام هو الذي قرن به, وكان يأتيه الوحي من يوم نبئ إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال محمد بن سعد في "الطبقات" بعد أن روى قول الشعبي المذكور من طريق وهيب بن خالد, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي قال: فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر – يعني: الواقدي – فقال:


#84#

ليس يعرف أهل العلم ببلدنا أن إسرافيل قرن بالنبي صلى الله عليه وسلم, وأن علماءهم وأهل السيرة منهم يقولون: لم يقرن به غير جبريل عليه السلام من حين أنزل عليه الوحي إلى أن قبض صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أن الوحي كان يأتيه مثل صلصلة الجرس, يخالطه الملك فيشتد عليه الأمر حتى يعرق في اليوم الشديد البرد, ومرة أتاه الوحي على هذه الصفة وهو على ناقته فكادت أن تبرك إلى الأرض.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي, حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة, عن صالح بن محمد, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن أبي أروى الدوسي رضي الله عنه قال: رأيت الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنه على راحلته فترغو وتفتل يديها, حتى أظن أن ذراعها ينفصم فربما بركت وربما قامت موتدة يديها, حتى يسرى عنه, من ثقل الوحي, وإنه ليتحدر منه مثل الجمان.

أبو أروي اسمه: ربيعة.

وأتاه الوحي مدة على هذه الصفة, وكانت فخذه على فخذ زيد بن ثابت رضي الله عنه, فثقلت فخذه صلى الله عليه وسلم على فخذ زيد حتى خاف أن ترض فخذه, وكان هذا النوع أشد أنواع الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أن الملك كان يلقي الوحي في قلبه وخلده صلى الله عليه وسلم من غير أن يراه, كما جاء من حديث عفير بن معدان, عن سليم بن عامر, عن


#85#

أبي أمامة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نفث روح القدس في روعي أن نفساً لم تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها, فأجملوا في الطلب, ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله تعالى, فإن الله عز وجل لا ينال ما عنده إلا بطاعته)).

أخرجه الطبراني في "معجمه" من طريق عفير.

وله شاهد عن: ابن مسعود والمطلب بن حنطب.

ومنها: أن يري الملك في صورته التي خلقه الله عز وجل عليها, فيوحي إليه, وهذا وقع له في الإسراء: كما صح أن أبا إسحاق الشيباني قال: سألت زر بن حبيش عن قول الله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى} قال: حدثنا ابن مسعود: أنه رأى جبريل عليه السلام له ست مائة جناح.

ورواه أبو وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في صورته له ستمائة جناح, قد سد الأفق, يسقط من جناحه ما الله به أعلم من الياقوت والدر.

وروي نحوه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ولكن قد رأى جبريل عليه السلام في صورته وخلقته ساداً ما بين الأفق.


#86#

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عفان, حدثنا حماد, أخبرنا عطاء بن السائب, عن الشعبي, عن مسروق, عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت جبريل منهبطاً, قد ملأ ما بين السماء والأرض, عليه ثياب سندس معلقاً / به اللؤلؤ والياقوت)).

وقال أيضاً: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا أبو بكر بن عياش, عن إدريس بن منبه, عن وهب بن منبه, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام أن يراه في صورته, فقال: ادع ربك. فدعا ربه. قال: فطلع عليه سواد من قبل المشرق. قال: فجعل يرتفع وينتشر, فلما رآه صعق, فأتاه فنعشه ومسح البزاق عن شدقه.

وقال عبد الله بن المبارك في كتابه "الزهد": أخبرنا الليث بن سعد, عن عقيل, عن ابن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام أن يتراءى له في صورته, فقال جبريل: إنك لن تطيق ذلك, فقال: ((إني أحب أن تفعل)), فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى في ليلة مقمرة, فأتاه جبريل عليه السلام في صورته, فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه, ثم أفاق وجبريل مسنده واضع إحدى يديه على صدره, والأخرى بين كتفيه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله, سبحان الله, ما كنت أرى أن شيئاً من الخلق هكذا)), فقال جبريل: فكيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام إن له لاثني عشر


#87#

جناحاً, جناح منها في المشرق وجناح في المغرب, وإن العرش لعلى كاهله, وإنه ليتضاءل الأحيان لعظمة الله تعالى, حتى يصير مثل الوصع – والوصع: عصفور صغير – حتى ما يحمل عرشه إلا عظمته سبحانه وتعالى.

الوصع بالمهملات المحركات, ويقال أيضاً بإسكان الصاد, والصعوة مثله لكنه بإسكان العين فقط.

ومنها: وحي الله سبحانه وتعالى فوق سبع سموات ليلة المعراج, كفرض الصلاة وغيره.

ومنها: تكليم الله تعالى له بغير واسطة, إما في اليقظة: كما كلمه ليلة الإسراء, وإما في النوم: كما في حديث معاذ رضي الله عنه مرفوعاُ: ((أتاني ربي في أحسن صورة, فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى)) ... الحديث.

ومنها: سماع كلام الله تعالى مع رؤيته كفاحاً بغير حجاب, وفي ذلك خلاف أشرنا إليه في قصة المعراج, وسيأتي إن شاء الله.

وقال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة": والذي تدرجت إليه أحواله صلى الله عليه وسلم في النبوة حتى علم أنه نبي مبعوث ورسول مبلغ, ترتب تدريجاً, على ست أحوال, نقل فيهن إلى منزلة بعد منزلة, حتى بلغ غايتها.

والمنزلة الأولى: الرؤيا / الصادقة في منامه بما سيؤول إليه أمره, فكان ذلك إنكاراً بها ليروض لها نفسه, وتجبر فيها حواسه, فيقوم بها إذا بعث, وهو عليها قوي, وبها ملي.


#88#

ثم قال: والمنزلة الثانية: ما ميز به عن سائر الخلق من تقديسه عن الأرجاس وتطهيره من الأدناس؛ ليصفو فيصطفى ويخلص فيستخلص, فيكون ذلك إنذاراً بالأمر وتنبيهاً على العاقبة.

قال: والمنزلة الثالثة: البشرى بالنبوة من ملك أخبره بها عن ربه عز وجل اختصت بشراه بالإشعار, وتجردت عن تكليف وإنذار, ولم يسمع بها وحيا, ولا أرى معها شخصاً, وإنما كان إحساساً بالملك, اقترن بآية دلت وأمارة ظهرت, اكتفي بها عن مشاهدته واستغني بها عن نطقه؛ ليعلم أنه من أنبياء الله، فيتأهب لوحيه، ويعان بإمهاله, فيكون على البلوى أصبر وعلى النعمة أشكر.

قال: والمنزلة الرابعة: أنه نزل عليه جبريل بوحي ربه حتى رأى شخصه وسمع مناجاته, وأخبره أنه نبي الله ورسوله, واقتصر به على الإخبار, ولم يأمره بالإنذار, ليعلمها بعد البشرى عياناً, ويقطع بها يقيناً, فتكون نفسه بها أوثق وعلمه بها أصدق, فلا يعترضه وهم ولا يخالجه ريب.

ثم قال: والمنزلة الخامسة: أنه أمر بعد النبوة بالإنذار, فصار به رسولاً، ونزل عليه القرآن بالأمر والنهي, فصار [به] مبعوثاً, ولم يؤمر بالجهر وعموم الإنذار, ليختص بمن أمنه ويشتد بمن أجابه.

ثم قال: والمنزلة السادسة: أن أمر بأن يعم بالإنذار بعد خصوصه, ويجهر بالدعاء إلى الإسلام بعد استسراره, فأنزل الله تعالى عليه قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} فجهر بالدعاء.


#89#

ثم قال: فصار بعموم الإنذار والجهر بالدعاء إلى التوحيد والإسلام عام النبوة مبعوثا إلى كافة الأمة، وكمل الله تعالى بذلك نبوته، وتمم به رسالته، فصدع بأمره، وقام بحقه، وجاهر بإنذاره، وعم بدعائه، وجاهد في الله حق جهاده، حتى خصم قريشا حين جادلوه، وصابرهم حين عاندوه، وكابد من الشدائد ما لا يثبت عليها إلا معصوم، ولا يسلم منها إلا منصور، وكل هذه آيات تنذر بالحق وتلائم الصدق، لأن الله لا يهدي كيد الخائنين، ولا يصلح عمل المفسدين. انتهى.

قال محمد بن عائذ: حدثني الوليد، أخبرني معاوية / بن سلام، عن جده: أبي سلام الأسود، عمن حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما أنا بأعلى مكة، وإذا أنا براكب عليه سواد، فقال: هل بهذه القرية رجل يقال له: أحمد؟ فقلت: ما بها أحمد ولا محمد غيري. فضرب ذراع راحلته فاستاخت، ثم أقبل حتى كشف عن كتفي حتى نظر إلى الخاتم الذي بين كتفي، قال: أنت نبي الله. قلت: ((ونبي أنا؟)) قال: نعم. قلت ((بما أبعث؟)) قال: يضرب أعناق قومك. قال: فهل من زاد؟ فخرجت حتى أتيت خديجة فأخبرتها، فقالت: حريا أو خليقا أن لا يكون ذلك، فهي أكبر كلمة تكلمت بها في أمري، فأتيته بالزاد فأخذه وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى زودني نبي الله صلى الله عليه وسلم طعاما وحمله لي في ثوبه)).

وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني: حدثنا سليمان بن أحمد إملاء، حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني، حدثنا أبي، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على


#90#

رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة، أراه الله تعالى رؤيا في المنام، فشق ذلك عليه، ورأى: أنه بينما هو بمكة أتي إلى سقف بيته فتنزع شيحة، حتى إذا نزع دخل فيه سلم من فضة فيما يخيل إليه، ثم نزل رجلان.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأردت أن أستغيث، فحبساني مكاني، ومنعت الكلام، فقعد أحدهما إلي والآخر إلى جنبي، فأدخل أحدهما يده في جنبي، فنزع ضلعي منه، كما ينزع غلق الصندوق الشديد، فأخل يده في جوفي، وأنا أجد بردها، فأخرج قلبي فوضعه على كفه، وقال لصاحبه: نعم القلب. وقال: قلب رجل صالح، ثم أدخلا القلب مكانه، ورد الضلع كما يرد غلق الصندوق، ثم ارتفعا ورفعا سلمهما فاستيقظت، فإذا السقف كما هو، فقلت: تحلم)).

وذكره النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة بنت خويلد فعصمها الله تعالى من التكذيب، فقالت: أبشر، فو الله لا يفعل الله بك إلا خيرا.

أخبرها: أنه رأى بطنه طهر وغسل ثم أعيد كما كان.

قالت: هذا والله خير، فأبشر.

ثم استعلن به جبريل عليه السلام وهو بأعلى مكة من قبل حراء فوضع يده على رأسه وفؤاده، وقال: لا تخف، أنا جبريل، وأجلسه معه على مجلس كريم كهيئة الدرنوك، فيه الياقوت واللؤلؤ، فبشره صلى الله عليه وسلم برسالات الله عز وجل حتى اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل /ثم قال: اقرأ. قال ((كيف أقرأ؟)) قال: {اقر باسم ربك الذي خلق} إلى قوله: {ما لم يعلم}، وأبدى له جبريل نفسه له جناحان من ياقوت يخطفان البصر،


#91#

ففتح جبريل عينا من ماء، فتوضأ ومحمد صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فوضأ وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه ورجليه إلى الكعبين، ونضح فرجه، وسجد سجدتين مواخية البيت، ففعل محمد صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل يفعل.

وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه، وسألها الله عز وجل بحقها، واتبع الذي نزل به جبريل من عند رب العرش العظيم، فلما قضى جبريل عليه السلام الذي أمره انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.

فرجع إلى بيته، وهو مؤمن قد رأى أمره عظيما، فلما دخل على خديجة فأخبرها، قال: ((أرأيتك الذي كنت أحدثك أني رأيته في المنام، فإنه جبريل عليه السلام قد استعلن لي، أرسله إلي ربي عز وجل)).

وأخبرها [بالذي] جاء من الله عز وجل وسمع.

فقالت: أبشر، فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا، فاقبل الذي أتاك من الله عز وجل فإنك رسول الله عز وجل حقا.

ثم انطلقت مكانه حتى أتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس نصرانيا من أهل نينوى يقال له: عداس، فقالت، يا عداس، أذكرك بالله، هل عندك علم: من جبريل؟

فلما سمعها عداس تذكر جبريل عليه السلام قال.: قدوس قدوس، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان؟

قالت: أحب أن تحدثني بعلمك فيه.

قال: فإنه أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام.


#92#

فرجعت خديجة من عنده، فأتت ورقة بن نوفل. وكان ورقة يكره عبادة الأوثان هو وزيد بن عمرو بن نفيل وكان زيد قد حرم كل شيء حرمه الله من الدم والذبيحة على النصب، وكل شيء من أبواب الظلم في الجاهلية، وأخبر ذلك عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكرت له جبريل، وما جاء به من عند الله عز وجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال لها ورقة: يا ابنة أخي، والله ما أرى، لعل صاحبك الذي ينتظر أهل الكتاب الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، وأقسم بالله لئن كان إياه ثم دعا إلى الله عز وجل وأنا حي لأبلين الله عز وجل في طاعة / رسوله صلى الله عليه وسلم وحسن المؤازرة والنصرة.

فمات ورقة، والله أعلم.

ورواه موسى بن عقبة عن الزهري، بنحو رواية عروة هذه.

وجاء عن سليمان التيمي أتم سياقا مما تقدم.

وقال سعيد بن عيسى بن تليد: حدثني المفضل بن فضالة، عن أبي الطاهر عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمه: عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أنه كان من بدء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى في المنام رؤيا، فشق ذلك عليه، فذكر ذلك لصاحبته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.


#93#

فقالت له: أبشر، فإن الله لا يصنع بك إلا خيرا. فذكر لها: أنه رأى بطنه أخرج فطهر وغسل، ثم أعيد كما كان.

قال: هذا خير فأبشر.

ثم استعلن له جبريل عليه السلام فأجلسه على ما شاء الله أن يجلسه عليه، وبشره برسالة الله عز وجل حتى اطمأن، ثم قال له اقرأ. قال: ((كيف أقرأ؟)) قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }.

فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه عز وجل واتبع الذي جاء به جبريل من عند الله عز وجل وانصرف إلى أهله، فلما دخل على خديجة قال: ((أرأيتك الذي كنت أحدثك ورأيته في المنام، فإنه جبريل استعلن)) فأخبرها بالذي جاءه من الله وسمع.

فقالت: أبشر، فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا، فاقبل الذي آتاك الله، وأبشر فإنك رسول الله حقا.

وجاء عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نذر أن يعتكف شهرا بـ "حراء"، فوافق ذلك شهر رمضان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فسمع: السلام عليك، قال: ((فظننتها فجاءة الجن، فجئت مسرعا حتى دخلت على خديجة، فسجتني ثوبا، وقالت: ما شأنك؟ فأخبرتها فقالت: أبشر، فإن السلام خير)).


#94#

حدث به أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الأنصاري الدولابي، عن محمد بن حميد أبي قرة، حدثنا سعيد بن عيسى بن تليد، فذكره.

و "قصة حراء" مخرجة في "الصحيحين" من حديث الليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها واللفظ للبخاري أنها قالت: أول ما بدئ / به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بـ "غار حراء" فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها.

حتى جاءه الحق وهو في "غار حراء"، فجاءه الملك فقال: اقرأ.

فقلت ((ما أنا بقارئ)) فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: أقرا فقلت: ((ما أنا بقارئ)).

فأخذني، فغطني الثالثة، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}.

فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف بها فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: ((زملوني زملوني)) فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر: ((لقد خشيت على نفسي)).

فقالت خديجة رضي الله عنها: كلا والله ما يحزنك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم،


#95#

وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان أمرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة رضي الله عنها: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك.

فقال له ورقة: يا ابن أخي، ما ترى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى عليه السلام يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذا يخرجك قومك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أو مخرجي هم؟)) قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.

رواه يحيى بن بكير وشعيب بن الليث، عن الليث.

تابعهما عبد الله بن يوسف عن الليث، مختصرا.

وقال أبو صالح سلمويه: حدثنا عبد الله، حدثنا يونس، عن الزهري، فذكره.

وعبد الله هو: ابن المبارك.


#96#

تابعه ابن وهب عن يونس.

وروى أسد بن موسى عن روح بن مسافر، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما / عن ورقة ابن نوفل قال: قلت: يا محمد، أخبرني عن هذا الذي يأتيك – يعني جبريل عليه السلام- فقال: ((يأتيني جناحاه لؤلؤ، وباطن قدمه أخضر)).

هذا حديث غريب من حديث الأعمش، لا يعرف عنه إلا من حديث روح بن مسافر، قاله عبد الله بن مندة.

وروى علي بن سهل بن المغيرة النسائي، وإبراهيم بن الحارث بن إسماعيل أبو إسحاق البغدادي نزيل نيسابور، عن أبي زكريا يحيى بن أبي بكر الكرماني، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا برز سمع مناديا يناديه: يا محمد، فإذا سمع الصوت انطلق هاربا، فأتى خديجة رضي الله عنها، فذكر ذلك لها. فقال: ((يا خديجة قد خشيت أن يكون خالط عقلي شيء، إني إذا برزت أسمع شيئا ينادي فلا أرى شيئا فأنطلق هاربا)) فقالت: ما كان الله وعز وجل ليفعل.


#97#

ذلك بك. فأسرت ذلك إلى أبي بكر وكان نديما في الجاهلية، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة: فقال: ((وما ذاك؟)) فحدثه أبو بكر بما حدثته خديجة رضي الله عنها فأتى ورقة فذكر ذلك له.

فقال له ورقة: هل ترى شيئا؟ قال: ((ولكني إذا برزت سمعت النداء ولا أرى شيئا فانطلق هاربا، فإذا هو عندي ينادي)).

قال: فلا تفعل، إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك.

فلما برز سمع النداء: يا محمد. قال: ((لبيك)) قال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال: قل: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، حتى فرغ من فاتحة الكتاب.

ثم أتى ورقة فذكر ذلك له؛ فقال له: أبشر ثم أبشر؛ أشهد أنك أنت الرسول الذي بشر به عيسى: {برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد}، فأنا أشهد أنك أحمد، وأنا أشهد أنك محمد، وأنا أشهد أنك رسول الله، توشك أن تؤمر بالقتال، وإن أمرت بالقتال وأنا حي لأقاتلن معك. فمات ورقة.

رواه يعقوب بن سفيان في "تاريخه" فقال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق. فذكره مختصرا.

وحدث به أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن صالح بن سهيل مولى أبي زائدة، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن أبيه، عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة، به مطولا.


#98#

ورواه يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن أبيه، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل به.

وفي مغازي إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – يعني: لما سمع أول ما سمع – قال: ((لا تحدث به قريش عني أبدا إلا عمدت إلى حالق من الجبل، فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن)) قال:

((فخرجت أريد ذلك، حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل. فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل)).

قال: ((فوقفت أنظر إليه، وشغلني ذلك عما أردت، ما أتقدم ولا أتأخر، وجعلت أصرف وجهي في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا مكة ورجعوا وأنا واقف في مكاني، ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفا. فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت؛ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا ورجعوا إلي؟ قلت لها: إن الأبعد لشاعر أو مجنون)).

فقالت: أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع بك ذلك من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وحسن خلقك، وصلتك رحمك، وما ذاك يا ابن عم لقد رأيت شيئا؟ قال: قلت: نعم ثم حدثتها الذي رأيت.


#99#

فقالت: أبشر يا ابن عم وأثبت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.

ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها أنه رأى وسمع فقال ورقة: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتيني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسيج وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت.

وهو في مغازي ابن إسحاق – رواية ابن جرير بن حازم عنه - عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير الليثي من قوله بنحوه، وفيه قال: فرجعت خديجة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قال ورقة وثبتته حتى خف عنه بعض ما كان يجد.

فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجاورته بدأ بالكعبة كما كان يصنع فلقيه ورقة بن / نوفل فقال له: بني أخي، أخبرني بما رأيت وما كلمت، فأخبره فقال: بني أخي، أثبت، فوالذي نفس ورقة بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولتؤذين ولتكذبن ولتخرجن ولتقاتلن، ولئن أنا أدركت ذلك لأنصرن الله تبارك وتعالى نصرا يعلمه. ثم أدنى رأسه فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته وتتامت له كرامته من الله عز وجل.


#100#

وقال الطبراني في "معجمه الكبير" حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا حجاج بن المنهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما يحسب حماد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة رضي الله عنها: ((إني أسمع أصواتا وأرى ضوءا، وأخشى أن يكون [بي خبل] فقالت خديجة رضي الله عنها: لم يكن الله ليفعل بك ذلك يا ابن عبد الله.

ثم أتت ورقة بن نوفل فذكرت ذلك له فقال: إن يكن صادقا فإن هذا ناموس مثل ناموس موسى، وإن يبعث وأنا حي فسأعزره وأنصره وأعينه.

أخرج الترمذي في "جامعه" من حديث عثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة فقالت له خديجة: إنه كان صدقك ولكنه مات قبل تظهر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أريته في المنام وعليه ثياب بياض، ولو كان من أهل النار لكان على لباس غير ذلك)).

وحدث به أحمد في "مسنده" عن حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: أن خديجة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "ورقة بن نوفل"، فقال: ((قد رأيته في المنام فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه بياض)).


#101#

وخرج الحاكم في "المستدرك" من حديث أبي معاوية، عن هشام عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيت له جنة أو جنتين)).

وخرجه البزار في "مسنده".


#102#

وقال أبو بكر محمد بن حميد بن سهل المخرمي: حدثنا أحمد بن الحسن الصوفي، حدثنا سريح بن يونس، حدثنا إسماعيل بن مجالد، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن "ورقة بن نوفل" فقال: ((أبصرته يمشي في بطنان الجنة، عليه قميص من سندس)).

وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتابه "الآحاد والمثاني" في ذكر ورقة بن نوفل: حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد بن


#103#

أبان بن سعيد بن العاص، حدثنا أبي، حدثنا مجالد، عن عامر، عن جابر رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، أرأيت "ورقة بن نوفل"، فإنه كان يستقبل القبلة ويقول: إلهي إله "زيد" وديني دين "زيد", ومدحه وكان مدحه فقال:

رشدت وأنعمت ابن عمرو, وإنما ... تجنبت تنوراً من النار حاميا

بدينك رباً ليس رب كمثله ... وتركك جنان الخبال كما هيا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيته في بطنان الجنة, عليه جبة سندس)).

ومدحة "ورقة" هذه رثى بها "زيد بن عمرو", وذاك أن "زيداً" لما خرج يطلب الدين الصحيح – دين إبراهيم عليه السلام – ويسأل الأحبار والرهبان حتى بلغ "الموصل" و "الجزيرة" كلها, ثم أقبل فجال الشام كلها, حتى أتى إلى راهب بميفعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون, فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم.

فقال: إنك لتطلب ديناً ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم, ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها, يبعث بدين إبراهيم الحنيفية, فالحق بها؛ فإنه مبعوث الآن, هذا زمانه.

وقد كان شام اليهودية والنصرانية, فلم يرض شيئاً منها, فخرج سريعاً – حين قال له ذلك الراهب ما قال – يريد مكة حتى إذا توسط


#104#

بلاد "لخم" عدوا عليه, فتلوه, فقال "ورقة بن نوفل بن أسد" يبكيه:

رشدت وأنعمت ابن عمرو, وإنما ... تجنبت تنوراً من النار حاميا

بدينك رباً ليس رب كغيره ... وتركك أوثان الطواغي كما هيا

وإدراكك الدين الذي قد طلبته ... ولم تك عن توحيد ربك ساهيا

فأصبحت في دار كريم مقامها ... تعلل فيها بالكرامة لاهيا

تلاقي خليل الله فيها ولم تكن ... من الناس جباراً إلى النار هاويا

وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ... ولو كان تحت الأرض سبعين واديا

ذكره ابن إسحاق وغيره.

وجاء عن الواقدي: أن الذي قتل ببلاد "لخم" و "جذام": "ورقة بن نوفل", لما كان بالشام وبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقتال بعد الهجرة أقبل يريده, حتى إذا كان ببلاد "لخم" و "جذام" قتلوه وأخذوا ما كان / معه, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يترحم عليه.


#105#

وقال الإمام أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري: قال بعضهم: إن "ورقة" مات بمكة بعد المبعث ودفن بها.

وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ: حدثنا عمر بن محمد بن جعفر, حدثنا إبراهيم بن علي, حدثنا النضر بن سلمة, حدثنا عبد الله بن عمرو الفهري ومحمد بن سلمة, عن الحارث بن محمد الفهري, عن إسماعيل بن [أبي] حكيم, عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام, عن أم سلمة, عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن عم, تستطيع إذا جاءك هذا الذي يأتيك أن تخبرني به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)), فقالت خديجة: فجاءه جبريل عليه السلام ذات يوم وأنا عنده, فقال: ((يا خديجة, هذا صاحبي الذي يأتيني قد جاء)), فقلت له: قم فاجلس على فخذي. فجلس عليها, فقلت: هل تراه؟ قال: ((نعم)), فقلت: تحول فاجلس على فخذي اليسرى. فجلس عليها, فقلت هل تراه؟ قال: ((نعم)), قالت خديجة: فتخمرت فطرحت خماري فقلت: هل تراه؟ قال: ((لا)), فقلت: هذا والله ملك كريم، لا والله ما هذا شيطان.

فقالت خديجة: قلت لـ "ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي": ذلك مما أخبرني محمد صلى الله عليه وسلم. فقال ورقة شعراً:


#106#

فإن يك حقاً يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيانا فـ "أحمد" مرسل

يفوز به من فاز فيما ينوبهم ... ويشقى به العاني الغوي المضلل

فريقان منهم فرقة في جنانه ... وأخري بأجواز الجحيم تغلل

إذا ما دعوا بالويل فيها تتابعوا ... مقامع في هاماتهم ثم منعل

فسبحان من تهوي الرياح بأمره ... ومن هو في الأيام ما شاء يفعل

ومن عرشه فوق السموات كلها ... وأحكامه في خلقه لا تبدل

غيره: وقال أيضاً:

يا للرجال وصرف الدهر والقدر ... وما لشيء قضاه الله من غير

حتى "خديجة" تدعوني لأخبرها ... وما لنا في خفي الغيب من خبر


#107#

فكان ما سألت عنه لأخبرها ... أمراً أراه سيأتي الناس عن أخر

فخبرتني بأمر قد سمعت به ... فيما مضى من قديم الناس والعصر

بأن "أحمد" يأتيه فيخبره ... جبريل أنك مبعوث إلى البشر

فقلت إن الذي ترجين ينجزه ... لك الإله فرجي الخير وانتظري /

وأرسليه إلينا كي نسائله ... عن أمره ما يرى في النوم والسهر

فقال حين أتانا منطقاً عجباًَ ... يقف منه أعالي الجلد والشعر

إني رأيت أمين الله واجهني ... في صورة أكملت في أهيب الصور

ثم استمر وكاد الخوف يذعرني ... مما يسلم ما حولي من الشجر

فقلت ظني وما أدري سيصدقني ... أن سوف تبعث تتلوا منزل السور

وسوف أوليك إن أعلنت دعوتهم ... من الجهاد بلا من ولا كدر


#108#

$ابتداء نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم$

وقال أبو بشر يونس بن حبيب: حدثنا أبو داود, حدثنا حماد بن سلمة, عن أبي عمران الجوني, عن رجل, عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف هو و"خديجة" شهراً, فوافق ذلك شهر رمضان, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع: "السلام عليكم" قالت: فظننا أنه فجأه الجن, فقال: ((أبشروا؛ فإن السلام خير)).

ثم رأى يوماً آخر جبريل عليه السلام على الشمس له جناح بالمشرق وجناح


#109#

بالمغرب, قال: ((فهلت منه)).

قال: فانطلق يريد أهله, فإذا هو بـ "جبريل" بينه وبين الباب, قال: ((فكلمني حتى أنست به, ثم وعدني موعداً)), قال: ((فجئت لموعده, فاحتبس علي جبريل)), فلما أراد أن يرجع إذا هو به وبـ "ميكائيل", فهبط "جبريل" عليه السلام إلى الأرض, وبقي "ميكائيل" بين السماء والأرض, قال: ((فأخذني جبريل عليه السلام فصلقني لحلاوة القفا, وشق عن بطني فأخرج منه ما شاء الله, ثم غسله في طست من ذهب, ثم أعاده فيه, ثم كفأني كما يكفأ الإناء, ثم ختم في ظهري, حتى وجدت مس الخاتم, ثم قال لي: اقرأ باسم ربك. ولم أقرأ كتاباً قط, فأخذ بحلقي حتى أجهشت بالبكاء, ثم قال: {أقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق} إلى قوله: {ما لم يعلم}))، قال: ((فما نسيت شيئاً بعد. ثم وزنني برجل فوزنته, ثم وزنني بآخر فوزنته, ثم وزنني بمائة, فقال مكائيل عليه السلام: تبعته أمته ورب الكعبة)).

قال: ((ثم جئت إلى منزلي, فما يلقاني حجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. حتى دخلت على خديجة فقالت: السلام عليك يا رسول الله)).

وروي من وجه آخر ضعيف عن عائشة.


#110#

وقال أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين: حدثنا عبد الله بن سليمان, حدثنا عبد الله بن محمد بن خلاد, حدثنا يعقوب بن محمد, حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة, عن هشام بن عروة, عن أبيه، / عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال "ورقة بن نوفل" لما ذكرت له "خديجة" رضي الله عنها أنه ذكر لها جبريل عليه السلام سبوح سبوح, وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان, جبريل أمين الله بينه وبين رسله، اذهبي به إلى المكان الذي رأى ما رأى, فإذا أتاه فتحسري, فإن يك من عند الله فإنه لا يراه. ففعلت, فلما تحسرت تغيب "جبريل" عليه السلام فلم يره, فرجعت فأخبرت "ورقة", فقال: إنه يأتيه الناموس الأكبر الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم. ثم قام ورقة ينتظر إظهار الدعوة, فقال في ذلك:

لججت وكنت في الدنيا لجوجاً ... لهم طالما بعث النشيجا

ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا

ببطن المكتيين على رجائي ... حديثك لو رأى منه خروجا


#111#

بأن محمداً سيسود قوماً ... ويخصم من يكون له حجيجا

ويظهر في البلاد ضياء نور ... تقام به البرية إذ تعوجا

فيا ليتي إذا ما كان ذاكم ... شهدت فكنت أولهم ولوجا

وفي رواية:

سيأتي بالذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا

بما خبرتنا من قول قس ... من الركبان أكسره أن يعوجا

وفي رواية:

ولوجاً في الذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا

أرجي بالذي كرهوا جميعاً ... إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا


#112#

وهل أمر السفالة غير كفر ... بمن يختار من سمك البروجا

فإن يبقوا وأبق تكن أمور ... يضج الكافرون لها ضجيجا

وإن أهلك فكل فتى سيلقى ... من الأقدار متلفة خلوجا

وقال يعقوب بن سفيان الفسوي في "تاريخه": حدثنا عمرو – يعني: ابن خالد – وحسان – يعني: ابن عبد الله -, قال: حدثنا ابن لهيعة, عن أبي الأسود, عن عروة قال: استعلن جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة من قبل "حراء", فوضع يده على رأسه وفؤاده وبين كتفيه وقال: لا تخف, أنا "جبريل" فأجلسه على مجلس كريم جميل معجب, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اجلسني على بساط كهيئة الدرنوك, فيه اليواقيت واللؤلؤ)).

فبشره برسالات / الله عز وجل حتى اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام, ثم قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق} السورة كلها, وأبدى له جبريل عليه السلام نفسه له جناحان من ياقوت يخطفان البصر, ففتح جبريل عليه السلام عيناً من ماء, فتوضأ, ومحمد صلى الله عليه وسلم ينظر إليه, فوضأ وجهه ويديه إلى المرفقين, ومسح برأسه ورجليه إلى الكعبين, ثم نضخ فرجه, وسجد سجدتين مواجهة البيت, ففعل محمد صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل عليه السلام يفعل.


#113#

تابعه الوليد بن مسلم فيما رواه عنه هشام بن عمار في كتاب "المبعث" قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة, فذكره نحوه, وفي آخره: وفعل محمد صلى الله عليه وسلم كذلك وقبل رسالات ربه, ثم انصرف إلى أهله, لا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.

وخرجه أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, عن عقيل, عن الزهري, عن عروة, عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن جبريل عليه السلام أتاه في أول ما أوحي إليه, فعلمه الوضوء والصلاة, فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء, فنضح بها فرجه.

وقال محمد بن عائذ القرشي: حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا ابن مجاهد, عن أبيه قال: إن أول ما لقي جبريل عليه السلام محمداً صلى الله عليه وسلم لقيه بـ "أجياد الأصغر" خلف "أبي قبيس", فنشر معه نمطاً من استبرق مكتوب فيه: {أقرأ باسم ربك الذي خلق}, فقال له: يا محمد, اقرأه. ففزع فأعرض بوجهه, فتحول الكتاب تلقاء وجهه, ثم إن جبريل عليه السلام احتمله موضعه في الأرض, فغطه, ثم أرسله فقال {أقرأ} حتى ختم السورة.

وحدث أيضاً عن محمد بن شعيب, عن عثمان بن عطاء, عن أبيه, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ثم استعلن جبريل عليه السلام إلى


#114#

النبي صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة من قبل "حراء", فوضع يده على رأسه وفؤاده وبين كتفيه, وقال: لا نخف, أنا جبريل. فأجلسه معه على مجلس كريم جميل معجب, وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكره يقول: ((أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك فيه الياقوت واللؤلؤ)), فبشره برسالة ربه, حتى اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم قال: اقرأ. قال: ((وما أقرأ؟)). قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق}, فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالات ربه, ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم / منقلباً إلى أهله, لا يأتي على حجر ولا شجر إلا سلم عليه: سلام عليك يا رسول الله, الحديث.

وروى إبراهيم بن طهمان, عن سماك, عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث)).

خرجه مسلم في "صحيحه" فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا يحيى بن أبي بكير, حدثنا إبراهيم بن طهمان, فذكره.

وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" فقال: حدثنا سليمان بن داود, حدثنا سليمان بن معاذ الضبي, عن سماك بن حرب, عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بمكة لحجراً كان يسلم علي ليالي بعثت إني لأعرفه إذا مررت به)).


#115#

وحدث به الترمذي, عن بندار محمد بن بشار ومحمود بن غيلان, عن سليمان بن داود الطيالسي.

هذا حديث حسن غريب. قاله الترمذي.

وقد قيل: إنه الحجر الأسود.

وخرج ابن سعد في "طبقاته الكبرى" من حديث منصور بن عبد الرحمن, عن أمه, عن برة بنت أبي تجراة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله تعالى به كرامته وابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجة أبعد حتى لا يرى بيتاً, ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية, فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قالت: السلام عليك يا رسول الله, فكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه, فلا يرى شيئاً.

وحدث الترمذي عن عباد بن يعقوب, عن الوليد بن أبي ثور, عن السدي, عن عباد بن أبي يزيد, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت


#116#

مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة, فخرجنا في بعض نواحيها, فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله .

قال الترمذي: هذا حديث غريب. انتهى.

تابعه عنبسة بن الأزهر وغيره عن السدي.

وروى غير واحد عن الوليد بن أبي ثور, وقال: عن عباد أبي يزيد.

ورواه زياد بن أبي خيثمة, عن السدي, عن أبي يزيد الخيواني, عن علي.

قلت: وممن تابع عباد بن يعقوب الكوفي, وقال مثله: "عن عباد بن أبي يزيد": فروة بن أبي المغراء, وذلك فيما خرجه خال ولد السني أبو الحسين محمد بن السري في كتاب "الأولياء" – من تأليفه – فقال:

حدثنا إبراهيم – يعني: ابن عبيد – حدثنا فروة, فذكره.

وخرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ورواه أبو بكر / بن أبي الدنيا في كتابه "الهواتف" فقال: حدثنا محمد بن بكار, حدثنا الوليد بن أبي ثور الهمداني, حدثنا السدي, عن عباد بن أبي يزيد, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, فذكره بنحوه.


#117#

وحدث أبو هارون عمران بن محمد الهمداني في كتابه "طبقات الهمدانيين", عن محمد بن علي بن خلف العطار, حدثنا حسين الأشقر, حدثنا أسباط بن نصر الهمداني, عن إسماعيل السدي, عن أبي يزيد – وهو: عباد بن يزيد –, فذكره بنحوه.

قال أيوب بن سليمان: حدثنا أبو بكر, عن سليمان بن بلال, عن يحيى بن سعيد, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما استعلن لي جبريل عليه السلام جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله)).

وفي الأحاديث التي ذكرناها قبل ما يدل: أن "جبريل" عليه السلام هو أول من أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وقد قيل: إن "إسرافيل" عليه السلام وكل بالنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين قبل "جبريل" عليه السلام, قاله الشعبي, وذكرناه قبل.


#118#

$أول ما نزل من القرآن$

وفي حديث أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل الذي قدمناه ما يشعر أن أول شيء نزل من القرآن أوائل سورة {اقرأ} كما ذكرنا من حديث عائشة المتفق عليه.

وقد روى أبو روق, عن الضحاك, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول شيء نزل من القرآن خمس آيات: {اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق} إلى قوله تعالى: {ما لم يعلم}، وآخر شيء نزل من القرآن: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله}.

وقال الواقدي: حدثني معمر بن راشد, عن الزهري عن محمد بن عباد بن جعفر, سمعت بعض غلماننا يقول: كان أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم: {اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم}, فهذا صدرها الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم "يوم حراء", ثم أنزل آخرها بعد ذلك بما شاء الله تعالى.

ونقل عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أنه قال: أول ما نزل عليه: {يا أيها المدثر} .

والذي عليه الجمهور: قول عائشة رضي الله عنها كما قدمناه, وهو المرجح على قول جابر لوجوه:


#119#

منها: أن حديثه الذي احتج به قال فيه: فرفعت / رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض, فجئثت منه, فرجعت إلى أهلي فقلت: زملوني زملوني. فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر . قم فأنذر}.

فهذا صريح أنه تقدم نزول الملك عليه بـ "حراء" أولاً, وهو الذي أنزل عليه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق} دل على تأخر نزول: {يا أيها المدثر}.

قال أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه" بعد روايته حديث جابر في نزول: {يا أيها المدثر} قال: في خبر جابر هذا: إن أول ما نزل من القرآن: {يا أيها المدثر} , وفي خبر عائشة: {اقرأ باسم ربك}, وليس بين هذين الخبرين تضاد, إذ الله عز وجل أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار بـ "حراء", فلما رجع إلى بيته دثرته خديجة وصبت عليه الماء البارد, وأنزل الله عليه في بيت خديجة: {يا أيها المدثر . قم فأنذر} الآية من غير أن يكون بين الخبرين تهاتر وتضاد. انتهى.


#120#

$ذكر القرآن العظيم وأسمائه$

فالنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءته النبوة من الملك العلام أكرمه بتنزيل القرآن الذي هو معجزة باقية في كل زمان تكفل الله بحفظه وأودع الحكمة في محكم لفظه, وجمع فيه مع وجازة الكلم أضعاف ما في الكتب السابقة من الحكم.

له: حسن التأليف, والتئام الكلام, واتساق الآيات, وحسن ضروب النظام, أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوع مغيبات فوقعت, وأنبأ عن قصص قرون سلفت, وأعلم بأخبار أمم سلفت, أنزله الله بكل خير آمراً, وعن كل شر زاجراً, وجعله سنة خالية ومثلاً مضروباً وحجة قائمة, وعلماً منصوباً, من عمل به أجر الأجر العظيم, ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم, وله أسماء عظيمة منزلة فيه وفي غيره, وهي دالة على شرفه وبركاته وخيره, فمنها:

"البشير", و"البشرى"، و"البلاغ", و"البيان"، و"البينة"، و"التبيان"، و "التذكرة"، و"التنزيل", و"الحبل", و"الحق"، و"الحكم", و"الحكيم", و"الدين"، و"الذكر"، و"الرحمة"، و"الروح", و"السراج", و"الشفاء", و"الصحف", و "الصراط", و"العزيز", و"العظيم", و"العلم", و"العلي", و"الفرقان"، و"الفصل", و"القرآن", و"القصص", و"القول", و"الكتاب", و"الكريم", و"الكلام", و"المبارك", و"المتين", و"المثاني", و"المجيد", و"المصدق", و "المهيمن", و"الموعظة", و"النبأ", و"النجاة", و"النذير", و"النعمة", و"النور", و"الهدى"، و"الوحي".


#121#

فهو أجل آيات نبينا صلى الله عليه وسلم وأكبر كراماته / وأبهر دلائل نبوته وأعظم معجزاته.


#122#

$معجزاته صلى الله عليه وسلم وأعظمها القرآن العظيم$

ولم نذكر ما وقع لنا من المعجزات مجموعة في باب, بل ذكرنا بعضها مفرقة في هذا الكتاب, من تتبعها فيه رآها, ومن أراد جمعها منه حواها, وجوامع معجزات نبينا – عليه أفضل الصلاة وأتم السلام – راجعة إلى سبعة أقسام:

أولها:

معجزات الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين, ووجه عدها في معجزاته وإدخالها في جملة آياته مستفاد من قول الله عز وجل: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} الآية، فالمراد بالرسول هنا: نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين كما جاءت الرواية عن علي وابن عباس رضي الله عنهم وآخرين, وكل معجزة لنبي هي دلالة على تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به وقاله, ومن جملة ما أخبر به كل من الأنبياء لأتباعه نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه, فمعجزاتهم داخلة في معجزاته, وآياتهم داخلة معدودة في جملة آياته.

والقسم الثاني:

ما ظهر في زمن الفترة من الخوارق والهواتف والطوارق والبشارات في جملة آياته بالحقائق.

والقسم الثالث:

ما ظهر عند ميلاده وبرز وقت إيجاده, كإضاءة الأقطار من نوره,


#123#

وجمود نيران المجوس لظهوره, وانشقاق إيوان كسرى, وسقوط الشرفات منه جهراً, وما رأته أمه وقابلته من العجائب, وما هتف به من الغرائب.

والقسم الرابع:

ما ظهر فيما بين ميلاده إلى بعثته, كشرح صدره, وشق قلبه, وغسل حشوته, ورمي الشياطين بالشهب, وأخبار الهواتف وأهل الكتب.

والقسم الخامس:

ما وجد بعد نبوته والوحي إليه وأفيض من المدد الإلهي عليه.

والقسم السادس:

الإخبار بالمغيبات والإنباء على الكائنات, والإعلام بقيام الساعة, وما قبلها من الآيات.

والقسم السابع:

كرامات الأولياء ومقامات الأصفياء.

ووجه عدها في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذه كرامات التابع, فالمتبوع أجل وأعظم.

وخامس هذه الأقسام أبهرها وأعظمها معجزة وأكثرها, دون منه العلماء الكثير, وجمع منه الأئمة النفيس الخطير, ومع ذلك لا يحصى تفصيله, ولا يطاق حصره وتحصيله,

وقد وجدت مجال القول ذا سعة ... فإن وجدت لساناً قائلا فقل

وأعظم هذا القسم شأناً, وأقطعه بياناً, وأمضاه برهاناً, وأغلبه قوة, وأعلنه سلطاناً القرآن العظيم والذكر الحكيم, المحكم المعاني والبيان, وكان ابتداء نزوله في شهر رمضان.

قال إبراهيم بن سعد, عن ابن إسحاق: فابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في شهر رمضان, يقول الله عز وجل: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان},


#124#

وقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} السورة، وقال تعالى: {حم . والكتاب المبين . إنا أنزلناه في ليلة مباركة}, وقال تعالى: {إن كنتم ءامنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان}, وذلك ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والمشركين من قريش بـ"بدر".

ثم روى ابن إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون من قريش بـ"بدر" يوم الجمعة صبيحة سبعة عشر من رمضان.

وروى أيضاً من لا يتهم من أهل البصرة عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أنه كان يقول فيما بلغه وانتهى إليه من العلم: أنزلت التوراة على موسى عليه السلام لست ليال مضين من رمضان, وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان, وأنزل الفرقان على رسول الله صلى الله عليه وسلم لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان.

والله أعلم أي ذلك كان.

وروي أيضاً عمن لا يتهم عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن أبي الجلد قال: أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان, وأنزلت


#125#

التوراة في ست مضين, وأنزل الزبور لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان, وأنزل الإنجيل لثماني عشرة خلون من رمضان.

والله أعلم أي ذلك كان.

وخرجه أبو عبد الله محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس البجلي في كتابه "فضائل القرآن" فقال: أخبرنا العباس بن الوليد, حدثنا / يزيد – يعني: ابن زريع -, حدثنا سعيد, عن قتادة قال: حدثنا صاحب لنا, عن أبي الجلد, فذكره بنحوه.

ورواه عمران بن داور القطان أبو العوام, عن قتادة, عن أبي المليح, عن واثلة رضي الله عنه مرفوعاً نحوه.

وقال أحمد بن عمير بن جوصا: حدثنا عمرو بن عثمان, حدثنا بقية بن الوليد, حدثني عتبة بن أبي حكيم, حدثني شيخ منهم, عن واثلة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لقي إبراهيم الصحف في أول ليلة من رمضان, وأنزلت التوراة على موسى في ست من رمضان, وأنزل الله الزبور على


#126#

داود في عشر من رمضان, وأنزل الله الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين من رمضان)).

وهو في "مسند أحمد بن حنبل".

وقال سنيد بن داود في تفسيره: حدثنا حجاج بن أبي بكر, حدثنا أبو المليح, عن جابر قال: إن الله أنزل صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان, وأنزل التوراة على موسى لست ليال خلون من رمضان, وأنزل الإنجيل على عيسى لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان, وأنزل الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان.

وقال سعيد بن أبي مريم: أخبرنا عبد الرحمن بن نجي الصدفي أبو شيبة, حدثنا حيان بن أبي جبلة, عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: أنزلت الصحف الأولى أول يوم من رمضان, وأنزلت التوراة في ستة من رمضان, وأنزل الإنجيل في اثني عشر من رمضان, وأنزل الزبور في ثمانية عشر من رمضان, وأنزل القرآن في أربع وعشرين من رمضان.

وروى أبو عمر محمد بن موسى بن فضالة القرشي من حديث علي, عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنزلت الصحف على إبراهيم عليه السلام في ليلتين من شهر رمضان, وأنزل الزبور على داود عليه السلام في ست من رمضان, وأنزلت التوراة على موسى عليه السلام لثماني عشرة من رمضان, وأنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم لأربع وعشرين من رمضان)).


#127#

"علي" هذا هو: "ابن أبي طلحة", المشهور لم يسمع التفسير من ابن عباس, بل أخذه عن مجاهد عنه, فلم يذكر مجاهداً, وأرسله / عن ابن عباس ومعاوية بن صالح, وروى عن علي عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسيراً كثيراً.

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث محمد بن بلال, حدثنا عمران القطان, عن قتادة, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من شهر رمضان إلى سماء الدنيا جملة, ثم أنزل نجوماً.

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن "قتادة" إلا "عمران", تفرد به "محمد بن بلال", وهو في "المعجم الكبير" أيضاً.

وقال أبو عبد الله محمد بن أيوب بن يحيى [بن] الضريس البجلي في كتابه "فضائل القرآن": أخبرنا علي بن الحسن, حدثنا عبد الأعلى, عن داود, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى سماء الدنيا, فكان الله تعالى إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئاً أنزل منه حتى جمعه.

وقال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي في كتابه "ثواب القرآن وفضائله": أخبرنا قتيبة بن سعيد, حدثنا ابن أبي عدي, حدثنا داود, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل القرآن في رمضان ليلة


#128#

القدر, فكان في السماء الدنيا, فكان الله عز وجل إذا أراد أن يحدث شيئاً نزل, وكان بين أوله إلى آخره عشرون سنة.

حدثنا إسماعيل بن مسعود, حدثنا يزيد – يعني: ابن زريع -, حدثنا داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل القرآن جملة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا, فكان إذا أراد الله تعالى أن يحدث شيئاً منه أحدثه.

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم, حدثنا الفريابي، عن سفيان, عن الأعمش, عن حسان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فصل القرآن من الذكر, فوضع في "بيت العزة" في السماء الدنيا, فجعل جبريل عليه السلام ينزله على النبي صلى الله عليه وسلم يرتله ترتيلاً, قال سفيان: خمس آيات ونحوها.

وهكذا حدث به الفريابي المذكور "محمد بن يوسف" عن الثوري.

وحدث به أبو عبد الله محمد بن أيوب بن الضريس في "فضائل القرآن" عن محمد بن عبد الله بن نمير, حدثنا يحيى بن عيسى / الرملي, حدثنا الأعمش, عن حسان – يعني: أبا الأشرس -, عن سعيد بن جبير قال: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان, فجعل في "بيت العزة".

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا يزيد, عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء


#129#

الدنيا في ليلة القدر, ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة, ثم قرأ: {وقرءاناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً}.

صحيح الإسناد, وهذا يشعر أن مبتدأ التنزيل كان حين تم للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث وأربعون سنة.

وكذلك ما قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يحيى, عن هشام, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، فمكث بمكة عشراً وبالمدينة عشراً, وقبض وهو ابن ثلاث وستين سنة صلى الله عليه وسلم.

المراد بهذا: النزول – والله أعلم – نزول التتابع, ويحتمل أن يكون من حين قرن به جبريل عليه السلام كما تقدم من أن إسرافيل عليه السلام قرن بنبوته صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين.

وقد روى هذا الحديث روح بن عبادة والنضر بن شميل وغيرهما عن هشام, وهذا لفظ روح, حدثنا هشام, حدثنا عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة, فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه, ثم أمر بالهجرة, فهاجر عشر سنين, ومات وهو ابن ثلاث وستين صلى الله عليه وسلم.

وهذا هو الصحيح المعروف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أنزل عليه أوائل سورة {اقرأ باسم ربك}. في أول البعثة, ثم فتر عنه الوحي فترة, ثم إن الله تابع نزول الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً بعد شيء كل وقت بما


#130#

يحتاج إليه, ولم تقع فترة بعد الفترة الأولى التي كانت بعد نزول الملك أول مرة لقوله تعالى: {اقرأ باسم ربك} كما تقدم, فإنه مكث الوحي بعدها حيناً لم ينزل, قيل: كانت مدة ذلك سنتين أو أكثر, ثم حمي الوحي وتتابع.

ثبت من حديث صالح بن كيسان, عن ابن شهاب, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن الله تعالى تابع الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته, وأكثر ما كان الوحي يوم توفي صلى الله عليه وسلم.

وحدث يونس بن بكير, عن عمر بن ذر, عن مجاهد قال: كان إذا نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأه على الرجال, ثم على النساء وأول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلك الفترة: {يا أيها المدثر}.

قال الزهري: سمعت أبا سلمة, أخبرني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ثم فتر عني الوحي فترة, فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء, فرفعت بصري قبل السماء, فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعداً على كرسي بين السماء والأرض, فجئثت منه, حتى هويت إلى الأرض, فجئت أهلي, فقلت: زملوني زملوني. فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر} إلى {فاهجر} متفق عليه.

ومعنى "فجئثت": ففرقت, يقال: جئث الرجل جؤوثاً: فزع. وروي: "فجثثت" بالجيم والمثلثة المكررة, وهي بمعنى الأولى.

وفي رواية يحيى بن أبي كثير, عن أبي سلمة, عن جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جاورت في حراء, فلما قضيت جواري هبطت,


#131#

فاستبطنت الوادي فنوديت, فنظرت أمامي وخلفي, وعن يميني وعن شمالي, فإذا هو جالس على كرسي بين السماء والأرض, فأتيت خديجة, فقلت: دثروني وصبوا علي ماء بارداً, فأنزل الله تعالى علي {يا أيها المدثر . ثم فأنذر . وربك فكبر})).

خرجاه في الصحيحين, واللفظ للبخاري.

قال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن ابن إبراهيم, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا عفير بن معدان, عن سليم ابن عامر, عن أبي أمامة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنزلت علي النبوة)) في ثلاثة أمكنة: بمكة, وبالمدينة, وبالشام)).

* [4] والقسم السابع: كرامات الأولياء ومقامات الأصفياء, ووجه عدها في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذه كرامات التابع, فالمتبوع أجل وأعظم.

وخامس هذه الأقسام أبهرها وأعظمها معجزة وأكثرها, دون منه العلماء الكثير, وجمع منه الأئمة / النفيس الخطير, ومع ذلك لا يحصى تفصيله, ولا يطاق حصره وتحصيله.

وقد وجدت مجال القول ذا سعة ... فإن وجدت لساناً قائلاً فقل

وأعظم هذا القسم شأناً وأقطعه بياناً وأمضاه برهاناً, وأغلبه قوة وأعلنه سلطاناً:


#132#

"لقرآن العظيم", و "الذكر الحكيم" المحكم المعاني والبيان, وكان ابتداء نزوله في شهر رمضان.

قال إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق: فابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في شهر رمضان، يقول الله عز وجل: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان}.*


#133#

$تنكس الأصنام لبعثته صلى الله عليه وسلم$

وتتابع الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرحمن, وبطل الزور والبهتان, وذل أولياء الشيطان, وتنكست للبعثة الأصنام والأصنام.

روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح كل صنم منكساً, فأتت الشياطين إلى إبليس، فقالت له: ما على وجه الأرض صنم إلا وقد أصبح منكساً؟!

فقال: هذا نبي قد بعث, فالتمسوه في قرى الأرياف.

فالتمسوه / فقالوا: لم نجده [قال: أنا صاحبه, فخرج يلتمسه] فنودي: عليك بحبة القلب – يعني: مكة – فالتمسه بها, فوجده عند قرن الثعالب, فخرج إلى الشياطين, فقال: قد وجدته معه جبريل فما عندكم؟

قالوا: نزين الشهوات في أعين أصحابه, ونحببها إليهم.

قال: فلا آسى إذن.

خرجه الحافظ أبو نعيم في كتابه "دلائل النبوة" من حديث الواقدي, قال: فحدثني محمد بن صالح, [عن] ابن أبي حكيم – يعني: إسحاق – عن عطاء بن يسار, عن أبي هريرة, فذكره نحوه.


#134#

وقال الواقدي: حدثني ابن أبي ذئب, عن مسلم بن جندب, عن النضر بن سفيان الهذلي, عن أبيه, قال: خرجنا في عير لنا إلى الشام, فلما كنا بين الزرقاء ومعان وقد عرسنا من الليل إذا بفارس يقول: أيها النيام هبوا فليس هذا بحين رقاد, وقد خرج أحمد وطردت الجن كل مطرد, ففزعنا, ونحن رفقة جرارة, كلهم قد سمع هذا, فرجعنا إلى أهلنا, فإذا هم يذكرون اختلافاً بمكة بين قريش بنبي, قد خرج فيهم من بني عبد المطلب اسمه أحمد.

وقال أبو أيوب الدمشقي سليمان بن عبد الرحمن: حدثنا عبد الرحمن ابن بشير الشيباني, عن محمد بن إسحاق, عن ابن شهاب, عن عبد الله بن كعب, حدثني نافع الجرشي أنه حين بعث الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم كان كاهن في رأس جبل فدعوه, فقال: انظر لنا في أمر هذا الرجل, فإنه قد حدث بأرض العرب حدث, فنزل إليهم, فقال: إن الله تبارك وتعالى أكرم محمداً صلى الله عليه وسلم واصطفاه, وطهر قلبه, واجتباه, وبعث إليكم أيها الناس فعما قليل.

وقال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أحمد بن بشير الطيالسي, حدثنا عبد الجبار بن عاصم أبو طالب, حدثنا أبو المليح الرقي, عن عبد الله بن محمد بن عقيل, عن جابر بن عبد الله


#135#

رضي الله عنهما قال: أول خبر جاءنا بالمدينة – يعني: حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأة من أهل المدينة كان لها تابع من الجن جاء في صورة طير حتى وقع على جذع لهم, فقالت: ألا تنزل إلينا فتحدثنا ونحدثك وتخبرنا ونخبرك, فقال: لا, إنه قد بعث بمكة نبي, حرم الزنا, ومنع القرار.

وخرجه في كتابه "الأوائل" عن أحمد بن بشير هذا بنحوه, وسيأتي إن شاء الله تعالى.

وقال محمد بن إسحاق: / حدثني شيخ من الأنصار يقال له: عبد الله بن محمود من آل محمد بن مسلمة, قال: بلغني أن رجالاً من خثعم كانوا يقولون: إن مما دعانا إلى الإسلام أنا كنا قوماً نعبد الأوثان, فبينما نحن ذات يوم عند وثن لنا إذ أقبل نفر يتقاضون إليه يرجون الفرج من عنده لشيء شجر بينهم, إذ هتف بهم هاتف من الصنم فجعل يقول

يا أيها الناس ذوي الأجسام

من بين أشياخ إلى غلام

ما أنتم وطائش الأحلام

ومسند الحكم إلى الأصنام

أكلكم في حيرة نيام

أم لا ترون ما أرى أمام

من ساطع يجلو دجى الظلام

[قد لاح للناظر من تهام

ذاك نبي سيد الأنام][5]

قد جاء بعد الكفر بالإسلام


#136#

أكرمه الرحمن من إمام

ومن رسول صادق الكلام

أعدل في الحكم من الحكام

يأمر بالصلاة والصيام

والبر والصلة للأرحام

ويزجر الناس عن الآثام

والرجس والأوثان والحرام

من هاشم في ذروة الأرحام

مستعلنا بالبلد الحرام

قال: فلما سمعنا ذلك تفرقنا عنه, وأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمنا.

وخرجه أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني في كتابه "أشعار الجن" من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة, حدثنا منجاب بن الحارث, أخبرنا أبو عامر الأسدي, عن ابن خربوذ المكي, عن رجل من خثعم، قال: كانت العرب، لا تحرم حلالا ولا تحل حراما، وكانوا يعبدون الأوثان، ويتحاكمون إليها قال: فبينما نحن ذات ليلة عند وثن لنا جلوس قد تقاضينا إليه في شيء وقع بيننا ننتظر أن يفرق إذ هتف هاتف يقول:

يا أيها الناس ذوي الأجسام

وذكر الأبيات بنحوه مختصرة.

ورواه الواقدي عن أبي هريرة رضي الله عنه من قوله.

وعلقه أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" عن إبراهيم بن سلامة، عن إسماعيل بن زياد، عن ابن جريج، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان


#137#

يحدث عن رجل من خثعم فذكره.

وروي عن سعيد بن عمرو الهذلي، عن أبيه / قال: حضرت مع رجال من قومي صنما سواعا، فسمعنا من جوفه العجب كل العجب: خروج نبي بين الأخاشب يحرم الزنا، ويحرم الذبائح للأصنام، وحرست السماء ورمينا بالشهب.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا عبد الله بن يزيد الهذلي، عن عبد الله بن ساعدة الهذلي، عن أبيه قال: كنا عند صنمنا سواع وقد جلبت إليه غنما إلى مائتي شاة، قد كان أصابها جرب، فأدنيتها منه أطلب بركته، فسمعت مناديا من جوف الصنم ينادي: قد ذهب كيد الجن ورمينا بالشهب؛ لنبي اسمه أحمد: قال: قلت: عبرت والله، فأصرف وجه غنمي منحدرا إلى أهلي، فلقيت رجلا فخبرني بظهور النبي صلى الله عليه وسلم.

تابعه حاتم بن إسماعيل، عن عبد الله بن يزيد الهذلي.

وقال أبو المنذر هشام بن المنذر بن السائب الكلبي: حدثنا أبو كبران المرادي الحسن بن كثير، حدثني يحيى بن هانئ بن عروة المرادي، عن أبي خيثمة عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي قال: كان لسعد العشيرة صنم يقال له "قراص" يعظمونه، وكان سادنه رجلا من أنس الله بن سعد العشيرة يقال له "ابن رقيبة" قال عبد الرحمن بن أبي سبرة: فحدثني


#138#

ذباب بن الحارث ابن أنس الله قال: كان لابن رقيبة رئي من الجن يخبره بما يكون، فأتاه ذات يوم، فأخبره بشيء، فنظر إلي فقال:

يا ذباب يا ذباب

اسمع العجب العجاب

بعث محمد بالكتاب

يدعو بمكة فلا يجاب

فقلت له: ما هذا؟ فقال: لا أدري، كذا قيل لي، فلم يكن إلا قليل حتى سمعت بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلمت وثرت إلى الصنم، فكسرته، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، وقال ذباب في ذلك:

تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وخلفت قراصا بدار هوان

شددت عليه شدة فكسرته ... كأن لم يكن والدهر ذو حدثان

ولما رأيت الله أظهر دينه ... أجبت رسول الله حين دعاني

فأصبحت للإسلام ما عشت ناصرا ... وألفيت فيه كلكلي وجراني

فمن مبلغ سعد العشيرة أنني ... شريت الذي يبقى بآخر فان


#139#

وقال أبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر في الطوالات": حدثنا علي بن حرب، حدثني أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، عن عبد الله العماني، قال: كان منا رجل يقال له: مازن بن الغضوبة وأخواله من مهرة، وأمه زينب بنت عبد الله بن أبي ربيعة بن حويص أحد بني قران، وكان يسدن صنما يقال له: "باحر" بقرية يقال لها: "سمايل" من أرض عمان، يعظمه بنو خطامة وبنو الصلت من طيء ومهرة.

قال مازن: فعترنا ذات يوم عنده عتيرة – وهي الذبيحة – فسمعت صوتا من الصنم يقول:

يا مازن اسمع تسر

ظهر خير وبطن شر

بعث نبي من مضر

بدين الله الكبر

فدع نحيتا من حجر

تسلم من حر سقر

قال مازن: ففزعت لذلك ثم قلت: إن هذا العجب، ثم عترنا بعد أيام عتيرة أخرى، فسمعت صوتا من الصنم يقول:

أقبل إلي أقبل

تسمع ما لا يجهل


#140#

هذا نبي مرسل

جاء بحق منزل

آمن به كي تعدل

عن حر نار تشعل

وقودها بالجندل

فقلت: إن هذا لعجب، وإنه لخير يراد بي، فبينا نحن كذلك إذ قدم رجل من أهل الحجاز، قلنا: ما الخبر وراءك؟ قال: ظهر رجل يقال له: "أحمد" يقول لمن أتاه: "أجيبوا داعي الله" قلت: والله هذا نبأ ما سمعت، فسرت إلى الصنم فكسرته أجذاذا، وركبت راحلتي، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرح لي الإسلام فأسلمت وقلت:

كسرت باجر أجذاذا وكان لنا ... ربا نطيف به ضلا بتضلالي

بالهاشمي هدانا من ضلالتنا ... ولم يكن دينه مني على بال

يا راكبا أبلغن عمرا وإخوته ... أني لمن قال ربي باحر قال

يعني: به عمرو بن الصامت وإخوته: بني خطامة من طيء، ذكر بقية الحديث.


#141#

وقال أبو القاسم تمام بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن الجنيد الرازي الحافظ في "فوائده": حدثنا أبو الحارث محمد بن الحارث بن هانئ بن مدلج بن المقداد بن زمل بن عمرو العذري [من لفظه، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن زمل بن عمرو العذري] قال: كان لبني عذرة صنم يقال له "خمام" وكانوا يعظمونه، وكان في بني هند بن رحام بن ضنة بن عبد بن كبير بن عذرة، وكان سادنه رجل يقال له "طارق" وكانوا يعترون عنده، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سمعنا صوتا يقول:

يا بني هند بن حرام

ظهر الحق وأوذي خمام

ودفع الشرك الإسلام

قال: ففزعنا لذلك، وهالنا، فمكثنا أياما، ثم سمعنا صوتا يقول:

يا طارق يا طارق

بعث النبي الصادق


#142#

[جاء] بوحي ناطق

صدع صادع بأرض تهمامه

لناصريه السلامه

ولخاذليه الندامة

هذا الوداع مني إلى يوم القيامة

قال زمل بن عمرو: فوقع الصنم لوجهه.

قال زمل: فابتعت راحلة ورحلت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم مع نفر من قومي وأنشدته شعرا قلت:

إليك رسول الله أعملت نصها ... أكلفها حزنا وقوزا من الرمل

لأنصر خير الخلق نصرا مؤزرا ... وأعقد حبلا من حبالك في حبلي

وأشهد أن الله لا شيء غيره ... أدين له ما أثقلت قدمي نعلي

قال: فأسلمت وتابعته، وأخبرناه بما سمعنا، فقال: ((ذلك من كلام الجن))، ثم قال ((يا مشعر العرب، إني رسول الله إلى الأنام كافة،


#143#

أدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده وإلى رسوله وعبده)) وذكر الحديث.

وقال أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني في كتابه "أشعار العرب": أخبرنا محمد بن الحسن بن ذر، حدثنا السكن بن سعيد، عن محمد [بن] عباد، عن ابن الكلبي، قال: كان العوام بن جهيل الشامي من همدان يسدن يغوث، فكان يحدث بعد إسلامه قال: كنت كثيرا أسمر مع جماعة من قومي فإذا أكربنا أوى أصحابي إلى رحالهم، وبت في بيت الصنم، فبت في ليلة ذات ريح ورعد وبرق فلما ابهار الليل سمعت هاتفا من الصنم يقول: -ولم نكن سمعنا منه قبل ذلك كلاما:

يا ابن جهيل حل بالأصنام الويل، هذا نور سطع من الأرض الحرام، فأرب الآطام، ثم انتشر فمن يمن وشام، فودع يغوث بالسلام.

قال: فألقى الله في قلبي البراءة من الأصنام، وكتمت قومي ما سمعت، فلما حال الحول في مثل تلك الليلة وقد نسيت ما كنت سمعت إذا الهاتف يقول:

هل تسمعن القول يا عوام

أو قد صممت قد ثنا الكلام


#144#

قد كشفت دياجر الظلام

وأصفق الناس على الإسلام

فقلت:

يا أيها الهاتف بالنوام

لست بذي وقر عن الكلام

فبينن عن سنة الإسلام

[قال] والله ما عرفت الإسلام قبل ذلك، فأجانبي يقول:

ارحل على اسم الله والتوفيق

رحلة لا وان ولا مشيق

إلى فريق خير ما فريق

إلى النبي الصادق المصدوق

بين فعال اللات والفلوق

تفز بدين غير ما مزيق

فرفضت الصنم، وخرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم، فصادفت وفد همدان يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، فصحبتهم حتى وردوا المدينة، فدخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث في إسلامهم ورجوعهم.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "دلائل النبوة": وحدثني أبي، عن


#145#

هشام بن محمد، حدثنا خالد بن سعيد، عن رجل من جهينة من بني دهمان، عن أبيه وقد صحب النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال: حدثني رجل من جهينة من أهل الشام، قال: قال عمرو بن مرة الجهني: خرجت حاجا في الجاهلية في جماعة من قومي، فرأيت في الطريق وأنا في المنام أن نورا ساطعا من الكعبة حتى أضاء لي نخل يثرب والأشعر والأحرد -جبلي جهينة – وسمعت صوتا وهو يقول:

أقبل حق فسطع، ودمغ باطل فانقمع

فانتبهت فزعا، فقلت لأصحابي: والله ليحدثن بمكة حدث في هذا الحي من قريش، وأخبرتهم بما رأيت، فلما انصرفنا إلى بلادنا جاءنا مخبر فأخبر أن رجلا من قريش يقال له: "أحمد" قد بعث.

قال: وكان لنا صنم نعظمه، وكنت سادنه، فكسرته وخرجت حتى أقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما رأيت.

فقال: ((يا عمرو بن مرة، أنا النبي المرسل إلى العباد، أدعوهم إلى


#146#

الإسلام، وآمرهم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الرحمن، ورفض الأوثان، وحج البيت، وصوم شهر رمضان، فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار، فآمن بالله تأمن يوم القيامة من النار)).

فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، آمنت بما جئت به من حلال وحرام.

فأدان ذلك كثير من قومي، وقال عمرو فيه:

شهدت بأن الله حق وإنني ... لآلهة الأحجار أول تارك

وشمرت عن ساقي الإزار مهاجرا ... إليك أجوب الوعث بعد الدكادك

لأصحب خير الخلق نفسا ووالدا ... رسول مليك الناس فوق الحبائك

فقلت: يا رسول الله، ابعثني إلى قومي لعل الله تعالى أن يمن عليهم كما من بك علي، فبعثني وقال لي: ((عليك بالرفق والقول السداد، ولا تك فظا / ولا غليظا ولا حسودا)) قال: فأتيت قومي، فقلت: يا بني رفاعة، لا، بل يا معشر جهينة إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أدعوكم إلى


#147#

الجنة وأحذركم النار، يا معشر جهينة، إن الله وله الحمد قد جعلكم خيار من أنتم معه، فبغض إليكم في جاهليتكم ما حبب إلى غيركم من العرب مما كانوا يجمعون بين الأختين، ويخلف الرجل على امرأة أبيه، وإغارتهم في الشهر الحرام، فأجيبوا هذا النبي تنالوا شرف الدهر، وكرامة الآخرة، وسارعوا إلى أمره يكن لكم بذلك عند الله فضيلة، فأجابوه إلا رجلا واحدا، فإنه قال: يا عمرو بن مرة، أمر الله عيشك أتأمرنا برفض آلهتنا، ومخالفة دين آبائنا ومن مضى من أقربائنا من أهل تهامة، لا، ولا حبا ولا كرامة.

وأنشأ يقول:

إن ابن مرة قد أقام مقالة ... ليست مقالة من يريد صلاحا

إني لأحسب قوله وصنيعه ... يوما وإن طال الزمان رباحا

ليسفه الأشياخ ممن قد مضى ... من رام ذلك لا أصاب صلاحا

فقال له عمرو: والكاذب مني ومنك أمر الله عيشه، وأبكم لسانه، وأكمه أسنانه، قال: فوالله ما مات حتى سقط فوه، فما كان يقدر الكلام وعمي واحتاج.

وخرجه الحافظ أبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر في الطوالات" فقال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله السمرقندي،


#148#

حدثني عبد الله بن داود بن دلهاث الجهني الرهاوي، حدثني أبي: داود، عن أبيه الدلهاث، عن أبيه وهو إسماعيل، عن أبيه عبد الله أن أباه مسرعا حدثه أباه ياسرا بني سويد حدثه: سمعت عمرو بن مرة الجهني يقول: خرجت حاجا، فذكره مطولا بنحوه، وفيه بعد ذكر إسلامه، قال: ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به، ثم قال: لحقت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول:

شهدت بأن الله حق وإنني ... لآلهة الأحجار أول تارك

وشمرت عن ساقي الإزار مهاجرا ... أجوب إليك الوعث بعد الدكادك.

لأصحب خير الخلق نفسا ووالدا ... رسول مليك الناس فوق الحبائك

وحدث به أبو القاسم الطبراني في "معجمه" مطولا فقال: حدثنا علي بن إبراهيم الخزاعي الأهوازي، حدثنا عبد الله بن داود بن دلهاث ابن إسماعيل بن عبد الله / بن مسرع بن ياسر بن سويد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا أبي، عن أبيه دلهاث، عن أبيه إسماعيل: أن أباه عبد الله، حدثه عن أبيه مسرع، أن أباه ياسر بن سويد رضي الله عنه حدثه عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه.

قال عبد الله بن دلهاث: وحدثني به الوليد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن مسرع، عن أبيه - أظنه - عن جده محمد بن عبد الله، عن جده مسرع بن ياسر أن أباه ياسرا حدثه عن عمرو بن مرة رضي الله عنه قال: خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية، فرأيت في


#149#

المنام وأنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة، وذكر الحديث بطوله.

تابعهما مكحول السروي، عن عبد الله بن داود بن دلهاث، عن آبائه بطوله.

وخرج أبو الحسن الدارقطني في كتابه "الأفراد" من حديث عبد الله ابن شبيب، حدثني يعقوب بن محمد، حدثنا محمد بن أبي شملة، حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبة، قال: سمعت أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص تقول: لما كان قبيل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بينا خالد بن سعيد ذات ليلة نائم قال: رأيت كأنه غشيت مكة ظلمة حتى لا يبصر امرؤ كفه، فبينا هو كذلك إذ خرج نور ساطع من زمزم، ثم علا في السماء، فأضاء في البيت، ثم أصاب مكة كلها ثم إلى نجد، ثم إلى يثرب، فأضاء لها حتى أني لأنظر إلى البسر في النخل.

قال: فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جزل الرأي، فقال أخي: إن هذا الأمر ليكون في بني عبد المطلب ألا ترى أنه خرج من حفيرة أبيهم. قال خالد: فإنه لما هداني الله عز وجل للإسلام.

قالت أم خالد: فأول من أسلم أبي وذلك أنه ذكر رؤياه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا خالد أنا والله ذلك النور وأنا رسول الله)). فقص عليه ما بعثه الله عز وجل به، فأسلم خالد، وأسلم عمرو بعده.

محمد بن أبي شملة هو الواقدي.


#150#

وقال ابن أبي الدنيا في كتابه "الدلائل": حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم القرشي، حدثنا عمي يعقوب، حدثنا أبي قال: كان خالد بن سعيد بن العاص يحدث قال: رأيت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أن ظلمة غشيت مكة حتى والله ما أبصر منها سهلا ولا جبلا، ثم رأيت نورا خرج من زمزم كضوء المصباح كلما علا عظم، حتى طلع فسطع في السماء، فأضاء لي الركن، ثم ذهب في السماء، حتى أضاء لي يثرب، ولم يبق من مكة سهل ولا جبل إلا أضاء لي، فسمعت قائلا يقول في ذلك النور: سبحانه سبحانه! بلغ الكتاب أجله، وهلك ابن مارد بحطمة، - الحطمة ما بين أزرح والأكمه -وخرج النبي الأمي، سبحانه سبحانه!!

وذكر المنام وفيه: فاستيقظت، فقصصت رؤياي على عمرو بن سعيد، فقال: يالعمر أخي والله لقد رأيت عجيبا، وإن هذا ليكون في بني عبد المطلب، ذكر باقيه.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن علي بن محمد، عن سعيد ابن خالد وغيره، عن صالح بن كيسان، عن خالد بن سعيد بنحوه.

ويروى أن وائل بن حجر كان ملكا مطاعا وكان له صنم من العقيق يعبده ويحبه حبا شديدا، ولم يكن يكلم منه إلا أنه كان يرجو ذلك فيكثر له السجود ويعتر له العتائر، وكان يستنزل كلام الصنم استنزالا شديدا، فبينما هو قائم في الظهيرة أيقظه صوت منكر من المخدع الذي فيه الصنم، فقام من مضجعه، فأتاه، وسجد أمامه، فإذا بقائل يقول:


#151#

يا عجبا لوائل بن حجر

الحال يدري وهو ليس يدري

ماذا يرجي من نحيب صخر

ليس بذي عرف ولا ذي نكري

ولا بذي نفع ولا ذي ضر

لو كان ذا حجر أطاع أمري

قال وائل: فرفعت رأسي، واستويت جالسا، ثم قلت: أسمعت أيها الناصح فما تأمرني؟ فقال:

ارحل إلى يثرب ذات النخل

وسر إليها سير مشمعل

تدن بدين الصائم المصلي

محمد المرسل خير الرسل

فقد تقضى العمر المولي

قال وائل: ثم خر الصنم لوجهه، فانكسر أنفه، واندقت عيناه، فقمت إليه فجعلته رفاتا، ثم سرت معدا مسرعا حتى أتيت المدينة، وذكر الحديث، وفيه إسلامه رضي الله عنه.

وقال أبو بكر أحمد بن محمد بن الصقر البغدادي بن النمط وكان شيخا دينا صالحا مستجاب الدعوة -رحمه الله تعالى وإيانا-: حدثنا يوسف – يعني: ابن يعقوب النجيرمي – حدثنا بكر بن أحمد بن مقبل، حدثنا العباس بن الفرج الرياشي، حدثنا سليمان بن عبد العزيز


#152#

ابن أبي ثابت [حدثنا أبي] عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، عن سعد بن عبادة رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حضرموت في حاجة قبل الهجرة، فشخصت وتركته بمكة، فلما كنت في بعض الطريق عرست ساعة من الليل فسمعت هاتفا يقول:

أبا عمرو تأوبني السهود ... وزاح النوم وامتنع الهجود

بذكر عصابة سلفوا وبادوا ... وكل الخلق قصرهم يبيد

فولوا واردين إلى المنايا ... حياض ليس ينهلها الورود

مضوا لسبيلهم وبقيت خلفا ... وحيدا ليس يشفعني وحيد


#153#

سدى لا أستطيع علاج أمري ... إذا ما عالج الطفل الوليد

فلأيا ما بقيت إلى أريب ... وقد بانت بمهلكها ثمود

وعاد والقرون بذي شعوم ... سواء كلهم إرم حصيد

قال: فناده آخر: بار القلب يا زاء الكعب، إن أعجب العجب، بين زهرة ويثرب.

قال: وما ذاك يا شناصر؟ قال:

نبي السلام

أرسل بخير الكلام

إلى جميع الأنام

فأخرج من البلد الحرام

إلى تل وآكام

فقال له آخر:

ما هذا النبي المرسل


#154#

والكتاب المنزل

لآي المفصل

قال: هذا رجل من لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. قال: هيهات مر عني، هذا زمني، وفات عن هذا سني، لقد رأيتني والنضر بن كنانة، نرمي غرضا واحد، ونشرب حلبا باردا، ولقد عددت به من حلبة في غداة شبمة، فطلع مع الشمس، وغرب معها، يروي ما سمع، ويثبت ما يبصر، فلئن كان هذا من ولده لقد سل السيف، وذهب الخوف، ودحض الزنا، وهلك الربا.

قال فأخبرني ما يكون.

قال: ذهبت الضراء المجاعة والجبانة والشجاعة إلا بقية في خزاعة، وذهبت النميمة والغدر والخيلاء والفخر إلا بقية في بني بكر – يعني بكر بن عبد مناف - وذهب الفعال المندم، والعمل المؤثم إلا بقية في خثعم، وذهبت الضراء والبؤس والخلق المعبوس إلا بقية في الخزرج والأوس.

قال: فأخبرني بما يكون.

قال إذا غلت البرة وتحطمت الجرة فاخرج من بلد الهجرة، فإذا كف الإسلام وقطعت الأرحام فاخرج من بلد الشام.


#155#

قال: فأخبرني بما يكون.

فقال: لولا عين تسمع، وأذن تلمع، لأخبرتك بما تقرع.

قال: ثم صاح: لا متاب هداية بنعيم يابن، ولا صباح أتانا.

قال: وسمعت صرخة كأنها صرخة حبلى.

قال: فطلع الفجر، فذهبت أنظر فإذا أنا بعظاية وثعبان ميتين.

قال: فما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة إلا بهذا الحديث.

فقال: فقدمت فإذا هو قد خرج إلى المدينة.

حديث غريب، وأنكر ما فيه: أنه عن سعد بن عبادة، وقوله فيه: فما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة إلا بهذا الحديث. مع أن سعد بن عبادة كان أحد النقباء ليلة العقبة بايع على الهجرة، فيحتمل - والله أعلم - أن سفر سعد بعد بيعة العقبة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ففي غيبته حصلت الهجرة وهذا بعيد، والأقرب أن يكون الراوي غلط في تسمية سعد بن عبادة وإنما هو سعد بن عباد، وهو رجل، معدود في الصحابة، والله أعلم.


#156#

وقد قدمنا في أول الكتاب في البشارات أخبارا من هذا النوع وآثارا من هذا الضرب، حدثت بعد البعثة إليه، وجرت بعد الهجرة إلى طيبة الزكية كالخبر الذي حدت به أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد فقال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن العباس بن هشام الكلبي، عن أبيه، عن أبي مسكين، عن أشياخ [من] مراد، عن رجل منهم يقال له "الجعد بن قيس" أحد بني غطيف وكان قد بلغ مائة سنة قال: خرجنا أربعة نفر نريد الحج في الجاهلية، فنزلنا واديا من أودية اليمن، فلما أقبل الليل استعذنا بعظيم الوادي من الجن، وعلقنا رواحلنا، وتوسدنا أذرعها، فلما هدأ الليل، وقد نام أصحابي إذا بهاتف من بعض جوانب الوادي يقول:

ألا أيها الركب المعرس بلغوا ... إذا ما وقفتم بالحطيم وزمزما

محمدا المبعوث عنا تحية ... تشيعه من حيث سار ويمما

وقولوا له إنا لدينك شيعة ... بذلك وصانا المسيح ابن مريما

ونحن لمن حاربت حرب مبيرة ... تكون له طيرا من الشر أشأما


#157#

ونحن لمن سالمت سلم ورحمة ... نؤمل أن نحظى بذاك ونرحما

فأجبته فقلت:

هتفت بروبي قد رمى بهم الونى ... جوانب جعجاع من الأرض أحزما

سأبلغ عنك القول ذو قد وصفته ... وأودعه سمعي صحيحا مسلما

"ذو" بلغة طيء: بمعنى الذي.

قال: ثم قدمنا مكة فلم يكن لنا شاغل حتى سألت عن النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت أنه هاجر ورأيت قريشا تتلظى عليه، فنزلنا منزلا في بعض الشعاب مع حجاج قومنا، فتذاكرنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثت أصحابي بما سمعت وأنشدتهم الشعر وجوابي، ثم بت مبيتي، وإذا بهاتف يقول:

ألا أيها الركب اليماني بلغن ... أخانا جواب الشعر لقيت مغنما

بأنا على دين النبي محمد ... على رغم من أضحى بذلك مرغما

وإنا وجدناه أمينا مباركا ... كما قال في الإنجيل عيسى ابن مريما

فمسك هداك الله بالعروة التي ... أبى الواحد المعبود أن تتقصما

وعاد قريب الرحم إن كان كافرا ... ووال بعيد الدار إن كان مسلما


#158#

تفز يوم تلقى الله بالعفوة والرضى ... وتحظى بجنات النعيم مكرما

قال: فوعيت الشعر، ورجعنا إلى بلادنا، فقلنا في ذلك الوادي، وراح أصحابي، فقلت: إني لست برائح حتى أؤدي الأمانة.

فقالوا: لقد غلبت على عقلك، اثبت بهذا المكان الموحش، والله ما نحن بتاركيك أبدا.

فقلت: والله لا أبرح حتى أبلغ ما حملته، فلما أيسوا من اتباعهم ارتحلوا، وقالوا: نحن لك بمكان كذا وكذا، فلما جن الليل علي رفعت أقول:

أتسمع مودعي الشعر الرصينا ... إلى المبعوث خير العالمينا

فقد حملت أبياتا إليه ... عن النفر الكرام المسلمينا

ثم أنشدته الشعر، فإذا بهاتف يقول:

رعاك الله رب العالمينا ... فقد ألفيت ذا كرم أمينا

وأديت الأمانة لم تخنها ... جزاك الله أجر المحسنينا

ولا تجذع لخذل الراحلينا ... فقد جاورت قوما أكرمينا

ستهدى بعد إقطاع الدياجي ... وتمنع من بغاة ظالمينا


#159#

فلما تهور الليل إذا الهاتف يقول:

ارحل على اسم الله ذي الجلال ... رحلة ذي أمن من الأوجال

يهدك سوار على الإقلال ... أروع مقدام على الأهوال

قال: فارتحلت، وإذا كالشهاب بين يدي يضيء ما حوله حتى أقحمني على أصحابي وهم نيام.

وقال الحافظ أبو سعيد محمد بن علي بن عمرو النقاش، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا إسماعيل بن سعدان الفارسي، حدثنا أبو القاسم الطيب بن علي التيمي، حدثنا محمد ابن الحسن بن يزيد، حدثنا السكن بن سعيد، عن أبيه، عن الكلبي، عن عوانة قال: قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما لجلسائه: هل فيكم أحد وقع إليه خبر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في


#160#

الجاهلية قبل ظهوره؟

فقال طفيل بن زيد الحارثي – وقد أتت عليه مائة وستون سنة -: نعم يا أمير المؤمنين كان المأمون بن معاوية على ما بلغك من كهانته وعلمه, وكانت عقاب لا تزال تأتيه بين الأيام فتقع أمامه فتصيح, وتقول كذا وكذا, فيجد كما يقول, وكان نصرانياً وكان يخرج إلينا كل يوم أحد، عليه برنس أسود, فيخطب, ويجتمع إليه الناس قال: فأقبلت العقاب يوم عروبة في أول النهار, فصرت ثم نهضت, فلما تعالت الشمس خرج علينا في ثياب بيض من ثياب مصر يتوكأ على عصاه, فاجتمعنا عليه, فأسند العصا إلى صدره, وأطرق طويلاً.

فقال بعض القوم: أنام أبو الكيثم؟

فقال: كلا, فرفع رأسه. وصعد بطرفه إلى السماء, ثم صوبه إلى الأرض, ثم رمى به غرباً وشرقاً, ثم قال: نهار يحول, وليل يزول, وشمس تجري, وقمر يسري، ونجوم تمور, وفلك يدور, وسحاب مكفهر, وبحر مسبطر, وجبال غبر, وأشجار خضر, وخلق يمور بعضه في بعض بين سماء وأرض, والد يتلف، وولد يخلف, ما خلق الله تبارك وتعالى هذا باطلاً, وإن بعد ما ترون لثوابا وعقاباً وحشراً ونشراً, ووقوفاً بين يدي الجبار.

فقلنا: من الجبار؟

قال: الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواًَ أحد.

قال: فنهض عظيم الأساقف, فقال: أنشدك الله في النصرانية, فوالله لئن تسامعت العرب لقولك لا يجتمع علينا منهم اثنان.

فقال: إليك عني كيف أنت إذا ظهر العبد الأمين, بخير دين, يا ليت أني ألحقه، وليتني لا أسبقه, إن فؤادي يصدقه.


#161#

قال: فقلت له – وكنت أقرب القوم له قرابة -: يا أبا الكيثم, وأين مخرجه؟

قال: غور تهامة.

قلت: ومتى يكون؟

قلت: إذا جاء الحق لم يكن له خفاء, ثم أقبلت العقاب, فوقعت بين يديه وصرت صراً شديداً, فسمعناه يقول: .. .. ..[6]


#162#

بسم الله الرحمن الرحيم

[هو حسبي وكفى]

&فصل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وحوادث سنيها مع نبذة من شمائله وصفاته صلى الله عليه وسلم مندرج فيها&

الهجرة وقعت في الإسلام على أمور:

أحدها: إلى الحبشة عندما آذى الكفار الصحابة رضي الله عنهم وقد تقدم ذكرها.

والهجرة الثانية: من مكة إلى المدينة, وهي الهجرة العظمى التي أظهر الله بها الدين, وأعز بها المسلمين, وهذا الفصل الذي عقدناه هنا لذكرها إن شاء الله تعالى.

والثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة, ثم يرجع إلى مكة.

والخامسة: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم؛ لتخلفهم عن غزوة تبوك إلى حين التوبة, ونحو هذه الهجرة.

والسادسة: هجرة ما نهى الله عنه.


#163#

فأما الهجرة الثانية السنية, فهي الهجرة العظيمة النبوية التي كانت فرقاناً بين أولياء الرحمن وبين قرناء الشيطان, وفاتحة وإظهاراً لإقامة الدين, ونصراً وإعزازاً لسيد المرسلين صلى الله عليه وعليهم أجمعين.

قال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثني عيسى, أخبرنا ابن الأشجعي, عن أبيه, عن سفيان, عن قابوس بن أبي ظبيان, عن أبيه, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين بمكة نبياً، فنزلت: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق} فهاجر إلى المدينة.

وحدث به أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا أبي, حدثنا جرير بن عبد الحميد, عن قابوس, عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فأمر بالهجرة, وأنزل عليه: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً}.


#164#

قال أبو إسحاق إبراهيم بن السري في كتابه "معاني القرآن وإعرابه": وقوله تعالى: {أدخلني مدخل صدق} ومدخل, وكذلك مخرج ومخرج: من مكة إلى المدينة, وجاء أيضاً دخوله المدينة وخروجه من مكة.

وجاء أيضاً الإدخال في الدين والخروج من الدنيا وهو على الحق.

وجاء أيضاً – وهو حسن – دخوله في الرسالة وخروجه مما يجب عليه فيها, وكل ذلك حسن, فمن قرأ بضم الميم فهو مصدر: أدخلته مدخلاً, ومن فتح الميم فهو على: أدخلته فدخل مدخل صدق, وكذلك شرح "مخرج".

قلت: وعلى القول الثاني في تفسير الآية الشريفة – جل منزلها – ما قال أبو محمد عبد الله بن ثابت بن يعقوب التوزي المقرئ: حدثني أبي, حدثني الهذيل بن حبيب أبو صالح الرنداني, عن مقاتل بن سليمان, عن جماعة من أشياخه في هذه الآية قالوا: قال له جبريل عليه السلام: وقل رب أدخلني المدينة مدخل صدق – يعني آمناً على رغم أنف


#165#

اليهود – وأخرجني من مكة إلى المدينة مخرج صدق – يعني آمناً على رغم أنف كفار مكة ظاهراً عليهم – واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً يعني النصر على أهل مكة – ففعل الله عز وجل به ذلك فافتتحها.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثني يحيى بن معين, حدثنا عبيدة بن حميد، حدثني سليمان الأعمش, عن أبي صالح قال: قال كعب: نجد محمداً صلى الله عليه وسلم في الكتب هجرته بطيبة.

وله طرق إلى أبي صالح تقدم بعضها.

وقال أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا محمد بن عبد الله القرمطي العدوي, حدثنا محمد بن عبد العزيز الماوردي, حدثنا زياد بن سهل, حدثني بشر بن حجل, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل أيدني بأشد العرب لساناً وأذرعاً بابني قيلة الأوس والخزرج)).


#166#

$[مدة إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة]$

كانت إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد بعثته إلى حين هجرته ثلاث عشرة سنة على الصحيح:

قال روح بن عبادة: حدثنا هشام, حدثنا عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة,. فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه, ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين, ومات وهو ابن ثلاث وستين صلى الله عليه وسلم.

تابعه يزيد بن هارون ومحمد بن جعفر غندر والنضر, عن هشام.

وهو عند حماد بن سلمة, عن أبي جمرة الضبعي, عن ابن عباس قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه.

حدث به ابن [أبي] خيثمة في "تاريخه": عن موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد بن سلمة.

وخرج الإمام أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا يحيى, عن هشام, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث


#167

وأربعين سنة, فمكث بمكة عشراً وبالمدينة عشراً, وقبض وهو ابن ثلاث وستين صلى الله عليه وسلم.

وقد قدمناه في أوائل البعثة.

ورواه عمرو بن دينار, عن ابن عباس, بنحوه.

وله شاهد من حديث عائشة, وغيرها.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في "كتاب العلل": وجدت في كتاب أبي بخط يده قال: حدثنا أبو المغيرة الخولاني, حدثنا صفوان, حدثني أيفع بن عبد قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة, فأسر عشراً, وجاهر عشراً, فتوفي وهو ابن ثلاث وستين صلى الله عليه وسلم.

وصح من حديث مالك بن أنس, عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن, عن أنس رضي الله عنه أنه سمعه يقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ... " الحديث, وفيه: بعثه الله على رأس أربعين سنة, فأقام بمكة عشر سنين, وبالمدينة عشر سنين.

تابعه إسماعيل بن جعفر، وسعيد بن أبي هلال, وسليمان بن


#168#

بلال, وأبو زكريا يحيى بن محمد بن قيس المدني, عن ربيعة.

وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا محمد بن عمر القصبي, حدثنا عبد الوارث, حدثنا نافع أبو غالب, عن أنس قال: أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين.

وقال ابن جرير في "تاريخه": حدثنا ابن المثنى, حدثنا عبد الوهاب, حدثنا يحيى بن سعيد, سمعت سعيد بن المسيب يقول: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين, فأقام بمكة عشراً.

تابعه حماد بن زيد, عن يحيى بن سعيد.

وقال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثنا الحجاج, حدثنا حماد: ح.

وقال الإمام أحمد في "مسنده" واللفظ له: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة, عن عمار بن أبي عمار, عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة خمس عشرة سنة: ثماني سنين أو سبعاً يرى


#169#

صلى الله عليه وسلم الضوء ويسمع الصوت, وثماني أو سبعاً يوحى إليه, وأقام بالمدينة عشراً.

وقال أيضاً: حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة, أخبرنا عمار بن أبي عمار, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة, سبع سنين يرى الضوء ويسمع الصوت, وثماني سنين يوحى إليه, وأقام بالمدينة عشر سنين.

تابعهما جماعة منهم: يحيى بن عباد, عن حماد بن سلمة, بنحوه.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا حجاج .... فذكره.

وحدث بنحوه ابن سعد, عن محمد بن عمر, عن إبراهيم بن إسماعيل, عن داود بن الحصين, عن عكرمة, عن ابن عباس.

قال أبو الفرج ابن الجوزي: ويحمل قول من قال: "عشر سنين" – يعني إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة – على مدة إظهار النبوة؛ فإنه لما بعث صلى الله عليه وسلم استخفى ثلاث سنين, ويحمل قول من قال: خمس عشرة سنة على مبدأ ما كان يري قبل النبوة من أعلامها. انتهى.


#170#

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا ابن نمير, حدثنا العلاء بن صالح, حدثنا المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير: أن رجلاً أتى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عشراً بمكة, وعشراً بالمدينة, فقال: من يقول ذاك؟! لقد أنزل عليه بمكة عشراً وخمساً وسنتين وأكثر.

وحدث مسلم في "صحيحه" فقال: حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان, عن عمرو قال: قلت لعروة: كم لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة؟ قال: عشراً, قلت: فإن ابن عباس يقول: بضع عشرة, قال: فغفره, وقال: إنما أخذه من قول الشاعر.

تابعه أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي في "تاريخه", فرواه عن محمد بن أبي عمر نحوه, وزاد في روايته: قال سفيان: وقال يحيى – يعني ابن سعيد -: عن عجوز منهم قالت:

ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو ألقى صديقاً مواتيا


#171#

ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعياً

وحدث بهذا أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة": عن جده, حدثنا ابن عيينة, حدثنا يحيى بن سعيد, عن عجوز منهم قالت: رأيت ابن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس الأنصاري يروي هذه الأبيات:

ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو لاقى صديقاً مواتيا

ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعياً


#172#

فلما أتانا واطمأنت به النوى ... وأصبح مسروراً بطيبة راضياً

وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم ... بعيد ولا يخشى من الناس باغياً

نعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعاً ولو كان الحبيب المصافيا

بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا

وحدث به يعقوب بن سفيان في "التاريخ": عن حامد بن يحيى بن هانئ, حدثنا سفيان. فذكره بنحوه.


#173#

$[عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل]$

في مدة إظهاره صلى الله عليه وسلم الدعوة بمكة, وإنذاره الناس كان يوافي الموسم كل سنة يتبع الحاج في منازلهم, ويقصد الناس في مواسمهم بعكاظ وذي المجاز ومجنة أسواق الجاهلية, فيدعوهم إلى توحيد الله عز وجل وأن يؤووه ويمنعوه حتى يبلغ ما أمر به:

قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي, حدثنا إسرائيل – يعني: ابن يونس – عن عثمان بن المغيرة الثقفي, عن سالم بن أبي الجعد, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في الموقف ويقول: ((ألا رجل يعرض علي قومه, فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل)).

تابعه الأسود بن عامر, عن عثمان بن المغيرة.

وحدث به أبو داود, عن محمد بن كثير, عن إسرائيل ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: ((هل من رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)).

ومن هذا الطريق هو على شرط البخاري.


#174#

وحدث خشيش بن أصرم النسائي في كتابه "الاستقامة": فقال: حدثنا الفريابي, حدثنا إسرائيل, عن عثمان بن المغيرة الثقفي, عن سالم بن أبي الجعد, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في الموسم على الناس في الموقف, يقول: ((هل من رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل)) قال: فأتاه رجل من همدان, فقال: أنا. قال: ((وعند قومك لي منعة؟)) وسأله ممن هو, قال: من همدان, قال: ثم إن الرجل الهمداني خشي أن يخفره قومه, فقال: يا رسول الله، آتيهم فأخبرهم، ثم ألقاك من قابل فانطلق، وجاءت وفود الأنصار في رجب.

وقال أبو حاتم محمد بن حبان في كتابه "الثقات": حدثنا الحسن بن سفيان, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا عبد الله بن نمير, حدثنا يزيد بن زياد بن [أبي] الجعد, حدثنا أبو صخرة جامع بن شداد, عن طارق المحاربي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز – وأنا في بياعة أبيعها قال: فمر وعليه جبة له حمراء, وهو ينادي بأعلى صوته: ((يا أيها الناس, قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) ورجل يتبعه بالحجارة, قد أدمى كعبيه وعرقوبيه, ويقول: يا أيها الناس, لا تطيعوه فإنه كذاب, قلت: من هذا؟ قالوا: هذا غلام بني عبد المطلب، قال: قلت: فمن هذا الذي يتبعه يدميه؟ قالوا: هذا عمه عبد العزى أبو لهب.


#175#

ورواه أحمد بن عبد الجبار, عن يونس بن بكير, عن يزيد بن زياد به, وهو صحيح الإسناد, ألزم الدارقطني البخاري ومسلماً إخراجه في "الصحيح".

وقال الحارث بن أبي أسامة في "مسنده": حدثنا الحكم – يعني ابن موسى – حدثنا عباد بن عباد, عن محمد بن عمرو, عن ربيعة بن عباد رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام بذي المجاز, وخلفه رجل أحول, وهو يقول: لا يفتنكم عن دينكم ودين آبائكم, فقلت لأبي: من هذا الأحول الذي يمشي خلفه؟ فقال: هذا عمه أبو لهب.

ورواه أبو غسان بهلول بن مورق, وعبد الله بن نافع, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب, عن سعيد بن خالد بن عبد الله القارظي, عن ربيعة بن عباد بنحوه.

وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث, حدثنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام أبو عمرو المديني, عن زيد بن أسلم ومحمد بن المنكدر, عن ربيعة به.

وألزم الدارقطني البخاري ومسلماً إخراجه.


#176#

ورواه إسحاق بن الحسن بن ميمون الحربي فقال: حدثنا عبد الله بن رجاء, حدثنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام, حدثنا محمد بن المنكدر: أنه سمع ربيعة بن عباد أو عباد الدؤلي يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على الناس في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول: ((يا أيها الناس, إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ... ) الحديث.

قال يحيى بن معين: من قال: "عباد" فقد أخطأ إنما هو "عِباد".

رواه عباس الدوري, عن محمد بن معين في "تاريخه".

وقال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى المصري, أخبرنا ابن وهب, أخبرني ابن أبي الزناد, عن أبيه, أخبرني ربيعة بن عباد – رجل من بني الديل وكان جاهلياً فأسلم – قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية يسوق ذي المجاز, وهو يمشي بين ظهراني الناس وهو يقول: ((يا أيها الناس, قولوا لا إله إلا الله؛ تفلحوا)) قال: مراراً يرددها, والناس يتقصفون عليه يتبعونه, وإذا رجل أحول وضئ ذو غديرتين, وضئ الوجه يقول: إنه صابئ كذاب, فسألت: من هذا وراءه؟ قال: هذا عمه أبو لهب, قال: قال


#177#

لي ربيعة: وأنا يومئذ أزفر القربة لأهلي, يقول: ذلك مبلغي يومئذ من السن.

ورواه عيسى بن حماد عن ابن وهب نحوه.

ورواه أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا داود بن عمرو الضبي أبو سليمان, أخبرنا ابن أبي الزناد, عن أبيه, عن ربيعة بن عباد الديلي – وكان جاهلياً فأسلم – قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يقول: ((يا أيها الناس, قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) والناس منقصفون عليه, فما رأيت أحداً يقول شيئاً وهو لا يسكت.

تابعهما سليمان بن داود الهاشمي وعاصم, عن ابن أبي الزناد.

ورواه الإمام أحمد في "مسنده": عن إبراهيم بن أبي العباس, عن عبد الرحمن بن أبي الزناد بنحوه.

وفي لفظ من طرق هذا الحديث عن ربيعة رضي الله عنه أنه قال: أما ما أسمعكم تقولون: إن قريشاً كانت تنال من النبي صلى الله عليه وسلم, فإن أكثر ما رأيت أن منزله كان [بين] منزل أبي لهب وعقبة بن أبي معيط,


#178#

وكان يتقلب إلى بيته فيجد الأرحام والدماء والأرواث قد نضدت على بابه؛ فينحي ذلك بسية قوسه, ويقول: ((بئس الجوار هذا يا معشر قريش)) وقال: رأيت أبا لهب يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في سوق عكاظ وهو يقول: إن هذا يدعوكم إلى غير دين آبائكم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يلوذ منه.

وقال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري في كتابه "عقلاء المجانين": أخبرنا أبو أحمد محمد بن إبراهيم الصريمي المروزي قدم علينا حاجاً, حدثنا عبدان بن محمد بن عيسى, حدثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, عن عبد الله بن المبارك, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس قال: قدم أبو العراف اليماني وكان أشراف أهل اليمن فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء وهو يقول


#179#

للناس: ((قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) وإذا خلفه شيخ يقول: إياكم وإياه فإنه مجنون كذاب, فسأل أبو العراف عن الشيخ فقيل: عمه أبو لهب, فأتاه فقال: ما تقول في ابن أخيك؟ قال: لم نزل نداويه من الجنون, فقال: تبا لك سائر دهرك إن كلام المجانين متفاوت غير مستقيم, وما يشبه ابن أخيك المجانين بوجه من الوجوه, فقال له أبو لهب: فما هذا الذي يقول؟ قال: وحي ورسالة وحق وصدق, أشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله, ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أظهر دعوته, واستفحل أمره في ثمانين فارساً من قومه مسلمين.

وقال الطبراني في "معجمه الأوسط", وكتابه "الأوائل", وهذا لفظه في "الأوائل": حدثنا أبو أيوب أحمد بن بشير الطيالسي, حدثنا عبد الجبار بن عاصم, حدثنا أبو المليح الرقي الحسن بن عمرو, عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أول خبر جاء إلى المدينة بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث أن امرأة من أهل المدينة كان لها تابع من الجن، جاء في صورة طير حتى وقع على جذع لهم، فقالت له: ألا تنزل فتحدثنا بحديثك وتخبرنا بخبرك، فقال: إنه قد بعث نبي بمكة حرم الزنا ومنع منا القرار.


#180#

تابعه الحسن بن علي بن الوليد، عن عبد الجبار، بن عاصم أبي طالب.

وخرجه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه "الأسماء المبهمة" في باب الفاء من طريق عبيد الله بن عمرو، عن ابن عقيل، ثم قال: "واسم هذه المرأة صاحبة التابع فطيمة الكاهنة".

ويقال: أنها أم نعيمان بن عمرو الأنصاري الحجة في ذلك.

ثم روى بإسناده من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، أخبرني علي بن حسين قال: إن أول خبر قدم المدينة أن امرأة من أهل يثرب تدعى فطيمة كان لها تابع من الجن فجاءها يوما فوقع على جدارها فقالت: ما لك لا تدخل؟ قال: إنه قد بعث نبي يحرم الزنا، فحدثت بذلك المرأة عن تابعها من الجن، فكان أول خبر تحدث بالمدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن هذا الطريق خرجه عبد الغني بن سعيد في كتابه "الغوامض والمبهمات".


#181#

وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن علي بن حسين قال: كانت امرأة في بني النجار يقال لها فاطمة ابنه النعمان ... وذكر الحديث.

وقال الحافظ أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي في كتابه "الاستقامة": حدثنا الفريابي، حدثنا إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في الموسم على الناس في الموقف يقول: ((هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل)) قال: فأتاه رجل من همدان قال: أنا، قال: ((وعند قومك لي منعة؟)) وسأله ممن هو، قال: من همدان، [قال]: ثم إن الرجل الهمداني خشي أن يخفره قومه فقال: يا رسول الله، آتيهم فأخبرهم ثم ألقاك من قابل، فانطلق، وجاءت وفود الأنصار في رجب.

وقال عبد الجبار بن كثير بن سنان الحنظلي الرقي: حدثنا محمد بن بشر، عن أبان بن عبد الله البجلي، عن أبان بن تغلب – وكان عربانيا [أي عربي اللهجة]- عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:


#182#

حدثني علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج ومعه أبو بكر رضي الله عنه حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر فسلم – وكان رجلا نسابا، وكان مقدما في كل خير - فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة.

قال: ومن أي ربيعة أنتم، أمن هامتها أم من لهازمها؟ قالوا: بل من هامتها العظمى.

قال: وأي هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: ذهل الأكبر، قال أبو بكر: فمنكم عوف الذي يقال [له]: لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا.

قال فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا.

قال: فمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا.

قال فمكنم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا.

قال فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا.

قال: فمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا.

قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا.

قال أبو بكر: فلستم ذهلا الأكبر، أنتم ذهل الأصغر.


#183#


#184#

فقام إليه غلام من بني شيبان حين بقل وجهه يقال له: دغفل، فقال:

إن على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله

يا هذا، إنك قد سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئا، فمن الرجل؟

قال أبو بكر: أنا من قريش.

قال له دغفل: بخ بخ أهل الشرف والرياسة فمن أي قريش أنت؟

قال: من ولد تيم بن مرة.

قال: أمكنت والله الرامي من صفاء الثغرة، أفمنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر فكان يدعى في القبائل قريش مجمعا؟

قال: لا.


#185#

قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف؟ [قال: لا).

قال: فمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء الذي كأن وجهه القمر يضيء في الليلة الظلماء؟ قال: لا.

قال: أفمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا.

قال: أفمن أهل الرفادة؟ قال: لا.

قال: أفمن أهل السقاية؟ قال: لا.

قال: أفمن أهل الحجابة؟ قال:لا.

واجتذب أبو بكر رضي الله عنه زمام الناقة فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.


#186#


#187#

فقال الغلام:

صادف درء السيل درءا يدفعه ... يهيضه حينا وحينا يصدعه

أما والله يا أخا قريش لو ثبت لأخبرتك أنك من زمعات قريش، ولست من الذوائب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال علي رضي الله عنه: يا أبا بكر، لقد وقعت من الأعرابي على باقعة، فقال لي: أجل يا أبا حسن ما من طامة إلا فوقها طامة، والبلاء موكل بالمنطق.


#188#

قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم، قال علي: وكان أبو بكر مقدما في كل خير، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر في قومهم، وفيهم مفروق بن عمرو، وهائي بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك.

وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا، وكان له غريرتان تسقطان على تريبتيه وكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟

فقال له مفروق: إنا لنزيد على ألف ولن تغلب ألف من قلة.

فقال أبو بكر: فكيف المنعة فيكم؟ قال مفروق: علينا الجهد ولكل قوم جد.

فقال أبو بكر فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبا لحين نلقى، وإنا لأشد لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة، ويديل علينا، لعلك أخو قريش؟!

فقال أبو بكر: وقد بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فها هو ذا، فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، قال: [إلي] ما تدعو يا أخا قريش؟

فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وإلى أن تؤووني وتنصروني فإن


#189#

قريشا قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو العني الحميد)).

فقال مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.

فقال مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.

وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ بن قبيصة، شيخنا وصاحب ديننا.

فقال هائي: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى إن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر زلة في الرأي، وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن روائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر.

وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثه، فقال: وهذا المثنى بن حارثه شيخنا وصاحب حربنا.


#190#

فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هائي بن قبيصة، في تركنا ديننا واتباعنا دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، وإنا إنما نزلنا بين صريين: اليمامة والشام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذان الصريان))؟ فقال: أنهار كسرى ومياه العرب، فأما [ما] كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا، ولا نؤوي محدثا، وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعو إليه أنت مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك، وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم، وديارهم، وأموالهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟)).

فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذاك.

فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً . وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} ثم نهض النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فقال: ((يا أبا بكر، يا أبا حسن، أية أخلاق الجاهلية، ما أشرفها؟! بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم)).


#191#

[قال]: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا صدقا صبرا.

رواه بهذا السياق قاسم بن ثابت في "الدلائل" عن علي بن عبدك، عن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي، عن عبد الجبار بن كثير به، قال ابن عبدك: إلا أن أبا حاتم لم يذكر في حديث أحرفا من مراجعة دغفل أبا بكر سكت عنها، فحدثنا به جعفر بن عنبسة اليشكري بالكوفة، وذكر ذلك الكلام.

تابعهما الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان فيما رواه أبو حاتم محمد بن حبان في كتاب "الثقات" بطوله عنه، وأبو العباس محمد بن إسحاق السراج، عن عبد الجبار بن كثير.


#192#

ورواه أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، عن أبي بكر محمد ابن علي بن إسماعيل الفقيه الشاشي، حدثنا الحسن بن صاحب بن حميد، حدثني عبد الجبار بن كثير فذكره بنحوه.

وخرجه أبو جعفر العقيلي في كتاب "الضعفاء"، فقال: حدثنا إبراهيم بن أحمد الناقد، حدثني جدي إسماعيل بن مهران، حدثنا أحمد بن محمد السكري، عن أبان بن عثمان الأحمر، عن أبان بن تغلب.. فذكره، وقال: ليس لهذا أصل. انتهى.

ورواه أبو بكر بن مردويه، عن أحمد بن محمد بن السري، عن إسحاق بن يحيى الدهقان، عن يحيى بن زكريا اللؤلؤي، عن إسماعيل بن مهران به.

ورواه أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان، عن أبي يحيى عبد الكريم بن الهيثم الدير عاقولي، عن إسماعيل بن مهران.

ورواه الحسن بن عليل العنزي الإخباري العلامة، عن علي بن مسلم بن الهيثم الشروي، عن فلان، عن أبان بن عثمان .. فذكره.

وفلان هذا هو إسماعيل بن مهران السكوني فيما ذكره الصوري، سقط منه قبل أبان: أحمد بن محمد السكري.


#193#

ورواه الغلابي فقال: حدثنا شعيب بن واقد، حدثنا أبان بن عثمان.. فذكره.

وأمثل هذه الطرق: الأولى على ضعفها، فأبان بن عبد الله هو ابن أبي حازم البجلي الكوفي: حسن الحديث.

وجاء توثيقه عن يحيى بن معين.

وقال أحمد بن حنبل: صدوق صالح.

وذكر ابن حبان: أنه ممن فحش خطؤه، وانفرد بالمناكير.

وشيخه أبان بن تغلب الكوفي مذموم المذهب، وكان يعتقد أن عليا أفضل من الشيخين رضي الله عنهم لكنه صدوق، جاء توثيقه عن أحمد، وابن معين، وأبي حاتم، وغيرهم، فلنا صدقه وعليه بدعته.


#194#

ورواية العقيلي فيها أحمد بن محمد، هو ابن أبي نصر السكري، وقد أدخل في الضعفاء لروايته هذا عن أبان بن عثمان الأحمر، وأبان هذا تكلم فيه واتهمه العقيلي.

وطريق الغلابي فيها شعيب بن واقد، وقد ضرب أبو حفص عمرو بن علي الحافظ الفلاس على حديثه، مع أن الغلابي أبا جعفر محمد بن زكريا رماه الدارقطني بالوضع، وضعفه غيره.

وخرج البخاري في "تاريخه الكبير" فقال: حدثني زهير بن حرب، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني حصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد قال: لما قدم أبو الحيسر – أنس بن رافع – مكة، ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على


#195#

قومهم من الخزرج، فسمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليهم، فقال لهم: ((هل لكم في خير مما جئتم له؟)) قالوا: وما ذاك؟ قال ((أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله، لا يشركوا به شيئا، وأنزل علي الكتاب)).

ثم ذكرهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ – وكان غلاما حدثا-: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له.

قال محمود: فأخبرني من حضرة من قومي عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده حتى مات، فما كان يشك أن قد مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما سمع.

قال البخاري: وقال زياد، عن ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن.

وخرجه ابن جرير في "تاريخه" عن ابن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، حدثني الحصين بن عبد الرحمن.. فذكره.


#196#

وقال أبو نعيم - أحمد بن عبد الله – في كتابه "معرفة الصحابة": أنس بن رافع أبو الحيسم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، في فتية من بني عبد الأشهل .. وذكر الحديث بنحوه.


#197#

$[بيعة العقبة الأولى]$

وقال ابن إسحاق: لما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنجاز موعده، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج، فذكروا أنه قال لهم: ((ممن أنتم؟)) فقالوا: من الخزرج، قال: ((أفلا تجلسون أكلمكم؟)) قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله تعالى، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وقد كانوا يسمعون من اليهود أن نبيا مبعوثا قد أظل زمانه،

فقال بعضهم لبعض: يا قوم، والله إن هذا النبي الذي تعدكم به اليهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه، وهم فيما يزعمون ستة: أسعد بن زرارة، وعوف بن مالك -وهو ابن عفراء- ورافع بن مالك العجلان، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله بن رئاب - رضي الله عنهم - فلما انصرفوا إلى بلادهم – وقد آمنوا – ذكروا لقومهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا فيهم، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان العام المقبل أتى الموسم اثنا عشر رجلا من الأنصار، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي العقبة الأولى، فبايعوا بيعة النساء قبل أن يفترض الحرب، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف ومعوذ


#198#

ابنا الحارث، ورافع بن مالك بن العجلان، وذكوان بن عبد قيس، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، والعباس بن عبادة بن نضلة، وعقبة بن عامر بن نابي، وقطبة بن عامر، وشهدها من الأوس حليفان لهم: أبو الهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة رضي الله عنهم.

قلت: جابر بن عبد الله بن رئاب المذكور هو أحد المقلين، ليس له حديث مسند غير واحد أعلم، بخلاف جابر بن عبد الله بن عمرو المكثر الذي هو من أصحاب الألوف.

وحديث جابر بن عبد الله بن رئاب الذي ليس له غيره هو ما قال البغوي: حدثنا شجاع بن مخلد، حدثنا علي بن ثابت، حدثنا الوازع بن نافع، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة بدر فصلى العصر فتبسم في الصلاة، فقالوا له: يا رسول الله، تبسمت في الصلاة؟! فقال: ((مر بي ميكائيل ومعه ملك فضحك إلي فتبسمت إليه)) قال: ((وعلى جناحه غبار وهو راجع في طلب القوم)) ولا أعلم لجابر بن عبد الله بن رئاب حديثا مسندا غير هذا، والذي رواه ضعيف جدا، وهو الوازع بن نافع، قاله البغوي.


#199#

وكان الذي أخذ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه البيعة – وهي الأولى -: ما رواه الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن الصنابحي، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو أحد النقباء ليلة العقبة:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال – وحوله عصابة من أصحابه: ((تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه)) قال: فبايعناه على ذلك.

خرجاه في "الصحيحين" لليث.

وخرجه مسلم أيضا عن قتيبة، حدثنا ليث، عن ابن عجلان، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن الصنابحي به، والصنابحي: أبو عبد الله عبد الرحمن بن عسيلة.

وقال محمد بن يحيى الذهلي: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:

بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرا أنا منهم، فتلا عليهم آية النساء.. الحديث.

خرجه مسلم لعبد الرزاق بنحوه.

وخرجه البخاري لسفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: وتابعه عبد الرزاق، عن معمر.


#200#

وخرجه أيضا من حديث هشام عن عمرو من حديث الليث، عن يونس، ومن حديث أبي اليمان، عن شعيب، ومن حديث يعقوب بن إبراهيم، عن ابن أخي الزهري: كلهم [عن الزهري]، عن أبي إدريس، عن عبادة به.

وقال أبو عبيد محمد بن عبيد: حدثنا محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عائذ بن عبد الله أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر الجهني، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ونحن اثنا عشر رجلا على أن لا نشرك بالله شيئا .. وذكر الحديث بنحو ما تقدم.

قال الحافظ أبو بكر الخطيب: ذكر عقبة بن عامر في هذا الحديث زيادة لم يتابع أبو عبيد عليها، ولا يحتاج إليها؛ لأن أبا إدريس سمعه من عبادة، وقد رواه عبد الله بن محمد النفيلي، عن محمد بن سلمة على الصواب، وكذلك رواه سفيان بن عيينة، ويونس بن يزيد، ومعمر بن راشد، وعبيد الله بن أبي زياد الرصافي، وشعيب بن أبي حمزة، ومعاوية بن يحيى، عن الزهري.

قلت: وقد خرجه الحافظ أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال: حدثنا أبو طلحة الخزاعي، حدثنا بكر بن سليمان، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن عائذ بن عبد الله


#201#

أبي إدريس الخولاني أن عبادة بن الصامت حدثه أنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى ... وذكر الحديث.


#202#

$[أول جمعة صليت في الإسلام]$

ولما توجه القوم نحو المدينة، بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما روي – مصعب بن عمير، وعمرو بن أم مكتوم رضي الله عنهما ليعلما من أسلم القرآن، ويفقهاه في الدين، فنزلا على أسعد بن زرارة، وكان مصعب يؤم الناس، وجمع بهم حين بلغوا أربعين.

وقال أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد الحافظ الفقيه: حدثنا أبو خالد يزيد بن الهيثم بن طهمان الدقاق، حدثنا صبح بن دينار، حدثنا المعافى بن عمران، حدثنا معقل بن عبيد الله، عن الزهري بسنده إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى المدينة، وأنه نزل في دار سعد بن معاذ فجمع بهم، وهم اثنا عشر رجلا، وذبح لهم يومئذ شاة.

وقال: قرئ على عبد الملك بن محمد وأنا أسمع، حدثني رجاء بن سلمة، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثنا ابن جريج قال: قال ابن شهاب: بلغنا أن مصعب بن عمير جمع باثني عشر رجلا في دار أسعد بن زرارة بالمدينة. كذا قال.


#203#

وهذه الجمعة كانت أول جمعة جمعت في الإسلام.

قال هاشم بن القاسم: حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب قال: بلغنا أن أول ما جمعت الجمعة بالمدينة - قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فجمع بالمسلمين مصعب بن عمير بن عبد مناف.

وقال هاشم أيضا: حدثنا ابن وهب، أخبرني ابن جريج، عن سليمان بن موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه يأمره بذلك.

وعند ابن إسحاق أن أول من جمع بهم أسعد بن زرارة، وهو ما رواه علي بن إبراهيم الواسطي، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل – يعني: ابن حنيف – عن أبيه، عن عبد الرحمن بن كعب - يعني: ابن مالك – قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة، واستغفر له، أظنه قال: فلبث كثيرا لا يسمع أذان الجمعة إلا فعل ذلك، فقلت: يا أبت أرأيت استغفارك لأبي أمامة كلما سمعت الأذان للجمعة ما هو؟ قال أي بني، كان أول من جمع بنا في هزم من حرة بني بياضة يقال له: نقيع الخضمات، قال: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا.

ورواه أبو داود فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي أمامة بن سهل فذكره، إلا أنه قال:


#204#

أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة.

وحدث به أبو محمد عبد الله بن علي بن الجارود في كتابه "المنتقى في الأحكام": عن محمد بن يحيى، حدثنا حسن بن الربيع، حدثنا ابن إدريس، فذكره بنحوه.

ورواه أحمد بن عبد الجبار العطاردي، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق.

وخرجه القاضي أحمد بن علي بن سعيد المروزي في "كتاب الجمعة" من تأليفه فقال: حدثنا الفضل بن يعقوب البصري، حدثنا عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق.. فذكر نحوه.

و"نقيع الخضمات" ورد بالباء، وقيده البكري بالنون، وذكر الخطابي: أن الصواب بالنون.


#205#

وذكر البكري عن هذا الهزم: أنه جبل على بريد من المدينة.

وكان تجميع أهل المدينة الجمعة هداية من الله تعالى قبل الأمر بها، ثم نزل فرضها، واستقر حكمها بعد الهجرة إلى المدينة.

ذكر معناه السهيلي.

وقال عبد بن حميد: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة .. الحديث.

وقد قيل: إن تجميع أهل المدينة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمناه عن سليمان بن موسى، وهو في "سنن الدارقطني" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم بها قبل الهجرة.

قال البيهقي في "المعارف" حين روى حديث كعب بن مالك واستغفاره لأبي أمامة أسعد بن زرارة:

قلت: وهذا لا يخالف ما روي عن الزهري: أن مصعب بن عمير حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جمع بهم وهم اثنا عشر رجلا، فإنه إنما أراد به


#206#

أنه أقام الجمعة بمعونة النفر الذين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحبتهم، أو على إثرهم وهم اثنا عشر، الذين بايعوه في العقبة الأولى، منهم: أسعد بن زرارة وذلك حين كتب من أسلم من أهل المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليبعث إليهم رجلا من أصحابه يقرئهم القرآن، ويفقههم في الإسلام، ويؤمهم في صلاتهم فبعثه.

قال الزهري: وكان مصعب أول من جمع الجمعة بالمدينة للمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالزهري أضاف التجمع إلى مصعب؛ لكونه إماما في الجمعة، وكعب بن مالك أضافه إلى أسعد لنزول مصعب بالمدينة أولا في داره، ونصرة أسعد إياه، وخروجه به إلى دور الأنصار يدعوهم إلى الإسلام، وذكر الزهري: أنه جمع بهم وهم اثنا عشر رجلا، وهو يريد عدد النقباء الذين خرجوا به إلى المدينة وكانوا له ظهرا.

وذكر كعب أنه جمع بهم وهم أربعون رجلا، وهو يريد جميع من صلى معه ممن أسلم من أهل المدينة مع النقباء.

هذا وقول كعب متصل، وقول الزهري منقطع، وبيان الجمعة مأخوذ من أفعالهم، فيجوز حيث أقاموها وتعدد من أقاموها بهم، وبالله التوفيق. انتهى.


#207#

$[إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما وبني عبد الأشهل وقصة الأنصار]$

وقال ابن جرير في "تاريخه": حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب، وعبد الله بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر، على بئر يقال لها بئر ابن مرق فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لك انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما فأخذ أسيد بن حضير حربته، ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب:


#208#

إن يجلس أكلمه، قال: فوقف عليهما متشتما فقال: ما جاء بكما إلينا، تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أوتجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره، قال: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا - فيما يذكر عنه -: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهيله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام، فاغتسل، وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق، ثم قام، وركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن – سعد بن معاذ – ثم أخذ حربته، فانصرف إلى سعد وقومه – وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك، فقام سعد مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم


#209#

خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، لولا [ما] بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في ديارنا بما نكره، وقد قال أسعد لمصعب: أي مصعب جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لم يخالف عليك منهم اثنان، فقال له مصعب: أوتقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلناك ما تكره، قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة، فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قال: فعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهيله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، وركع ركعتين، ثم أخذ حربته، فأقبل عامدا إلى نادي قومه، ومعه أسيد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما


#210#

أو مسلمة، ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية وزيد وخطمة ووائل وواقف وتلك أوس الله وهم من أوس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت وهو صيفي، وكان شاعرا لهم وقائدا يسمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم على الإسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق.

قال: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق حين أراد الله بهم ما أراد من كرامته والنصر لنبيه صلى الله عليه وسلم، وإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله.


#211#

$[بيعة العقبة الثانية وأسماء من شهدها]$

قال عبد الله ابن الإمام أحمد في "كتاب العلل":حدثني محمد بن حاتم أبو عبيد الله الزمي، أخبرنا علي بن ثابت، حدثني عبد الحميد بن جعفر، أخبرني أبي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجنا يوم العقبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن سبعون: أربعون رجلا وثلاثون غلاما، يردف الرجل ابنه وراءه، فكنت رديفا وراء أبي.

وهؤلاء السبعون كان معهم امرأتان، كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى، وهذا ذكرهم مرتبين وهم:

أسعد بن زرارة بن عدس أبو أمامة من بني غنم بن مالك بن النجار نقيب النقباء.

أسيد بن حضير بن سماك الأشهلي أحد النقباء، كنيته أبو يحيى على الأشهر، وقيل: أبو عيسى، وقيل: أبو عتيك، وقيل: أبو الحضير، وقيل: أبو الحصين، وقيل أبو عتيق.

أوس بن ثابت بن المنذر أبو شداد، وهو أخو حسان من بني عمرو بن النجار وهم بنو جديلة.


#212#

البراء بن معرور بن صخر السلمي أحد النقباء، وأول من أوصى بثلث ماله.

بشر بن البراء ولده.

بشير بن سعد بن ثعلبة – أبو النعمان الخزرجي – من بلحارث بن الخزرج.

ثابت بن الجزع واسم الجزع ثعلبة بن زيد السلمي.

ثعلبة بن غنمة [بن عدي] بن نابي السلمي ابن أخته.

جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي.

جبار بن صخر بن أمية –أبو عبد الله السلمي – وقيل في: جابر، وقيل: هما اثنان، والأصح أنه جبار.

الحارث بن قيس بن خالد بن مخلد أبو خالد الزرقي، وهو بكنيته أشهر.

حنش بن عمرو بن عدي بن نابي السلمي.

خارجة بن زيد بن أبي زهير – أبو زيد الخزرجي – من بلحارث بن الخزرج، وخارجة الذي تكلم ابنه زيد بعد موته في زمن عثمان، وخارجة هو حمو أبي بكر رضي الله عنهما.

خالد بن زيد بن كليب – أبو أيوب – من بني غنم بن مالك بن النجار.

خالد بن عمرو بن عدي بن نابي السلمي.

خالد بن قيس بن مالك الخزرجي البياضي.


#213#

خديج بن سلامة، ويقال: ابن سالم بن أوس أبو شباث البلوي حليف بني حرام، وقاله عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة: حديج - بضم الحاء المهملة وفتح الدال.

ومن طريقه خرجه أبو القاسم بن عساكر في كتاب "من وافقت كنيته كنية زوجته من الصحابة" وقيده فيما وجدته بخطه بإهمال أوله مضموما وفتح ثانيه.

وقيل فيه: جريح – بالجيم والراء - وكذلك ذكره الذهبي في "التجريد" في حرف الجيم، وحكي أن ابن شاهين كناه أبا شاة، وهذا غير مشهور في كنيته، وجريح تصحيف من خديج، والله أعلم.

وذكره الذهبي على الصواب في باب الخاء المعجمة، ولم يشر إلى الخلاف فيه، فكأنه وما قبله اثنان عنده وليس كذلك، والله أعلم.

خلاد بن سويد بن ثعلبة الخزرجي بن بلحارث بن الخزرج.

ذكوان بن عبد قيس بن خلدة أبو السبع الزرقي شهد العقبتين، وسار من المدينة مهاجرا إلى مكة فكان يقال له: أنصاري مهاجري.

رافع بن مالك بن العجلان الزرقي أحد النقباء وهو فيما قال ابن إسحاق: أول من قدم المدينة بسورة يوسف.

رفاعة بن عبد المنذر بن رفاعة بن دينار من بني عمرو بن عوف أحد النقباء وهو أخو أبي لبابة بشير على خلاف في ذلك.


#214#

رفاعة بن عمرو بن زيد بن عمرو السالمي، أبو الوليد من بني الحبلي.

زياد بن لبيد بن ثعلبة بن سنان أبو عبد الله البياضي الزرقي, وقيل فيه: زيد, والأول أصح, ولما أسلم سكن مكة, ثم هاجر, فهو أنصاري مهاجري.

زيد بن سهل بن الأسود أبو طلحة النقيب من بني عمرو بن مالك بن النجار.

سعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك أبو خيثمة وقيل: أبو عبد الله الأوسي, أحد النقباء.

سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير الخزرجي أحد النقباء.

سعد بن زيد بن مالك الأوسي الأشهلي, ذكره في السبعين الواقدي.

سعد بن عبادة بن دليم أبو ثابت الخزرجي الساعدي أحد النقباء, وأحد الأجواد, ويقال كان أسود.

سلمة بن سلامة بن وقش الأشهلي.

سليم بن عمرو ويقال ابن عامر بن حديدة السلمي.

سنان بن صيفي بن صخر السلمي.

سهل بن عتيك بن النعمان من بني عمرو بن مبذول بن مالك بن النجار, وصحف بعضهم اسم أبيه, فقال: عبيد.

صيفي بن سواد بن عبادة, وقيل ابن عباد السلمي.

الضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة السلمي.

الطفيل بن النعمان بن خنساء السلمي.


#215#

ظهير بن رافع بن عدي, عم رافع بن خديج من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج.

عامر بن نابي بن زيد بن حرام, ذكر هشام ابن الكلبي أنه شهد العقبة.

عباد بن قيس بن عامر الزرقي.

عبادة بن الصامت بن قيس – أبو الوليد الخزرجي – أحد النقباء.

عباس بن عبادة بن نضلة الخزرجي – شهد العقبة وهو الذي أكد البيعة ليلتئذ, ثم خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [بمكة], ثم قدم إلى المدينة فكان يقال له: المهاجر, وهو أنصاري.

عبد الله بن أنيس بن أسعد, وقيل: سعد – أبو يحيى الجهني – حليف الأنصار.

عبد الله [بن جبير] بن النعمان الأوسي من بني عمرو بن عوف، وكان أمير الرماة الخمسين يوم أحد, وهو أخو خوات بن جبير.

عبد الله بن رواحة بن ثعلبة أبو محمد الخزرجي أحد النقباء.

عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه أبو محمد الخزرجي من بلحارث ابن الخزرج, وهو الذي أري الأذان.

عبد الله بن عمرو بن حرام – أبو جابر السلمي أحد النقباء.

عبس بن عامر بن عدي بن نابي السلمي.

عبيد بن التيهان أخو أبي الهيثم الآتي ذكره – إن شاء الله تعالى – وقيل في اسمه عتيك, فيما قاله موسى بن عقبة وابن الكلبي, وسماه عبيداً ابن إسحاق والواقدي.


#216#

عقبة بن عمرو بن ثعلبة – أبو مسعود الخزرجي – من بلحارت بن الخزرج, وكان أصغر من شهد العقبة كما ستأتي الرواية إن شاء الله تعالى.

عقبة بن وهب بن كلدة بن الجعد الغطفاني من قيس عيلان حليف بني الحبلي شهد العقبتين, ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فلم يزل معه حتى هاجر, فهاجر عقبة معه إلى المدينة, فهو مهاجري أنصاري.

عمارة بن حزم بن زيد من بني غنم بن مالك بن النجار أخو عمرو ابن حزم.

عمرو بن الحارث بن لبدة الخزرجي.

عمرو بن غنمة بن عدي بن نابي السلمي وهو أحد البكائين.

عوف بن الحارث بن رفاعة, وهو ابن عفراء ابنة عبيد بن ثعلبة من بني غنم بن مالك بن النجار.

عويم بن ساعدة بن عائش أبو عبد الرحمن الأوسي وأصله من بلي، وانفرد ابن إسحاق فقال في نسبه مكان عائش: "ضلعجة", قال ابن سعد: ولم نجد "ضلعجة" في النسب.

فروة بن عمرو بن وذفة بن عبيد البياضي الزرقي.

قتادة بن النعمان بن زيد – أبو عثمان – وقيل أبو عبد الله, وقيل أبو عمرو, وقيل أبو عمر الأوسي ثم الظفري أحد الرماة المشهورين من الصحابة, رميت عينه يوم أحد فسالت حدقته على وجنته فأتى


#217#

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إن عندي امرأة أحبها وإن هي رأت عيني خشيت أن تقذرني, فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فاستوت ورجعت، وكانت أقوي عينيه وأصحهما بعد أن كبر.

وروي أن هذه القصة كانت يوم بدر.

قال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل, حدثنا ابن الغسيل, حدثني عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان, عن جده قتادة رضي الله عنه أنه أصيبت عينه يوم بدر, فسالت حدقته على وجنته, فأراد القوم أن يقطعوها فقالوا: نأتي نبي الله صلى الله عليه وسلم نستشيره في ذلك, فجئنا نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فأدناه نبي الله صلى الله عليه وسلم منه, فرفع حدقته حتى وضعها في موضعها, ثم غمزها براحته, فقال: ((اللهم اكسه جمالاً)) فمات وما يدري من لقيه أي عينيه أصيبت.

تابعه يحيى بن عبد الحميد الحماني, عن عبد الرحمن ابن الغسيل كذلك.

وجاء عن عاصم, عن أبيه, عن جده فيما رواه دعلج في "مسند المقلين" فقال: حدثنا محمد بن يونس، حدثنا مالك بن إسماعيل,


#218#

حدثنا عبد الرحمن بن سليمان, حدثني عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان, عن أبيه, عن جده قتادة: أنه أصيبت عينه يوم بدر ... فذكره نحوه,. وقال: فعادت أحسن ما كانت فلقد مات يوم مات لا يدرى أيهما ذهبت من حسنها.

قطبة بن عامر بن حديدة أبو زيد السلمي.

قيس بن أبي صعصعة عمرو بن زيد من بني مازن بن النجار, وكان أمير الساقة يوم بدر.

كعب بن عمرو بن عبادة أبو اليسر السلمي.

كعب بن مالك بن أبي كعب عمرو بن القين السلمي، أحد الثلاثة الذين تيب عليهم.

مالك بن التيهان أبو الهيثم البلوي – حليف بني عبد الأشهل, وقيل: هو من الأوس من أنفسهم, وممن جزم بأنه من بلي وحليف لبني عبد الأشهل: موسى بن عقبة, وابن إسحاق، وأبو معشر, والواقدي وغيرهم، وقال بالثاني: عبد الله بن محمد بن عمارة الأنصاري وغيره، وأبو الهيثم أحد النقباء, وأول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم.

مسعود بن يزيد بن سبيع أبو محمد السلمي.

معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس السلمي.

معاذ بن الحارث بن رفاعة, وهو ابن عفراء من بني غنم بن مالك ابن النجار.


#219#

معاذ بن عمرو بن الجموح بن زيد السلمي.

معقل بن المنذر بن سرح السلمي.

معن بن عدي بن الجد بن العجلان البلوي بلي قضاعة, وهو من حلفاء بني زيد بن مالك بن عوف, وقيل: حليف بني عمرو بن عوف.

المنذر بن عمرو بن خنيس الخزرجي الساعدي أحد النقباء, والأمير يوم بئر معونة.

يزيد بن ثعلبة بن حزمة بن أصرم أبو عبد الرحمن البلوي حليف الخزرج.

يزيد بن خدام بن خنساء وفي اسمه واسم أبيه خلاف السلمي.

يزيد بن عامر بن حديدة أبو المنذر السلمي أخو قطبة.

يزيد بن المنذر بن سرح السلمي أخو معقل.

أبو بردة بن نيار بن عمرو البلوي حليف بني حارثة بن الحارث, اسمه هانئ على المشهور, وقيل: اسمه الحارث بن عمرو, وقيل: مالك بن هبيرة, وأبو بردة هذا خال البراء بن عازب رضي الله عنهم أجمعين.

فهؤلاء رجال أهل العقبة وفي بعضهم خلاف.

وأما المرأتان فإحداهما: أم منيع, أسماء بنت عمرو بن عدي بن سنان بن نابي بن عمر بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة السلمية,


#220#

زوج خديج بن سلامة المذكور, ولدت له شباثاُ – الذي يكنى به – ليلة العقبة، ومن مشاهد أم منيع أيضاً خيبر شهدتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت عمة معاذ بن جبل.

والثانية: أم عمارة واسمها نسيبة – وزان كريمة – على الصحيح المشهور, وكذلك سماها الواقدي وكاتبه ابن سعد وأبو بكر بن أبي خيثمة وخلق, ولم يسمها أبو نعيم في كتابه "معرفة الصحابة" بل ذكرها في الكنى, وهي بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار, كذلك نسبها ابن إسحاق وابن سعد وغيرهما.

ومن مشاهدها أيضاً: أحد, والحديبية, وخيبر, وعمرة القضية, وحنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودعا لها مع أهل بيتها يوم أحد, فقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أجعلهم رفقائي في الجنة)). فقالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا.

ومن مشاهدها أيضاً بعد النبي صلى الله عليه وسلم يوم اليمامة, وأبلت يومئذ بلاء حسناً.

قال ابن إسحاق: فخرجت إلى اليمامة مع المسلمين, فباشرت


#221#

الحرب بنفسها حتى قتل الله مسيلمة, ورجعت وبها اثنا عشر جرحاً من بين طعنة وضربة.

حدثني بهذا الحديث عنها محمد بن يحيى بن حبان, عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة – هكذا في روايتنا – من طريق زياد بن عبد الله, عن ابن إسحاق.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا عبيد الله بن عمر, حدثنا وهب بن جرير, حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق, قال: حدثني محمد بن يحيى بن حبان، عن منقذ بن عمرو: أن نسيبة شهدت اليمامة مع المسلمين, فقاتلت حتى أصيبت يدها, وجرحت ثنتي عشرة جراحة.

وقد ذكر الواقدي أنها أبلت يوم أحد بلاء حسناً, وجرحت اثني عشر جرحا من طعنة برمح أو ضربة بسيف.

وكانت أم سعد بنت سعد بن الربيع تقول: دخلت عليها فقلت: حدثيني خبرك يوم أحد, قالت: خرجت أول النهار إلى أحد، وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين, فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أباشر القتال, وأذب عن رسول


#222#

الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إلي الجراح.

قالت: فرأيت على عاتقها جرحاً له غور أجوف.

فقلت لها: يا أم عمارة, من أصابك هذا؟

قالت: أقبل ابن قمئة وقد ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني وهو يقول: "دلوني على محمد لا نجوت إن نجا", فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه, وكنت فيهم فضربني هذه الضربة, ولقد ضربته على ذلك ضربات, ولكن عدو الله كان عليه درعان.

قال: وكان ضمرة بن سعيد المازني يحدث عن جدته وكانت قد شهدت أحداً تسقي الماء.

قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لمقام نسيبة بنت كعب خير من مقام فلان وفلان)) وكان صلى الله عليه وسلم يراها يومئذ تقاتل أشد القتال, وإنها لحاجة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً.

قلت: ووهم بعضهم فجعل أم عمارة أختاً لأم منيع المذكور, اللهم إلا أن يريد أختها في شهود بيعة العقبة, فإنه لم يشهدها سوى هاتين المرأتين مع أولئك السبعين.

وقصتهم في المبايعة رويت على وجوه:


#223#

$[أوجه رواية بيعة العقبة الثانية]$

خرج أبو جعفر محمد بن جرير في "تاريخه", وأبو حاتم بن حبان في "صحيحه" واللفظ له: من حديث سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق, حدثني معبد بن كعب بن مالك, عن أخيه عبيد الله بن كعب بن مالك, عن أبيه وغيره: أنهم واعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقوه من العام القابل بمكة فيمن تبعهم من قومهم, فخرجوا من العام القابل سبعون رجلاً فيمن خرج من أهل الشرك من قومهم.

قال كعب بن مالك رضي الله عنه: حتى إذا كنا بظاهر البيداء قال البراء بن معرور بن صخر بن خنساء – وكان كبيرنا وسيدنا -: قد رأيت رأياً والله ما أدري أتوافقوني عليه أم لا, إني رأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر – يريد الكعبة – وأني أصلي إليها, فقلنا: لا تفعل, [وما بلغنا] أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام, وما كنا نصلي إلى غير قبلته, فأبينا عليه ذلك وأبى علينا, وخرجنا في وجهنا ذلك, فإذا حانت الصلاة صلى إلى الكعبة, وصلينا إلى الشام, حتى قدمنا مكة، قال كعب بن مالك: قال لي البراء بن معرور: والله يا ابن أخي, لقد وقع في نفسي مما صنعت في سفري هذا.


#224#

قال: وكنا لا نعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا نعرف العباس بن عبد المطلب, كان يختلف إلينا بالتجارة ونراه, فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حتى إذا كنا بالبطحاء لقينا رجلاً, فسألناه عنه, قال: هل تعرفانه؟ قلنا: لا والله, قال: فإذا دخلتم فانظروا الرجل الذي مع العباس جالساً فهو هو تركته معه الآن جالساً, قال: فخرجنا حتى جئناه صلى الله عليه وسلم فإذا هو مع العباس فسلمنا عليهما وجلسنا إليهما, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تعرف هذين الرجلين يا عباس؟)) قال: نعم, هذان الرجلان من الخزرج – وكانت الأنصار إنما تدعى في ذلك الزمان أوسها وخزرجها [الخزرج] – هذا البراء بن معرور وهو رجل من رجال قومه, وهذا كعب بن مالك, فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشاعر؟)) قال: نعم, قال البراء بن معرور: يا رسول الله, إني قد صنعت في سفري هذا شيئاً أحببت أن تخبرني عنه، فإنه قد وقع في نفسي منه شيء إني قد رأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر, وصليت إليها فعنفني أصحابي وخالفوني حتى وقع في نفسي من ذلك ما وقع, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما إنك قد كنت على قبلة لو صبرت عليها)) ولم يزده على ذلك.

قال: ثم خرجنا إلى منى, فقضينا الحج حتى إذا كان وسط أيام التشريق أتعدنا نحن ورسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، فخرجنا من جوف الليل نتسلل من رحالنا, ونخفي ذلك ممن معنا من مشركي قومنا حتى إذا


#225#

اجتمعنا عند العقبة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فتلا علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن, فأجبناه, وصدقناه, وآمنا به, ورضينا بما قال, ثم إن العباس بن عبد المطلب تكلم فقال: يا معشر الخزرج, إن محمداً صلى الله عليه وسلم منا حيث قد علمتم, وإنا قد منعناه ممن هو على مثل ما نحن عليه, وهو في عشيرته وقومه ممنوع، فتكلم البراء بن معرور وأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بايعنا، قال: ((أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم)) قال: نعم والذي بعثك بالحق, فنحن والله أهل الحرب ورثناه كابراً عن كابر.

وخرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في آخر "مسنده" فقال: حدثنا أبو طلحة موسى بن عبد الله, أخبرنا بكر بن سليمان, أخبرنا محمد بن إسحاق.. فذكره بنحوه.

قال أبو حاتم ابن حبان: وأما ترك أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم إياه – يعني البراء بن معرور – بإعادة الصلاة التي صلاها نحو الكعبة حيث كان الفرض عليهم استقبال بيت المقدس, كان ذلك لأن البراء أسلم لما شاهد المصطفى صلى الله عليه وسلم, فمن أجله لم يأمره بإعادة تلك الصلاة. انتهى.

وقال أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان: حدثنا أبو يحيى – يعني: عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا


#226#

شعيب, عن الزهري قال: بلغنا أن الأنصار وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجة التي خرج بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول مهاجراً إلى المدينة ... فذكر الحديث, وفيه قال: والبراء أول من استقبل القبلة [من] الأحياء, وأول من أمر بقبره أن يدفن عليها ميتاً, كان من أسلم من الأنصار يدعونه إلى الإسلام من قبل أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة, فأسلم, وقال لهم: لستم تذكرون من الإسلام شيئاً إلا وأنا مطمئن إليه به عارف, غير أن نفسي لا تطمئن [إلى] غير قبلة البيت, فقالوا له: استقبل بيت المقدس فصل [إلى] قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: والله لا أصلي قبلها أبداً حتى ألقاه.

فخالفهم في القبلة، فطفق يصلي قبل البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل بيت المقدس حتى إذا لقي رسول الله عليه وسلم ليلة العقبة قال بعض أصحابه: يا رسول الله، هذا صاحبنا الذي ذكرنا لك, وهو أعجبنا عندنا إلا ما يخالفنا من القبلة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلا, إن القبلة اليوم قبل بيت المقدس)), فلما سمع بذلك البراء بن معرور استقبل بيت المقدس حتى قدم المدينة, فاشتكى بعدما قدم المدينة وجعه الذي توفي فيه, فلما حضرته الوفاة، قال: لا والله لا تدفنوني إلا على قبله البيت [فدفن على قبلة البيت], فكان أول من استقبل القبلة حياً,


#227#

وأول من استقبلها ميتاً, فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة سأل الأنصار عنه: ((ما فعل المعجب)), فقالوا: توفي يا رسول الله.

[فلبث رسول الله] صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهراً, ثم صرفت القبلة إلى البيت في جمادى الأولى, وأفضل مساجد الأنصار في أنفسهم كل مسجد صليت فيه القبلتان جميعاً.

وقد جاء حديث كعب بن مالك الذي قدمناه قبل: من طريق أخرى عن كعب ولفظه: قال خرجنا في الحجة التي بايعنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة مع مشركي قومنا, فواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة أوسط أيام التشريق ونحن سبعون رجلاً ومعهم امرأتان.

فلما كانت الليلة التي واعدنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نمنا أول الليل مع قومنا، فلما استثقل الناس من النوم تسللنا من فرشنا تسلل القطا حتى اجتمعنا بالعقبة، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس رضي الله عنه ليس معه غيره, فكان أول متكلم فقال: يا معشر الخزرج, وإنما كانت العرب تسمي هذا الحي من الأنصار: أوسها وخزرجها الخزرج – فقال العباس رضي الله عنه: يا معشر الخزرج, إن محمداً صلى الله عليه وسلم منا حيث قد علمتم, وهو في منعة في قومه وبلاده قد منعناه ممن هو على مثل رأينا فيه، وقد أبى إلا الانقطاع إليكم وإلى ما دعوتموه إليه, فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه, فأنتم وما تحملتم, وإن كنتم تخشون من أنفسكم


#228#

خذلاناً, فاتركوه في قومه, فإنه في منعة من عشيرته وقومه.

فقلنا: قد سمعنا ما قلت, تكلم يا رسول الله، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الله عز وجل، وتلا القرآن ورغب في الإسلام، فأجبناه بالإيمان والتصديق له، وقلنا له: يا رسول الله، خذ لربك ولنفسك، فقال: ((إني أبايعكم على أن تمنعوني مما منعتم به أبناءكم ونساءكم)) فأجابه البراء بن معرور، فقال: نعم، والذي بعثك بالحق مما نمتع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب، وأهل الحلقة - يعني: السلاح - ورثناها كابرا عن كابر، فعرض في الحديث أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين أقوام حبالا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن الله أظهرك أن ترجع إلى قومك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم)) فقال له البراء بن معرور:


#229#

ابسط يدك يا رسول الله نبايعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا)) فأخرجوهم.

فكان نقيب بني النجار: أسعد بن زرارة، وكان نقيب بني سلمة: البراء بن معرور وعبد الله بن حرام.

وكان نقيب بني ساعدة: [سعد] بن عبادة والمنذر بن عمرو.

وكان نقيب بني زريق، رافع بن مالك بن العجلان.

وكان نقيب بن الحارث: عبد الله بن رواحة وسعد بن الربيع.

وكان نقيب القوافل من بني عوف بن الخزرج: عبادة بن الصامت، ومن الأوس من بني عبد الأشهل: أسيد بن حضير وأبو الهيثم بن التيهان.


#230#

وكان نقيب بني عمرو بن عوف: سعد بن خيثمة، فأخذ البراء بن معرور بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عليها وكان أول من بايع، وتتابع الناس فبايعوا.

ففي هذا أن أول من بايع البراء بن معرور.

وقد روى سعيد بن بزيع، وزياد البكائي وغيرهما، عن ابن إسحاق أنه قال: بنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم ابن التيهان.

وحدث ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفر الذين لقوه بالعقبة: ((أخرجوا إلي اثني عشر منكم يكونوا كفلاء على قومهم، كما تكفلت الحواريون لعيسى ابن مريم)) فأخرجوا اثني عشر رجلا.

وروي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقب أسعد بن زرارة على النقباء.


#231#

وقال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، حدثنا مالك، قال: كان أسيد بن حضير أحد النقباء، قال: وكانت الأنصار فيهم اثنا عشر نقيبا، وكانوا سبعين رجلا ، قال مالك: فحدثني شيخ من الأنصار: أن جبريل عليه السلام كان يشير له صلى الله عليه وسلم إلى من يجعله نقيبا، قال مالك بن أنس: كنت أعجب كيف جاء من كل قبيلة رجلان ومن قبيله رجل، حتى حدثني هذا الشيخ: أن جبريل عليه السلام كان يشير إليهم يوم البيعة يوم العقبة، قال لي مالك: عدة النقباء اثنا عشر رجلا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس.

وقال عبد الأعلى بن حماد: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، حدثنا ابن خثيم – وهو عبد الله بن عثمان بن خثيم - عن أبي الزبير محمد بن مسلم: أنه حدثه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في الموسم بمجنة وعكاظ، ومنازلهم بمنى: ((من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة)) فلا يجد أحدا يؤويه وينصره، حتى إن الرجل ليرحل صاحبه من مصر واليمن فيأتيه قومه أو ذو رحمه، فيقول: احذر فتى قريش لا يفتننك، يمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله، يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله له من يثرب، فيأتيه الرجل منا، فيؤمن به، فيقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه حتى لم يبق دار من


#232#

دور يثرب إلا وفيها من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم بعثنا الله تعالى فأتمرنا، واجتمعنا سبعون رجلا منا، فقلنا: حتى متى نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في جبال مكة ويخاف، فدخلنا حتى قدمنا عليه صلى الله عليه وسلم في الموسم، فواعدنا شعب العقبة، فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين حتى توافينا عنده.

فقنا: يا رسول، علام نبايعك؟

قال: ((بايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم فيه لومه لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمنا عليكم يثرب، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)).

فقمنا نبايعه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو أصغر السبعين رجلا إلا أنا -فقال: رويدا يا أهل يثرب، إنه لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، عند إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف فإما أنتم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة فخذوه آجركم الله عليه، وإما أنتم تخافون [من] أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله.


#233#

قالوا: أمط عنا يدك يا أسعد بن زرارة، فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقبلها، فقمنا إليه نبايعه رجل فرجل، لقد أخذ علينا شرطه ويعطينا على ذلك الجنة.

تابعه خلف بن هشام وأحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي عن داود العطار، بنحوه.

وخرجه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .. فذكره بنحوه.

وخرج أبو نعيم أحمد بن عبد الله في كتابه "معرفة الصحابة" من حديث عقيل بن أبي طالب والشعبي والزهري واللفظ له: أن العباس بن


#234#

عبد المطلب رضي الله عنه مر بالنبي صلى الله عليه وسلم فنزل وعقل راحلته، ثم قال لهم: يا مشعر الأوس والخزرج، هذا ابن أخي وهو أحب الناس إلي، فإن كنتم قد صدقتم وآمنتم به وأردتم إخراجه معكم فإني أريد أن آخذ عليكم موثقا تطمئن به نفسي ولا تخذلوه ولا تغروه، فإن جيرانكم اليهود وهم له عدو، ولا آمن مكرهم عليه.

فقال أسعد بن زرارة رضي الله عنه وشق عليه قول العباس حين اتهم عليه أسعد وأصحابه رضي الله عنهم: يا رسول الله، ائذن لنا فلنجبه غير مخشنين لصدرك ولا متعرضين بشيء مما تكره إلا تصديقا لإيخائنا إياك، وإيمانا بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجيبوه غير متهمين)).

فقال أسعد بن زرارة وأقبل على رسول الله [بوجهه فقال]: يا رسول الله، إن لكل دعوة سبيلا، إن لين وإن شدة، وقد دعوتنا اليوم إلى دعوة متجهمة للناس متوعرة عليهم، دعوتنا إلى ترك ديننا واتباعك على دينك، وتلك رتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك، ودعوتنا إلى قطع ما بيننا وبين الناس من الجوار والأرحام البعيد والقريب، وتلك رتبة صعبة، فأجبناك إلى ذلك، ودعوتنا ونحن جماعة في دار عزة ومنعة لا يطمع


#235#

فينا أحد أن يرأس علينا رجل من غيرنا، قد أفرده قومه وأسلمه أعمامه، وتلك رتبة صعبة، فأجبناك إلى ذلك، وكل هؤلاء الرتب مكروه عند الناس إلا من عزم الله على رشده، والتمس الخير في عواقبها، وقد أجبناك إلى ذلك بألسنتنا وصدورنا إيمانا بما جئت به، وتصديقا بمعرفة ثبتت في قلوبنا، نبايعك على ذلك، ونبايع الله ربنا وربك يد الله فوق أيدينا، دماؤنا دون دمك، وأيدينا دون يدك، ونمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا، فإن نفي بذلك فلله عز وجل نفي، ونحن به أسعد، وإن نغدر فبالله نغدر ونحن به أشقى، هذا الصدق منا يا رسول الله، والله المستعان.

ثم أقبل على العباس بن عبد المطلب بوجهه، فقال: وأما أنت أيها المعترض لنا بالقول دون النبي صلى الله عليه وسلم فالله أعلم ما أردت بذلك، ذكرت أنه ابن أخيك وأنه أحب الناس إليك، فنحن قد قطعنا القريب والبعيد وذا الرحم، ونشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله من عنده ليس بكذاب، وأن ما جاء به لا يشبه كلام البشر، وأما ما ذكرت أنك لا تطمئن إلينا في أمره حتى تأخذ مواثيقنا وهذه خصلة لا نردها على أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ ما شئت.

ثم التفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، خذ لنفسك ما شئت واشترط لربك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أشترط لربي أن تعبدوه لا تشركوا به شيئا، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم))، قالوا: فذلك لك يا رسول الله.


#236#

وفي رواية: قالوا: فإن فعلنا فما لنا؟ قال: ((لكم الجنة)) قالوا: ربح البيع.

وكانت هذه البيعة في السنة الثالثة عشر من النبوة، في أوسط أيام التشريق على ما جزم به جماعة.

وقال عبد بن حميد في "مسنده": حدثني ابن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن مجالد بن سعيد، عن عامر، عن عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصل العقبة يوم الأضحى ونحن سبعون رجلا، قال عقبة: إني لأصغرهم سنا، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أوجزوا في الخطبة فإني أخاف عليكم كفار قريش))، قال: قلنا: يا رسول الله، سلنا لنفسك، وسلنا لربك، وسلنا لأصحابك، وأخبرنا ما الثواب على الله وعليك؟

قال: ((أسألكم لربي أن تؤمنوا بالله ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم أن تطيعوني أهدكم سبيل الرشاد، وأسألكم لي ولأصحابي أن تواسونا في ذات أيديكم، وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم، فإذا فعلتم ذلك فلكم على الله الجنة وعلي)).

قال: فمددنا أيدينا فبايعناه صلى الله عليه وسلم.


#237#

$[صياح إبليس بأهل العقبة]$

وقال أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان: حدثنا أبو يحيى يعني: -عبد الكريم بن الهيثم – حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: بلغنا أن الأنصار وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجة التي خرج بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول مهاجرا إلى المدينة، فوافق تلك الحجة سبعون رجلا قد اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب الذي عنده عقبة منى، فانتقب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم اثني عشر نقيبا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عاهدهم على نصر الإسلام: ((قولوا)).

[فقالوا]: بل أنت يا رسول الله فقل، فما قلت فقد وجب علينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل أنتم قولوا)).

[فقالوا]: فلك عهد الله علينا أن لا نكذبك ولا نخذلك ولا نعصيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد رضيت)).

فخرج الشيطان تلك الليلة من تعاهدهم في الإسلام فصاح في أهل منى فقال: قد اجتمع الصباة في شعب العقبة، فثارت قريش إلى عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان عظيم يثرب من الأوس والخزرج قبل


#238#

الإسلام، فقالوا له: ما كنا نخشى أن نؤتى من قبلك، قد اجتمع قومك فخلوا بصاحبنا، يريدون أن يستخرجوه من بين أظهرنا، فقال لهم ابن أبي ابن سلول - وكان جاهلا بخبر المسلمين يكتمونه أخبارهم؛ لشدة كفره: كفيتكم ما ورائي ما كان من شيء، فانصرف كفار قريش، وانتهوا إلى ذلك من قول عبد الله بن أبي ابن سلول، وفي الأنصار ليلتئذ البراء بن معرور الأنصاري ثم من بني سلمة، والبراء أول من استقبل القبلة حيا، وأول من أمر بقبره أن يدفن عليها ميتا .. وذكر بقيته، وقد تقدم.

وفي رواية ابن إسحاق، عن معبد بن كعب بن مالك، قال: فحدثني في حديثه عن أخيه عبيد الله بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك، [قال]: كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، ثم تتابع القوم، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب – والجباجب: المنازل – هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما يقول عدو الله؟ هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب، اسمع،


#239#

أي عدو الله أما والله لأفرغن لك)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارفضوا إلى رحالكم)) فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنملين على أهل منى بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم)).

قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج [إنا]، قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه، قال: وصدقوا، لم يعلموا وبعضنا ينظر إلى بعض.

قال ابن إسحاق: وحدثني (عبد الله بن أبي بكر، أنهم أتوا) عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال مثلما ذكر كعب من القول، فقال: إن هذا الأمر جسيم، ما كان قومي ليتفقوا علي بمثل هذا، وما علمته


#240#

كان. قال: فانصرفوا عنه، ونفر الناس من منى فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان، وخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة، وكلاهما كان نقيبا، فأما المنذر فأعجز القوم وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحلة، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته، وكان ذا شعر كثير.

قال سعد: فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع عليهم نفر من قريش فيهم رجل وضيء أبيض شعشاع حلو من الرجال.

قال: قلت في نفسي: إن يكن عند أحد من القوم خير فعند هذا، قال: فلما دنا مني لكمني لكمة شديدة.

قال: فقلت في نفسي: لا والله ما عندهم بعد هذا خير.

قال: والله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أومأ إلي رجل [ممن] معهم، فقال: ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟

قال: قلت بلي والله، لقد كنت أجير لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف تجارة وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.


#241#

قال: ويحك فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما.

قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما بالمسجد عند الكعبة فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن يضرب بالأبطح وإنه ليهتف بكما، ويذكر أن بينكما وبينه جوار.

قالا: ومن هو؟

قال: سعد بن عبادة.

قالا: صدق، والله إن كان ليجير لنا تجارتنا ويمنعهم أن يظلموا ببلده.

قال: فجاءا فحملا سعدا من أيديهم فانطلق، وكان الذي لكم سعدا سهيل بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي.


#242#

$[أمر عمرو بن الجموح وإسلامه]$

قال ابن إسحاق: فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام بها، وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك، منهم عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن غنم بن كعب بن سلمة، وكان ابنه معاذ بن عمرو شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وكان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بني سلمة وشريفا من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له: مناة – كما كانت الأشراف يصنعون – يتخذه إلها يعظمه ويطهره، فلما أسلم فتيان بني سلمة – معاذ بن جبل وابنه معاذ بن عمرو – في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة – كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة – وفيها عذر الناس – منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويحكم من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ قال: ثم يغدو ويلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه، ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه؟ فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه، وفعلا به مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى فيغسله ويطهره ويطيبه، ثم يعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه، استخرجه من


#243#

حيث ألقوه يوما فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعقله عليه، ثم قال: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك، فلما أمسى عمرو عدوا عليه فألقوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة – فيها عذر من عذر الناس – وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان فيه، فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت، فلما رآه وأبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه فأسلم – يرحمه الله – وحسن إسلامه، فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه [ذلك] وما أبصر من أمره وشكر الله الذي أنقذه مما فيه من العمى والضلالة، فقال:

والله لو كنت إلها لم تكن

أنت وكلب وسط بئر في قرن

أف لملقاك إلها مستدن

الآن فتشناك عن سوء الغبن


#244#

الحمد لله العلي ذي المنن

الواهب الرزاق ديان الدين

هو الذي أنقذني من قبل أن

أكون في ظلمه قبر مرتهن


#245#

$[هجرة الصحابة رضي الله عنهم إلى المدينة وامرأة أبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه]$

وبعد انصراف أهل العقبة من مكة إلى المدينة واستقرارهم بها، أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، وذلك بعد أن أذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم، كما ذكره ابن إسحاق وغيره، فخرج الناس أرسالا يتبع بعضهم بأموالهم وذراريهم وأطفالهم، وكان أولهم خروجا أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد هاجر قبل بيعة أصحاب العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة.

قال أحمد بن عبد الجبار العطاردي: حدثنا يونس – يعني ابن بكير – عن ابن إسحاق، قال: حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، عن جدته أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما


#246#

أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيرا له وحملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه رجال من بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، رأيت صاحبتنا هذه على ما تترك، تسير بها في البلاد، فنزعوا خطام البعير من يده، وأخذوه من يده.

وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، وأهووا إلى سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها، إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة حتى لحق بالمدينة ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني.

قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبها، حتى مر بي رجل من بني عمي من بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: أما تحرجون من هذه المسكينة! فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لي: الحقي بأهلك أو بزوجك إن شئت، ورد علي بنو عبد الأسد عند ذلك ابني.

فرحلت بعيري ثم أخذت بني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن


#247#

أبي طلحة أخا بني عبد الدار، فقال: أين يا بنت أبي أمية؟ فقلت: أريد زوجي بالمدينة، فقال: هل معك أحد؟ فقلت: لا والله، إلا الله وبني هذا، قال: والله ما لك من منزل.

فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يقودني، فوالله ما صحبت رجلا من العرب أراه كان أكرم منه، إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم تأخر عني حتى إذا نزلت دنا إلى البعير فحط عنه، ثم قيده في الشجر، ثم تنحى إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله وقدمه، ثم استأخر عني، فقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ينزل، فلم يزل يصنع ذلك حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية – وكان أبو سلمة نازلا بها - فادخلها على بركة الله، ثم انصرف راجعا إلى مكة، وكانت تقول: ما أعلم أهل بيت أصابهم في الإسلام ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.

قلت: كان عثمان يومئذ مشركا، ثم أسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه.

وقال يونس بن بكير أيضا: عن ابن إسحاق قال: وكان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة: عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم بن عبيد الله بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب، وعبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن


#248#

صبرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد حليف بني أمية بن عبد شمس احتمل بأهله وأخيه عبيد الله بن جحش وهو أبو أحمد، وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان أبو أحمد شاعرا.. وذكر بقيته، وفيه قال: ثم قدم المهاجرون أرسالا.


#249#

$[هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه]$

وقال قيس بن محمد البصري: حدثنا يحيى بن عبد الله، عن عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما منا رجل هاجر إلا مستخفيا ما خلا عمر رضي الله عنه فلما أراد الهجرة خرج من منزله ولبس لأمته، ثم أتى الكعبة، فطاف بها أسبوعا، ثم أتى المقام فصلى خلفه ركعتين، وخلق قريش ينظرون إليه، فلما سلم قام إليهم فقال: إني قد أرى ما بهذه الوجوه من الخزي فزادها الله عز وجل خزيا، أنا مهاجر إلى الله ورسوله، فمن أراد أن يتبعني فليتبعني إذا قطعت بكم الوادي، فوالله لأيتمن ولده ولأرملن نساءه، فما تبعه أحد.

وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق قال: قال البراء: كان أول من قدم علينا رجل من المهاجرين يقال له: مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار بن قصي، فقلنا له: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو مكانه، وأصحابه على أثري، ثم أتانا بعده عمرو بن أم مكتوم الأعمى أحد بني فهر، فقلت له: ما فعل من وراءك: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ قال: هم على أثري، ثم أتانا بعده عمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، وبلال، وعبد الله بن مسعود، ثم أتانا بعدهم عمر بن الخطاب


#250#

[رضي الله عنه] في عشرين [رضي الله عنهم]، ثم أتانا بعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه معه.

وخرجه مسلم في "الصحيح".

ورواه شعبة عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب.

وقال عبد العز بن محمد الدراوردي: عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قدمنا من مكة فنزلنا العصبة، عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة، وسالم مولى أبي حذيفة وكان يؤمهم سالم؛ لأنه كان أكثرهم قرآنا.

"العصبة": بضم العين المهملة وإسكان الصاد المهملة على الصحيح، وحكى ابن الأثير عن بعضهم الفتح فيهما.

وضبطه بعض من أدركته بالفتح مع سكون الصاد ولم أره لأحد من أهل اللغة، والعصبة - فبما ذكره ابن الأثير -: موضع بالمدينة عند قباء.

وصح من حديث شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانا


#251#

يقرئان الناس، فقدم بلال، وسعد، وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ... وذكر الحديث.


#252#

$[أمر عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص]$

كان من هؤلاء العشرين عياش بن أبي ربيعة المخزومي رضي الله عنه:

قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: فحدثني نافع، عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما اجتمعنا للهجرة اتعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل وقلنا: الميعاد بيننا التناضب من أضاة بني غفار، فمن أصبح منكم لم يأتها فقد حبس فليمض صاحباه فأصبحت عندها أنا وعياش ابن أبي ربيعة، وحبس هشام وفتن فافتتن، وقدمنا المدينة فكنا نقول: ما الله بقابل من هؤلاء توبة، قوم عرفوا الله وآمنوا به، وصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا عن ذلك، لبلاء أصابهم من الدنيا، فكانوا يقولونه لأنفسهم، فأنزل الله عز وجل فيهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} الآية. قال عمر: فكتبتها بيدي كتابا، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاص، فقال هشام: فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى، فجعلت أصعد بها وأصوب لأفهمها،


#253#

فقلت: الله هم فهمنيها، فعرفت أنها نزلت فينا لما كنا تقول في أنفسنا ويقال فينا، فرجعت فجلست على بعيري، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل هشام شهيدا بأجنادين في ولاية أبي بكر رضي الله عنهما.

وروي أن عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه لما هاجر إلى المدينة خرج أبو جهل والحارث بن هشام -وكان عياش أخاهما لأمهما أسماء بنت مخربة – فقدما المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالا لعياش بن أبي ربيعة: إن أمك قد نذرت أن لا يظلها ظل ولا يمس رأسها دهن حتى تراك، فقال عمر بن الخطاب [رضي الله عنه]: والله إن يريدانك إلا على دينك، ولو قد وجدت أمك حر مكة استظلت، ولو قد آذاها القمل لقد امتشطت، فقال: إن لي بمكة مالا لعلي آخذه،، فقلت له: لك نصف مالي ولا ترجع إلى القوم، فأبى إلا الرجوع، فقلت له: خذ هذه الناقة فإنها ناقة ذلول ناجية فالزم ظهرها، فإن أرابك القوم بشيء فانجه، فخرجوا حتى إذا أتوا قريبا من مكة قال له أبو جهل: يا أخي، لقد شق علي بعيري فأعقبني على ناقتك فإنها أوطأ من بعيري، فنزلا فلما وقعا إلى الأرض أوثقاه وربطاه ودخلا به مكة وقالوا: هكذا


#254#

يا أهل مكة فافعلوا بسفهائكم، ثم فتن فافتتن. قاله ابن إسحاق.

قال ابن هشام: وحدثني من أثق به: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة: ((من لي بعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص؟)).

فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفيا، فلقي امرأة تحمل طعاما، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟

قالت: أريد هذين المحبوسين – تعنيهما.

فتبعها حتى عرف موضعهما، وكان محبوسين في بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور عليهما، ثم أخذ مروة فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه: ذو المروة لذلك، ثم حملهما على بعيره وساق بها فعثر فدميت أصبعه، فقال:

هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت

ثم قدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.


#255#

&[هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنهُ]&

ولما هاجر المسلمون [إلى المدينة] بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي رضي الله عنهما:

قال عبد الله بن المبارك: حدثنا مسعر بن كدام وشعبة بن الحجاج، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل [عليه السلام]: ((من يهاجر معي؟)) قال: أبو بكر الصديق.

ولهذا والله أعلم لما هم أبو بكر رضي الله عنه بالهجرة أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإقامة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((على رسلك))، فأقام حتى هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه.

قال أبو عبد الله البخاري في أول "تاريخه الأوسط" وفي "تاريخه الصغير": سمعت أبا محمد الكوفي، يقول: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر سمعوا صوتا بمكة يقول:


#256#

فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... من الأمن لا يخشى خلاف المخالف

قال: فقالت قريش: لو علمنا من السعدان لفعلنا وفعلنا، [قال] فسمعوا من القابلة وهو يقول:

فيا سعد سعد الأوس كن أنت مانعا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف

أجيبا إلى داعي الهدي وتمنيا ... على الله في الفردوس زلفة عارف

قال البخاري: سعد الأوس: يعني سعد بن معاذ، وسعد الخزرجين: سعد بن عبادة. انتهى.

وخرجه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه"، فقال: حدثنا أحمد بن المقدام، حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، حدثنا عبد الحميد بن أبي عبس بن محمد بن أبي عبس بن جبر، عن أبيه سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس:

إن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف

فلما أصحوا قال أبو سفيان: من السعدان: سعد بكر، سعد تميم،


#257

سعد هذيم؟ فلما كانت الليلة الثانية سمعوه [يقول]:

يا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف

أجيبا إلى داعي الهدى تمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف

فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات رفارف

فلما أصبحوا قال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة رضي الله عنهما.

تابعه علي بن حرب وغيره عن هشام.

وحدث به أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتابه "الهواتف": عن أبيه، عن هشام بن محمد، أخبرنا عبد الحميد بن أبي عبس بن جبر، عن أبيه، عن جده [قال]: سمعت قريش صائحا [يصيح] على أبي قبيس .. فذكره بنحوه، زاد فيه عن جده.


#258#

ورواه أحمد بن محمد الجوهري، فقال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، حدثنا علي بن الصباح بن الفرات، وابن أبي حسان، قالا: حدثنا هشام بن محمد الكلبي عن عبد الحميد بن أبي عبس، عن أشياخ من الأنصار، قالوا: سمعت قريش مناديا على أبي قبيس [وهو يقول]:

فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف

وذكره.

وفي إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد خروج المهاجرين إلى المدينة كان لا يخفى عليه بمكة أمر يكون بالمدينة إلا بلغه وأخبر به: قال أحمد بن عبد الجبار العطاردي: حدثنا يونس، عن ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كانت حواء – ابنه زيد بن السكن عند قيس بن الخطيم بالمدينة، وكانت أمها عقرب ابنه معاذ أخت سعد بن معاذ فأسلمت حواء فحسن إسلامها، وكان زوجها قيس على


#259#

كفره، فكان يدخل عليها وهي تصلي، فيأخذ بقنتها فيضعها على رأسها، ويقول: إنك لتدينين دينا ما ندري ما هو.

فتقول: ويلك، مهلا فإني أخاف عليك، إنك والله ما أراك منتهيا حتى يصيبك الله منه بشر.

وكان لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة أمر يكون بالمدينة إلا بلغه وأخبر به.

قال قيس: فقدمت مكة في رهط من مشركي قومنا حجاجا فبينا نحن إذ جاء رجل يسأل عني فدل علي فأتاني، فقال: ((أنت قيس بن الخطيم؟))

قلت: نعم.

قال: ((زوج حواء؟)).

قلت: نعم.

قال: ((فما لك تعبث بامرأتك وتؤذيها على دينها)).

فقلت: إني لأفعل.

فقال: ((لا تفعل ذلك بها دعها لي)).

قلت: نعم.

قال: فلما قدم قيس المدينة قال لامرأته: يا حواء، هل علمت أن الرجل الذي تدينين دينه أتاني، فسألني أن أكف عنك وأن أدعك له؟

قلت: قد فعلت فشأنك بدينك فوالله ما رأيته إلا حسن الوجه حسن الهيئة.


#260#

$اجتماع قريش في دار الندوة للتشاور ونوم علي رضي الله عنه في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه مهاجرا ونزول: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} الآية$

ولما رأى المشركون ما صنع المسلمون من الهجرة وعلموا أن المدينة دار منعة، وأن القوم الذين لجأ المسلمون إليهم أهل شدة وبأس، خافوا من خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فيشتد أمرهم به تآمروا في أمره أي شيء يفعلون به.

قال عبد الله بن لهيعة: عن أبي الأسود، عن عروة قال: ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وأن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإما أن يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه, فأخبره الله بمكرهم في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} الآية, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من تحت الليل قبل الغار بثور, وعمد علي فرقد على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يواري عنه العيون.


#261#

وقال أبو عبد الله محمد بن عائذ في "مغازيه": أخبرني محمد بن شعيب, حدثنا عثمان بن عطاء, عن أبيه، عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صدر الحاج بقية ذي الحجة والمحرم وصفر, ثم إن مشركي قريش لما علموا أن الله عز وجل قد جعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مأوى ومنعة، وبلغهم إسلام الأنصار, أجمعوا أن يأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلوه, أو يسجنوه, أو يخرجوه بعد ما يوثقونه, فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بمكرهم بقوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} حتى أتم الآية, وبلغ [ذلك] رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهار فخرج إلى الغار, ورقد علي رضي الله عنه على فراشه.

فسأل أبو بكر علياً رضي الله عنهما فأخبره بمذهبه فخرج [لطلبه] حتى أصبحا بالغار, وغدا المشركون فإذا علي رضي الله عنه على فراشه، فأخبرهم أنه قد هرب منهم, فبعثوا في طلبه إلى أهل المياه, وأتوا ثوراً – الجبل الذي فيه الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه فسمعا الأصوات وأشفق أبي بكر رضي الله عنه وألقى الله عليه الهم والحزن, فعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحزن إن الله معنا)), فأنزل الله سكينته على رسوله وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم, وبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عامر بن فهيرة – يعني ابن آد – وكان أمينا مؤتمناً, وأتاهما به, ومكثا في الغار يومين وليلة, فأتاهم علي بالرواحل والدليل من آخر الليلتين سوى التي خرجا فيها.


#262#

ورواه الأموي في "مغازيه": عن ابن عباس بنحوه.

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر, أخبرني عثمان الجزري: أن مقسماً مولى ابن عباس أخبره, عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} قال: تشاورت قريش ليلة بمكة.. فذكر القصة بنحوها, وفيها: فمروا – أي الكفار – بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فمكث فيه ثلاث ليال.

وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه": فحدثنا ابن حميد, حدثنا سلمة, حدثني محمد بن إسحاق, حدثني عبد الله بن أبي نجيح, عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج, عن ابن عباس رضي الله عنهما.

قال – يعني: ابن إسحاق-: وحدثني الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس. والحسن بن عمارة, عن الحكم بن عتيبة, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة ويتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم غدوا في اليوم الذي اتعدوا فيه, وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة, فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل عليه بت له فوقف على باب الدار, فلما رأوه واقفاً على


#263#

بابها قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون, وعسى أن لا يعدمكم منه رأي ونصح, قالوا: أجل, فأدخل, [فدخل] معهم, وقد اجتمع فيها أشراف قريش كلهم من كل قبيلة, من بني عبد شمس: شيبة وعتبة ابنا ربيعة, وأبو سفيان بن حرب، ومن نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي, وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل, ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة, ومن بني أسد بن عبد العزى: أبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب, وحكيم بن حزام, ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام, ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج, ومن بني جمح: أمية بن خلف، ومن كان منهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش.

فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما كان, وما قد رأيتم, وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً.

قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا باباً، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين قبله زهير والنابغة, ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه منه ما أصابهم.

قال: فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي, والله لو حبستموه كما تقولون لخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه


#264#

دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فيتنزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم, وهذا ما هو لكم برأي, فانظروا في غيره, ثم تشاوروا.

فقال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلدنا, فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي إلى أين يذهب ولا حيث وقع، غاب عنا أذاه, وفرغنا منه، وأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.

قال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه, وحلاوة منطقه, وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به, والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه [حتى] يتابعوه عليه، [ثم يسير بهم حتى يطأكم بهم, فيأخذ أمركم من أيديكم], ثم يفعل ما أراد, أديروا فيه رأياً غير هذا.

قال: فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد.

قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟

فقال: أرى أن تأخذوا من كل قبلة فتى شاباً جلداً نسيباً وسيطاً فينا, ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً, ثم تعمدون إليه, ثم يضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً,


#265#

ورضوا منا بالعقل فعلقناه لهم.

قال: يقول الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل, هذا الرأي لا رأي لكم غيره, فتفرق القوم على ذلك, وهم مجمعون له, فأتى جبريل [عليه السلام] رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، قال: فلما كانت العتمة من الليل اجتمعوا على بابه, ثم ترصدوه متى ينام فيثبون عليه, فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((نم على فراشي, واتشح ببردي الحضرمي فنم فيه, فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم)) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.

قال ابن جرير: زاد بعضهم في هذه القصة في هذا الموضع وقال له: ((إن أتاك ابن أبي قحافة فأخبره أني توجهت إلى ثور فمره فليلحق بي، وأرسل إلي بطعام, واستأجر لي دليلاً يدلني على طريق المدينة, واشتر لي راحلة)).

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعمى الله أبصار الذين [كفروا – و] كانوا يرصدونه – عنه, وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.


#266#

قال: فحدثنا ابن حميد, حدثنا سلمة, حدثني محمد بن إسحاق, حدثني يزيد بن زياد, عن محمد بن كعب القرظي, قال: اجتمعوا له وفيهم أبو جهل ابن هشام فقالوا وهم على بابه: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم بعد موتكم فجعل لكم جنان كجنان الأردن, وإن لم تفعلوا كان لكم منه ذبح, ثم بعثتم بعد موتكم، فجعلت لكم نار تحرقون فيها.

قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب, ثم قال: ((نعم أنا أقول ذلك أنت أحدهم)), وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه, وجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات [من]: {يس . والقرءان الحكيم . إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ . علي صراط مستقيم) إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}

حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الآيات, فلم يبق منهم رجل إلا وضع على رأسه تراباً, ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.

فأتاهم آت ممن لم يكن معهم, فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا محمداً, قال: خيبكم الله, قد والله خرج عليكم محمد صلى الله عليه وسلم, ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً, وانطلق لحاجته أفما


#267#

ترون ما بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه, فإذا عليه تراب, ثم جعلوا يطلعون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم عليه برده, فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علي من الفراش، فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا، وكان مما نزل من القرآن في ذلك اليوم، وما كانوا اجتمعوا له: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وقول الله عز وجل: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون . قل تربصوا فإني معكم من المتربصين}.


#268#

$[دخول النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه الغار]$

وروى الواقدي, عن أشياخه: أن الذين كانوا ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة خروجه إلى الغار: أبو جهل, والحكم بن أبي العاص, وعقبة بن أبي معيط, والنضر بن الحارث, وأمية بن خلف, وابن الغيطلة, وزمعة بن الأسود, وطعيمة بن عدي, وأبو لهب, وأبي بن خلف, ونبيه ومنبه ابنا الحجاج.

قال ابن جرير: وقد زعم بعضهم أن أبا بكر أتى علياً رضي الله عنهما فسأله عن نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه لحق بالغار من ثور, وقال: إن كان [لك] فيه حاجة فالحقه, فخرج أبو بكر مسرعاً فلحق نبي الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جرس أبي بكر في ظلمة الليل, فحسبه من المشركين, فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشي, فانقطع قبال نعله فعلق إبهامه حجر فكثر دمها, وأسرع السعي, فخاف أبو بكر رضي الله عنه أن يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع صوته وتكلم, فعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقام حتى أتاه, فانطلقا ورجل رسول الله تستن دماً حتى انتهى إلى الغار مع الصبح, فدخلاه, وأصبح الرهط الذين كانوا يرصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلوا الدار وقام علي عن فراشه فلما دنوا منه عرفوه, فقالوا له: أين صاحبك؟ قال: لا أدري أورقيبا كنت عليه، أمرتموه بالخروج فخرج,


#269#

فانتهروه وضربوه، وأخرجوه إلى المسجد فحبسوه ساعة ثم تركوه, ونجى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم من مكرهم, وأنزل عليه في ذلك: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.

وهذه القصة مشهورة معروفة متفق على معناها بين المحدثين والإخباريين والمفسرين, ذكرها في تفسير الآية: يحيى بن زياد الفراء، وأبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج وغيرهما.

ووقع في كتاب "جمهرة النسب" لأبي المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي: أن إبليس أتى أهل دار الندوة في صورة سراقة بن مالك؛ لأن أبا المنذر ابن الكلبي ذكر بعد نسب سراقة أنه الذي كان إبليس يأتي المشركين في صورته وعلى لسانه يقول إبليس يوم اجتمعت قريش في دار الندوة للشورى, فأشار أبو جعل برأي حمده إبليس فقال إبليس:

الرأي رأيان رأي ليس نعرفه ... هار ورأي كنصل السيف معروف


#270#

يكون أوله عزاً ومكرمة ... يوماً وآخره مجد وتشريف.

ومما يروى أن عليا رضي الله عنه قال في وقايته النبي صلى الله عليه وسلم بنومه على فراشه ليلة الغار:

وقيت بنفسي خير من وطئ الثري ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الإله من المكر

قال أبو بكر أحمد بن مروان بن محمد الدينوري: حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي, حدثني الفرات بن السائب, عن ميمون بن مهران, عن ضبة بن محصن العنزي, قال: كان علينا أبو موسى الأشعري أميراً بالبصرة, فوجهني في بعثة إلى عمر بن الخطاب, فقدمت على عمر، فضربت عليه الباب، فخرج إلي, فقال: من أنت؟ فقلت: أنا ضبة بن محصن العنزي، قال:


#271#

فأدخلني منزله وقدم إلي طعاماً, فأكلت ثم ذكرت له أبا بكر الصديق رضي الله عنه فبكى، فقلت له: أنت خير من أبي بكر, فازداد بكاء لذلك, ثم قال وهو يبكي: والله ليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر, هل لك أن أحدثك بيومه وليلته؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين.

فال: أما الليلة فإنه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم هارباً من أهل مكة خرج ليلاً فاتبعه أبو بكر رضي الله عنه فجعل مرة يمشي أمامه, ومرة خلفه, ومرة عن يمينه, ومرة عن يساره, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من فعالك؟!)) فقال: يا رسول الله, أذكر الرصد فأكون أمامك, وأذكر الطلب فأكون خلفك, ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك, لا آمن عليك.

قال: فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليله كله حتى أدغل أطراف أصابعه, فلما رآه أبو بكر حمله على عاتقه، وجعل يشتد به حتى أتى به فم الغار فأنزله, ثم قال: والذي بعثك بالحق (نبياً) لا تدخله حتى أدخله أنا قبلك, فإن يكن فيه شيء نزل بي دونك, (قال: فدخل أبو بكر فلم ير شيئاً, فقال له: أجلس, فإن في الغار خرقاً أسده, وكان عليه رداء فمزقه، وجعل) يسد به خرقاً خرقاً, فبقي حجران فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم فحمله فأدخله الغار، ثم ألقم قدميه الحجرين, فجعل الأفاعي والحيات يضربنه ويلسعنه إلى الصباح و[جعل] هو يتقلى من شدة الألم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم بذلك ويقول له: ((يا


#272#

أبا بكر لا تحزن إن الله معنا)) فأنزل الله تعالى [عليه] وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم السكينة, والطمأنينة لأبي بكر رضي الله عنه, فهذه ليلته.

وأما يومه: فلما توفي النبي صل الله عليه وسلم ارتدت العرب فقال بعضهم: نصلي ولا نزكي, وقال بعضهم: نزكي ولا نصلي، فأتيته لا آلوه نصحاُ, فقلت: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفق بالناس, وقال غيري ذلك, فقال أبو بكر رضي الله عنه: قد قبض النبي صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي, ووالله لو منعوني عقالاً كانوا يعطون رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه, فقاتل وقاتلنا معه, وكان والله رشيداً [شديد] الأمر, فهذا يومه.

وحدث به أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد الفقيه, عن أحمد ابن جعفر, عن أحمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي, عن الفرات بنحوه.

كذا قال: عن أحمد بن عبد الرحمن, والصواب: عبد الرحمن بن إبراهيم دون ذكر "أحمد بن", كما تقدم, والله أعلم.

وخرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" فقال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس, حدثنا السري بن يحيى البصري, عن ابن سيرين, قال: كان رجال


#273#

على عهد عمر رضي الله عنه كأنهم فضلوا عمر على أبي بكر رضي الله عنهما فقال عمر: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر, وليوم من أبي بكر خير من آل عمر لقد انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الغار ومعه أبو بكر رضي الله عنه.

وذكر الحديث نحو ما تقدم.

ورواه أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه, أخبرنا موسى بن الحسن بن عباد، حدثنا عفان بن مسلم, حدثنا السري بن يحيى ... فذكره.

وجاء عن ابن أبي مليكة من قوله.


#274#

$[وصف الغار الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه]$

والغار المذكور هو بجبل ثور أمحل وهو مطل على مكة، وهو على مقدار ثلاثة أميال من مكة في الجهة اليمينية منها، وهو صعب المرتقى جدا.

وطول الغار: فيما ذكره أبو الحسين محمد بن جبير الغرناطي في "التذكرة" ثمانية عشر شبرا، وسعته أحد عشر شبرا، وطول فمه الضيق خمسة أشبار، وسعته وارتفاعه عن الأرض مقدار شبر في الوسط منه وفي جانبيه ثلثا شبر، وعلى الوسط منه يكون الدخول، وسعة الباب الثاني المتسع مدخله خمسة أشبار أيضا؛ لأن له بابين حسبما ذكرناه.

[قلت]: الذي ذكره في ذلك قوله "فمنها" أي: من الآيات البينات أنه صلى الله عليه وسلم دخل مع صاحبه على شق فيه سعته ثلثا شبر وطوله ذراع، ثم حكى قصة مجيء الكفار وانصرافهم، ثم [إنه] قال: فقال الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، لو ولجوا علينا من فم الغار ما كنا نصنع؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: ((لو ولجوا علينا منه كنا نخرج من هنا)) وأشار بيده المباركة إلى الجانب الآخر من الغار ولم يكن فيه شق فانفتح للحين فيه باب بقدرة الله تعالى، وهو سبحانه قدير على ما يشاء.


#275#

ثم قال ابن جبير: وعلى مقدمة من هذا الغار في الجبل بعينه عمود منقطع من الجبل قد قام شبه الذراع المرتفعة بمقدار نصف القامة، وانبسط له في أعلاه شبة الكف خارجا عن الذراع كأنه القبة المبسوطة بقدرة الله عز وجل يستظل تحتها نحو العشرين رجلا، وتسمى قبة جبريل عليه السلام. انتهى.

وهذا الباب الذي انفتح في الصخر بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم ذكره أبو محمد ابن حزم في "أعلام النبوة" من "التاريخ"، فقال: واستتر عليه الصلاة والسلام في غار صغير، وقد اتبعته قريش بقائف فطمس الله عليهم أثره، وفتح له في الصخرة الصماء بابا باقيا إلى اليوم، ولو كان هنالك يومئذ لم يخف على أحد منهم.

وقال أبو نعيم الأصبهاني: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم [الغار] مال برأسه واستروح إلى حجر من جبل أصم فلان له حتى أثر فيه بذراعه وساعده وذلك مشهور يقصده الحجاج ويزورونه.

وقال القاضي أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد: حدثنا عبد الرحمن


#276#

ابن صالح، حدثنا يونس بن بكير، عن الحسن بن عمارة، عن سعيد بن عمرو بن سعد بن هبيرة المخزومي، عن عائشة رضي الله عنها قالت: [قال] لي أبو بكر رضي الله عنه: لو رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نريد الغار، فلما صعدنا في الجبل تفطرت رجلا رسول الله دما، وأما رجلا فكانتا كأنهما صفاة، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتعوذ من الشقاء ما تعوذت أنت.

روى يونس بن بكير، عن عنبسة بن الأزهر، عن أبي الأسود، عن أبيه، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نكب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى الغار، فقال:

هل أنت إلا أصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

وأصل الحديث في "الصحيحين" من رواية الأسود بن قيس، عن جندب.

وقد جاء من طريق عن الأسود بن عامر شاذان، حدثنا إسرائيل، عن الأسود عن جندب رضي الله عنه قال: كان أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار فأصاب يده حجر فقال:

إن أنت إلا أصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

ورويناه من حديث يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن الأسود بن قيس، عن جندب بن سفيان، قال:


#277#

لما انطلق أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، قال له أبو بكر: لا تدخل يا رسول الله حتى أستبرئه، قال: فدخل أبو بكر الغار فأصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن أصبعه، وهو يقول:

هل أنت إلا أصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

وروى أبو يوسف يعقوب بن شيبة بن الصلت في "مسنده" فقال: حدثنا الخليل بن عبد الله الجبلي، أخبرنا ظفر بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرحمن بن قيس، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كانت ليلة الغار قال أبو بكر: يا رسول الله، ائذن لي فأدخل قبلك، فإن كانت وجبة أو قال: حية، أو شيء كانت بي دونك، فأذن له، فدخل، فجعل يلتمس الغار بيده ـ فلا يمر بجحر إلا شق من ثوبه فألقمه الجحر، فلما أتى على الثوب كله بقي جحر واحد، فألقمه عقبه، ثم قال: ادخل يا رسول الله، فلما أضاء لهما الصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما فعل ثوبك)) فأخبره بما صنع، فرفع يده وقال: ((اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة)) فأوحى الله إليه: أن قد استجيب لك.

إسناده واه من قبل أبي معاوية عبد الرحمن بن قيس الضبي البصري الزاعفراني: رمي بالكذب وعلي بن زيد: فيه لين.


#278#

وقال أبو نعيم الأصبهاني في "الحلية": حدثنا محمد بن علي بن سلم العقيلي، ومحمد بن غالب، قالا: حدثنا محمد بن سهل البغدادي، حدثنا عثمان، حدثنا شيخ من أهل الكوفة يكنى أبا زيد حماد بن موسى التيمي في مجلس أبي عاصم النبيل، حدثنا مسعر بن كدام، حدثنا قتادة: عن أنس قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار أراد أن يدخله فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أرفق فداك أبي أمي يا رسول الله، أدخل قبلك.. وذكر القصة بنحوها.

وجاءت من حديث عبد الرحمن بن محمد بن سلام، فقال: حدثنا عبد الرحمن بن قيس الضبي، حدثني هلال بن عبد الرحمن، حدثنا أبو معاذ عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس رضي الله عنه.. نحوه.

تابعه أبو معاوية عن هلال كذلك.

ورواه سلمة بن شبيب النيسابوري، عن عبد الرحمن [بن قيس البصري، عن هلال بن عبد الرحمن]، عن سعيد بن المسيب، عن عطاء بن أبي ميمونة [به].


#279#

$لطيف صنع الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في الغار من نسج العنكبوت وتعشيش الحمامتين وإنبات الشجرة وغير ذلك$

وقال محمد بن الحسين بن مكرم: حدثنا أبو حفص، حدثنا عون بن عمرو القيسي، حدثني أبو مصعب المكي، قال: أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك رضي الله عنهم فسمعتهم يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله عز وجل شجرة، فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم تستره، وأن الله بعث العنكبوت، فنسجت ما بينهما فسترت وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر حمامتين وحشيتين، فأقبلتا تذفان حتى وقفنا بين العنكبوت وبين الشجرة، وأقبل فتيان من قريش من كل بطن منهم، معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم على قدر مائتي ذراع، قال الدليل سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي: هذا الحجر ثم لا أدري أين وضع رجله، فقال الفتيان: أنت لم تخطئ منذ الليلة حتى إذا أصبحوا قال: انظروا في الغار فاستقدم القوم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم قدر خمسين ذراعا فإذا الحمامتان فرجع، فقالوا: قال ما ردك؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم


#280#

الغار، فعرفت أنه ليس فيه أحد.

ورواه خيثمة بن سليمان في كتابه "فضائل الصحابة" رضي الله عنهم فقال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عون بن عمرو القيسي أخو رباح القيسي، حدثنا أبو مصعب المكي.. فذكره بنحوه.

وفي لفظ: فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قال – يعني: سراقة - فعرف أن الله عز وجل قد درأ عنه بهما – أي: بالحمامتين -، فدعا لهن [النبي] صلى الله عليه وسلم وسمت عليهن وفرض جزاءهن وانحدرن في الحرم.

حدث به ابن سعد في "الطبقات" بطوله عن مسلم بن إبراهيم.

وذكر السهيلي: أن حمام الحرم من نسل حمامتي الغار. انتهى.

وقد جاء أن الشجرة التي نبتت على الغار هي الراءة:


#281#

علق القاسم بن ثابت في "الدلائل" بغير إسناد فقال في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما كان في الغار: أمر الله عز وجل راءة، فنبتت على باب الغار.

قال الأصمعي: الراءة وجمعها راءات، وهي من نبات السهل.

وقال غير القاسم بن ثابت: هي شجرة لها ثمر أبيض من شجر العضاه.

وقيل: هي من أعلاث الشجر، وتكون مثل قامة الإنسان، لها خيطان، وزهر أبيض يحشى منه المخاد فيكون كالريش لخفته ولينه؛ لأنه كالقطن.

وأنشدوا:

ترى ودك الشريف على لحاهم ... كمثل الراء لبده الصقيع

وفي رواية عن سراقة بن مالك رضي الله عنه أنه قال: وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الطلب حتى انتهت إلى باب الغار، فقال بعضهم: إنه عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد فانصرفوا.


#282#

والقائل هذا هو أمية بن خلف.

وقد جاء أن كرز بن علقمة بن هلال هو الذي قفا أثر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه حين خرجا من مكة، فانتهى إلى باب الغار الذي هما فيه، فقال: هاهنا انقطع الأثر، فرأوا على باب الغار نسج العنكبوت، فانصرفوا، ونظر كرز إلى قدم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذه القدم من تلك القدم التي في المقام – يعني قدم إبراهيم - عليه السلام.

قاله ابن سعد في الطبقات.

وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا في الغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه.

وخرج الحافظ أبو بكر الخطيب في "تاريخه": عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت


#283#

فنسجت بالباب))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتلوهن)).

وقد نظم بعضهم [معنى ذلك فقال]:

وخافت عليك العنكبوت من العدا ... فأرخت بباب الغار مكرا بهم سترا

ووافقها في الذب عنك حمائم ... أتين سراعا فابتنين به وكرا

فلما أتى الكفار طرن خديعة ... فحيا الحيا تلك الخديعة والمكرا

وثبت من حديث حبان بن هلال، وموسى بن إسماعيل واللفظ له، عن همام عن ثابت، عن أنس بن مالك، عن أبي بكر رضي الله عنها قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، قال: ((اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما)).

تابعه محمد بن سنان العوقي وعفان بن مسلم، عن همام، ولفظ العوقي: ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)).


#284#

خرجاه في "الصحيحين" لهمام.

وقال أبو أحمد ابن عدي في كتابه "الكامل": حدثنا عبد الله بن أحمد الأنصاري بمصر، حدثنا محمد بن الوليد بن أبان، حدثنا شبابة، حدثنا أبو العطوف الجزري، عن الزهري:

عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: ((هل قلت في أبي بكر [شيئا؟])) قال: نعم، قال: ((قل وأنا أسمع))، فقال:

وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدو به إذ صاعد الجبلا

وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا

قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: ((صدقت يا حسان هو كما قلت)).

وهذا الحديث مرسلا موصولا منكر، والبلاء فيه من أبي العطوف، قاله ابن عدي بعد أن ذكر للحديث طريقا مرسلة من رواية محمد بن عبيد الهمداني، حدثنا شبابة، حدثنا أبو العطوف الجزري، عن الزهري


#285#

مرسلا لم يذكر أنسا.

وجاء عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق [رضي الله عنه] أنه قال في مجلسه رجل: وايم الله ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من موطن إلا وعلي رضي الله عنه معه فيه، فقال القاسم: يا أخي لا تحلف، قال: هلم قال: بلى ما لا ترده قال الله عز وجل: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}

وقال محمد بن محمد الباغندي: حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا علي بن مجاهد، عن أشعث بن إسحاق - يعني القمي - عن جعفر بن أبي المغيرة - يعني الخزاعي عن سعيد بن جبير:

عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: {فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} قال: على أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل السكينة عليه. وحكي عن علي نحوه.


#286#

وروي عن حبيب بن أبي ثابت في تفسير هذه الآية نحوه.

ورواه أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، عن عبد العزيز بن سياه.

عن حبيب من قوله.

وقال مقاتل: جاء القائف فنظر إلى الأقدام، فقال: هذه قدم ابن أبي قحافة، والأخرى لا أعرفها إلا أنها تشبه القدم التي في المقام.

ويروى أن أمية بن خلف - وقيل: عقبة بن أبي معيط - بال في الغار مستقبلا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سال بوله، قال أبو بكر: فقلت: يا رسول الله، ما أرى إلا وقد أبصرنا، [قال: ((لو أبصرنا] ما استقبلنا بعورته))، وقال أبو جهل حينئذ: أما والله إني لأحسبه قريبا يرانا، ولكن بعض سحره قد أخذ أبصارنا، وانصرفوا وانحدروا.

وقال محمد بن الحسن بن زبالة: حدثني علي بن عبد الحميد بن زياد بن صيفي عن صهيب، عن أبيه، عن جده، عن صهيب: أن المشركين لما طافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على الغار وأدبروا قال: واصهيباه، ولا صهيب لي، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج بعث أبا بكر مرتين أو ثلاثا إلى صهيب فوجده يصلي.

فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: وجدته يصلي وكرهت أن أقطع عليه صلاته فقال: ((أصبت)).

وخرجا من ليلتهما فلما أصبحا خرج حتى أتى أم رومان – زوجة أبي بكر رضي الله عنه فقالت: ألا أراك هاهنا وقد خرج أخواك ووضعا لك شيئا من أزوادهما.


#287#

قال صهيب: فخرجت حتى دخلت على زوجتي فأخذت سيفي وجعبتي وقوسي حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأجده وأبا بكر جالسين.. وذكر الحديث.


#288#

$[مدة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار]$

كانت إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاث ليال:

وحدث أبو أسامة الكوفي: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان الذي يختلف بالطعام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وهما في الغار: عبد الله وعبد الرحمن ابنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

وثبت عن ابن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش كبائت فيهم، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام،


#289#

ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيفهما – حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا – والخريت: الماهر بالهداية - قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث، وانطلق معها عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق الساحل.

هذا الدليل هو عبد الله بن الأريقط الليثي لم يعرف له إسلام.

وطريق الساحل الذي أخذ بهم أسفل من عسفان، ثم عارض بهما الطريق.

وقالوا [من القيلولة] يوم الثلاثاء عند أم معبد بقديد؛ لأنهم خرجوا من الغار ليلة الاثنين، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.


#290#

$[حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لمكة]$

ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقف قبل هجرته بالحزورة، - وكانت سوقا بمكة فأدخلت في المسجد الحرام – فقال ما رواه الحميدي قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن عدي بن الحمراء رضي الله عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحزورة، فقال: ((والله إني لأعلم أنك خير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)).

تفرد به الدراوردي، عن ابن أخي الزهري.

ورواه يعقوب بن سفيان في "تاريخه" وأبو الحسن علي بن محمد بن عيسى واللفظ له قالا: حدثنا أبو اليمان، أخبرني شعيب، عن الزهري،


#291#

أخبرني أبو سلمة؛ أن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري، أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: (( إنك لخير أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)).

تابعه عقيل، ويونس، وعبيد الله بن أبي زياد، وعثمان التيمي، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن [أخي] الزهري، بنحوه.

والحديث في "جامع الترمذي"، و"سنن ابن ماجه"، و"تاريخ ابن


#292#

أبي خيثمة" من طريق الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن أبي سلمة كذلك.

وفي "سنن النسائي الكبرى": من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح، عن ابن شهاب به.

وهو في "صحيح ابن حبان".

وهو أحد الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها في "الصحيح".

وحدث به الواقدي، عن معمر وابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي عمرو بن عدي بن الحمراء .. فذكره.


#293#

وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وحدث به النسائي، عن إبراهيم بن خالد، عن معمر كذلك.

تابعه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وقال إبراهيم بن خالد الصنعاني: عن رباح وهو ابن زيد الصنعاني عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن بعضهم.

وقال زمعة بن صالح المكي: عن يعقوب بن عطاء بن أبي رباح، عن الزهري، عن أبي سلمة، عمن أخبره.


#294#

ووقع في رواية ابن سعد، عن الواقدي، عن أشياخه، أن هذه المقالة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة.

وجاء عن سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج، أخبرني محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عام الفتح على الحجون ثم قال: ((والله إنك لخير أرض الله، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولو لم أخرج منك ما خرجت..)) وذكر بقيته.

خرجه أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة": عن جده، عن سعيد بن سالم.

وحدث أيضا عن جده، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخرج من مكة: ((أما والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب البلاد إلى الله تعالى، وأكرمها على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)) .. الحديث.


#295#

وهو في "جامع الترمذي" وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

وقال نصر بن عاصم: حدثنا الوليد، حدثنا طلحة، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك)).

وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وجاء الحديث أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ومن لفظه: ((ليس بلد أحب إلى الله عز وجل ولا إلي منها، ولكن قومي أخرجوني فخرجت، ولو لم يخرجوني لم أخرج)) وفي الحديث طول.

قال صاحبنا الحافظ الشريف أبو الطيب محمد بن أحمد الحسني قاضي مكة: وتوهم بعض من عاصرناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين هاجر، وليس كذلك؛ لأنه حين قال ذلك كان راكبا على راحلته بالحزورة، ولم يكن كذلك حين هاجر، قاله في كتابه "تحصيل المرام من تاريخ البلد الحرام".


#296#

وقد تقدم ما خرجه الأزرقي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخرج من مكة .. الحديث.

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي، فأسكني أحب البلاد إليك)) فأسكنه الله عز وجل المدينة.

وروي عن محمد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه في قوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} قال: {مدخل صدق}: المدينة، و{مخرج صدق}:

مكة، و{سُلْطَاناً نَّصِيراً} الأنصار.


#297#

$[تاريخ خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ومن الغار]$

وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة لهلال ربيع الأول، ومن الغار ليلة الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الأول، وقيل في صفر، وكان سنه صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاثا وخمسين سنة على الصحيح، وقيل: خمس وخمسون سنة والله أعلم.

قال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثنا ابن بكير، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج نبيكم صلى الله عليه وسلم من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وفتح مكة يوم الاثنين، ورفع الركن يوم الاثنين، وتوفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين.

تابعه جماعة منهم عمرو بن خالد وموسى بن داود، عن ابن لهيعة بنحوه، وتقدم.


#298#

$[من حديث الهجرة]$

وثبت عن النضر بن شميل، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن أبي بكر رضي الله عنه قال:

أخذ علينا بالرصد فخرجنا ليلا فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى قام قائم الظهيرة، ثم رفعت لنا صخرة، فأتيناها ولها شيء من ظل، قال: ففرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة معي، ثم اضطجع عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع قد أقبل في غنمه يريد من الصخرة مثل الذي أردنا، فسألته لمن أنت يا غلام؟ فقال: أن لفلان.

فقلت له: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم.

قلت له: هل أنت حالب؟ قال: نعم، فاخذ شاة من غنمه.

فقلت له: انفض الضرع، قال: فحلب كثبة من لبن، ومعي إداوة من ماء وعليها خرقة قد رويتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصببت على اللبن حتى برد أسفله ثم أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضيت، ثم ارتحلنا والطلب في أثرنا.

تابعه عثمان بن عمر، وغيره، عن إسرائيل.

وهو عند النضر، عن شعبة، عن أبي إسحاق.


#299#

تابعه غندر، عن شعبة.

وقال يحيى بن يحيى: أخبرنا عبيد الله بن إياد بن لقيط، سمعت إيادا يحدث، عن قيس بن النعمان السكوني رضي الله عنه قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه [معه] يستخفيان بالغار، مرا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه من اللبن، فقال: والله ما لي شاة تحلب غير أن ههنا عناقا حملت أول الشتاء، فما بقي لها لبن وقد امتحشت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ائتنا بها)) فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها بالبركة، ثم حلب، فسقى أبا بكر، ثم حلب آخر فسقى الأعرابي، ثم حلب آخر فشرب.

فقال العبد: بالله من أنت، (والله ما رأيت أحدا) مثلك قط؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتراك إذا أخبرتك تكتم علي))؟.

قال: فقال: نعم، قال: ((فإني محمد رسول الله)).

قال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ؟ قال: ((إنهم ليقولون ذلك)).

فقال: إني أشهد أنك لرسول الله، وأن ما جئت به لحق، وأنه ليس يفعل ما فعلت إلا نبي.

ثم قال: أتبعك؟ قال: ((لا، حتى تسمع أنا قد ظهرنا، فإذا بلغك ذاك فاخرج))، قال: فاتبعه بعدما خرج من الغار.


#300#

ورواه أبو الوليد الطيالسي من حديث قيس بن النعمان، قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه يستخفيان، مرا بعبد ولم يذكر: "يستخفيان بالغار"، وذكر الحديث، وفيه قال: غير أن هاهنا عناقا حملت أول الشتاء وقد أخرجته، ولم يذكر فيه (قال: فاتبعه بعدما خرج من الغار).

وقال حجاج بن منهال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر عن عبد الله رضي [الله] عنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وقد فر من المشركين وأنا أرعى غمنا لابن أبي معيط بجياد، فقال: ((يا غلام، عندك لبن تسقينا))؟ فقلت: إني مؤتمن ولست بساقيكم، فقال: ((عندك جذعة لم ينز عليها الفحل))؟ فقلت: نعم، فأتيته بها فمسح الضرع، فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر رضي الله عنه بصخرة منقعرة فحلب وشرب، وسقى أبا بكر رضي الله عنه وسقاني وقال للضرع: ((اقلص))، [فقلص]، ثم أتيته بعد ذلك، فقلت: يا رسول الله، علمني من هذا القول، أو من هذا القرآن، قال: ((إنك غلام معلم)) قال: فأخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحد.

وحدث به أحمد بن حنبل في "مسنده": عن عفان، حدثنا حماد بن سلمة، فذكره.


#301#

وحدث به أبو داود الطيالسي في "مسنده": عن حماد، بنحوه.

تابعه أبو عوانة، عن عاصم نحوه.

ورواه أبو أيوب الأفريقي، عن عاصم مختصرا.


#302#

$[حديث نزول النبي صلى الله عليه وسلم بأم معبد وارتحاله عنها]$

وروينا عن ابن إسحاق قال: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه حدثه، عن جدته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت:

لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر رضي الله عنه احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم أو ستة، فانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة، قالت: وقد ذهب بصره.

فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه.

قالت: فقلت كلا يا أبه، قد ترك لنا خيرا كثيرا، فأخذت أحجار فوضعتها في كوة في البيت كان أبي يضغ ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبه، ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، والله ما ترك لنا شيئا، ولكتن أردن [أن] أسكن الشيخ بذلك.

وقال ابن إسحاق أيضا: وحدثت عن أسماء ابنة أبي بكر رضي الله عنه قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر رضي الله عنه فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت: لا أدري والله أين أبي.


#303#

قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا، ومكثنا ثلاث ليال لا ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل رجل [من الجن] من أسفل مكة يغني بأبيات من الشعر غناء العرب، والناس يتبعونه يسمعون صوته ولا برونه حتى خرج من أعلى مكة [وهو] يقول:

جزي الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبر وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد

ليهن بني كعب مكان فتائهم ... ومقعدهم للمؤمنين بمرصد

قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة.

وما ذكره ابن إسحاق عن أسماء حدث به أبو الحسين عمر بن


#304#

الحسن بن علي بن مالك الأشناني: أخبرنا يحيى بن إسماعيل، حدثنا جعفر بن علي، حدثنا سيف، عن هشام بن عروة: عن أسماء ابنة أبي بكر رضي الله عنها قالت: ارتحل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه فلبثنا أياما ثلاثة أو أربعة، أو خمس ليال لا ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، [وذكر نحو ما تقدم.

وزاد بعد قولها: وإن وجهه إلى المدينة، قالت: ورجع الطلب بنجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم] وعرف علي والعباس وبناته خبره وأن قد أنجاه الله عز وجل ممن يطلبه.

وفي الأبيات تصريح أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بأم معبد واتحل عنها، وقصة ذلك مشهورة ولها طرق:

منها ما قال أحمد بن سنان أبو جعفر القطان الحافظ: حدثنا يعقوب الزهري، عن عبد الرحمن بن عقبة، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه مهاجرين مرا بخباء أم معبد فبعث النبي


#305#

صلى الله عليه وسلم معبدا وكان صغيرا قال: ((ادع هذه الشاة)) ثم قال: ((يا غلام، هات فرقا)) فأرسلت أن لا لبن فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هات)) فمسح ظهرها، فاجترت ودرت، ثم حلب فشرب، وسقى أبا بكر وعامرا ومعبد بن أبي معبد ثم رد الشاة.

وقال أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني رحمه الله في "معجمه الكبير" حدثنا علي بن عبد العزيز وموسى بن هارون الحمال، وعلي بن سعيد الرازي، وزكريا بن يحيى الساجي، قالوا: حدثنا مكرم بن محرز بن مهدي، حدثنا أبي محرز بن مهدي، عن حزام بن هشام بن خالد، عن أبيه هشام بن حبيش، عن أبيه حبيش بن خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة، وخرج منها مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر رضي الله عنه ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة رضي الله عنهما ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة جلدة تحتبي بفناء الكعبة ثم تسقي وتطعم فسألوها لحما وتمرا ليشتروه منها فلم يصيبوا عندها شيئا


#306#

من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ((ما هذه الشاة يا أم معبد؟)) قالت: خلفها الجهد عن الغنم، قال: ((فهل بها من لبن؟)) قالت: هي أجهد من ذلك، قال: ((أتأذنين أن أحلبها))؟ قالت: بلي بأبي أنت وأمي، نعم إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها، وسمى الله عز وجل ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط فحلب فيها ثجا حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم صلى الله عليه وسلم، ثم أراضوا ثم حلب فيها ثانيا بعد بدو حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم تابعها وارتحلوا عنها.

فقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا، ما تساوكن هزلا ضحى، مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد، والشاء عازب حيال ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد، قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صهل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزج أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من


#307#

بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق فصل لا هذر ولا نزر، كأن منطقة خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا بأس من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن من بين غصنين، وهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره محفود محسود، لا عابس ولا مفند، قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا، فأصبح صوت بمكة عاليا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول:

جزي الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد

هما نزلاها بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد

فيا لقصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسؤدد

ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد

سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد

دعاها بشاة حائل فتحلبت ... عليه صريحا ضرة الشاة مزبد


#308#

فغادرها رهنا لديها لحالب ... يرددها في مصدر ثم مورد

فلما سمع حسان بن ثابت رضي الله عنه بذلك شبب يجيب الهاتف وهو يقول:

لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسري إليهم ويغتدي

ترحل عن قوم فضلت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد

وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمايتهم هاد به كل مهتد

وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد

نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مسجد

وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد

ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد


#309#

ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد

تابعهم أحمد بن إسحاق بن صالح الوزان، وأحمد بن موسى الشطوي، وأحمد بن الهيثم البزار، وأحمد بن يونس بن المسيب الضبي، وأبو محمد الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني، وعبد الله بن الحسن الهاشمي، ومحمد بن أحمد بن النضر الأزدي، ومحمد بن إسحاق الثقفي، ومحمد بن جرير الطبري، ومحمد بن محمد بن عقبة، ومحمد بن موسى بن عيسى أبو جعفر الحلواني، ومحمد بن وضاح، وأبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة المشرفة"، وأبو حريش الكوفي بمصر، وغيرهم، عن أبي القاسم مكرم بن محرز بن مهدي بن عبد الرحمن بن عمرو بن خويلد بن خليف بن منقذ بن زمعة بن حزام بن حبيش الخزاعي.


#310#

هكذا نسبه الحافظ أبو بكر محمد بن هارون الروياني لما حدث عنه بهذا الحديث في كتابه "الغرر في الطوالات" وذكر أنه حدثه بقديد قال: "وكان يسكن قرب خيمتي أم معبد".

وممن رواه عن مكرم: يعقوب بن سفيان الفسوي في "تاريخه" مع تقدمه؛ لأنه مات سنة سبع وسبعين ومائتين.

وآخر من رواه عنه أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي، ومات في آخر سنة ثمان وستين وتلاثمائة.

قال الحاكم أبو عبد الله: سمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن جعفر القطيعي يقول: حدثنا مكرم بن محرز عن آبائه، فذكر الحديث،


#311#

فقلت له: سمعته من مكرم؟ فقال: إي والله، حج بي أبي وأنا ابن سبع سنين فأدخلني على مكرم.

وممن رواه عن مكرم أيضا فيما قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا أبو أحمد هارون بن يوسف بن زياد التاجر، حدثنا مكرم بن محرز بن المهدي نسبه إلى الأزد، ويكنى مكرم بأبي القاسم، حدثنا بهذا الحديث في سوق قديد: قال مكرم: حدثني أبي، عن حزام بن هشام بن حبيش صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيل البطحاء يوم الفتح، حزام المحدث، عن أبيه، عن جده حبيش بن خالد، وهو أخو عاتكة بنت خالد التي كنيتها أم معبد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين خرج من مكة، خرج منها مهاجرا إلى المدينة، وساق الحديث مطولا بنحوه.

وممن رواه عن مكرم – أيضا - أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن ثعلبة الخشني الأندلسي الحافظ، ثم قال في آخره بعد قوله:: "للمؤمنين بمرصد" قال لنا مكرم: حدثنا يحيى بن قرة الخزاعي، ثم الكعبي، قال:


#312#

لما هتف الهائف بمكة سمع به كل بيت كان بمكة من المشركين، فلما أصبحوا اجتمعوا فقالوا: أسمعتم ما كان البارحة؟ فقالوا: نعم، قالوا: فأين خيمتا أم معبد التي نزل بها؟ قالوا: على طريق الشام من حيث تأتيكم الميرة، قالوا: فاطلبوه فردوه قبل أن يستعين عليكم بكلبان العرب، فخرجت منهم سرية في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أن نزلوا بأم معبد وكانت قد أسلمت فحسن إسلامها فسألوها عنه فتعاجمت عليهم، وأشفقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فقالت: إنكم تسألوني عن رجل ما سمعت به قبل عامي هذا - وصدقت أم معبد لم تسمعه إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم – وإني لأستوحش منكم تخبروني عن رجل يخبركم بما في السماء، فانصرفوا عني وإلا صحت في قومي عليكم - وكانت في منعة من قومها في الجاهلية – فانصرفوا عنها ولم يعلموا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أين توجه، ولو قضى الله عز وجل لهم أن يسألوا الشاة: من حلبك؟ لقالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنها جعلت شاهدا؛ لأنه قال ((إن تسألوا الشاة تشهد)) لكن الله لم يهدهم لذلك فعمى الله عنهم مسألة الشاة، وسألوا أم معبد فكتمتهم.

وهذه الزيادة من قول مكرم: حدثني يحيى بن قرة، إلى آخرها، رواها أبو بكر الآجري آخر الحديث بالإسناد المتقدم إلى مكرم وقال في آخره: قد حدثنا بهذا الحديث ابن صاعد في كتاب "دلائل


#313#

النبوة": عن مكرم وغيره من طرق مختصرا في باب دلائل النبوة. انتهى.

وزيادة يحيى بن قرة رواها أيضا عن مكرم: جعفر بن أحمد بن عمران الشامي، رواها عنه أبو بكر أحمد بن محمد بن الفضل الأهوازي في كتابه "المنود في الوفود"، وأبو يوسف يعقوب بن شيبة بن الصلت السدوسي فحدث به في "مسنده" عن مكرم هذا، لكنه جمع بين روايته ورواية عبد الملك بن وهب المذحجي، فقال: حدثنا الحسن بن عثمان، حدثنا بشر بن محمد بن أبان بن مسلم، حدثني عبد الملك بن وهب المذحجي، عن الحر بن صياح النخعي، عن أبي معبد الخزاعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية.

وقال أبو يوسف: وحدثني مكرم بن محرز بن مهدي بن عبد الرحمن ابن عمرو بن خويلد الخزاعي الكعبي، حدثني أبي، عن حزام بن هشام بن حبيش بن خالد، عن أبيه، عن جده حبيش - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة خرج منها مهاجرا إلى المدينة هو


#314#

وأبو بكر ومولى لأبي بكر عامر بن فهيرة ودليلهما الليثي عبد الله بن أريقط، مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية.

ومعنى حديثهما واحد، وقد يختلفان في اللفظ، قالا في حديثهما: وكانت امرأة برزة - قال أحدهما: جلدة وقال الآخر: جليلة، تحتبي وتجلس بفناء الخيمة. وقال الآخر: بفناء القبة، ثم تسقي وتطعم فسألوها تمرا أو لحما. وقال الآخر: تمرا أو لحما ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وإذا القوم مرملون مسنتون وقال الآخر: مشتون، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر خيمتها. وقال الآخر: في كسر الخيمة، فقال: ((ما هذه الشاة يا أم معبد؟))

قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال: ((هل بها من لبن؟)).

قالت: هي أجهد من ذاك، وقال الآخر: هي والله أجهد من ذاك، قال: ((أتأذنين لي أن أحلبها؟)) قالت: نعم، بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا فاحلبها.

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله، وقال الآخر: وسمى، ودعا لها في شاتها، وقال الآخر: اللهم بارك لها في شاتها فتفاجت عليه، ودرت واجترت فدعا بإناء لها يريض الرهط، وقال الآخر يربض الرهط، فحلب فيه ثجا حتى علاه


#315#

البهاء، وقال الآخر: حتى غلبه الثمال، فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه فشربوا حتى رووا، وشرب آخرهم صلى الله عليه وسلم. قال أحدهما في حديثه دون الآخر وقال: ((ساقي القوم آخرهم)) فشربوا جميعا عللا بعد نهل حتى أراضوا. وقالا جميعاً: أراضوا, ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدء, وقال الآخر: بعد بدء حتى ملأ الإناء, وقالا جميعاً: فغادره عندها. قال أحدهما: وتابعها.

وقالا: وارتحلوا عنها فقل ما لبثت أن جاء زوجها. قال أحدهما: أبو معبد, وقالا: يسوق. وقال أحدهما: أعنزاً حيلاً. وقال الآخر: أعنزا عجافاً تشاركن. وقال الآخر: ما تساوك هزلاً هزلى. قال أحدهما: ضحى. وقالا: مخهن قليل. وقال أحدهما: لا نقي بهن فلما رأى. قال أحدهما: أبو معبد. وقالا: اللبن عجب, وقال: من أين لكم هذا؟ قال أحدهما: يا أم معبد. وقالا: والشاء عازب. قال أحدهما: حيال. وقالا: ولا حلوبة في البيت، قالت: لا والله, إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، قال: صفية لي يا أم معبد. وقال الآخر: مبارك, كان من حديثه كيت وكيت.

فقال: والله إن أراه صاحب قريش الذي تطلب, صفيه لي يا أم معبد, قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة. قال أحدهما: أبلج الوجه. وقال الآخر: متبلج الوجه, حسن الخلق لم تعبه نحلة. وقال الآخر: ثجلة,


#316#

ولم تزر به صقلة, وقال الأخر: صعلة.

قال أحدهما: يعني الدقة, وسيم قسيم, في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف. وقال الآخر: عطف, وفي صوته صحل. وقال الآخر: صهل, وفي لحيته كثافة. وقال الآخر: كثاثة, وفي عنقه سطع. قال أحدهما: أحور أكحل. وقالا: أزج أقرن.

قال أحدهما: رجل شديد سواد الشعر, إن صمت فعليه الوقار, وإن تكلم سما وعلاه البهاء. زاد أحدهما: كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن, حلو المنطق, فصل لا نزر ولا هذر, أجهر الناس وأجملهم من بعيد, وقال الآخر: أجمل الناس وأبهاه من بعيد, وأحلاه وأحسنه من قريب, ربعة. قال أحدهما: لا تشنؤه من طول. وقال الآخر: لا يأس من طول, ولا تقتحمه عين من قصر, غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظراً وأحسنهم قدراً, له رفقاء يحفون به, إن قال استمعوا لقوله. وقال الآخر: أنصتوا لقوله, وإن أمر تبادروا إلى أمره, محفود محشود. وقال الآخر: محسود, لا عابس ولا مفند. وقال الآخر: ولا معتد.

قال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر.

قال أحدهما: بمكة, ولقد هممت أن أصحبه. وقال الآخر: ولو كنت وافقته لالتمست أن أصحبه, ولأفعلنه إن وجدت إلى ذلك سبيلاً, وأصبح صوت بمكة عالياً. وقال الآخر: ببكة [علياً] بين السماء


#317#

والأرض, يسمعون ولا يرون من يقوله. وقال الآخر: يدرون من صاحبه, وهو يقول:

جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد

وقال الآخر: حلا.

هما نزلا بالبر وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد

وقال الآخر:

هما نزلاها بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد

فيا لقصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا يجازى وسؤدد

زاد أحدهما:

ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد

سلو أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد

دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد

وقال الآخر:

..................فتحلبت ... عليه صريحاً ضرة الشاة مزبد


#318#

فغادره رهناً لديها لحالب ... بدرتها في مصدر ثم مورد

وقال الآخر:

لحالب يرددها في مصدر ثم مورد

زاد أحدهما: فأصبح الناس قد وقفوا نبيهم صلى الله عليه وسلم, وأخذوا على خيمتي أم معبد ليلحقوا النبي صلى الله عليه وسلم فلما سمع حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شبب وهو يجاوب الهاتف, وهو يقول:

لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم

وقال الآخر: فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال:

وقدس من يسري إليه ويغتدي

وقال الآخر:

................. ... ... وقدس من يسري إليه ويغتدي

ترحل عن قوم فزالت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد

وقال الآخر: فضلت عقولهم.

زاتد أحدهما:


#319#

هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وأرشدهم من يتبع الحق يرشد

وهل يستوي ضلال قوم تكسعوا ... عمى وهداة يقتدون بمهتد

وقال الآخر:

هل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمايتهم هاد به كل مهتد

زاد أحدهما:

وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد

نبي يرى ما لا يري الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد

وقال الآخر:

...................    ... ............ "في كل مسجد"

وإن قال في قوم مقالة غائب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد

وقال الآخر:

.............. ............... ... "فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد"


#320#

ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد

ويهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد

وقال الآخر:

ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد

تابعه الحسن بن محمد الزعفراني, وعباس بن محمد الدوري, ومحمد بن شداد المسمعي, وعمر بن شبة, وعبد الرحمن بن عيسى بن ساسان السوسي وغيرهم, فرووه عن أبي أحمد بشر بن محمد بن أبان بن مسلم السكري البصري – سكن بغداد – حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي ... فذكره.

وحدث به الحارث بن محمد بن أبي أسامة في زيادته على ابن سعد في "الطبقات", فقال: أخبرني غير واحد من أصحابنا منهم محمد بن المثنى البزار وغيره, قالوا: حدثنا بشر بن محمد الواسطي – ويكنى أبا أحمد السكري – حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي ..... فذكره بنحوه.


#321#

ورواه البخاري في "تاريخه الكبير", فقال: قال لي عمرو بن زرارة: حدثنا بشر, حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي, عن الحر بن صياح النخعي, عن أبي معبد الخزاعي، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة وأبو بكر وعامر بن فهيرة. لم يزد على هذا.

وقال: "الحر" ما أدري أدرك "أبا معبد"؛ "أبو معبد" قتل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.

فالحديث فيه إرسال, وقد صرح بإرساله في موضع آخر من "التاريخ".

وحبيش بن خالد هذا هو أخو أم معبد عاتكة بنت خالد، وقيل: خليد, وقيل: هو أبو معبد، وهو ضعيف.

وقيل: اسم أبي معبد أكثم بن الجون, ويقال: ابن أبي الجون, وقيل: اسمه عبد الله.

وحديث أم معبد هذا حديث مشهور، خرجه جماعة من أئمة الحديث في كتبهم غير من ذكرنا:

منهم الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني خرجه في كتابه "معرفة الصحابة" من حديث جماعة ممن ذكرنا, عن مكرم.

وخرجه أيضاً من حديث يحيى بن فضالة المدني: حدثنا حزام


#322#

ابن هشام القديدي، عن أبيه هشام بن حبيش, عن أبيه حبيش بن خالد.. فذكره مختصراً.

ورواه أحمد بن يوسف بن تميم البصري, وبشر بن أنس أبو الحسين, وعبد الله بن محمد بن عيسى بن الحكم بن أيوب بن سليمان وغيرهم, عن أبي هشام محمد بن سليمان بن الحكم [بن أيوب بن سليمان بن زيد بن ثابت بن سيار الكعبي الربعي الخزاعي, عن عمه أيوب بن الحكم], عن حزام بن هشام مطولاً.

وصحح الحاكم إسناده.

ورواه أبو العباس أحمد بن يونس بن المسيب الضبي, عن سليمان بن الحكم بن أيوب أبي أيوب, حدثني أخي أيوب بن الحكم, عن حزام ابن هشام .... فذكره.

تابعه الحسين بن حميد بن الربيع اللخمي, والحسين بن إسحاق الدقيقي, فقالا: حدثنا سليمان بن الحكم بن أيوب بن سليمان بن يسار الخزاعي, قال: حدثنا أخي أيوب بن الحكم, وسالم بن محمد الخزاعي) جميعاً, عن حزام بن هشام ..... فذكره.


#323#

وحدث به أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني في كتابه "أشعار الجن": عن أحمد بن عبد الله العسكري, حدثنا عبيد الله بن محمد الناقد, حدثنا محمد بن سليمان بن الحكم بن أيوب، حدثني عمي أيوب بن الحكم .... فذكره مختصراً.

ورواه محمد بن يونس الكديمي, فقال: حدثنا عبد العزيز بن يحيى مولى العباس بن عبد المطلب, حدثنا محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري, حدثني أبي, عن أبيه, عن جده أبي سليط – وكان بدرياً – قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه .... فذكر الحديث بنحوه.


#324#

وحدث به أبو القاسم الطبراني: عن محمد بن علي الصائغ المكي, حدثنا عبد العزيز بن يحيى المدني .... فذكره إلا أنه لم يذكر "أبا سليط" بل جعل الحديث عن "سليط" نفسه.

وقال أبو عمر بن عبد البر: وقد روى حديث أم معبد [جماعة] بتمامه وكماله, عن أم معبد, وعن أبي معبد زوجها, وعن حبيش بن خالد أخيها, كلهم يرويه بمعنى واحد, وفيه ألفاظ مختلفة قليلة بمعنى متقارب. انتهى.


#325#

$[تفسير غريب ألفاظ حديث أم معبد]$

وفي هذا الحديث المشهور ألفاظ غريبة, وكلمات عربية عجيبة, رأينا أن نذكر من تفسير غريبها ما يفتح مقفله, ويوضخ مغفله, حسبما رأيناه في كتب الغريب ورويناه, ونورد ذلك ملخصاً مع بيان معناه:

فقوله: "برزة": البرزة العفيفة الموثوق برأيها وعفافها, وقيل: هي الكهلة التي قد خلا بها سن فخرجت عن حد المحجوبات فتبرز للرجال ويتحدثون إليها.

و"الجلدة": القوية الصلبة من قولهم: "جلد" بضم اللام وكسرها, جلداً بالتحريك وجلادة: صبر وصلب فهو جلد وجليد.

و"المرملون": الذين نفد زادهم فضعف حالهم, مأخوذ من الرمل الذي هو نسج خفيف ضعيف, وقيل: هو من الرمل المعروف, كأنهم قد لصقوا بالرمل لفقرهم.


#326#

و"المسنتون": من أجدبت سنتهم فأصابتهم الأزمة والمجاعة.

وقوله في الرواية الأخرى: "مشتون" يقال لمن دخل في الشتاء: مشت، هذا أصله, ثم يقال لمن أجدب: مشت؛ لفقدانه ما يحتاج إليه في الشتاء.

و"كسر الخيمة" – بفتح الكاف وكسرها -: جانبها, وقيل: مؤخرها, وقيل: هو الشقة السفلى من الخباء ترفع وقتاً وترخى وقتاً, وتكون في مقدم الخباء, أو في مؤخره.


#327#

و"الحلب": ساكن ويحرك من قولهم: حلبت الناقة وغيرها حلباً وحلباً, وقال بعضهم: هو بالتحريك مصدر حلبته, كالطلب من طلبته ولا يسكنان.

و"تفاجت": أي, وسعت بين رجليها, وباعدت إحداهما من الأخرى. وأصله من الفجج: وهو في ذوات الأربع تباعد العرقوبين، وتفعل الشاة ذلك عند الحلب والبول.

و"درت": صبت اللبن من قولهم: در الماء وغيره: جرى كثيراً.

و"اجترت": أخرجت الجرة من جوفها إلى فيها رددتها للمضغ, وإنما يفعله من الإبل والغنم الممتلئ [علفا].

وقوله "يربض الرهط": أي يرويهم شربة حتى يثقلوا, ويقعوا على


#328#

الأرض فيربضوا كما تربض الغنم على الأرض إذا شبعت.

وفي "مختصر العين" لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب "تربض الرهط": أي تسعهم, وقربة ربوض وشجرة ودرع: أي واسعة.

وفي "مختصر العين" للزبيدي خلافه.

وأما الرواية الأخرى: "يربض" بالياء المثناة من تحت مكان الموحدة, أي: تروي الرهط بعض الري.

والروض نحو من نصف قربة, وأراض الحوض: إذا صب فيه ماء يواري أرضه.

وقيل: هو مأخوذ من الروضة وهي الموضع المستنقع فيه الماء, ومنه قوله في هذا الحديث: "فشربوا حتى أراضوا" يعني: رووا من قولهم: أراض الأرض فهم مريضون, إذا ثملوا من اللبن وثقلوا على الأرض.

وقيل: أراضوا يعني: شربوا لبناً صب على لبن، يقال: أراض القوم وأراضوا, إذا صبوا اللبن على اللبن.

ويحتمل أنه أريد به كثرة شربهم اللبن لصبهم إياه في أجوافهم مرة فوق أخرى, ويفسره قوله: "حتى أراضوا عللاً بعد نهل": أي: ارتواء


#329#

من الشرب مرة بعد مرة, و"النهل": الشرب في أول الورد, و"العلل" الشربة الثانية.

و"الثج": من قولهم: ثج المطر [إذا] انصب.

وقيل: هو السيلان الكثير, ومنه الحديث: سئل عن الحج, فقال: "هو العج والثج", فالعج: رفع الصوت بالتلبية, والثج: نحر البدن وسيلان دمائها.

وقيل: الثج صوت الدماء إذا نحرت الإبل أو نحوها.

و"البهاء" هنا وميض رغوة اللبن وبريقها بعد امتلاء الإناء.

و"الثمال" في الرواية الأخرى بضم الثاء جمع ثمالة بضمها, وهي الرغوة بضم الراء وفتحها, قال أبو زيد الأنصاري في كتابه: "اللبأ واللبن": والثمال من الحليب الرغوة. انتهى.

و"العجاف": من العجف وهو ذهاب السمن, والذكر أعجف,


#330#

والأنثى عجفاء, وليس في الكلام "أفعل" على "فعال" مجموعاً إلا "أعجف"، و"عجاف" قاله أبو الحسين أحمد بن فارس في "مجمله".

و"تساوكن": من التساوك وهو التمايل من الضعف, وكأنهن يمشين مشياً ضعيفا يحركن رءوسهن لضعفهن.

وقوله في الرواية الأخرى: "تشاركن هزلاً": أي عمهن الهزال كأنهن اشتركن فيه فصار لكل واحدة منهن حظ من الهزال.

وفي رواية "يتتاركن" وهو قريب من معنى الأول: أي: يترك يعضها بعضاً ويتخلف بعضها عن بعض لضعفهن.

وروي "تساوقن" من قولهم: فلان يسوق أصحابه: أي يمسي خلفهم, فكأن بعضها يسوق بعضاً لتأخره من الهزال.

وقوله "ضحى": هذه اللفظة سقطت من بعض الطرق لرواية عبد الملك بن وهب المذحجي التي تقدمت.


#331#

وقد استغرب هذه اللفظة الحافظ أبو موسى محمد بن عمر بن أحمد بن عمر الأصفهاني المديني فقال في كتابه "طوال الأحاديث والأخبار":

هذه اللفظة كانت تنبو عن قلبي؛ فإن وقوعها بين صفات الغنم بعيد وكان يغلب على ظني أنه تصحيف, ولم أكن أقف على حقيقته, ومن الرواة من رواه هكذا, ومنهم من ترك هذه اللفظة؛ لأنه ربما وقع له ما وقع لي حتى وجدت القاضي أبا أحمد العسال الحافظ – رحمه الله – رواه في "معجمه": عن يحيى بن صاعد, عن إبراهيم بن سلام مولى بني هاشم, عن مروان بن معاوية, عن هاشم بن حزام [بن هشام] وقال فيه: يتتاركن هزلى مخاخهن قليل.

ثم قال عقيبه: "كذا قال ابن سلام" فدل هذا أنه ضبطه عنه هكذا, ولا أظن الصحيح إلا كما رواه؛ لأن المخاخ جمع المخ كما أن الكمام جمع الكم.

وذكر أبو موسى أمثلة غير هذا ثم قال: ومما يدل على صحة ذلك


#332#

أيضاً أنه في أكثر النسخ مكتوب بالألف ولو كان ضحى كما رووه لكان بالياء.

وقد روينا في بعض الروايات أن زوجها جاء مساء لا ضحى, وأيضاً قول الشاعر يدل عليه حيث قال: "رفيقين قالا خيمتي أم معبد".

قلت: وفي هذا نظر؛ لأن الرواية الأخرى: "رفيقين حلا خيمتي أم معبد" فليست تلك الرواية بأحق من هذه مع أن "قالا" في الرواية الأولى فسرت بـ "قصدا" من قولهم: قال برأسه كذا, وقال بيده كذا, أي قصد وأشار فيكون قوله: "ضحى" على بابها أي: مجئ معبد بالأعنز ضحى عقيب ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم من عندها كما في الحديث: فقل ما لبثت أن جاء زوجها, وعن الفراء في قوله تعالى: {والضحى . والليل} قال: النهار كله.

فيكون على هذا قوله: "قالا خيمتي أم معبد" على حالها من القيلولة التي هي النزول في القائلة عند شدة الحر نصف النهار لاستراحة أو نوم أو غيرهما, ويحتمل أن تكون اللفظة ضحى بالفتح من قولهم: "ضحى الطريق" إذا ظهر وبدا, فكأن هزالهن ظهر من تساوكهن الذي هو مشيهن متمايلات من الضعف وهذا هو الأليق لو ثبتت الرواية بالفتح، والله أعلم.

و"الهزل" في قوله في رواية الطبراني: "يساوكهن هزلا" من قولهم: هزلت الدابة أهزلها بالكسر هزلاً "أعجفتها" فكأنه – والله أعلم –


#333#

يميلها بسوقه نحو المنزل فيزداد ضعفها لذلك.

وقد حكى صاحب "الأفعال" ابن القطاع: الهزل بالفتح كالهزل الذي هو ضد السمن وتفسيره بهذا أقوى, والله أعلم.

وقد روي "هزلى" جمع هزيل بمعنى مهزول كقتيل وقتلى.

و"هلا" في رواية عباس الدوري وغيره, عن أبي أحمد بشر بن محمد السكوني, عن عبد الملك بن وهب, عن الحر بن الصياح النخعي, عن أبي معبد الخزاعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة هاجر من مكة .... وذكر الحديث بطوله, وفيه: فقل ما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافا هزلى مخهن قليل لا نقي بهن ... الحديث.

قال الشاعر:

إلى الله نشكو ما نرى بجيادنا ... تساوك هزلى مخهن قليل

وقوله: "والشاء عازب" يعني: قد عزبن عن اللبن فخرجن إلى المرعى, قاله أبو عبيد.

ويحتمل أن يكون من قولهم: إبل عزيب لا تروح عن الحي، ويقال: عزب [يعزب] بضم الزاي وكسرها غاب وخفي فهو عازب، وقيل: العازب: البعيد من قولهم: "كلأ عازب" أي: بعيد.


#334#

وقوله: "الشاء عازب": ولم يقل: عازبة حملاً على لفظ الشاء؛ لأنه كالجنس.

و"الحلوب" بالفتح: ذات لبن تحلب, وفي الرواية الأخرى: "ولا حلوبة" بالهاء, قيل: على أصل التأنيث, وقيل هو الحلوب واحد والحلوبة جماعة,وقيل: هما سواء, وهذا أكثر.

قال الزبيدي في "مختصر العين": وناقة حلوبة [وحلباة] وحلبانة للتي تحلب.

و"الوضاءة": الجمال, يقال: رجل وضئ بين الوضاءة, وامراة وضيئة بينة الوضاءة.

و"الأبلج الوجه", والمتبلج: الحسن المشرق المضئ, ولم ترد به بلج الحواجب: وهو البياض بين الحاجبين؛ لأنها وصفته بالقرن، وسيأتي تعليل ذلك قريباً – إن شاء الله تعالى.


#335#

وقولها: "حسن الخلق" هو بالضم كناية عن حسن الأوصاف الباطنة من الحلم والكرم والشجاعة والمروءة, ونحو ذلك, وحسن الخلق بالفتح كناية عن حسن الأوصاف الظاهرة في الوجه والبدن والأعضاء.

و"الثجلة" بالمثلثة والجيم عظم البطن مع استرخاء أسفله, ومن رواه بالنون والحاء المهملة فمعناه النحول وهو الدقة وضعف التركيب، إلا أنهم لم يستعملوا النحلة بمعنى النحول.

و"الصقلة" بالقاف: طول الصقل وهو الخصر كالخاصرة التي هي وسط الإنسان, وقيل: ضمور ذلك وقلة لحمه من قولهم: صقلت الناقة إذا أضمرتها بالسير.

ويروى "سقلة" بالسيين وهو بمعناه على إبدال الصاد سيناً لأجل القاف.

و"الصعلة" بفتح الصاد: صغر الرأس, يقال: صعل يصعل صعلاً فهو


#336#

صعل وأصعل, أي: دقيق الرأس, وقيل: الصعلة دقة العنق مع صغر الرأس.

و"الوسيم": المشهور بالحسن, كأن الحسن صار له سمة – يعني علامة.

و"القسيم": الحسن القسيمة وهي أسفل الوجه عند محجر الدمع, وقيل: هو من القسام وهو الحسن، ورجل مقسم الوجه, وقسيم الوجه, كأن كل موضع منه قد أخذ من الحسن والجمال قسماً فهو كله جميل ليس فيه ما يستقبح.

وفي "مختصر العين" لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب: القسيم الحسن الخلق والخلق.

و"الدعج": شدة سواد العين مع سعتها, يقال: عين دعجاء.


#337#

وفي "مختصر العين" لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب: الدعج شدة سواد العين وبياضها.

وكذا قال الزبيدي في "مختصره" لكنه لم يذكر: وبياضها.

وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده الأندلسي الضرير في كتابه "المحكم": الدعج والدعجة: السواد, وقيل: شدة السواد, وقيل: الدعج: شدة سواد سواد العين, وشدة بياض بياضها, دعج دعجاً.

وهو معنى قولها في الرواية الأخري: أحور.

وقولها: "وفي أشفاره وطف" الأشفار: حروف الأجفان التي تلتقي عند التغميض والشعر نابت عليها, وذلك الشعر الهدب والأهداب.

و"الوطف": طول شعر الأشفار, وقيل: كثرة شعر الحاجبين


#338#

والأشفار واسترخاؤه مع الطول.

وأرادت بقولها: "وفي أشفاره" أي في شعر أشفاره، فحذفت المضاف.

ويروى "وفي أشفاره غطف" بالغين المعجمة.

قال أبو عبد الله الزبيدي في "مختصر العين": الغطف مثل الوطف, وقد غطف.

وقال أبو الحسين بن فارس: ويقال إن الغطف في الأشفار أن تطول ثم تنثني.

وفي رواية: "عطف" بالمهملة: من قولهم عطفت الشيء أملته, وظبية عاطف: تعطف عنقها, فعلى هذا يكون مرادها انعطاف شعر الأجفان


#339#

لطولها, والله اعلم.

و"الصحل": صوت شبيه بالبحة، ومعناه ليس بصافي الصوت ولا بشديده, ولكنه حسن.

وفي الرواية الأخرى: "صهل" بالهاء: أي: حدة, فلصلابته وقوته قالت: "وفي صوته صهل" مأخوذ من صهيل الفرس؛ لأنه بشدة وقوة يصهل.

و"السطع" – بالتحريك -: طول العنق, يقال: ظليم أسطع, أي: طويل العنق, وعنق سطعاء، وهو مما يمتدح به.

وقولها: "وفي لحيته كثافة" وهي اجتماع الشعر والتفافه مع الكثرة, وفي الرواية الأخرى "كثاثة", يقال: لحية كثة: أي: مجتمعة, وهو بمعنى الأول, وقيل: الكثة التي كثر نباتها من غير طول ولا رقة.

و"الأزج": المقوس الحاجبين في طول وامتداد إلى محاذاة آخر


#340#

العين مع الدقة والسبوغ.

وقال أبو الحسين [بن] فارس: والزجج دقة الحاجبين وحسنهما.

وقولها "أقرن": يشابه ما قدمناه في البشارات العيسوية به صلى الله عليه وسلم, وهو المقرون الحاجبين, ومعناه معنى الأقرن وهو المتصل رأسي حاجبيه مما يلي أعلى الأنف وهو غير محمود عند العرب.

ووصفه صلى الله عليه وسلم بالقرن في هذا غير المعروف من صفته صلى الله عليه وسلم قال أبو عبيد: ولم نسمع بهذه الكلمة في شيء من صفته صلى الله عليه وسلم إلا في هذا الحديث إنما صفته في الحاجبين البلج. انتهى.

ونفي القرن في صفته صلى الله عليه وسلم هو الصحيح كما جاء في حديث هند بن أبي هالة وغيره، قيل: ويمكن الجمع بينهما على أنه لم يكن بالأقرن ظاهرا ولا بالأبلج إذا تحقق بل كان بين حاجبيه فرجه يسيرة لا تبين اتصال شعر الحاجبين فيها، إلا لمن حقق النظر إليها، كما ذكر في صفة أنفه صلى الله عليه وسلم، فقال: يحسبه من لم يتأمله أشم، ولم يكن أشم، قاله بعضهم بنحوه.


#341#

وقولها: "إذا تكلم سما وعلاه البهاء" أي من كلامه بيان وارتفاع، قاله بعضهم، وقيل: سما أي: علا برأسه، أو بيده. قاله أبو موسى المديني.

و"النزر" القليل، وقيل: الاحتثاث والاستعجال كقوله عائشة -رضي الله عنها: لا يسرد الحديث كسردكم.

و"الهذر" -بالتحريك والمعجمة-: الهذيان، قاله أبو الحسين بن فارس.

وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب في "مختضر العين" هذر يهذر هذرا الكلام لا يعبأ به.

وكذا قال الزبيدي في "مختصره" لكنه سكن المصدر فقال: هذرا إذا أكثر الكلام بما لا ينتفع به.

وقولها في الرواية الأخرى: "أجهر الناس" الأجهر: الجميل الذي يروعك جماله وبهاؤه.


#342#

و"الربعة" من الرجال ما بين الطويل والقصير، يقال: "رجل ربعة" بسكون ثانيه ويحرك أيضا، و"رجل ربع" أيضا ومرتبع ومربوع: معتدل.

وقولها: "لا يأس من طول" يأس مصدر يئس منه ييأس، ويئس: أي انقطع أمله و"يأس" في قولها نكرة مفنوحة بلا النافية وخبره محذوف تقديره لا بأس منه أو فيه من طول، ومعناه - والله أعلم - أن ميله كان إلى جانب الطول أكثر من ميله إلى جانب القصر.

وفي الرواية الأخرى: "لا يائس من طول": فاعل بمعنى مفعول أي لا ميئوس منه لإفراط طوله.

وفي رواية: "لا تشنؤه من طول" أي لا تبغضه لفرط طوله.

وقولها: "ولا تقتحمه عين من قصر" كأنه من القحمة، وهي الأمر العظيم لا يركبه أحد فكأن العين لا تصل إلى احتقاره لقصره بل تقف


#343#

عند اعتداله ولا تجاوزه.

قال أبو عبيد: لا تزدريه فتنبذه ولكن تقبله وتهابه.

وفولها: "غصن بين غصنين": الغصن: ما تشعب عن سوق الشجر.

وقولها: "بين غصنين": أي ضرب اللحم ليس بنحيف ولا جسيم، قاله بعضهم.

ويحتمل أنها أرادت أن رفيقيه وهما أبو بكر وعامر بن فهيرة رضي الله عنهما كانا يكتنفانه في غدوه ورواحه كملازمة الغصنين للثالث بينهما، ويدل عليه قولها فيما بعد: "له رفقاء يحفون به" ثم أبانت حسنه وجماله وبهاءه على رفيقيه فقالت: "فهو أنضر الثلاثة منظرا".

وقيل: "يحفون به" أي يخدمونه ويجتمعون عليه ويقومون بأمره.

وقولها: "محفود" المحفود: الذي يخدمه أصحابه ويعظمونه ويسرعون في طاعته، يقال حفدت وأحفدت لغتان، إذا خدمت.

وقولها: "محشود" من قولهم: حشد القوم، اجتمعوا وحفوا في التعاون، فالمحشود الذي عنده حشد من الناس يخدمونه، واحتشد


#344#

القوم لفلان أي: جمعوا له.

فأرادت أم معبد بقولها: "محفود محشود" أن أصحابه يخدمونه ويعظمونه ويجتمعون إليه ويحفونه به صلى الله عليه وسلم.

وفي الرواية الأخرى: "محسود" بالسين المهملة بدل محشود، من الحسد: أي يحسد على ما جمع الله عز وجل فيه من الأخلاق الرضية والأوصاف الزكية والمعاني العلية المكتسبة والضرورية.

وقولها:" لا عابس ولا مفند".

"العابس" الكالح الوجه، المقطب عند اللقاء.

و"المفند": المنسوب إلى الجهل وقلة العقل، مأخوذ من "الفند" وهو إنكار العقل من هرم [يقال]: شيخ مفند، قاله الزبيدي في "مختصر العين".

وذكره بنحو أبو عبد الله الخطيب في "مختصره" وزاد بعد قوله: شيخ مفند، قال: ولا يقال: عجوز مفندة، لانها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها انتهى.


#345#

يقال: فند بالكسر فندا: ضعف رأيه من الهرم، وأفند في كلامه: أخطأ، وأفندته: خطأته، وأفنده الكبر مثله، وإذا كثر كلام الرجل من خرف فهو مفند بفتح النون وكسرها، والتفنيد في أحد معانيه: ضعف الرأي، وأيضا اللوم والتكذيب والتعجيز.

وقولها في الرواية الأخرى: "معتد" بدل "مفند"، وهو مفتعل من العدوان والظلم.

وقوله في الشعر: "فيا لقصي" هو بكسر اللام للتعجب.

وقوله: "ليهن" يروى بالهمز وتركه على التخفيف من الهنيء. وزان كريم، وهو كل أمر أتاك بلا مشقة ولا تبعة ولا مكروه.

و"المرصد": موضع الرصد، وهم القوم الذين يرصدون الطريق.

و"الصريح" اللبن الخالص الذي لم يمزج، وقال أبو زيد الأنصاري في كتابه "اللبأ واللبن": ومنه الصريح وهو ما ذهبت رغوته. انتهى.

و"ضرة الشاة": أصل ضرعها الذي لا يخلو من اللبن، وقيل: هي الضرع كله، وقيل: ضرة الضرع لحمته.

و"المزبد": الذي علاه الزبد، وإنما يكون ذلك مع كثرة نزوله وخروجه من الضرع، ومزبد: صفة لصريح.


#346#

وأما الرواية الأخري: "فتحلبت عليه صريحا ضرة الشاة مزبد" فيكون جر مزبد على الجوار، كقولهم: جحر ضب، وإنما هو بالرفع لأنه صفة الجحر.

و"مزبد": صفة للصريح، فيكون منصوبا، لكن جر للمجاورة كما ذكرنا، وقيل: إنه مجرور على البدل من الشاة، وإنما لم يؤنثه حيث لم يجعله وصفا للشاة؛ لأنها معرفة، ومزبد نكرة فلا توصف بها، وأبدله منها لجواز إبدال النكرة من المعرفة وعكسه، والمذكر من المؤنث وعكسه.

وقوله: "فغادرها رهنا لديها لحالب.." البيت. أي: ترك الشاة عندها لتكون معجزة له عند من أراد حلبها وتصديقا لحكاية أم معبد عنه.

وقوله في الرواية الأخرى:

هل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمايتهم هاد به كل مهتد

قال ابن الأنباري: هكذا أنشدناه ابن ناجية: - يعني: عن مكرم – وهو صحيح الوزن مضطرب المعنى.

قال بعضهم: يريد أن البيت يحتاج إلى واو العطف: أي: هل يستوي ضلال قوم سفهاء وهاد به كل مهتد، فاضطراب معناه بحذف الواو.

ويمكن أن يخرج له وجه حسن ويكون "يستوي" بمعنى "يستقيم


#347#

ويكمل" أي: هل يستقيم ضلال قوم سفهاء، ويكون قوله: "هاد به كل مهتد" كلام مستأنف راجع إلى قوله: "ربهم" في البيت قبله يعني قوله: "هداهم به بعد الضلالة ربهم".

قال: أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم: به يهتدي كل مهتد، ويجوز أن تكون "به" متعقة بـ"هاد" أي مهتد هاد به.

ويجوز أن تجعل "يستوي" على بابها من التسوية بين الشيئين وحذف المساوي بينهما: كقوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} فحذف ذكر الثاني وهو في التقدير: ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، ودل عليه بقوله تعالى: {أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا}.

قال ابن الأنباري: وفي غير روايته – يعني غير رواية ابن ناحية:

وما يستوي جهال قوم تسكعوا ... عمى وهداة يهتدون بمهتد

قال: فهذا على هذه الرواية ثبت صحيح الوزن والمعنى. انتهى.

وقد تقدم في رواية يعقوب بن شيبة من "مسنده" لكنه قال: "يقتدون بمهتد".

وقوله في هذا البيت: "تسكعوا" أي ترددوا في الباطل وتحيروا وتمادوا فيه.

وقوله: "حلت عليهم بأسعد" جمع قلة للسعد وهو اليمن.


#348#

$[معجزة]$

ومن الغرائب في قصة أم معبد ما قال محمد بن سعد في كتابه "الطبقات": أخبرنا علي بن محمد، عن يعقوب بن داود، عن شيخ من بني جمح قال: لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم أم معبد فقال: ((هل من قرى؟)) قالت: لا، فانتبذ هو وأبو بكر، وراح ابنها بشويهات، فقال لأمه: ما هذا السواد الذي أراه منتبذا؟ قالت: قوم طلبوا القرى، فقلت: ما عندنا قرى، فأتاهم ابنها، فاعتذر وقال: امرأة ضعيفة، وعندنا ما تحتاجون إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انطلق فائت بشاة من غنمك)) فجاء وأخذ عناقا، فقالت أمه: أين تذهب؟ قال: سألاني شاة، قالت: يصنعان بها ماذا؟ قال: ما أحبا، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها وصرتها فتحفلت، فحلب حتى ملأ قعبا، وتركها أحفل ما كانت، وقال: ((انطلق بها إلى أمك وائتني بشاة أخرى من غنمك)) فأتى أمه بالقعب، فقالت: أنى لك بهذا؟ قال: من لبن فلانة، قالت: وكيف ولم تقر سائلا قط، أظن هذا واللات الصابئ الذي بمكة، وشربت منه.


#349#

ثم جاء بعناق أخرى فحلبها حتى ملأ القعب، ثم تركها أحفل ما كانت، ثم قال ((اشرب)) فشرب، ثم قال: ((جئني بأخرى)) فأتاه بهلا فحلب وسقى أبا بكر ثم قال: ((جئني بأخرى)) فأتاه بها، فحلب، ثم شرب وتركهن أحفل ما كن.

وروى يحيى بن زكريا بن [أبي] زائدة: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني، سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى:

عن أبي بكر رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم فمررنا بخباء أعرابية عجوز، فجلسنا قريبا منه، فرفعت جانب الخباء، فقالت: يا هذان، إن كنتما تريدان القرى فعليكم بعظيم الحي، فسكتا عنها، فلما كان عند المساء جاء بني لها يفعة بأعنز لها، فأخذت شفرة فدفعتها إليه، فجاء بالشفرة وبعنز من تلك الأعنز، فقال: تقرئكما أمي السلام وتقول: اذبحا هذا فكلا وأطعمانا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للغلام: ((رد الشفرة وائتني بقعب أو قدح)) قال: إن غنمنا قد غرزت، قال: فذهب الغلام فجاء به فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضرع الشاة، ثم حلب، فملأ القدح فقال: ((اذهب بهذا إلى أمك، وائتني بأخرى)) فمسح الضرع، ثم حلب فسقى الغلام، ثم حلب فسقاني، ثم حلب فشرب، فنمت غنم المرأة وكثرت وأقبلت تقول: مذ رأينا المبارك، ومذ مر بنا المبارك، قال:


#350#

فجلبت جلبا إلى المدينة، فرآني ابنها، فقال: يا أماه، هذا والله الرجل الذي كان مع المبارك، فقامت إلي وسلمت علي، وقالت: يا هذا من الرجل الذي كان معك، فوالله ما زلنا ننظر في خير مذ رأيناه؟

قال: قلت لها: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قالت: فدلني عليه.

قال: فانطلقت وهي معي، فدخلت عليه وأهدت له شيئا من أقط من متاع الأعراب، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت.

هذه القصة كانت في خروج أبي بكر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر الهجرة، ذكر ذلك يعقوب بن شيبة في "مسنده" وقال: والحديث إلى الضعف ما هو، وصالح ليس بالساقط، وابن أبي ليلى قد روى الناس عنه، وفي حديثه ضعف، حدثناه محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة .. فذكره.

قلت: تابعه أسد بن موسى بن إبراهيم الأموي – أسد السنة – فرواه عن يحيى، والحديث فيه انقطاع بين عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي بكر رضي الله عنه.


#351#

&[حديث هند بن أبي هالة وما في معناه في نعوت النبي صلى الله عليه وسلم]&

وحديث أم معبد الذي ذكرناه واتبعناه بما يوضح غريبه، ومعناه من أقوال الأئمة وعلماء الأمة قد احتوى على جملة من الصفات النبوية والشمائل المحمدية، وهي مندرجة مع غيرها في الحديث المعظم المنسوب إلى هند بن أبي هالة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم وأخي أولاده من أمهم خديجة.

وهو حديث عظيم، وإن تكلم فيه وضعف بعض من يرويه، فقد احتوى على جملة من الأخلاق الشريفة وانطوى على عدة من الأوصاف العالية المنيفة، لم نسمع في الطوالات مثله، ولم نر فيهن شكله، حاشا حديثا واهي السند، فيه من ليس بالمعتمد، آثار التركيب عليه ظاهرة، وعلامات التوليد به دائرة: من رواية صبيح بن عبد الله القرشي الفرغاني بن درغشتك وهو صاحب مناكير، كما قاله الخطيب في "التخليص" عن عبد العزيز بن عبد الصمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، وهشام بن عروة، عن أبيه:


#352#

عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: كان من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قامته أنه لم يكن بالطويل البائن ...وذكر الحديث مطولا جدا – سيأتي إن شاء الله تعالى بكماله، لأنه من ضرب حديث هند وأمثاله، لكن حديث هند، وإن كان يتكلم في حديثه كما قاله البخاري، فإنه أمثل إسنادا من ذلك عند من يباري، وقد رأينا أن نجعله لحديث أم معبد تاليا ليكون كتابنا بالحلية الشريفة حاليا.

$[طرق حديث هند بن أبي هالة]:$

وليس كل الحديث من قول هند، كما يأتي بيانه فيما بعد، وقد اشتهر بهند بين الأئمة.

وروي من طريق جمة، خرج الترمذي غالبه في كتابه "الشمائل" مقطعا في أماكن، رواه عن سفيان بن وكيع، حدثنا جميع بن عمير بن عبد الرحمن العجلي إملاء من كتابه، حدثني رجل من بني تمبم: من ولد هند بن أبي هالة زوج خديجة – أم المؤمنين [رضي الله عنه]- يكنى أبا عبد الله، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سألت خالي هند بن أبي هالة ...وذكره.

تابعه زكريا بن يحيى السجزي، وأبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر" وأبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، وعنه حدث به أبو بكر الآجري في كتابه "الشريعة" عن سفيان.


#353#

وأبو عبد الله التميمي هذا ذكره ابن حبان في "الثقات".

وخرج الحديث أبو محمد دعلج في "مسند المقلين" فقال: حدثنا ابن شيرويه، حدثنا إسحاق، أخبرنا عمرو بن محمد القرشي، حدثنا جميع بن عمير العجلي، عن رجل من بني تميم من ولد أبي هالة – سماه غير عمرو: يزيد بن عمر - عن أبيه، عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سألت هند بن أبي هالة، وأشار إلى الحديث، ولم يذكره، إسحاق - هو ابن راهويه.

ورواه زكريا بن يحيى السجزي عنه، وعن علي بن محمد بن أبي الخصيب قالا: أخبرنا عمرو بن محمد العنقزي، حدثنا جميع بن عمر العجلي – من بني ضبيعة – فذكر الحديث.

ورويناه من طريق محمد بن أبي يحيى بن عمر العدني، حدثنا عمر بن خالد القرشي حدثنا عبد الرحيم بن مطرف الرؤاسي، عن عمرو بن محمد، عن جميع بن عمير العجلي - من بني ضبيعة – عن يزيد بن فلان التميمي - من ولد أبي هالة - عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله – يعني مثل حديث قبله في صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرجه الحاكم في "مستدركه" من حديث علي بن عبد العزيز،


#354#

حدثنا أبو غسان، حدثنا جميع بن عمير العجلي، حدثني رجل من ولد أبي هالة التميمي، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: سألت خالي هند بن أبي هالة التميمي –وكان وصافا- عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكر الحديث بطوله.

اختصره الحاكم.

تابعه محمد بن سعد في "الطبقات" وأبو بكر أحمد بن أبي خيثمة، ويعقوب بن سفيان في "تاريخيهما" عن مالك بن إسماعيل النهدي، زاد يعقوب وسعيد بن حماد الأنصاري المصري جميعا، عن جميع به.

ورواه يعقوب شيبة في "مسنده" فقال: حدثناه أبو غسان مالك ابن إسماعيل النهدي، حدثنا جميع بن عمر - كذا – بن عبد الرحمن العجلي .. فذكر ما كان في الحديث عن الحسن، عن الحسين بن علي، عن علي رضي الله عنه فقط.

وقال يعقوب: وليس إسناده بالقوي، وذكر أن يحيى بن معين ضعفه ووهى مخرجه.

وقال أبو القاسم بن عساكر: حديث محفوظ من حديث جميع بن عمر الكوفي رواه عنه الكبار: كعمرو بن محمد العنقزي وأبو غسان مالك بن


#355#

إسماعيل بن زياد النهدي وغيرهما، كما رواه سفيان بن وكيع بن الجراح الرؤاسي عنه ... . انتهى.

وهو من أفراد جميع.

وحدث به الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ, عن أبي محمد: الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب العقيقي صاحب كتاب "النسب" ابن أخي أبي طاهر العلوي قال: حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالمدينة سنة ثلاث وستين ومائتين, حدثنا علي بن جعفر بن محمد, عن أخيه موسى بن جعفر, عن جعفر بن محمد, عن أبيه محمد بن علي, عن علي بن الحسين قال:

قال الحسن بن علي: سألت خالي هند بن أبي هالة عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم – وكان وصافاً – فذكر الحديث بطوله.

قال إسماعيل بن محمد حين فرغ من الحديث: حدثنا علي بن جعفر بن محمد سنة تسع ومائتين قيل له: من حفظه؟ قال: نعم,


#356#

قيل له: متى مات علي بن جعفر؟ قال: سنة عشر ومائتين بعدما حدثنا بسنة.

قال الحاكم: هذا حديث غريب عال, من حديث أهل البيت متصل متين, ثقات رجاله, لا أعلم أحداً حدث به غير إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر الصادق بإسناده.

قال: وإنما يعرف هذا الحديث من حديث سفيان بن وكيع بن الجراح, عن جميع بن عمير بن عبد الرحمن, عن جماعة من المجهولين, عن الحسن. انتهى.

ورويناه من طريق أبي علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان, حدثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله ... فذكره بطوله.

ورواه الطبراني فقال: حدثنا البغوي, حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر الصادق, حدثني عمي علي بن جعفر، عن أخيه موسى.... فذكر كثيراً من الحديث.

ورواه سعد بن طريف, عن أصبغ بن نباتة، عن الحسن، عن هند.

وجاء من حديث ابن عباس, عن هند, وذلك فيما قال يعقوب بن


#357#

سفيان في "تاريخه": حدثنا أبو بشر بن قعنب، حدثني إسحاق بن صالح المخزومي, عن يعقوب التيمي: عن عبد الله بن عباس أنه قال لهند بن أبي هالة التميمي – وكان وصافاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم: - صف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعلك أن تكون أثبتنا به معرفة, قال: كان – بأبي هو وأمي – طويل الصمت, دائم الفكر, متواتر الأحزان, إذا تكلم تكلم بجوامع الكلام, لا فضل ولا تقصير, إذا حدث أعاد, وإذا وعظ جد وماد, وإذا خولف أعرض وأشاح, يتروح إلى حديث أصحابه, يعظم النعمة وإن دقت, ولا يذم ذواقاً, ويتبسم عن مثل حب الغمام.

تابعه بشر بن موسى, وأبو حاتم محمد بن إدريس، عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب, حدثني إسحاق بن صالح .... فذكره.

ويعقوب التيمي هو ابن زيد بن طلحة بن عبد الله بن أبي مليكة التيمي أبو عرفة، وقيل: أبو يوسف حجازي، لم يلق ابن عباس, فحديثه هذا منقطع.


#358#

وأتم الطرق سياقاً لحديث هند رواية جعفر بن محمد التي ذكرنا إسنادها قبل, ومن طريقه نورد الحديث الآن مع شواهد وقعت لنا نذكرها في أماكنها مميزة من الحديث.


#359#

$[شواهد حديث هند بن أبي هالة في وصف النبي صلى الله عليه وسلم]$

قال جعفر بن محمد, عن أبيه محمد بن علي, عن علي بن الحسين قال: قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: سألت خالي هند بن [أبي] هالة عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم – وكان وصافاً وأنا أرجو أن يصف لي منها شيئاً أتعلق به – قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً.

"الفخم": الضخم وسيأتي – إن شاء الله تعالى – في قول هند في وصفه صلى الله عليه وسلم: عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس, وفيه أيضاً: بادناً: أي: ضخماً تام اللحم.

وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما المتفق عليه: بعيد ما بين المنكبين.

وخرج أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" في مسند جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: حدثنا ابن معمر, حدثنا أبو داود, حدثنا قيس, عن عبد الملك بن عمير, عن نافع بن جبير بن مطعم, عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا بالقصير, ضخم الرأس واللحية، ضخم الكراديس مشرباً حمرة إذا مشى تكفأ تكفؤاً, كأنما يمشي في صعد, حسن الثغر لم أر قبله مثله.


#360#

ورواه يزيد بن هارون: حدثنا شريك، عن عبد الملك بن عمير, عن نافع بن جبير بن مطعم, عن أبيه, عن علي رضي الله عنه: أنه وصف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان عظيم الهامة, أبيض مشرباً حمرة, عظيم اللحية ضخم الكراديس, شثن الكفين والقدمين, طويل المسربة, كثير شعر الرأس رجله يتكفأ في مشيته كأنما يتحدر في صبب, لا طويل ولا قصير، لم أر مثله قبله ولا بعده.

ورواه أبو بكر بن أبي شيبة, وعلي بن حكيم، وإسماعيل بن بنت السدي, ومحمد بن سعيد بن الأصبهاني وعبد الله بن محمد, عن شريك, عن عبد الملك بن عمير، عن نافع بن جبير بن مطعم.

ورواه المسعودي, عن عثمان بن مسلم بن هرمز, عن نافع بن جبير، عن علي نحوه.

تابعه مسعر, عن عثمان بن عبد الله بن هرمز, عن نافع. كذا قال مسعر: "عثمان بن عبد الله" بخلاف المسعودي.


#361#

وجاء في "مسند أحمد" على الصواب فقال: حدثنا وكيع، أخبرنا المسعودي, عن عثمان بن عبد الله بن هرمز، عن نافع بن جبير بن مطعم, عن علي رضي الله عنه .... فذكره.

وهكذا حدث به أحمد بن سنان القطان في "مسنده", عن يزيد بن هارون، عن المسعودي.

وجاء من حديث ابن جريج, عن صالح بن سعيد أو سعيد، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن علي نحوه.

ومن حديث أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان, عن حجاج، عن عثمان, عن أبي عبد الله المكي، عن نافع بن جبير قال: سئل علي


#362#

رضي الله عنه عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم.. فذكره بنحوه.

وهذا الحديث له طرق إلى علي رضي الله عنه منها: ما روي عن حماد بن سلمة، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي بن أبي طالب, عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم الرأس, عظيم العينين, هدب الأشفار, مشرب العينين بحمرة, كث اللحية, أزهر اللون, شثن الكفين والقدمين, إذا مشى تكفأ كأنما يمشي في صعد, وإذا التفت التفت جميعاً.

خرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" قال: فحدثناه حجاج بن المنهال وداود بن المحبر بن قحذم قالا: حدثنا حماد بن سلمة .... فذكره.

وحدث به أحمد في "مسنده" عن عفان وحسن بن موسى, قالا: حدثنا حماد ... فذكره.

تابعهما يونس عن حماد.


#363#

وقال يعقوب في "مسنده" أيضا: حدثناه عبد الله بن مسلمة, ومسدد بن مسرهد, وعبد الله بن محمد, وسياق الحديث عن ابن قعنب, قالوا: حدثنا عيسى بن يونس، عن عمر مولي غفرة قال: حدثني إبراهيم بن محمد من ولد علي قال: كان [علي] رضي الله عنه إذا نعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم يكن بالطويل الممغط ولا القصير المتردد, كان ربعة من القوم لم يكن بالجعد القطط ولا السبط, كان جعداً رجلا, لم يكن بالمطهم ولا المكلثم, وكان في الوجه تدوير أبيض مشرب, أدعج العين, أهدب الأشفار جليل المشاش والكتد، أجرد, ذو مسربة, شثن القدمين والكفين, إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً, بين كتفيه خاتم النبوة,وهو خاتم النبيين, أجود الناس كفا, وأجرأ الناس صدرا, وأصدق الناس لهجة, وأوفى الناس بذمة, وألينهم عريكة, وأكرمهم عشرة, من رآه بديهة هابه, ومن خالطه معرفة أحبه, يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.


#364#

تابعهم إسحاق بن إسماعيل والعلاء بن عمرو الحنفي، عن عيسى بن يونس السبيعي.

فيه انقطاع؛ لأن إبراهيم هو ابن محمد ابن الحنفية.

قال يعقوب بن شيبة: ولو كان عن إبراهيم بن محمد, عن أبيه محمد ابن الحنفية لكان مسنداً, ولكنه نقص من إسناده رجلا، وقد أخرجه غير واحد من أصحابنا في "المسند", وإنما ذكرناه لتعرف قصته ولا يشتبه أمره.

وقد قال علي بن المديني في هذا الحديث: كنت أرى أن إبراهيم بن محمد الذي روى عنه عمر مولى غفرة هذا الحديث: إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.


#365#

قال علي: فبلغني عن الثقة أنه رواه عن عمر مولى غفرة، عن إبراهيم بن محمد بن علي بن أبي طالب وأمه الحنفية وعمر بن عبد الله مولى غفرة, وغفرة بنت رباح أخت بلال بن رباح – يعني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان عمر يكنى أبا حفص, مات بعد مخرج محمد بن عبد الله بالمدينة سنة خمس وأربعين ومائة.

ورواه يعقوب أيضاً في "المسند" قال: فحدثناه يعلى بن عبيد، حدثنا مجمع بن يحيى، عن عبد الله بن عمران, عن رجل من الأنصار سأل علياً رضي الله عنه عن نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان صلى الله عليه وسلم أبيض اللون مشربا بحمرة, أدعج العين, سبط الشعر, كث اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة, كأن عنقه إبريق فضة، من لبته إلى سرته شعر يجري كالقضيب, ليس في صدره ولا في بطنه شعر غيره, شثن الكف والقدم, إذا مشى كأنما يتحدر في صبب، وإذا ما مشى فكأنما يتقلع من صخر, إذا التفت التفت جميعاً, كأن عرقه اللؤلؤ ولريح عرقه أطيب من ريح المسك الأذفر, ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا العاجز ولا اللئيم لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.


#366#

وخرجه أحمد في "مسنده" عن وكيع، عن مجمع بن يحيى, عن عبد الله بن عمران الأنصاري, عن علي.

وقال يعقوب أيضاً: حدثناه مسدد, حدثنا خالد بن عبد الله – يعني الواسطي – حدثنا عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه: عن جده قالوا: يا أبا حسن, انعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان أبيض مشرباً بياضه حمرة, أهدب الأشفار, أسود الحدقة لا قصير ولا طويل, وهو إلى الطول أقرب، من رآه جهره, عظيم المناكب, في صدره مسربة, لا جعد ولا سبط, شثن الكف والقدم، كأن عرقه اللؤلؤ, إذا مشى تكفأ كأنه يمشي في صعد, لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.

وحدث به مختصراً يعقوب بن سفيان في "تاريخه" عن سعيد – يعني: ابن منصور – حدثنا خالد بن عبد الله .... فذكره.

وحدث به مختصراً قاسم بن ثابت في "الدلائل" فقال: أخبرناه أبو العلاء, حدثنا عمر بن السكن الواسطي, حدثنا خالد بن عبد الله، عن عبيد الله بن محمد بن عمر, عن أبيه, عن جده علي بن أبي طالب ... فذكره.


#367#

$[شرح حديث هند بن أبي هالة في نعت النبي صلى الله عليه وسلم]$

وهذه الأحاديث التي ذكرناها فيها ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان فخماً في بعض خلقته: كصدره العريض، وبعد ما بين منكبيه وعظم هامته وضخامة كراديسه, وجلالة مشاشه وكتده.

وقال ابن الأنباري والقتبي فيما حكاه عنهما أبو عبيد الهروي في قول هند: "فخماً مفخماً" قالا: أراد أنه كان عظيماً معظماً في الصدور, ولم تكن خلقته في جسمه الضخامة ومنه قول العجاج:

دع ذا وبهج حسبا مبهجاً ... فخما وسنن منطقاً مزوجاً

وحكي عن أبي نصر أحمد بن حاتم: الفخامة الجهارة, وعن أبي عبيد: الفخامة في الوجه نبله وامتلاؤه مع الجمال والمهابة انتهى.

وهذا هو الأليق بتفسير قوله: "فخماً" والله أعلم؛ لأن الفخم الضخم, وقد قدمنا ما كان من خلقته صلى الله عليه وسلم ضخماً جسيماً جاءت الأحاديث الصريحة بذلك ولكنها ضخامة مع جمال وبهجة, وفخامة مع حسن وهيبة, ولهذا والله أعلم أتبع هند قوله: "فخماً" قوله: "مفخماً"


#368#

أي: معظماً مهيباً عند الناس, كما في حديث خالد بن عبد الله الواسطي المذكور آنفاً.

قوله: "من رآه جهره":

قال قاسم بن ثابت في "الدلائل" أي: أكبره وأعظمه, يقال: أجتهرت الجيش, إذا كبروا في عبني, ويقال منه: رجل جهير, إذا كان ذا منظرة بن الجهارة.


#369#

قال: وأخبرني محمد بن عبد الله, عن الرياشي قال: اجتهرت الجيش إذا كبر في عينك, واجتهرني الرجل إذا كبرت في عينه.

قال هند: "يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر":

التلألؤ: الإشراق والاستنارة, ويسمى القمر لليلة الرابعة عشر من الشهر بدراَ؛ لأنه يبادر ليلتئذ غروب الشمس بطلوعه من المشرق, وقال ابن فارس: وسمي البدر بدراً لتمامه.

جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه, وإذا ضحك يتلألأ في الجدر.

خرجه الترمذي بنحوه في "جامعه" و"الشمائل".

وفي رواية: كأن القمر يجري في جبهته.

وجاء عن محمد بن السائب الكلبي, عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظل, ولم يقم مع الشمس قط إلا علا ضوؤه على ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوؤه على ضوء السراج.


#370#

وفي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة أضحيان فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر - وعليه صلى الله عليه وسلم حلة حمراء – فإذا هو عندي أحسن من القمر.

خرجه الترمذي في "جامعه" وقال: هذا حديث حسن غريب.

وفي رواية: قال جابر: فكان في عيني أزين من القمر.

وخرجه الحاكم في "مستدركه" بنحوه, وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وحدث به يعقوب بن سفيان في "تاريخه" فقال: حدثنا محمد بن عبد العزيز الرملي، حدثنا القاسم بن غصن، عن الأشعث, عن أبي إسحاق: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم [في] ليلة ضحياء وعليه حلة حمراء، فجعلت أمايل بينه وبين القمر، فلهو أحسن في عيني من القمر.

وللحديث طرق:

منها: ما حدث به القاسم بن ثابت في "الدلائل" عن موسى بن هارون, حدثنا الحسن بن حماد الوراق, حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, سمعت أشعث بن سوار, عن أبي إسحاق .... فذكره.

وقال: قال الفراء: ليلة أضحيانة وضحياء إذا كانت مضيئة.

وقال غيره: ليلة ضحيانة ويوم أضحيان, وهو الذي لا غيم فيه.


#371#

وقال: [قال] أبو حاتم: عن أبي عبيدة: وهي الليلة التي لا يغيب فيها القمر, ولا يستره غيم ولا غيره, يقال: أضحيان وأضحيانة وضحياء, ومنه قيل: فرس أضحى ولا يقولون: أبيض.

قال: والأضحى منه أخذ؛ لأنهم لا يصلون حتى تطلع الشمس.

وخرج دعلج في كتابه "مسند المقلين" فقال: حدثنا ابن شيرويه, حدثنا إسحاق, أخبرنا الفضل بن موسى, عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد, عن جامع بن شداد, عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق ذي المجاز وعليه جبة حمراء وهو يقول: ((يا أيها الناس, قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) ورجل يتبعه يرميه بالحجارة وقد أدمى عرقوبيه وكعبيه وهو يقول: أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذاب.

فقلت: من هذا؟ قالوا: غلام بني عبد المطلب.

قلت: من هذا الذي يتبعه ويرميه بالحجارة؟ فقالوا: هذا عبد العزي أبو لهب.

قال: فلما ظهر الإسلام خرجنا في ركب حتى نزلنا قرب المدينة ومعنا ظعينة فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فقال: من أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة – قال: ومعنا جمل – قال: أتبيعون هذا الجمل؟ قلنا: نعم, قال: بكم: بكذا وكذا


#372#

صاعاً من تمر, قال: فأخذه ولم يستنقصنا, وقال: قد أخذته.

قال: ثم توارى بحيطان المدينة, قال: فتلاومنا فيما بيننا فقلنا: أعطيتم جملكم رجلاً لا تعرفونه, قال: فقالت الظعينة: لا تلاوموا, فإني رأيت وجه رجل لم يكن ليخفركم, ما رأيت شيئاً أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه.

قال: فلما كان من العشاء أتانا رجل فسلم فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول: إن لكم أن تأكلوا حتى تشبعوا, وتكتالوا حتى تستوفوا, فأكلنا حتى شبعنا, واكتلنا حتى استوفينا.

ثم قدمنا المدينة من الغد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب على المنبر وهو يقول: ((يد المعطي العليا, وابدأ بمن تعول: أمك وأباك, وأختك وأخاك, ثم أدناك أدناك)) .... الحديث.

تابعه سنان بن هارون, وعبد الله بن نمير, ويونس بن بكير, عن يزيد بن زياد مختصرا, ورواية سنان مطولة.

وقدمنا رواية ابن نمير.

ورواه عثمان بن أبي شيبة، عن ابن نمير مطولاً.

وألزم الدارقطني الشيخين إخراجه في "الصحيح" كذلك, وقد


#373#

ذكرناه قبل.

ورواه إسحاق بن راهويه، عن يحيى بن أبي حية, عن جامع بن شداد بنحوه.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين, حدثنا أبو جناب وهو يحيى بن أبي حية, عن أبي صخرة جامع بن شداد .... فذكره بنحوه مطولا.

وخرجه الدارقطني في "سننه" فقال: حدثنا أبو عبيد القاسم بن إسماعيل, حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان, حدثنا ابن نمير, عن يزيد بن زياد .... فذكره بطوله.

وحدث محمد بن يونس الكديمي, عن شاصونة بن عبيد، حدثني معرض بن عبد الله بن معيقيب اليماني, عن أبيه, عن جده قال: حججت حجة الوداع, فدخلت داراً بمكة فرأيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه كأنه دارة القمر .... الحديث.

وسيأتي بكماله إن شاء الله تعالى.


#374#

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا سعيد, حدثنا يونس بن أبي يعفور العبدي, عن أبي إسحاق الهمداني, عن امرأة من همدان سماها قالت: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم مرات على بعير له يطوف بالكعبة بيده محجن, عليه بردان أحمران يكاد يمس منكبه، إذا مر بالحجر استلمه بالمحجن, ثم يرفعه إليه فيقبله.

قال أبو إسحاق: فقلت لها: شبهيه, قالت: كالقمر ليلة البدر لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.

وثبت عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال وسأله رجل: كان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا, بل مثل الشمس والقمر, وكان مستديراً.

وقال أبو حسان بن الحسن بن عثمان: أخبرني عبد الله بن محمد بن حميد, حدثني إبراهيم بن عيسى، حدثنا عبد الله بن موسى التيمي, عن أسامة بن زيد, عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار, قال: قلت للربيع ابنة معوذ: صفي لنا النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كنت إذا رأيته رأيت الشمس طالعة.

تابعه إبراهيم بن المنذر الحزامي، ويعقوب بن محمد الزهري، عن عبد الله بن موسى التيمي.


#375#

وتقدم من حديث علي رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكان في الوجه تدوير.

وروى سعيد بن منصور: حدثنا خالد بن عبد الله, عن سعيد بن إياس الجريري, عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض مليح الوجه.

تابعه وهب بن بقية الواسطي وغيره, عن خالد الواسطي.

وله طرق سيأتي بعضها إن شاء الله تعالى.

وقال الواقدي: حدثني شيبان, عن جابر, عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فما أنسى [شدة] بياض وجهه وشدة [سواد] شعره, إن من الرجال من هو أطول منه, ومنهم من هو أقصر منه, يمشي ويمشون حوله, قلت لأمي: من هذا؟ قالت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.


#376#

ورواه دعلج في كتابه "مسند المقلين" من طريق إسرائيل, عن جابر، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

وحدث أبو الأحوص, عن عبد الله – يعني ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه ويساره حتى يرى بياض خده: السلام عليكم ورحمة الله.

ورواه أبو إسحاق السبيعي, عن عبد الرحمن بن الأسود, عن أبيه وعلقمة, عن ابن مسعود نحوه، وفيه: حتى يرى بياض خديه .... الحديث.

وقال أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن موسى السلمي في كتابه "المواعظ والوصايا": أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد العزيز المحتسب, حدثنا داود بن سليمان بن خزيمة البخاري – بكرمينية – حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا عمرو بن محمد, حدثنا أبو عبيدة معمر بن المثنى, حدثني هشام بن عروة, عن أبيه: عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كنت قاعدة أغزل والنبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله, فجعل جبينه يعرق, وجعل عرقه يتولد نوراً, فبهت, فنظر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما لك يا عائشة بهت؟!)) قلت: جعل جبينك يعرق، وجعل عرقك يتولد نوراً, ولو رآك أبو [كبير] الهذلي لعلم أنك أحق بشعره, فقال: ((وما يقول أبو كبير؟)) قلت يقول:


#377#

ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل

وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل

قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل بين عيني، وقال: ((جزاك الله يا عائشة خيراً, ما سررت كسروري منك)).

وحدث به الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله في كتابه "الحلية" عن إبراهيم بن أحمد الهمداني, حدثنا أوس بن أحمد بن أوس, حدثنا داود بن سليمان بن خزيمة .... فذكره إلى آخر الشعر.

تابعه أبو بكر أحمد بن محمد بن يوسف بن الحكم بن موسى بن هميان البخاري, عن البخاري.


#378#

وقوله: "ومبرأ" قيل: هو منصوب عطفاً على قوله:

فأتت به حوش الفؤاد مبطناً ... سهداً إذا ما نام ليل الهوجل

وأنشده الجوهري في "صحاحه" مجروراً, وذكر أنه معطوف على قوله: "ولقد سريت على الظلام بمغشم".

وهو قوي؛ لأن أبا تمام حبيب بن أوس الطائي أنشده في كتاب "الحماسة" قبل قوله: "فأتت به حوش الفؤاد".

فقال: وقال أبو كبير الهذلي:

ولقد سريت على الظلام بمغشم ... جلد من الفتيان غير مثقل

ممن حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فشب غير مهبل

ومبرأ من كل غير حيضة ... .... البيت.

و "أبو كبير" هذا بفتح الكاف وكسر الموحدة وآخره راء, واسمه


#379#

عامر بن ثابت بن عبد شمس بن خالد بن عمرو بن عبد كعب بن مالك بن كعب بن كاهلة بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل الهذلي الشاعر وقيل: اسم أبيه الحليس, وقيل: الحلس.

وحدث أبو كريب, عن معاوية بن هشام, عن شيبان، عن جابر الجعفي، عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فما أنسى بياض وجهه مع شدة سواد شعره فقلت لأمي: من هذا؟ فقالت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[وخرج الخرائطي في كتابه "مكارم الأخلاق" عن البراء رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم] أحسن الناس وجهاً وأحسنه خلقاً.


#380#

*قال هند: "أطول من المربوع وأقصر من المشذب":

"المشذب": من قولهم فرس مشذب أي: طويل, وكل شيء محيته عن شيء فقد شذبته، وجذع مشذب ونخلة مشذبة: شذب عنها سعفها فيتفحش طولها عند الرائي. وبهذا المعنى فسر المشذب بالبائن الطول في نحافة.

وأما تفسير أبي محمد عبد الله بن قتيبة "المشذب" بأنه الطويل البائن الطول, فغلطه أبو بكر بن الأنباري في ذلك فقال: هذا غلط لأنه لا يقال للبائن الطول إذا كان كثير اللحم مشذب حتى يكون في لحمه بعض النقصان. انتهى.

وصح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان [النبي صلى الله عليه وسلم] ليس بالطويل


#381#

البائن ولا بالقصير.

وقال البراء رضي الله عنه في حديثه: لم يكن بالقصير ولا بالطويل.

وتقدم في حديث علي رضي الله عنه: لا طويل ولا قصير.

وأيضاً في رواية عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي: لا قصير ولا طويل وهو إلى الطول أقرب.

وجاء عن أبي هريرة نحوه.

وفي رواية: لم يكن بالطويل الممغط، ولا القصير المتردد.

والممغط – بتشديد الميم الثانية وزانه أصلا "منفعل" وأدغمت النون


#382#

في الميم فقيل: ممغط: [من قولهم] مغطت الشيء إذا مددته، وقيل في معناه هنا: هو الطويل المضطرب، وقيل: معناه معنى المشذب.

والقصير المتردد: الداخل بعضه في بعض قصرا، وقال أبو الحسين ابن فارس: والمتردد المجتمع الخلق.

وأما قول البراء رضي الله عنه: كان صلى الله عليه وسلم رجلا مربوعا، لا ينافي قول هند: كان أطول من المربوع، فمراد هند – والله أعلم - أنه صلى الله عليه وسلم كان إلى الطول أقرب، كما في حديث علي رضي الله عنه.

وقال البراء: كان رجلا مربوعا، على بابه أي: معتدلا بين الطويل والقصير كما جاء مصرحا به عن البراء نفسه كما قدمناه عن علي رضي الله عنه وغيره.

ويحتمل أن يكون المربوع في قول هند كالمتردد في حديث علي.

وقد حكى أبو زيد سعيد بن أوس: رمح مربوع أي: قصير.

وحكى غيره منهم الزبيدي في "مختضر العين" وأبو الحسين ابن فارس في "مجمله" رمح مربوع: بين الطويل والقصير.

فعلى ما حكاه أبو زيد: يتنزل قول هند، وعلى ما حكاه الآخرون: يتنزل قول البراء، والله أعلم.


#383#

قال أبو محمد عبد الحق الإشبيلي في كتابه "الأوسط في الأحكام": وذكر أبو محمد – يعني: ابن حزم - في المرتبة الرابعة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان [النبي] صلى الله عليه وسلم ربعة فإذا مشى مع الطوال طالهم.

قلت: جاءت الرواية بنحوه فيما قال يعقوب بن سفيان في "تاريخه"، وابن سعد في "الطبقات" والفظ له: أخبرنا سعيد بن منصور، حدثنا نوح بن قيس الحداني، حدثني خالد بن خالد التميمي، عن يوسف بن مازن الراسبي، أن رجلا قال لعلي [بن أبي طالب] رضي الله عنه: انعت لنا النبي صلى الله عليه وسلم، صفه لنا. قال: كان ليس بالذاهب طولا وفوق الربعة، إذا جاء مع القوم غمرهم، أبيض ... وذكر الحديث.

تابعه نصر بن علي، عن نوح فيما حدث به عنه الإمام أحمد في "مسنده".

وخرجه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" فقال: حدثنا أبو بكر قاسم بن زكريا المطرز، حدثنا نصر بن علي، أخبرنا نوح بن قيس


#384#

الحداني، حدثنا خالد بن خالد، عن يوسف بن مازن: أن رجلا سأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، انعت لنا النبي صلى الله عليه وسلم، صفه لنا قال: كان ليس بالذاهب طولا وفوق الربعة، إذا جاء مع القوم غمرهم، أبيض شديد الوضح، ضحم الهامة، أغر أبلج هدب الأشفار، شثن الكفين والقدمين إذا مشى يتقلع كأنما ينحدر في صبب كأن العرق في وجهه اللؤلؤ، لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.

وتقدم في "البشارات العيسوية" [به] صلى الله عليه وسلم: إذا جاء مع الناس غمرهم.

وتقدم في أحاديث ذكر الخاتم الشريف في حديث مصنوع إسناده واه بمرة، عن علي في وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: وإذا قام غمر الناس، وإذا قعد [علا] على الناس.


#385#

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا صبيح بن عبد الله الفرغاني، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: كان من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قامته لم يكن بالطويل البائن ولا المشذب الذاهب -والمشذب: الطول نفسه، إلا أنه المخفف – ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالقصير المتردد وكأنه ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده، ولم يكن على ذلك يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما فإذا فارقاه نسبا إلى الطول ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الربعة ويقول صلى الله عليه وسلم: ((جعل الخير كله في الربعة)).

وسيأتي الحديث بطوله إن شاء الله تعالى.

*قال هند: "عظيم الهامة":

"الهامة" الرأس أو وسطه ومعظمه، أو ما بين حرفيه، وفي حديث علي رضي الله عنه: عظيم الهامة أيضا، وفي بعض طرقه: ضحم الرأس.

*قال هند: "رجل الشعر".

يقال: شعر رجل وزان كتف، ورجل وزان سبب ويسكن: أي ليس بشديد الجعودة ولا السبوطة، بل بينهما.

وفسره أنس رضي الله عنه في حديثه المتفق عليه فقال: وكان شعره ليس بجعد


#386#

ولا سبط.

وخرجه الترمذي في "الشمائل" وفي بعض طرقه: ليس بالجعد القطط ولا السبط.

وعن علي رضي الله عنه نحوه.

و"الشعر الجعد القطط": المتناهي الجعودة كشعر الزنوج، يقال: قطط الشعر بالكسر - وهو نادر فيما عده ابن فارس في "المجمل" قططا بفتحتين: اشتدت جعودته.

وروي قوله: "ليس بالجعد القطط" بفتح القاف وكسر الطاء بعدها، ولا يأباه القياس.

و"السبط" بفتح أوله وكسر ثانيه، وبفتح ثانيه أيضا ويسكن، وقد تكسر السين مع السكون لثانيه ككتف وكتف وهو الشعر المسترسل الذي لا جعودة فيه أصلا.

*قال هند: "إن انفردت عقيقته"، -وفي رواية: عقيصته – "فرق وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفره".

و"العقيقة": في الأصل: شعر الرأس الذي يولد الصبي به، وسميت الذبيحة عن المولود في سابعه عقيقة؛ لأن شعره الذي هو


#387#

العقيقة يحلق في السابع وتركه بلا حلق تعده العرب عيبا وشحا وسمي شعر النبي صلى الله عليه وسلم عقيقة كما هو في هذا الحديث؛ لأن العقيقة أصله ومنها نباته.

وذهب بعضهم إلى أن العقيقة في هذا الحديث تصحيف من العقيصة بالصاد مكان القاف الثانية، وليس بشيء وقد وردت بها الراواية أيضا.

و"العقيصة" الشعر المجموع كهيئة المضفور، وقيل: هي الخصلة من الشعر إذا عقصت، والعقص أن تأخذ المرأة الخصلة من الشعر فتلويها ثم تعقدها حتى يبقى التواؤها ثم ترسلها.

ومعنى قوله: "إن انفرقت عقيقته فرق وإلا فلا" أي: إن انفرق من ذات نفسه فرق وإلا تركه مسدولا، لأنه صلى الله عليه وسلم كان في صدر الإسلام يحب


#388#

موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بأمر، فسدل ثم فرق بعد كما في حديث ابن عباس- رضي الله عنه.

و "الفرق": أن يجعل شعر رأسه فرقتين كل فرقة ذؤابة.

و "السدل" إرسال الشعر على الوجه كالقصة شعر الناصية.

وقوله: "وفره" أي: أعفاه عن الأخذ منه، فإذا أعفاه تجاوز شحمة أذنيه وإذا لم يعفه لا يجاوزها.

وشحمة الأذن: طرفها الأسفل.

وحدث إسماعيل ابن علية، عن حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شعره إلى أنصاف أذنيه.

وروى العلاء بن سالم: حدثنا أبو الوليد المخزومي، حدثنا سهيل، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم وفرة إلى شحمة أذنبه .. الحديث.

قال الحافظ ابو محمد يحيى بن صاعد: ليس هذا بسهيل بن أبي صالح، هذا شيخ من أهل المدينة.


#389#

وقال الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه "المزيد" أبو الوليد المخزومي اسمه خالد بن إسماعيل، وقد حدث عن عبيد الله بن عمر العمري فلا تستنكر أن يروي عن سهيل بن أبي صالح السمان، ويغلب على ظني أنه عنه روى هذا الحديث الحديث. انتهى.

وقال أبو أمية الطرسوسي: حدثنا محمد بن الصلت الأسدي، حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط، حدثنا إياد، عن أبي رمثة رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه بردان أخضران وله وفره بها ردع حناء.

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" حدثنا عفان، حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط .. فذكره مطولا.

وسيأتي إن شاء الله قريبا.

وخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة.

وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" وذكر أنه أنه من أفراد ابن أبي الزناد.


#390#

وجاء في حديث محمد بن جعفر - غندر - حدثنا شعبة، سمعت أبا إسحاق، سمعت البراء رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا مربوعا بعيد ما بين المنكبين عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه عليه حلة حمراء ما رأيت شيئا قط أحسن منه.

خرجه أحمد في "مسنده" عن غندر.

وخرجه أبو جعفر أحمد بن منيع بن عبد الرحمن البغوي في "مسنده" فقال: حدثنا أبو قطن، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه قال: كانت جمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تضرب شحمة أذنيه.

وأبو قطن: شيخ البغوي، وهو عمرو بن الهيثم بن قطن بن كعب القطعي البصري أحد الثقات.

وفي بعض طرقه الصحيحة عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، وقال في آخره: قال أبو إسحاق: سمعته - يعني البراء - يحدث بهذا الحديث مرارا وما حدث به قط إلا ضحك.

وروى الحسين بن إسماعيل المحاملي من حديث أنس رضي الله عنه قال:


#391#

كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جمة جعدة، فإذا كان الشعر إلى شحمة الأذنين سمي وفرة، فإذا زاد فوق الوفرة سمي جمة فإذا بلغ المنكبين فهو لمة.

وقد صح عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم له شعر يضرب منكبيه.

وجاء في حديث سيأتي - إن شاء الله تعالى - بطوله: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشطه بالمشط كأنه حبل الرمل أو كأنه المتون التي تكون في الغدر إذا سقفتها الرياح فإذا نكثه بالمرجل أخذ بعضه بعضا، وتحلق حتى يكون متحلقا كالخواتم.

وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان له ضفائر أربع.

وروي عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا مكة وله أربع غدائر.

رواه أبو بكر بن أبي شيبة وعبد الله بن مسلم ويحيى بن عبد الحميد وغيرهم عن سفيان بن عيينه، عن ابن أبي نجيح.

حدث به أبو داود عن النفيلي، حدثنا سفيان.

وخرجه الترمذي في "جامعه" وحكى عقيبه عن البخاري أنه قال: لا أعرف لمجاهد سماعا من أم هانئ.


#392#

و"الغذائر": عقائص الشعر.

وفي رواية عن أم هانئ رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا ضفائر أربع.

وقال دعلج بن أحمد في "مسند المقلين" حدثنا إسحاق بن خالويه، حدثنا عباس بن الوليد، حدثنا سفيان، [عن ابن أبي نجيح ومنصور، عن مجاهد، عن رجل من ثقيف قال منصور: سفيان بن الحكم] أو الحكم بن سفيان أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قدومه إلى مكة وله أربع غدائر يعني به الشعر.

وقال الطبراني: حدثنا محمد بن إدريس الحلبي، حدثنا سهل بن صالح الأنطاكي، حدثنا وكيع، عن همام، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ضفائر في رأسه.

وفي حديث خرجه ابن أبي خيثمة في "تاريخه" يأتي إن شاء الله تعالى بطوله فيه في ذكر شعره: ربما جعله غدائر أربع تخرج الأذن اليمنى من بين


#393#

غديرتين يكتنفانها، وتخرج الأذن اليسرى من بين غديرتين يكتنفانها، وتخرج الأذنان ببياضهما من بين تلك الغدائر كأنها توقد الكواكب الدرية بين سواد شعره صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو محمد دعلج في كتابه "مسند المقلين" أخبرنا معاذ بن المثنى، حدثنا أبو بكر بن أبي الأسود واسمه عبد الله بن محمد بن حميد ابن أخت عبد الرحمن بن مهدي، حدثني محمد بن سليمان القرشي ويقال له: ابن المسمول، حدثنا عبيد الله بن سلمة بن وهرام، عن أبيه، عن ميل بنت مسرع الأشعرية: أن أباها كان يأخذ من شعره وأظفاره ثم يدفنه ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله هكذا قال: "بنت مسرع"، وقال غيره: بنت مشرح.

وروي عن وكيع، عن الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر تسريح رأسه ولحيته بالماء.

رواه أبو الشيخ الأصبهاني عن مسلم بن سعيد، حدثنا مجاشع، حدثنا


#394#

وكيع .. فذكره.

ورواه هشام بن علي، عن سهل بن تمام، عن الربيع بن صبيح، عن يزيد، عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه، وكان يسرح لحيته بالماء وكان يكثر القناع.

*قال هتد: "أزهر اللون":

"الأزهر" في أحد معانيه: الأبيض، وأيضا القمر، والزاهر والأزهر من ألوان الرجال المشرق، وبه يفسر أزهر اللون أي: مشرقه منيره، وقيل: حسنه.


#395#

وقد ورد تفسيره في حديث أنس الصحيح أنه قال: أزهر اللون ليس بأبيض أمهق ولا آدم، وهو أحسن الألوان.

وفسر قول أنس رضي الله عنه هذا: "ليس بأبيض أمهق": أي: ليس بكريه البياض كالجص، بل كان نير البياض.

وقال محمود بن غيلان المروزي في "تاريخه": حدثنا النضر بن شميل، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض كأنما صيغ من فضة.

وحدث به الترمذي في "الشمائل": عن أبي داود المصاحفي سليمان بن سلم، حدثنا النضر بن شميل.. فذكره.

وقال أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي: حدثنا منصور بن أبي مزاحم التركي، أخبرنا روح بن مسافر، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد البياض كثير الشعر، يضرب شعره


#396#

منكبيه.

وروي من حديث عمرو بن عون، حدثنا خالد، عن الجريري، حدثني أبو الطفيل رضي الله عنه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وما بقي أحد اليوم رآه غيري. قلت: ما كانت صفته؟ قال: كان أبيض مليح الوجه.

تابعه سعيد بن زيد، وعباد بن العوام، وعبد الوارث، وعبد الأعلى السامي، وغيرهم، عن سعيد الجريري نحوه، ولفظه: قال قلت: فهل تنعت من رؤيته؟ قال: نعم، كان مقصدا أبيض مليحا.

وله طرق، وهو في "صحيح مسلم" و "سنن أبي داود"، و"الشمائل" تأليف الترمذي.

و "المقصد": المعتدل الذي ليس بجسيم ولا قصير.

وقال النسائي في "السنن الكبرى": وأخبرنا قتيبة، حدثنا سعيد بن


#397#

أبي مزاحم، [قال: حدثنا مزاحم بن أبي مزاحم] عن عبد العزيز بن عبد الله، عن محرش الكعبي رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الجعرانة فعلم أهل الجعرانة بمدخله فاجتمعوا عليه وكثروا فكأني أنظر إلى بياض جنبه كأنه بياض قضبان فضة، فرقع يديه ثم قال: (( أيها الناس، إليكم عني)) فتنحوا عنه حتى جاء إلى المسجد، فركع ما شاء الله، ثم أحرم، ثم استوى على راحلته، فاستقبل بطن سرف حتى لقي طريق مكة فأصبح بمكة كبائت.

وقال أبو بكر بن [أبي] خيثمة في "تاريخه" حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر، حدثنا ابن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، عن مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد الله: أن محرشا الكعبي أخبره: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرنة ثم أصبح كبائت، قال: فرأيت ظهره كأنه سبيكة فضة.


#398#

تابعهما ابن جريج، فرواه عن مزاحم بن أبي مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بنحوه، وفي حديثه: فنظرت إلى ظهره صلى الله عليه وسلم كأنه سبيكة فضة.

خرجه الترمذي في "جامعه" من طريق ابن جريج وقال: حديث غريب، ولا يعرف لمحرش الكعبي غير هذا الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهكذا قال أبو بكر أحمد بن عبد الله البرقي: جاء عنه حديث.

لكنه ذكر ابن الجوزي في أصحاب الثلاثة، وذكر قول البرقي بنحوه، وقال في ترجمة محرش: وأكثر الروايات محرش بكسر المين مع الحاء المهملة، وقيل: مخرش بكسرها مع الخاء المعجمة. انتهى.

وهكذا قاله ابن جريج.

قال الشافعي: وأصاب ابن جريج لأن ولده عندنا بنو مخرش.

وذكره الأمير أبو نصر ابن ماكولا في "إكماله" بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الراء، وآخره شين معجمة.

وقال أبو بكر أحمد بن عبد الله البرقي في "تاريخه" في ترجمة محرش هذا: قال الحميدي: كان سفيان يقول: "محرش" مرة،


#399#

ومرة يقول: "مخرش".

وقال يونس بن عبد الأعلى: حدثنا عبد الله بن وهب، وأخبرني [ابن] لهيعة والليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين حين سأله الناس فأعطاهم من البقر والغنم والإبل حتى لم يبق من ذلك شيء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أعطيتكم من البقر والغنم والإبل حتى لم يبق من ذلك شيء فماذا تريدون؟ أتريدون أن تبخلوني؟ ما أنا بالبخيل ولا جبان ولا كذوب)) فجذبوا ثوبه حتى بدت رقبته فكأنما حين بدا منكبه مثل شقة القمر من بياضه.

وفي حديث أم معبد عاتكة بنت خالد الذي قدمناه قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضائة.

وتقدم في حديث علي رضي الله عنه: أبيض مشرباً حمرة.

وفي رواية: أبيض اللون مشرباً حمرة.

وفي رواية: أبيض اللون ومشرباً بياضه حمرة.

وفي رواية عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرباً وجهه حمرة.

وخرج أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" حديثاً في الوصف الشريف, سيأتي إن شاء الله تعالى.


#400#

وقد نعته صلى الله عليه وسلم بعض من نعته بذلك بأنه مشرب حمرة, وقد صدق من نعته بذلك, ولكن إنما كان المشرب منه حمرة ما ضحا للشمس والرياح فقد كان بياضه من ذلك قد أشرب حمرة, [و] ما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر لا يشك فيه أحد, فمن وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه أبيض أزهر فعنى ما تحت الثياب فقد أصاب, ومن نعت ما ضحا للشمس والرياح بأنه أزهر مشرب حمرة فقد أصاب, ولونه الذي لا يشك فيه الأبيض الأزهر, وإنما الحمرة من قبل الشمس والرياح, وكان عرقه صلى الله عليه وسلم في وجهه مثل اللؤلؤ أطيب من المسك الأذفر صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو حبيب العباس بن القاضي أحمد بن محمد البرتي: حدثنا عبد الأعلى بن حماد, حدثنا معتمر, عن حميد: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس لوناً.


#401#

*قال هند: "واسع الجبين".

جاء في طريق الزبيدي, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان مفاض الجبين.

"المفاض": الضخم.

وتقدم في "البشارات العيسوية" به صلى الله عليه وسلم: الصلت الجبين, والصلت: الأملس.

وروينا أن عائشة رضي الله عنها وصفت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كان والله كما قال فيه شاعره حسان بن ثابت رضي الله عنه:

متي يبد في الداج البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد

فمن كان أو من قد يكون كأحمد ... نظام لحق أو نكال لملحد

قال هند: "أزج الحواجب سوابغ من غير قرن":

"الزجج": دقة الحاجبين مع التقوس.


#402#

و"سوابغ": أي: طوال إلى محاذاة آخر العين.

وقوله: "من غير قرن" أي: من غير التقاء طرفيهما متصلاً مما يلي أعلى الأنف, والعرب يستحبون البلج ويستحسنونه على القرن.

و"البلج": خلو ما بين رأس الحاجبين مما يلي أعلى الأنف من الشعر.

وقول أم معبد في وصفه صلى الله عليه وسلم: "أزج أقرن" تقدم تعليله, ولله الحمد.


#403#

وقوله: "الحواجب" وإنما هما حاجبان جمعهما لأن كل اثنين فما فوقهما جمع. قال الله تعالى: {وكنا لحكمهم شاهدين}.

وصاحبا الحكم: داود وسليمان عليهما السلام.

*قال هند: "بينهما عرق يدره الغضب":

"بينهما": أي بين الحاجبين, ولم يذكرهما قبل بلفظ التثنية, بل قال: "الحواجب" وضعها – وهي جمع – موضع الحاجبين على مذهب من جعل التثنية جمعاً, ومنه قوله تعالى في شأن داود وسليمان – عليهما السلام – {وكنا لحكمهم شاهدين} على أحد التأويلين وقد تقدم فلما قال هند: "بينهما" رد الضمير إلى التثنية على المعنى دون اللفظ.

ومعنى "يدره" هنا يحركه ويظهره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا غضب امتلأ ذلك العرق دماً فيظهر ويرتفع.

وفي "الصحيح" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: وإذا كره شيئاً عرفناه في وجهه.

وله شاهد من حديث عمران بن حصين.

وخرج أبو الشيخ الأصبهاني من طريق يحيى بن أبي بكير, عن جعفر بن زياد، عن جامع بن [أبي] راشد – قال جعفر: أحسبه عن


#404#

منذر الثوري عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب احمر وجهه.

وله شاهد عن المقداد بن الأسود.

وجاء عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته.

وخرجه أبو محمد ابن حيان أيضا: من حديث عبد الرحمن بن عبيد الله الحلبي, حدثنا عبيد الله بن إدريس, عن محمد بن عمرو بن علقمة, عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب .... فذكره.

وحدث أبو بكر بن [أبي] خيثمة في "تاريخه" عن الهيثم بن خارجة, حدثنا رشدين بن سعد المهري.

وقال: حدثنا محمد بن بكير الحضرمي, حدثنا رشدين, عن عقيل, عن الزهري, عن أبي سلمة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اهتم أكثر مس لحيته.


#405#

قال: وقال بعضهم: يقبض عليها أو يخللها.

وقال الحسن بن سليمان: حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا رشدين بن سعد, عن عقيل, عن ابن شهاب, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اهتم أكثر مسح رأسه ولحيته فما أدري أيفتل عليها أم يخللها.

*قال هند: "أقني العرنين":

"القنا": احديداب في الأنف, قاله ابن فارس في "المجمل".

وقال الزبيدي في "مختصر العين": هو ارتفاع في أعلى الأنف, وقيل: القنا طول الأنف ودقة أرنبته مع ارتفاع وسطه.

و"العرنين": الأنف, وقيل: هو ما صلب من عظم الأنف, وقيل: العرنين أعلى الأنف وما دون القصبة.


#406#

قال ذو الرمة:

تثني النقاب على عرنين أرنبة ... شماء مارنها بالمسك مرثوم.

وبعضهم يطلق العرنين على الأنف كله خيشوماً ومرسناً ومعطساً, وعليه قول ذي الرمة أيضاً:

سافت بطيبة العرنين مارنها ... بالمسك والعنبر الهندي مختضب.

"سافت": شمت.

و"المارن": ما لان من طرف الأنف.

فعلى هذا: العرنين الأنف كله.

*قال هند: "له نور يعلوه": تقدم قول أبي هريرة رضي الله عنه: كأن


#407#

الشمس تجري في وجهه, وإذا ضحك يتلألأ في الجدر.

*قال هند: "ويحسبه من لم يتأمله أشم": الشمم: ارتفاع الأنف, وقيل: ارتفاع رأس الأنف مع طول القصبة ومعنى قول هند أن النبي صلى الله عليه وسلم لحسن قناه يحسبه الناظر إليه أشم؛ لأن قناه يميل قليلاً إلى الشمم.

وذكر أبو محمد عبد الحق الإشبيلي أنه صلى الله عليه وسلم كان حسن الأنف.

*قال هند: "كث اللحية": تقدم في حديث أم معبد قولها: "في لحيته كثاثة".

يقال: لحية كثة أي: مجتمعة الشعر. وقيل: الكثة التي كثر نباتها من غير طول ولا رقة.

وتقدم في حديث علي رضي الله عنه كث اللحية.

وفي رواية: عظيم اللحية.

وخرج يعقوب بن سفيان في "تاريخه": من طريق الزبيدي [قال: أخبرني الزهري محمد بن مسلم] عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود


#408#

اللحية حسن الثغر.

وقال قيس بن حفص بن القعقاع الدارمي أبو محمد: حدثنا سليم ابن الحارث [أخو خالد بن الحارث], سمعت جهضم بن الضحاك يقول: مررنا بالزجيج, فرأينا فيها شيخاً, فإذا هو العداء ابن خالد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: صفه لي, قال: كان حسن السبلة قال: وكانت العرب أهل الجاهلية يسمون اللحية: السبلة.

خرجه دعلج في "مسند المقلين" لقيس بن حفص.

وحدث بنحوه البخاري في "تاريخه الكبير" فقال: قال لي قيس بن حفص، حدثنا سليم, سمعت جهضم بن الضحاك .... فذكره.

وعلقه في "التاريخ" عن عبدة, عن عبد الصمد, حدثنا جهضم .... فذكره.


#409#

وفي "مختصر العين" للزبيدي: والسبلة ما على الشفة العليا من الشعر.

وقال أبو الشيخ الأصبهاني: قال عبدان: حدثنا أبو كامل, حدثنا عمر بن هارون بن أسامة بن زيد, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ من طول لحيته وعرضها.

وحدث به الترمذي في "جامعه" عن هناد, عن عمر بن هارون به، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها.

تابعه مطين, عن هناد.

وقال الترمذي: غريب، وسمعت محمداً يقول: عمر بن هارون مقارب الحديث, لا أعرف له حديثاً ليس له أصل – أو قال: ينفرد به – إلا هذا الحديث.

قال الذهبي: وكان من أوعية العلم على ضعفه وكثرة مناكيره, وما أظنه ممن يتعمد الباطل.

وحدث الحسن بن صالح, عن سماك، عن عكرمة, عن ابن عباس


#410#

رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص شاربه, وكان أبوكم إبراهيم عليه السلام من قبله يقص شاربه.

خرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" للحسن.

وروي عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من شاربه على سواك.

وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن [أبي] عاصم النبيل في كتابه "الآحاد والمثاني": حدثنا ابن كاسب, حدثنا ابن أبي فديك, عن إبراهيم بن قدامة الجمحي, عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من شاربه وظفره يوم الجمعة.

قال أبو بكر بن أبي عاصم: أحسب هذا – يعني: عبد الله بن عمرو – رجلاً من بني جمح أدخله يعقوب في "مسند قريش" في الجمحيين.

وحدث به أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" عن ابن أبي عاصم النبيل, حدثنا الحسن بن علي الحلواني, حدثنا عمرو بن محمد, حدثنا محمد بن القاسم الأسدي، حدثنا محمد بن سليمان المسمولي, حدثنا عبيد الله بن سلمة بن وهرام, عن أبيه, عن


#411#

عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ شاربه وأظفاره كل جمعة, وفيه اضطراب.

منه ما رواه أبو الشيخ أيضاً عن علي بن الحسين الدوري, حدثنا أبو مصعب, حدثني إبراهيم بن قدامة, عن عبد الله بن محمد بن حاطب, عن أبيه, أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من شاربه أو ظفره يوم الجمعة.

وحدث به أيضاً عن بهلول الأنباري, حدثنا عتيق بن يعقوب, حدثنا إبراهيم بن قدامة، [عن أبي قدامة], عن أبي عبد الله الأغر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقص شاربه ويأخذ من أظفاره قبل أن يروح إلى صلاة الجمعة.

وخرج أيضاً من طريق يعقوب بن الوليد الأزدي, حدثنا هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا احتجم أو أخذ من شعره أو من ظفره بعث به إلى البقيع فدفنه.


#412#

$[ما روي في شعر رسول الله وشيبه وخضابه]$

وقد جاء أن شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد السواد.

قال أبو محمد دعلج في كتابه "مسند المقلين": حدثنا محمد بن يونس,. حدثنا عبد الله بن داود، عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فما أنسى شدة بياض وجهه وشدة سواد شعره, لا بالطويل ولا بالقصير, رأيته يمشي وأصحابه حوله منهم من هو أقصر منه, ومنهم من هو أطول منه، كأن عليه شعاع الشمس.

وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم شاب لكن لم يبلغ شيبه في رأسه ولحيته عشرين شعرة بيضاء, كما صح عن أنس أنس رضي الله عنه.

وورد تقليل الشيب أيضاً عن ابن عمر, وجابر بن سمرة, وعبد الله بن بشر, وغيرهم رضي الله عنهم.

وحدث أحمد بن سلمان النجاد الفقيه, عن هلال بن العلاء الرقي, حدثنا حسين بن عياش الرقي, حدثنا جعفر بن برقان, حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل قال: قدم أنس بن مالك المدينة, وعمر بن عبد العزيز وال عليها فبعث إليه عمر وقال للرسول: سله هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني رأيت شعراً من شعره قد لون؟ فقال أنس – رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد متع بالسواد ولو عددت ما أقبل علي من شيبه ولحيته ما كنت أزيدهن


#413#

على إحدى عشرة شعرة شيبة، وإنما هذا الذي لون من الطيب الذي كان يطيب به شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي غير لونه.

وخرج الترمذي في "الشمائل": من طريق عبد الرزاق, عن معمر, عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: ما عددت في رأس النبي صلى الله عليه وسلم إلا أربع عشرة [شعرة] بيضاء.

وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا علي بن الجعد, حدثنا زهير, عن حميد الطويل قال: سئل أنس رضي الله عنه عن الخضاب، قال: خضب أبو بكر بالحناء والكتم, وخضب عمر بالحناء وحده, قيل له: ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لم يكن في لحيته عشرون شعرة بيضاء, وأصغى حميد إلى رجل عن يمينه قال: كن سبع عشرة شعرة.

وحدث يعقوب بن سفيان، عن الحجاج بن منهال, حدثنا حماد بن سلمة, أخبرنا ثابت قال: قيل لأنس رضي الله عنه: هل كان شاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما شانه الله بالشيب,ما كان في رأسه إلا سبع عشرة أو ثمان عشرة شعرة.


#414#

وحدث الواقدي عن عمر بن عقبة بن أبي عائشة الأسلمي, عن المنذر بن جهم, عن الهيثم بن ذهر قال: رأيت شيب النبي صلى الله عليه وسلم في عنفقته وناصيته, حزرته يكون ثلاثين شيبة عدداً.

كذا قال الواقدي: ذهر.

وفي "صحيح مسلم" من حديث المثنى بن سعيد, عن قتادة, عن أنس رضي الله عنه قال: يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته, قال: ولم يخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان البياض في عنفقته وفي الصدغين وفي الرأس نبذ.

وجاء عن المثنى بن سعيد أيضاً ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يختضب إنما كان شمط العنفقة يسيراً, وفي الصدغين يسيراً, وفي الرأس يسيراً.

وقال إسماعيل بن أبي خالد: سمعت أبا جحيفة رضي الله عنه يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما يشبهه, قلت لأبي جحيفة: صفه لي، قال: كان أبيض قد شمط.

يقال: "شمط" بالكسر شمطاً بالتحريك إذا خالط سواد لحيته بياض.

وفي "المجمل" لابن فارس: الشمط اختلاط الشيب بالشباب.

وفي "مختصر العين" للزبيدي: الشمط اختلاط الشعر بالشيب.

وفي حديث أبي جحيفة هذا: أن الحسن رضي الله عنه كان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء هذا القول عن أبي بكر وعلي وأنس رضي الله عنهم.


#415#

$[ذكر جماعة ممن يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم]$

وقد كان جماعة يشبهون بالنبي صلى الله عليه وسلم:

أنشد الحافظ أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن أحمد ابن سيد الناس اليعمري الربعي – رحمه الله وإيانا – في كتابه "الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير" بيتين من نظمه جمع فيهما خمسة يشبهون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال:

لخمسة شبه المختار من مضر ... يا حسن ما خولوا من شبهه الحسن

لجعفر وابن عم المصطفى قثم ... وسائب وأبي سفيان والحسن


#416#

[قلت]: كأن أبا الفتح – رحمه الله [تعالى] – قلد الإمام الحافظ أبا عمر ابن عبد البر رحمه الله فإنه قال في كتابه "الاستعياب" في ترجمة أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه: يقال: إن الذين كانوا يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب, والحسن بن علي، وقثم بن العباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب, والسائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف. انتهى.

وقد فاتهما أحد عشر رجلاً لم يذكرهم أبو الفتح في البيتين المذكورين, ولا أبو عمر بن عبد البر.

*فالأول: إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حدث عن لقيه إبقراهيم – عليه الصلاة والسلام – ليلة المعراج قال صلى الله عليه وسلم: ((لم أر رجلاً أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه)).


#417#

وتقدم في قصة المعراج.

*والثاني: إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية:

وسيأتي [في] ترجمته إن شاء الله تعالى عند ذكر أمه.

قال أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "اعتلال القلوب": حدثنا القنطري, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثنا ابن لهيعة, عن يزيد بن أبي حبيب, عن عبد الرحمن بن شماسة المهري، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم إبراهيم مارية القبطية وهي حامل منه بإبراهيم ... وذكر الحديث, وفيه فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن الله عز وجل قد برأها وقريبها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها غلاماً وأنه أشبه الخلق بي, وأمرني أن أسميه إبراهيم, وكناني بأبي إبراهيم، فلولا أني أكره أن أحول كنيتي التي [قد] عرفت بها لاكتنيت بأبي إبراهيم كما كناني جبريل عليه السلام)).


#418#

*والثالث: الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنهما.

صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الحسين كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو عيسى الترمذي في "جامعه": حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن, أخبرنا عبيد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن هانئ بن هانئ, عن علي رضي الله عنه قال: الحسن أشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه النبي صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل من ذلك.

هذا حديث حسن غريب قاله أبو عيسى.

وحدث به أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه" عن مالك بن إسماعيل, حدثنا إسرائيل .... فذكره.

وهو في "صحيح أبي حاتم بن حبان" عن الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا شبابة, حدثنا إسرائيل ... فذكره بنحوه.


#419#

وخرجه أحمد في "مسنده" عن أسود بن عامر وحجاج – فرقهما – عن إسرائيل بنحوه.

ورواه إسماعيل بن مسلم, عن أبي إسحاق, عن رجل قد سماه، عن علي رضي الله عنه والرجل هو: هانئ بن هانئ المذكور قبل.

وجاء عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عاصم بن ضمرة, عن علي رضي الله عنه.

أخبرنا المسند الكبير الشهاب عبد الرحمن بن أبي عبد الله الفارقي, أخبرنا القاسم بن المظفر الدمشقي, أخبرناه أبو الحسن علي بن أبي عبد الله البغدادي – قراءة عليه وأنا أشهد – ومحمد بن أحمد القطيعي, ومحمد بن عبد الواحد بن المتوكل – إجازة – أن أبا بكر محمد بن عبيد الله بن الراعوني, أنبأهم, زاد البغدادي فقال: وأنبأنا أيضاً نضر بن نصر أبو القاسم الواعظ: ح.

وأخبرنا ابن الفارقي, حدثنا القاسم بن محمد الإشبيلي الحافظ، أخبرنا التقي إبراهيم بن علي وعبد الرحمن بن الزين أحمد، ومحمد بن مؤمن، قال: أخبرنا داود بن أحمد بن محمد، أخبرنا محمد بن عبيد الله الكرخي [ح] وقال التقي وابن الزين أيضا: [أخبرنا الحسن بن إسحاق بن موهوب]، أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الراعوني، قالوا: أخبرنا علي بن أحمد بن البسري – قراءة عليه ونحن نسمع –


#420#

أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن الذهبي، حدثنا أحمد – يعني ابن إسحاق بن البهلول القاضي - أخبرنا جعفر، حدثنا سفيان بن محمد بن سفيان المصيصي، حدثنا أشعث بن شعبة، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه قال: كان الحسن بن علي أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم من شعر إلى سرته، وكان الحسين بن علي أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن قدميه إلى سرته. اقتسما شبهه صلى الله عليه وسلم.

*والرابع: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه:

قال الإمام أحمد في "المسند" في مسند عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي سمعت محمد بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا استعمل عليهم زيد بن حارثه، فإن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة، فلقوا العدو، وذكر الحديث في قتل الأمراء ونعي النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، وفيه: قال: ثم أمهل - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: ((لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي ابني أخي)) قال: فجيء بنا كأنا أفراخ فقال: ((ادعوا لي الحلاق)).


#421#

فجيء بالحلاق فحلق رؤوسنا ثم قال: (( أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي)) ثم أخذ بيدي فأشالها فقال: ((اللهم اخلف جعفرا في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه)) قالها ثلاث مرات، وذكر بقية الحديث.

تابعه محمد بن سعد [فرواه] في "الطبقات" عن وهب بن جرير به.

وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الحراني فيما أملاه بجامع المنصور من بغداد: حدثنا محمد بن عبد الله الشافعى، حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، حدثنا محمد بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب – سكن البادية – حدثني موسى بن جعفر بن إبراهيم، عن أبيه جعفر قال: قال عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة ما أحب أن لي بها حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((جعفر أشبه خلقي وخلقي)) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأما أنت يا عبد الله فأشبه خلق الله بأبيك)).

*والخامس: عون بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي أخو عبد الله


#422#

رضي الله عنهما:

قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن منده في كتابه "معرفة الصحابة": عون بن جعفر بن أبي طالب رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ((أشبهت خلقي وخلقي)).

أخبرنا خيثمة بن سليمان، حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة، حدثنا العلاء بن عبد الجبار، حدثنا مهدي بن ميمون، عن محمد بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعون: ((أشبهت خلقي وخلقي)).

*والسادس: عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي ابن خالة عثمان بن عفان [لأن أم عثمان بن عفان] -أروى بنت كريز بن ربيعة وأم أروى وعامر ولهما صحبة [و] أم حكيم البيضاء: بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الزبير بن بكار في كتاب "النسب": فولد عامر بن كريز


#423#

عبد الله بن عامر رضي الله عنهما استعمله عثمان رضي الله عنه على البصرة، وعزل أبا موسى الأشعري فقال أبو موسى: قد أتاكم فتى قريش كريم الأمهات والخالات والعمات يقول بالمال فيكم هكذا وهكذا.

وقال الزبير أيضا: كان – يعني: عبد الله بن عامر – كثير المناقب هو افتتح خراسان وقتل كسرى في ولايته وأحرم من نيسابور شكرا لله عز وجل وهو الذي عمل السقايات بعرفة، قال عمي مصعب بن عبد الله: ويقال: إنه أتي به النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير فقال: ((هذا شبهنا)) وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفل عليه ويعوذه فجعل عبد الله يتسوغ ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه لمسقى)) فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء.

وأخرج الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه": من طريق مصعب بن عبد الله، عن أبيه، عن جده مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن حنظلة بن قيس أن عبد الله بن عامر بن كريز أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير فقال: ((هذا شبهنا)) وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفل عليه ويعوذه.

وحدث به محمد بن سليمان بن فارس، حدثننا عمر بن شبة، أخبرني أبو عبيدة النحوي أن عامر بن كريز أتى بابنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس سنين أو ست سنين فتفل النبي صلى الله عليه وسلم في فيه فجعل يزدرد ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتلمظ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ابنك هذا يسقى)) فكان


#424#

يقال: لو أن عبد الله قدح حجرا أماهه – يعني: - يخرج من الحجر الماء من بركته.

وقال أبو عمر بن عبد البر: وقيل لما أتي بعبد الله بن عامر بن كريز إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني عبد شمس: ((هذا أشبه بنا منه بكم)) ثم تفل في فيه فازدرده فقال: ((أرجو أن يكون مسقيا)) فكان كما قال صلى الله عليه وسلم. ذكره في "الاستيعاب".

ودليل قوله: "فكان كما قال" أن عثمان رضي الله عنه لما جمع لعبد الله بن عامر بن كريز بين ولاية البصرة وفارس شق نهر البصرة وعمل السقايات بعرفة، وكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء.

قال خليفة بن خياط: وفي سنة تسع وعشرين عزل عثمان أبا موسى الأشعري رضي الله عنه عن البصرة، وعثمان بن أبي العاص عن فارس، وجمع ذلك كله لعبد الله بن عامر بن كريز.

وقاله صالح بن الوجبه وزاد: وهو ابن أربع وعشرين سنة.

وذكر غيره أن عبد الله بن عامر أوصى إلى عبد الله بن الزبير ومات قبله بيسير، وكانت وفاته بمكة ودفن بعرفات، وكان كثير المناقب شيخا كريما، روي أن أضاف رجلا فأحسن قراه فلما عزم الرجل على الرحيل لم يعنه غلمان عبد الله بن عامر فقيل له في ذلك: فقال: [عن] غلماني لا يعينون من يرتحل عنا.

وقال أبو بكر عبد الله بن أبي الدنيا في كتابه "قضاء الحوائج" من


#425#

تأليفه: حدثنا الحسين بن عبد الرحمن يعني العرجي قال: دخل زياد الأعجم على عبد الله بن عامر بن كريز وأنشده:

أخ لك لا تراه الدهر إلا ... على العلات بساما جوادا

أخ لك ما مودته بمذق ... إذا ما عاد فقر أخيه عادا

سألناه الجزيل فما تلكا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا

وأحسن ثم أحسن ثم عدنا ... فأحسن ثم عدت له فعادا

مرارا لا أعود إليه إلا ... تبسم ضاحكا وثني الوسادا

لكن قال الحاكم في "مستدركه": أخبرنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا ابن عائشة، قال: دخل زياد الأعجم على عبد الله بن جعفر فسأله في خمس ديات فأعطاه، ثم عاد فسأله في خمس ديات أخر فأعطاه، ثم عاد فسأله في عشر ديات فأعطاه، فأنشد [يقول]:


#426#

سألناه الجزيل فما تلكا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا

وذكر البيتين بعده فقط.

*والسابع: كابس بن ربيعة بن مالك بن عدي بن الأسود بن حسم – بضم الحاء المهملة، وسكون السين المهملة، وقيل بفتحها – ابن ربيعة ابن الحارث بن سامة بن لؤي.

قال أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في كتابه "المؤتلف والمختلف": ولأهل البصرة رجل يقال له: كابس بن ربيعة - بالكاف - ابن مالك من بني سامة بن لؤي كان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم فوجه إليه معاوية رضي الله عنه فأشخصه لذلك فنظر إليه وقبل بين عينيه وأقطعه المرغاب، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا رآه بكى وقال: هذا أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم.

روى حديثه عباد بن منصور، رواه أبو الفتح عبد الكريم بن أحمد [بن محمد] بن القاسم المحاملي، وأبو القاسم الأزهري وغيرهما، عن الدارقطني.

قال ريحان بن سعيد الناجي - وكان صدوقا – : سمعت عباد بن


#427#

منصور - وهو الناجي - يقول: كان رجل منا يقال له: كابس بن ربيعة، فرآه أنس بن مالك رضي الله عنه فعانقه وبكى وقال: من أحب أن ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى كابس بن ربيعة... وذكر فيه قصة طويلة منها: فدفعه إلى معاوية رضي الله عنه وشهد سبعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له بما شهد أنس رضي الله عنهم.

وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: حدثني إبراهيم بن نعيم وأبو عثمان قالا: حدثنا محمد بن عمر المقدمي، حدثنا ريحان بن سعيد، سمعت عباد بن منصور، قال: كان رجل منا يقال له: كابس بن ربيعة يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأينا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه به من إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحد حسنا منه.

وقال إبراهيم الحربي: يعني أرق منه رقة حسن.

*والثامن: حفيد الحسن من وجه، وحفيد الحسين من آخر، وهو إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أمه: فاطمة بنت الحسين بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

يقال: إنه كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكره الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في "تاريخ بغداد".

وقال عبد الله بن صالح العجلي: حدثنا فضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسن قال: دخل علي المغيرة بن سعيد وأنا شاب، وكنت


#428#

أشبه – وأنا شاب – برسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر من قرابتي وشبهي وأمله في، ثم ذكر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يعني سبهما، فقلت: يا عدو الله أعندي، قال فخنقته خنقا حتى أدلع لسانه.

المغيرة هذا هو ذلك الرافضي الكذاب الساحر، ذو الافتراء على الله تعالى، وكان رأس الفرقة المغيرية، ادعت طائفة نبوته، قتله في جماعة من أتباعه خالد بن عبد الله القسري أمير العراق بالكوفة في حدود العشرين ومائة.

وإبراهين بن الحسن هذا روى عن أبيه عن جده، وعنه ابنه إسماعيل وكثير النواء. مات في حبس أبي جعفر المنصور بالهاشمية في شهر ربيع الأول سنة خمس وأربعين ومائة وهو ابن سبع وستين سنة، وهو أول من مات في الحبس من بني الحسن فيما قاله أبو نعيم الفضل بن دكين وغيره.

وكان سبب حبس بني الحسن أن أبا جعفر المنصور عام حج في حياة أخيه أبي العباس السفاح فشهده بنو هاشم، وتخلف محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وكان محمد بن عبد الله بن حسن يذكر أن أبا جعفر ممن بايع له ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر مروان مع سائر المعتزلة الذين كانوا معه هنالك، فلما استخلف أبو جعفر لم يكن لهم هم إلا طلب محمد، وبالغ في ذلك حتى اشترى رقيقا من رقيق الأعراب وفرق عليهم إبلا من الذود إلى البعيرين إلى البعير، وثبتهم


#429#

في طلب محمد.

فلما حج في سنة أربعين ومائة، أتاه والد محمد بن عبد الله وأخوه حسن ابنا حسن، فقال لعبد الله: أين ابنك؟ قال: لا أدري، قال: لتأتيني به، قال: لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه،، قال: يا ربيع، قم به إلى الحبس.

وانصرف أبو جعفر قافلا، وعبد الله بن حسن محبوس، وأقام في الحبس ثلاث سنين، وجد أبو جعفر في طلب ابنيه، ثم استعمل أبو جعفر على المدينة رياح بن عثمان بن حبان المرسي، وفي ولايته المدينة في سنة أربع وأربعين قيل لأبي جعفر: يا أمير المؤمنين تطمع أن يخرج لك محمد وإبراهيم وبنو حسن مخلون، والله للواحد منهم أهيب في صدور الناس من الأسد، فأمر أبو جعفر رياحا بأخذ بني حسن، فأخذ حسنا وإبراهيم ابني حسن بن حسن، وحسن بن جعفر بن حسن، وسليمان وعبد الله ابني داود بن حسن بن حسن، ومحمدا وإسماعيل وإسحاق بني إبراهيم بن حسن بن حسن، وعباس بن حسن بن حسن بن حسن، وأخاه عليا العابد.

والعابد هذا لما أخذ بنو حسن أتى إلى رياح متلففا في ساج له، فقال له رياح: مرحبا بك وأهلا ما حاجتك؟ قال: جئتك لتحبسني مع قومي، فحبسه معهم، فكانوا مدة إقامتهم في الحبس لا يعرفون وقت الصلوات إلا بأجزاء كان يقرؤها علي بن الحسن العابد، وحملوا من المدينة إلى العراق مقيدين في تلك السنة سنة أربع وأربعين إلى أن حبسوا بالهاشمية، وحبس معهم العثماني محمد بن عبد الله بن عمرو بن


#430#

عثمان وابنان له.

قال أبو نعيم الفضل بن دكين في قصر ابن هبيرة وكان في شرقي الكوفة مما يلي بغداد، فكان أول من مات منهم إبراهيم بن حسن ثم عبد الله بن حسن فدفن من حيث مات.

*والتاسع: العقيلي القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل ابن أبي طالب الهاشمي.

وقال أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا عبيد بن إسحاق العطار، حدثنا القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل وكان أشبه خلق الله تعالى برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حدثني أبي عبد الله بن محمد - وكان يدعو جده أباه – عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((من أنا))؟ قلنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((نعم)) .. وذكر الحديث.

ورواه محمد بن عمرو بن البختري الرزاز، حدثنا أحمد بن ملاعب، حدثنا عبيد بن إسحاق، حدثنا القاسم بن محمد.. وذكر الحديث مطولا بقصة في أوله.


#431#

*والعاشر: الرفاعي وهو أبو إسماعيل علي بن علي بن نجاد بن رفاعة اليشكري البصري العابد:

سماه مالك بن دينار راهب العرب، سمع أبا المتوكل الناجي والحسن وغيرهما، سمع منه أبو نعيم ووكيع وابن المبارك وعفان وعلي بن الجعد وآخرون.

قال أحمد بن حنبل: لم يكن به بأس.

وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب البرقاني في كتابه "اللقط": قرأت على أبي الطيب بن جعفر الحلواني بها حدثكم أبو جعفر محمد بن موسى بن عيسى التمار الحلواني، حدثنا الفضل بن زياد، سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذكر علي بن علي الرفاعي فقال: كان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو جعفر: وكل شيء روى نيف وعشرون حديثا.

وقال محمد بن عبد الله بن عمار: ما أظن له عشرين حديثا.

وقال: وكان زعموا يصلي كل يوم ستمائة ركعة، وكان تشبه عيناه – يعني النبي صلى الله عليه وسلم.


#432#

وقال عفان وأبو نعيم: كان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو حاتم: كان حسن الصوت بالقرآن ليس به بأس ولا يحتج به.

*الحادي عشر: الشبه، ويقال له: الشبيه، وهو أبو محمد يحيى بن القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي: وإنما لقب الشبيه لشبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان له في مثل موضع خاتم النبوة من النبي صلى الله عليه وسلم شامة عظيمة وكان إذا دخل الحمام ورآها الناس كبروا وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قدم مصر من أرض الحجاز لما أشخصه ابن طولون في مصادرة الرسيين وأهله، فخلت دور مصر ليلة قدومه ودخل مصر ووجهه مبرقع، وخرج في جملة أهل مصر الذين خرجوا لقدومه شخص يهودي أعمى يقال له: أبو إسرائيل فيما ذكره شيخنا أبو حفص عمر بن أبي الحسن الأنصاري المصري وغيره – ومع اليهودي ابنة له فقال لها: خذي بيدي وإذا رأيت هذا الرجل فأخبريني، فلما رأته قالت: هاهو يا أبة، فقال: اللهم إن كان هذا شبيها بنبيك في خلقه وهو على الحق فاردد علي بصري، فرد الله تعالى عليه بصره، فما عاد إلى مصر إلا وهو يمشي مع الناس بصيرا فأسلم وحسن إسلامه.

توفي أبو محمد الشيبه – رحمه الله تعالى – يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شهر رجب سنة ثلاث وستين ومائتين ودفن بمصر بمشهد يحيى أخي السيدة نفيسة، وكان له بمصر عقب إلى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.


#433#

وقد نظمت الخمسة الذين ذكرهم الحسن بن علي الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس في بيتيه المتقدمين مع الأحد عشر الذين استدركتهم عليه في بيتين وهما:

شبه النبي ابنه سبطاه حافدهم ... وجعفر ابناه أبو سفيان والقثم

وسائب والعقيلي الخليل وكابس ... الكريزي الرفاعي الشبه قد ختموا

"شبه النبي صلى الله عليه وسلم": إبراهيم ابن مارية القبطية.

"سبطاه": الحسن والحسين ابنا علي بن ِأبي طالب.

"حافدهم" إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي.

"وجفر ابناه": عبد الله وعون ابنا جعفر.

"أبو سفيان": ابن الحارث بن عبد المطلب.

"والقثم": ابن العباس بن عبد المطلب.

و"سائب": ابن عبيد بن عبد يزيد القرشي.

"والعقيلي": القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب.


#434#

"الخليل" خليل الرحمن إبرهيم عليه السلام.

"وكابس": ابن ربيعة بن مالك بن عدي.

"الكريزي": عبد الله بن عامر بن كريز العبشمي.

"الرفاعي": علي بن [علي بن] نجاد بن رفاعة اليشكري.

"الشبه": يحيى بن القاسم بن محمد بن القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب.


#435#

$[ذكر من يلحق بمن تقدم من المشبهين بالنبي صلى الله عليه وسلم]$

وربما يلحق بهؤلاء آدم أبو البشر عليه الصلاة والسلام: فقد قال أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا صبيح بن عبد الله الفرغاني، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه، وعن هشام بن عروة، عن أبيه: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قامته أنه لم يكن بالطويل البائن.. الحديث، وسيأتي بطوله إن شاء الله تعالى، وفي آخر الحديث: وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ((أنا أشبه الناس بأبي آدم، وكان أبي إبراهيم خليل الرحمن أشبه الناس بي خلقا وخلقا)).

ومما يقرب منه ما قال أبو داود في "سننه": وحدثت عن هارون بن المغيرة، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن شعيب بن خالد، عن أبي إسحاق قال: قال: علي رضي الله عنه ونظر إلى ابنه الحسن رضي الله عنه فقال: إن ابني هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم [و] سيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم صلى الله عليه وسلم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخٌلق - ثم ذكر قصة - يملأ الأرض عدلا.


#436#

ومنه ما جاء عن موسى بن محمد بن عطاء البلقاوي وكان واهيا: حدثنا الوليد بن محمد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: لما زوج النبي صلى الله عليه وسلم الأخيرة من بناته عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل عليها فقال: ((يا بنية، كيف تجدين زوجك؟)) قال: فذكرت خيرا، فقال: ((أي بنية، إنه أشبه أباك وجدك)) يعني: بأبيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبجدها إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

وجاء عن عبد الرحمن بن زياد، عن مسلم بن يسار قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان رضي الله عنه فقال: ((يشبه بإبراهيم عليه السلام وإن الملائكة لتستحيي منه)).

وروينا من حديث القاسم بن زكريا المطرز: حدثنا الخليل بن عمرو، حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن محمد بن عبد الله، عن المطلب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخلت على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة عثمان بن عفان فقالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي آنفا رجلت رأسه، فقال: ((كيف تجدين أبا عبد الله؟)) قلت: بخير، قال: ((أكرميه فإنه من أشبه أصحابي خلقا)) هكذا رويناه خُلقا بالضم.


#437#

وممن يلحق بمن تقدم من المشبهين بالنبي صلى الله عليه وسلم:

*عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم يكنى أبا محمد، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الواقدي: وهو أول من ولي القضاء بالمدينة في زمن مروان، وتوفي سنة أربع وثمانين، وذكر أهل بيته أنه توفي في زمن معاوية وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنكروا أن يكون ولي القضاء.

حكاه أبو موسى المديني، عن ابن شاهين، وأنه أورد عبد الله في الصحابة.

وذكره أبو عمر بن عبد البر قال: وقال العدوي: قتل يوم الحرة وذلك سنة ثلاث وستين وهو أخو الحارث بن نوفل، وكان عبد الله بن نوفل يشبه النبي صلى الله عليه وسلم.

فقلت: وأخوه الحارث وأبوهما نوفل ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم الحارث: صحابيان، ونوفل كان أسن الصحابة من بني هاشم رضي الله عنهم.


#438#

*ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان القرشي الأموي العثماني، أمه فاطمة ابنه الحسين بن علي بن أبي طالب، كانت عند الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ولدت له عبد الله وحسنا، ثم مات عنها، فخلف عليها بعده عبد الله بن عمرو بن عثمان، فولدت له محمدا هذا، وكان يسمى الديباج، وإنما سمي الديباج فيما ذكره أبو سعد بن السمعاني لحسن وجهه؛ ولأن ديباجة وجهه كانت تشبه ديباجة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقال له: سمي النبي صلى الله عليه وسلم وشبيهه وزرع الخليفة المقتول ظلما.

مات الديباج في حبس المنصور في قصر ابن هبيرة شرقي الكوفة مما يلي بغداد كما تقدم، وقيل: قتله المنصور ليلة جاءه خروج محمد بن عبد الله بن حسن المدينة سنة خمس وأربعين ومائة.

وقال أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "الحلية" حدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي قال: بلغني: أن أنسا رضي الله عنه قال لثابت: ما أشبه عينيك بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: فما زال يبكي حتى عمشت عيناه.


#439#

قلت: هو في كتاب "العلل" لكن لم يصرح عبد الله بن أحمد فيه بالسماع من أبيه، فقال في "العلل": قال أبي: بلغني أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لثابت: ما أشبه عينيك بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما زال يبكي حتى عمشت عيناه.

وقال محمد بن سعد في كتابه "الطبقات": أخبرنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن شعر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما رأيت شعرا أشبه بشعر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر قتادة، ففرح قتادة يومئذ.

وروي أن أبا جعفر محمد بن علي نظر إلى الصلت بن زبيد وشمط سائل على عنفقته فقال: هكذا كان شمط النبي صلى الله عليه وسلم سائلا على عنفقته، ففرح الصلت بذلك فرحا شديدا.


#440#

$[شمط عارضي النبي صلى الله عليه وسلم وعنفقته والخضاب بالصفرة والحناء والكتم]$

والشمط مذكور في حديث أبي جحيفة رضي الله عنه الذي تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أبيض قد شمط.

وقد يفهم من هذا الحديث كثرة الشيب في جميع لحيته وعارضيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشمط اختلاط الشيب [بالشباب] كما قدمنا وليس كذلك، بل مراد أبي جحيفة – والله أعلم - بقوله "قد شمط" أي: عارضاه وعنفقته، وقد جاء ذلك مفسرا عن أبي جحيفة رضي الله عنه.

قال محمد بن الحسن بن قتيبة: حدثنا ابن أبي السري، حدثنا مروان، حدثنا صالح بن مسعود، عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض قد شمط عارضاه.

وخرج الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه "السابق واللاحق" من طريق أبي عمرو يوسف بن يعقوب بن يوسف النيسابوري، عن أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه منه بيضاء - ووضع زهير


#441#

يده على عنفقته – فقيل لأبي جحيفة: مثل من أنت يومئذ؟ فقال: أبري النبل وأريشها.

وأصله في "الصحيح".

وله شا هد من حديث أنس وغيره.

وفي "صحيح مسلم" من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شمط مقدم رأسه ولحيته، فكان إذا ادهن لم يتبين وإذا أشعث رأسه تبين، وكان كثير اللحية ... الحديث.

ورواه أبو داود الطيالسي فقال: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، سمعت جابر بن سمرة رضي الله عنه وذكر شمط النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان إذا ادهن لم ير وإذا لم يدهن تبين لنا.

$*[الخضاب بالصفرة]$

وخرج الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله من حديث عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، عن جعفر بن محمد وهشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أكثر شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرأس في فودي


#442#

رأسه، وكان أكثر شيبه في لحيته حول الذقن، وكان شيبه كأنه خيوط الفضة يتلألأ بين سواد الشعر فإذا مسه بصفرة - وكان كثيرا ما يفعل ذلك - صار كأنه خيوط الذهب.

وفي هذا الحديث الخضاب بالصفرة.

وله شاهد في "الصحيحين" من حديث عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ورأيتك تصبغ بالصفرة؟ فقال: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بها.

وقال أحمد في "مسنده" حدثنا سريج، حدثنا عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يصفر لحيته ويلبس النعال السبتية ويسلتم الركنين ويلبي إذا استوت به راحلته ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله.

وخرجه من طريق أخرى مطولا.

وقال أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة": حدثني جدي، حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج أن رجلا يقال له: حميد بن نافع قال لابن عمر: رأيتك تصنع أشياء لا يصنعها غيرك! قال ابن عمر: إنك لا تزال طاعنا في شيء، ما هو؟ قال: رأيتك تصفر لحيتك، وتلبس النعال السبتية ولا تهل في الحج والعمرة حتى تنبعث بك ناقتك ولا تستلم إلا هذين الركنين الشرقيين


#443#

قال: أما ما ذكرت من تصفير لحيتي فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفر لحيته... وذكر الحديث.

وحدث به [أبو] الوليد أيضا عن أحمد بن ميسرة المكي، حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن أبيه قال: سمعت غير واحد من أهل المدينة يذكرون أن رجلا سأل ابن عمر رضي الله عنهما فقال: يا أبا عبد الرحمن نراك تفعل خصالا أربعا لا يفعلها الناس: تزال لا تستلم من الأركان إلا الحجر والركن اليماني، ونراك لا تلبس من النعال إلا السبتية، ونراك تصفر شعرك ويصبغ الناس بالحناء، ونراك لا تحرم حتى تستوي راحلتك وتوجه، فقال عبد الله: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.

قال عبد العزيز: وقد سمعت نافعا يذكر هذه الخصال عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وقد خرج النسائي وأبو داود من حديث عمرو بن محمد – هو العنقزي – حدثنا ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس والزعفران.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث خصيف، عن عطاء


#444#

ابن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخضب أخذ شيئا من دهن وزعفران، فمرسه بيديه، ثم يمرسه على لحيته صلى الله عليه وسلم.

وقال عبد الله بن يزيد القاري: حدثنا صدقة، عن الأوزاعي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم صفر لحيته وما فيها عشرون شعرة بيضاء.

وحدث بمعناه سوار بن عبد الله التميمي، عن مبارك بن فضالة، سمعت عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، قال: قلت لأنس: هل كان شاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما أراه كان في رأسه ولحيته خمس عشرة شعرة بيضاء.

قال: فإني قد رأيت من شعره عندنا شعرا فيه صفرة.

قال أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسها بالصفرة.

وحدث به يعقوب بن سفيان في "التاريخ" عن يوسف بن كامل، حدثنا مبارك بن فضالة .. فذكره.


#445#

$*[الخضاب بالحناء والكتم]:$

وورد أنه صلى الله عليه وسلم خضب بالحناء والكتم فيما رواه جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جعفر قال: شمط عارضا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخضبه بحناء وكتم.

وخرج الإمام أحمد في "مسنده" من حديث غيلان بن جامع، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخضب بالحناء والكتم وكان شعره يبلغ كتفيه أو منكبيه.

وخرج دعلج بن أحمد في كتابه "مسند المقلين" من حديث عبد الرحمن بن مهدي، أخبرنا سفيان، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل: ((من هذا))؟ قال: ابني. قال: ((لا يجني عليك ولا تجني عليه)) قال: وقد رأيته لطخ لحيته بالحناء.

وقال الإمام أحمد في "مسنده" حدثنا عفان، حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط، حدثنا إياد، عن أبي رمثة رضي الله عنه قال: انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأيته قال لي أبي: هل تدري من هذا؟ قلت: لا، قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقشعررت وكنت أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لا يشبه الناس، فإذا بشر ذو وفرة بها ردع من حناء، عليه ثوبان أخضران فسلم


#446#

عليه أبي ثم جلسنا فتحدثنا ساعة.. وذكر الحديث.

وخرجه أبو داود في "سننه": عن أحمد بن يونس، عن عبيد الله بن إياد بنحوه، والترمذي والنسائي عن بندار، عن ابن مهدي، عن عبيد الله.

تابعهم أبو نعيم ومحمد بن الصلت الأسدي، عن عبيد الله.

وخرجه أبو داود أيضا عن محمد بن العلاء، عن ابن إدريس، سمعت ابن أبجر، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة .. فذكره بنحوه.

وخرجه النسائي أيضا: عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن سفيان، وعن قراد أبي نوح عن جرير بن حازم، عن عبد الملك بن عمير كلاهما عن إياد بن لقيط بنحوه.

وقال البخاري في "صحيحه": حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا سلام، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: دخلت على أم سلمة فأخرجت لنا شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مخضوبا.


#447#

وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة، عن موسى بن إسماعيل، وزاد في آخره: "بالحناء والكتم".

وجاءت هذه الزيادة أيضا في غير رواية التبوذكي، فقال أبو حسان الحسن بن عثمان: أخبرني أبو الحسن الخولاني، أخبرنا سلام بن أبي مطيع، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها فأخرجت إلينا شعرا أحمر مخضوبا بحناء وكتم، فقالت: هذا شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وجاء عن معاذ بن المثنى، عن مسدد، حدثنا سلام بن أبي مطيع، فذكره بنحو رواية أبي حسان.

وحدث به أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم في كتابه في "الخضاب" عن إبراهيم بن الحجاج، عن سلام بن أبي مطيع.

تابعهم عفان بن مسلم، ومسلم بن إبراهيم، ويونس بن محمد قالوا: أخبرنا سلام بن [أبي] مطيع. فذكره.


#448#

وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا سلام ابن أبي مطيع، حدثنا عثمان بن عبد الله بن موهب قال: دخلنا على أم سلمة فأخرجت إلينا صرة من شعر مخضوب بالحناء، فقالت: هذا شعر النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أيضا: حدثنا عبد الله بن عثمان، عن أبي حمزة السكري، عن عثمان بن عبد الله بن موهب القرشي، قال: دخلنا على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرجت إلينا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو أحمر مصبوغ بالحناء والكتم.

وحدث به أبو بكر أحمد بن عمرو بن عاصم في كتاب "الخضاب" أيضا: عن يعقوب بن حميد، حدثنا سلمة بن رجاء، عن عثمان بن عبد الله ابن موهب فذكره.

ثم قال: وروي عن جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جعفر، قال: شاب عارضا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخضبه بالحناء والكتم.

وحدث به يعقوب بن سفيان في "التاريخ" فقال: حدثنا ابن عثمان -يعني: عبد الله - حدثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جعفر، قال: شمط عارض رسول الله صلى الله عليه وسلم فخضبه بحناء وكتم.. وذكر بقيته.

وقال أبو حسان الزيادي: أخبرني الوليد بن محمد الموقري، سمعت


#449#

الزهري يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختضب بالحناء.

وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثنا كهمس، عن عبد الله بن بريدة، قال: قيل له: هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم.

حدث به ابن سعد، عن الأنصاري.

وحدث عن سعيد بن محمد الثقفي، عن الأحوص بن حكيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن الثمالي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير لحيته بماء السدر، ويامر بتغيير الشعر مخالفة للأعاجم.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في "كتاب العلل" لأبيه: حدثني سفيان بن وكيع، حدثنا أبي، عن شريك، عن عثمان بن موهب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل أخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.

تابعه الترمذي فرواه في "الشمائل" عن سفيان بن وكيع، وقال: رواه أبو عوانة، عن عثمان بن موهب، عن أم سلمة.


#450#

قلت: فيه سلام بن أبي مطيع وغيره، عن عثمان، عن أم سلمة كما تقدم.

وقال: أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب "الخضاب": حدثنا محمد بن مسكين، حدثنا عمارة بن عقبة، عن محمد بن جابر، عن ابن بريدة، قال: قلت لأبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم خضب؟ قال: نعم.

وله شاهد من حديث عبد الله بن زيد صاحب الأذان، وغيره.

وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا ابن الأصبهاني، أخبرنا شريك، عن سدير الصيرفي، عن أبيه، قال: كان علي رضي الله عنه لا يخضب، فذكرت ذلك لمحمد بن علي، قال: قد خضب من هو خير منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال: حدثنا هارون، حدثنا ضمرة، عن علي بن أبي حملة، قال: كان رجاء بن حيوة لا يغير الشيب، فحج فشهد عنده أربعة أن النبي صلى الله عليه وسلم غير، قال: فغير في بعض المياه.


#451#

$[ما روي في ترك الخضاب]$

وقد جاءت أحاديث في نفي الخضاب منها: [ما روى] أبو يعلى الموصلي من حديث ثابت: سئل أنس رضي الله عنه عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لم يخضب.

وفي "الصحيح": من حديث قتادة قال: سألت أنسا رضي الله عنه هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، إنما كان شيء في صدغيه.

وروى محمد بن سعد، عن الواقدي حدثني بكير بن مسمار، عن زياد - مولى سعد – قال: سألت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا، ولا هم به، كان شيبه في عنفقته وناصيته، ولو أشاء أن أعدها لعددتها.

وجاء من حديث جابر رضي الله عنه من طريق الواقدي أيضا، بنحوه.

وذكر الإمام أحمد بن حنبل: أن من نقل الخضاب مثبت وغيره ناف، والإثبات مقدم على النفي، ذكره أبو الفرج ابن الجوزي خصوصا.


#452#

وحديث سعد وجابر من رواية الواقدي، وحاله في الحديث معروف.

وأما حديث أنس فقد اختلف عليه فيه، لكن رواية من روى عنه نفي الخضاب في "الصحيح".

وقال أبو الحسن أحمد بن سلمان بن أيوب بن خدام الأسدي القاضي: حدثنا يزيد بن محمد – يعني: ابن عبد الصمد – حدثنا عبيد الله بن يزيد القارئ، حدثنا صدقة، عن الأوزاعي، عن ربيعة بن عبد الرحمن، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صفر لحيته، وما فيها عشرون شعرة بيضاء.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث يعقوب بن حميد بن كاسب، حدثنا سلمة بن رجاء، حدثنا عائذ بن شريح، أنه سمع أنس بن مالك، وشعيب بن عمرو، وناجية بن عمرو، قالوا: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يخضب.


#453#

وحدث به أبو بكر أحمد بن عمرو بن [أبي] عاصم النبيل في كتابه في "الخضاب" [عن ابن كاسب ولفظه: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يخضب بالحناء والكتم.

فقد اجتمع على إثبات الخضاب] أحد عشر نفسا من الصحابة رضي الله عنهم كما تقدمت الرواية عنهم بذلك، وهم: أنس بن مالك في إحدى الروايتين، وبريدة بن الحصيب، وأبو رمثة رفاعة بن يثربي، وشعيب بن عمرو التميمي، وعبد الله بن يزيد – صاحب الأذان - وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وناجية بن عمرو، وعائشة، وأم سلمة - رضي الله عنهم [أجمعين].

وخرج الترمذي في "الشمائل": من حديث إياد بن لقيط، عن الجهذمة رضي الله عنها قالت: أنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من بيته ينفض رأسه قد اغتسل، وبرأسه ردغ من حناء.


#454#

$*[منع نتف الشيب]:$

وجاء عن يوسف بن طلق بن حبيب: أن حجاما أخذ من شارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى شيبة في لحيته فأهوى إليها فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: ((من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة)).


#455#

$[سبب شيبه صلى الله عليه وسلم]$

وقد ورد أن سبب شيبه صلى الله عليه وسلم مواعظ القرآن:

قال الترمذي في "الشمائل": حدثنا سفيان بن وكيع.

وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده"، فحدثناه محمد بن عبد الله بن نمير قالا: واللفظ لابن نمير: حدثنا [محمد بن بشر]، حدثنا علي بن صالح، عن أبي إسحاق، عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله، نراك قد شبت، قال: ((شيبتني هود وأخواتها)).

تابعه عباد بن ثابت القطواني، عن علي بن صالح.

وحدث به محمد بن محمد بن سلمان الباغندي، عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن محمد بن بشر، عن العلاء بن صالح بن حي، عن أبي إسحاق، عن البراء، فوهم فيه في موضعين:

في قوله "عن العلاء" وإنما هو "عن علي" وفي قوله: "عن البراء" وإنما هو "عن أبي جحيفة" نبه عليه الدارقطني في كتابه "العلل".

وخرجه الترمذي في "الشمائل" أيضا فقال: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن أبي


#456#

إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، شبت، قال: ((شيبتني هود والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت)).

تابعه أحمد بن علي بن سعيد القاضي، عن ابن أبي ذئب.

ورواه عبد الله بن محمد بن ناجية، عن عن خلاد بن أسلم، عن النضر بن شميل، عن إسرائيل، حدثنا يونس وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو بكر رضي الله عنهم: يا رسول الله، شبت. قال: ((شيبتني هود، والوقعة، وإذا الشمس كورت))

تابعه سعيد بن عثمان الخزاز وإسماعيل بن صبيح الكوفيان، عن إسرائيل.

وقال أبو الحسن الدارقطني في كتابه "العلل": حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثني يوسف بن مسلم: ح.

وحدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد، حدثنا محمد بن الفرج الأزرق، قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا شيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال أبو بكر رضي الله عنهم: يا رسول الله. وقال النيسابوري: وهذا لفظه عن ابن عباس، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم قال: قلت: يا رسول الله، عجل إليك الشيب سريعا، قال: ((شيبتني هود، وعم يتساءلون، وإذا وقعت، وإذا الشمس كورت)).


#457#

وحدث به يعقوب بن شيبة في "مسنده": عن عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرئيل، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، أن أبا بكر رضي الله عنه قال: ألا أراك قد شبت يا رسول الله فقال: ((شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت))

ورواه وكيع وعبد الله بن رجاء، ومخول بن إبراهيم، عن إسرائيل كذلك مرسلا.

ورواه عبد الملك بن سعيد بن أبجر، عن أبي إسحاق، عن عكرمة مرسلا.

تابعهما أبو الأحوص، عن سلام بن سليم فيما رواه عن مسدد فقال:

حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم ما شيبك؟ قال: ((شيبتني سورة هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت)).

وتابعه عفان بن مسلم، وإسحاق بن عيسى، عن أبي الأحوص.

ورواه محمد بن عوف الحمصي، عن محمد بن مصفى، عن بقية بن الوليد، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس، فوصله.

ورواه حسين بن أبي السري، وأبو مروان - أبان بن عبد الله بن كردوس الحراني - عن الحسن بن محمد بن أعين، عن زهير - هو ابن معاوية - عن إسحاق، كذلك.

وحدث به الدارقطني في "العلل": عن أحمد بن محمد بن سعيد، حدثنا أحمد بن عبد الملك الأودي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعود بن سعد الجعفي، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال أبو بكر رضي الله عنهم .. فذكره.


#458#

خالفه أبو عبد الله محمد بن سعد فحدث به في كتابه "الطبقات": عن الفضل بن دكين - هو أبو نعيم - حدثنا مسعود بن سعد، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: شبت أو عجل عليك الشيب، قال: ((شيبتني هود، وأخواتها)) أو: ذواتها.

ورواه علي بن عبد العزيز، ومحمد بن الحسين الحنيني، والسري بن يحيى، والهيثم بن خالد - أبو صالح – قالوا: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعود بن سعد، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله .. فذكر نحوه.

ورواه عبد الرحيم بن سليمان، عن زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، عن أبي بكر رضي الله عنه.

وخالفه أبو معاوية الضرير، وأبو أسامة، وأشعث بن عبد الله الخراساني، فرووه عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن مسروق بن الأجدع، عن أبي بكر.

ورواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة: حدثنا جبارة – يعني: ابن مغلس، حدثنا عبد الكريم بن عبد الرحمن الخزاز، حدثنا أبو إسحاق، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: [يا] رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد شبت قال: ((شيبتني هود، والواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت)).


#459#

فذكر الدارقطني في كتابه "العلل": أن جبارة وهم فيه فقال مرة: عن عامر بن سعد، عن أبيه، وقال مرة: عن عامر بن سعد، عن أبي بكر.

وحدث به جبارة أيضا: عن أبي شيبة يزيد بن معاوية النخعي، عن أبي إسحاق، عن مصعب بن سعد، عن أبيه.

ورواه محمد بن أيوب بن الضريس الرازي، عن الحسن بن محمد الطنافسي، حدثنا أبو بكر بن عياش، حدثنا ربيعة الرأي، عن أنس بن مالك، قال: قال أبو بكر رضي الله عنهما: شبت يا رسول الله، قال ((شيبتني سورة هود، والواقعة)).

ورواه حماد بن يحيى الأبح، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، بنحوه، ولفظه: عن أنس رضي الله عنه أنه قيل: عجل عليك الشيب يا رسول [الله] فقال: ((شيبتني هود وأخواتها)).


#460#

قال ابن طاهر المقدسي: عن حماد الأبح، ولعله مما انفرد به، قاله في كتابه "ذخيرة الحفاظ".


#461#

$[عود إلى شرح حديث هند ابن أبي هالة في نعته صلى الله عليه وسلم]$

*قال هند: "أدعج": قد قدمنا أن الدعج السواد على أحد الأقوال، وقيل: السواد مع سعة العين.

وقد صرح بذلك علي رضي الله عنه في حديثه الذي قدمناه، فقال: "أسود الحدقة" وفي الرواية الأخرى عنه: "عظيم العينين".

وجاء عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: وكنت إذا نظرت إليه صلى الله عليه وسلم قلت: أكحل العينين، وليس بأكحل.

خرجه الترمذي في "جامعه" و "الشمائل".

"الكحل" بالتحريك -: سواد أصول هدب العين خلقة.

وفي "صحيح مسلم" عن شعبة، عن سماك بن حرب، سمعت جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم، أشكل العينين، منهوس العقبين، قال: قلت لسماك، ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم، قال: قلت: ما أشكل العين؟ قال: طويل شق العين، قال: قلت: ما منهوس العقب؟ قال: قليل لحن العقب.


#462#

والحديث عند الترمذي في "جامعه" و"الشمائل" عن شعبة.

وخرج الحديث أبو زرعة في كتاب "التاريخ": من طريق شعبة بتمامه وفيه: قال شعبة: فسألت سماكا ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم، قلت: وما أشكل العين؟ قال: طويل شفر العين.

والمعروف في اللغة أن الأشكل المختلط بياضه بحمرة أو سواد.

قال جرير:

فما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل

أي مختلط بالدم، ومن ثم قيل: أشكل الأمر: أي: اختلط، ويقال: شكلت العين - بالكسر - شكلة وشكلا فهي شكلاء: إذا كان في بياضها حمرة يسيرة.

وقد ورد هذا في صفة عينيه صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث.


#463#

من ذلك حديث حماد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرب العينين بحمرة.

ومن حديث البشارة به صلى الله عليه وسلم الذي خرجه أبو نعيم في "الدلائل": من حديث مالك بن سنان الخدري أنه سمع يوشع اليهودي، يقول: أظل خروج نبي، يقال له أحمد، يخرج من الحرم، فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمستهزئ به: ما صفته؟ قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل في عينية حمرة.. الحديث، وتقدم.

وذكر أبو محمد عبد الحق الأشبيلي: أنه كان في بياضهما عروق رقاق حمر.

قلت: وهذه هي الشكلة.

وخرج أبو داود حديث جابر بن سمرة المتقدم، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم، أشهل العينين، منهوس العقب.

قال أبو عبيد: الشهلة حمرة في سواد العين.


#464#

وقد صح من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه.

قال الشافعي في رواية حرملة عنه قوله: ((إني لأراكم وراء ظهري)) كرامة من الله عز وجل أبانه بها من خلقه.

وقال أبو طالب مكي بن علي بن عبد الرزاق الحريري: حدثنا أبو عمرو عثمان بن عمر الدراج، حدثنا أبو سليمان علقمة [بن] يحيى بن علقمة الجوهري – بالفسطاط – حدثنا أبي، حدثنا زهير بن عباد، حدثنا عبد الله بن المغيرة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء.

ورواء أبو أحمد بن عدي، فقال: حدثنا ابن أسلم، حدثنا


#465#

عباس – [بموحدة وسين مهملة] - ابن الوليد الخلال، حدثنا زهير بن عباد.. فذكره.

ورواه الحسن بن رشيق، حدثنا الحسين بن أحمد العكي، حدثنا زهير بن عباد الرؤاسي .. فذكره.

وله طريق أخرى قال الحافظ أبو عبد الله الحاكم: حدثني أبو عبد الله محمد بن العباس، حدثنا أبو إسحاق بن سعيد، حدثنا أبو عبد الله محمد بن الخليل النيسابوري، حدثنا عبد الرحمن بن عمار الشهيد، حدثنا مغيرة بن مسلم، عن عطاء: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار من الضوء.

وهذا محمول على رؤية العين، كما حكاه القاضي عياض "الشفا": عن أحمد بن حنبل وغيره.

وقال قبل ذلك: وقد حكي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرى في الثريا


#466#

أحد عشر نجما.

قلت: حدث أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": عن يحيى بن معين، حدثنا عبيد بن أبي قرة، حدثنا ليث بن سعد، عن أبي قبيل، قال: سمعت أبا ميسرة يقول: سمعت العباس رضي الله عنه يقول: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: ((انظر، هل ترى في السماء نجما))؟ قال: قلت: نعم، قال: ((ما ترى؟)) قلت: الثريا، قال: ((أما إنه يملك هذه الأمة بعددها من صلبك اثنا عشر)).


#467#

*وقال هند: "سهل الخدين":

أي: ليس فيهما نتق ولا ارتفاع مأخوذ من سهل الأرض ضد الحزن.

وقيل: أراد أن خديه صلى الله عليه وسلم أسيلان قليلا اللحم رقيقا الجلد، هكذا قال بعضهم، فرق بين السهل والأسيل، وهما بمعنى واحد.

قال الزبيدي في "مختصر العين": والخد الأسيل: السهل.

وقد ورد في بعض طرق حديث علي رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مفلج الثنايا أسيل الخد على شفته السفلى خال، كأن عنقه إبريق فضة، بعيد ما بين المنكبين كأن كفه من لينها مس أرنب كأن عرقه اللؤلؤ، وإذا جاء مع القوم غمرهم، وإذا ضحك تبسم، ليس بسخاب.

* قال هند: "ضليع الفم":

يعني: تام الفم، قاله أبو عبد الله محمد بن عبد [الله] الخطيب في "مختصر العين".

وقال ثعلب: أراد واسعه.

وقال شمر: معناه عظيم الأسنان متراصفها، والعرب تمدح بكبر


#468#

الفم، وتذم بصغره.

وفي حديث شعبة، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم.

قال شعبة: قلت لسماك: ما ضليع الفم؟ قال: واسع الفم.

خرجه الترمذي، وتقدم قريبا رواية مسلم وأبي زرعة الدمشقي الحديث في "تاريخه" عن شعبة، وفيه قال: فسألت سماكا ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم.

وقال أبو علي محمد بن هارون بن شعيب الأنصاري في كتابه في "صفة النبي صلى الله عليه وسلم": حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرقي، حدثنا ليث بن الحارث، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا صالح بن أبي


#469#

الأخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طاوي الحشا ضليع الفم، شثن القدمين.

*قال هند: "أشنب".

الشنب: ماء ورقة تجري على الثغر، قاله الزبيدي في "مختصر العين".

وقال أبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر" في تفسيره أشنب قال: من الشنب في الأسنان وهو تحدد في أطرافها. انتهى.

وقد قال الجرمي: سمعت الأصمعي يقول: الشنب برد الفم والأسنان. فقلت: إن أصحابنا يقولون: هو حدتها حين تطلع فيراد بذلك حداثتها وطراوتها، لأنها إذا أتت عليها السنون تغيرت، فقال: ما هو إلا بردها.

قلت: وممن قال: إن الشنب تحديد أطراف الأسنان للحداثة أبو زيد، وابن الأعرابي، وأبو حزام العكلي وغيرهم.

وقال أبو الحسين ابن فارس في "المجمل": الشنب رقة في الأسنان وعذوبة. وقال غيره: الشنب رونق الأسنان وبهاؤها.

وقيل: بردها وعذوبتها.


#470#

قال الأصمعي: سألت رؤبة بن العجاج عن الشنب ما هو؟ فأخذ حبة رمان وأومأ إلى بصيصها، أي: هذا هو الشنب.

ومنه قولهم: رمانة شنباء، أي: عذبة الطعم كثيرة الماء.

وفسر الزبيدي في "مختصر العين" الرمانة الشنباء قال: وهي الأمليسية.

*قال هند: "مفلج الأسنان":

قال الخليل بن أحمد صاحب كتاب "العين" إن ثبت، فإن جماعة أنكروا نسبة كتاب "العين" إلى الخليل بن أحمد.

قال أبو الفتح عثمان بن جني عن صاحب كتاب "العين" قال: وهو مجهول، وذاكرت أبا علي رحمه الله تعالى يوما بهذا الكتاب فسألناه فقلت: إن تصنيفه أصح وأمثل من كتاب "الجمهرة" فقال: الساعة لو صنف إنسان لغة بالتركية تصنيفا جيدا كانت تعد عربية.

وقال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي في مقدمة مختصره لكتاب "العين": ومذهبنا أن نصلح ما ألفيناه مختلا في الكتاب، وأن نوقع كل شيء منه مواقعه، وأن نضعه في بابه – إن شاء الله تعالى – ونحن نربأ بالخليل رحمه الله عن نسبة هذا الخلل إليه والتعرض للمقاومة له والرد عليه، بل نقول: إن الكتاب لا يصح له ولا يثبت عنه، فقد كان جلة البصريين الذين أخذوا عن أصحابه وحملوا علمه عن رواته ينكرون هذا الكتاب ويدفعونه إذ لم يرو إلا عن رجل واحد غير مشهور في


#471#

أصحابه، وأكبر الظن فيه أن الخليل سبب أصله ورام تثقيف كلام العرب به، ثم هلك قبل كماله، فتعاطى إتمامه من لا يقوم في ذلك مقامه، فكان ذلك سبب الخلل الواقع به والخطأ الموجود فيه.

وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده في مقدمة كتابه "المحكم في اللغة": وأما ما ضمناه كتابنا هذا من كتب اللغة فمصنف أبي عبيد.. وذكر الكتب، ثم قال: والكتاب الموسوم بـ "العين" ما صح لدينا منه وأخذناه بالوثيقة عنه.

وقال أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي في كتابه "أخبار النحويين" في ترجمة الخليل بن أحمد قال: وهو أول من استخرج العروض وحصر أشعار العرب بها وعمل أول الكتاب "العين" المعروف المشهور الذي به يتهيأ ضبط اللغة. انتهى

فمن قول الخليل في كتاب "العين" إن ثبت: الفلج: فرجة بين الثنايا.

وفي مختصر الكتاب للزبيدي: تباعد ما بين الثنايا.

وكذا قال أبو عبد الله الخطيب في مختصر الكتاب لكنه زاد الرباعيات، فإن تكلف ذلك فهو التفليج.

وفي "المجمل" وغيره: الفلج تباعد ما بين الثنايا والرباعيات.

ويشهد لقول الخليل ما رواه عبد العزيز بن أبي ثابت الزهري: حدثنا


#472#

إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلج الثنيتين إذا تكلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه.

وخرجه الترمذي في "الشمائل" من طريق موسى بن عقبة.

ومن طريقه أيضا خرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" بنحوه دون قوله: "أفلج الثنيتين"، وقال: لا يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.

*قال هند: "دقيق المسربة":

[المسربة] بضم الراء: شعرات وسط الصدر إلى أسفل السرة كالقضيب. هكذا فسرها أبو عبد الله الخطيب في "مختصر العين".

وقال الزبيدي في "المختصر": شعرات تتصل من الصدر إلى السرة.


#473#

وقيل: هي شعر وسط الصدر.

وحدث عثمان بن عمر بن فارس فقال: حدثنا حرب بن شريح الخلقاني، حدثني رجل من بلعدوية، حدثني جدي قال: انطلقت إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رجل حسن الجسم، عظيم الجبهة، دقيق الأنف، دقيق الحاجبين، وإذا من لدن نحره إلى سرته كالخيط الممدود شعره، ورأيته بين طمرين، فدنا مني، فقال: ((السلام عليك)).

وتقدم في بعض طرق حديث علي رضي الله عنه في الوصف الشريف: دقيق المسربة، وفي بعضها طويل المسربة، وفي بعضها: في صدره مسربة وسيأتي ذكرها في حديث هند إن شاء الله تعالى.

*قال هند: "كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة":

الجيد: أصل العتق، وقيل: الجيد العنق، وإنما ذكرها لئلا يتكرر بلفظ واحد.


#474#

والدمية – [بالضم] – الصنم والصور المنقشة وجمعها دمى.

وفي بعض طرق حديث علي رضي الله عنه: كأن عنقه إبريق فضة.

قال أبو جعفر أحمد بن سنان القطان في "مسنده" حدثنا محمد بن بن عبيد، حدثنا مجمع بن يحيى، عن عبد الله بن عمران، عن رجل من الأنصار، قال: أتيت عليا رضي الله عنه وهو محتب بحمائل سيفه فسألته عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض اللون مشربا حمرة، أدعج العينين، سبط الشعر، دقيق المسربة، سهل الخد، كث اللحية، ذو وفرة كأن عنقه إبريق فضة، له شعر من لبته إلى سرته تجري كالقصيب، لم يكن يتقلع من صخر، وإذا التفت التفت جميعا، ليس بالقصير ولا بالطويل، ولا العاجز ولا اللئيم، كأن عرقه في وجهه اللؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من المسك الأذفر، لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.

وقال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا مجمع بن يحيى، حدثني عبد الله بن عمران، حدثني رجل من الأنصار - لم يسمه – أن رجلا سأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فذكره.


#475#

*قال هند: "معتدل الخلق":

أي بين النحيف والسمين والطويل والقصير.

قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف ابن أبي جميلة، عن يزيد الفارسي، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم زمن ابن عباس – قال: وكان يزيد يكتب المصاحف – قال: فقلت لابن عباس رضي الله عنهما: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم.

قال ابن عباس: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((إن الشيطان لا يستطيع يتشبه بي، فمن رآني في النوم فقد رآتي)) فهل تستطيع أن تنعت لنا هذا الرجل الذي رأيت؟ قال: قلت: نعم، رأيت رجلا بين الرجلين جسمه ولحمه، أسمر إلى البياض، حسن المضحك، أكحل العينين، جميل دوائر الوجه قد ملأت لحيته من هذه إلى هذه حتى كاد تملأ نحره، قال عوف: لا أدري ما كان مع هذا من النعت.

قال: فقال ابن عباس: لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا.

*قال هند: "بادنا متماسكا":

يقال: رجل بادن ومتبدن، أي: سمين، وقيل: البادن التام اللحم الضخم، وقد تقدم معنى ذلك في تفسير قول هند: "فخما".

وقوله: "متماسكا" أي: يمسك بعضه بعضا ليس خلقه بمسترخ ولا متهدل.


#476#

وفي حديث علي رضي الله عنه: لم يكن بالمطهم ولا المكلثم.

قيل: "المطهم" الفاحش السمن أو النحيف الجسم، أو المسترخي اللحم، أو المنتفخ الوجه، أو من قولهم: تطهمت الطعام أي: كرهته.

و"المكلثم" الغليظ الوجه، وقيل: الكلثمة اجتماع لحم الوجه من غير جهومة: وقيل: المكلثم القصير الذقن.


#477#

*قال هند: "سواء البطن والصدر":

أي: متساويهما، فبطنه غير خارج عن صدره، صدره عريض فهو مساو لبطنه.

*قال هند: "عريض الصدر"

وهذه اللفظة في روايتنا من طريق الترمذي في "الشمائل" ومن رواية أبي علي أحمد بن محمد بن رزين، وأبي بكر محمد بن هارون الروياني، عن سفيان بن وكيع شيخ الترمذي.

وساقه القاضي عياض في "الشفا" من طريق الترمذي في "الشمائل" ومن طريق أبي علي الحسن بن أحمد بن شاذان من حديث موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن آبائه - كما قدمناه قبل – واللفظ له فقال بدل قوله: "عريض الصدر": "مشيح الصدر"، ثم قال في تفسير مشيح: إن صحت هذه اللفظة فتكون من الإقبال وهو


#478#

أحد معاني أشاح أي: أنه صلى الله عليه وسلم كان بادي الصدر، ولم يكن في صدره قعس، وهو تطامن فيه، وبه يتضح قوله قبل: "سواء البطن والصدر" أي: ليس بمتقاعس ولا مفاض البطن، ولعل اللفظ مسيح – بالسين وفتح الميم – بمعنى عريض كما وقع في الرواية الأخري ابن دريد.

قلت: تأويلة مشيح – بالمعجمة - فيه تكلف وإنما هو – والله اعلم - مسيح – بالمهملة مع فتح أوله - وهو معنى رواية الترمذي وغيره: عريض الصدر، قال الأزهري: رجل ممسوح الوجه ومسيح وذلك أن لا يبقى على أحد شقي وجهه عين ولا حاجب إلا استوى.

فعلى هذا قوله: "مسيح الصدر" أي: مستويه ليس فيه شيء نافر، ويعضده قوله قبل: "سواء البطن والصدر".

*قال هند: "بعيد ما بين المنكبين":

"المنكب": مجتمع رأس العضد والكتف، وبعد ما بين المنكبين دليل على سعة الصدر والظهر.

وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما: بعيد ما بين المنكبين.

وفي حديث علي رضي الله عنه: عظيم المناكب.

*قال هند: "ضخم الكراديس".

"الكراديس": جمع "كردوس" وهو رأس كل عظم كبير وملتقى كل


#479#

عظمين ضخمين كالمنكبين والمرفقين والوركين والركبتين.

وفي "المجمل": والكردوس فقرة من فقر الكاهل إذا عظمت، ويقال: بل كل عظم عظمت مخضته فهو كردوس.

قوله: "مخضته" هي القطعة الضخمة من اللحم.

وتقدم في حديث علي رضي الله عنه: ضحم الكراديس. وفي رواية: عظيم الكراديس. وتقدم في رواية: جليل المشاش والكتد، وهو بمعناه.

و"المشاش": رؤوس المنكبين والمرفقين والركبتين واحدها مشاشة، ويقال: ما لا مخ فيه من العظام فهو مشاش.

وقال الجوهري: المشاش رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها.

وكذا قال ابن فارس في "المجمل"، لكنه قال: المشاش: العظام، ولم يذكر رؤوس.


#480#

و"الكتد" بفتح التاء وكسرها - هو مجتمع الكتفين.

وقيل: هو ما بين الكاهل إلى الظهر.

وقيل: هو مغرز العنق في الكاهل عند الحارك.

*قال هند: "أنور المتجرد":

"المتجرد" ما كشف عنه الثوب من البدن.

و"أنور" بمعنى نير، أي: نير الجسد مشرق اللون، وتقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض كأنما صيغ من فضة.

وجاء عن أنس رضي الله عنه في وصفه صلى الله عليه وسلم: حسن الجسم.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا موسى بن عبيدة، أخبرنا أيوب بن خالد، عمن أخبره أنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه قال: فما رأيت رجلا مثله متجردا كأنه فلقة قمر.


#481#

وقال، أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا شيبان، عن جابر، عن أبي صالح، عن أم هانئ رضي الله عنها قالت: ما رأيت بطن النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا ذكرت القراطيس المثنية بعضها على بعض.

*قال هند: "موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط":

"اللبة": الوهدة التي في أعلى الصدر في أسفل الحلق بين الترقوتين.

وفي "مختصر العين" للزبيدي: "اللبة" موضع القلادة، زاد ابن فارس وغيره: موضع القلادة من الصدر.

و"السرة" الوقبة في البطن، وهي ما يبقى.

ومراد هند بقوله هذا: "المسربة" التي ذكرها قبل في قوله: "دقيق المسربة".

*قال هند: "عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك":

يعني: أن ثديه وبطنه ليس عليها شعر إلا المسربة التي من لبته إلى سرته فإنها موصولة بالشعر.

وقد ورد معنى ذلك في قول علي رضي الله عنه الذي قدمناه أنه قال: أجرد ذو مسربة.

*قال هند: "أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر":

أي: على هذا كله شعر.


#482#

*قال هند: "طويل الزندين":

"الزندان": طرفا عظم الساعد.

وقيل: هما عظما الذراع اللذان يليان الكف منه، رأس أحدهما يلي الإبهام، ورأس الآخر يلي الخنصر.

*قال هند: "رحب الراحة":

أي: واسعها، وكانت العرب تحمد ذلك وتمدح به وتذم صغير الكف وضيق الراحة، قاله أبو بكر محمد بن هارون الروياني.

وقيل: هو كناية عن جوده صلى الله عليه وسلم.


#483#

*قال هند: "شثن الكفين والقدمين":

وجاء وصفها بذلك في حديث علي رضي الله عنه.

يقال: شثنت أصابعه – بالكسر وتضم أيضا –: غلظت، وكل ما غلظ من عضو فهو شثن.

وفسر قول هند بأن معناه: غليظ الكفين والقدمين، وقيل: لحمهما، وقيل غليظ الأصابع.

وقال أبو بكر الروياني: يريد أنهما – يعني الكفين والقدمين – إلى الغلظ والقصر. انتهى.


#484#

وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن أنس، أو عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم القدمين ضخم الكفين لم أر بعده شبيها له صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا الفضيل بن دكين، حدثنا يوسف بن صهيب، عن عبد الله بن بريدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحسن البشر قدما.

ومع هذا فكانت هذه الأعضاء منه صلى الله عليه وسلم ألين مسا من الحرير.


#485#

وروى أبو نعيم الأصبهاني من حديث يزيد بن عبد الله القرشي، عن عثمان بن عبد الملك، حدثني خالي، وكان من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم صفين، عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق البشرة.

وصح عن أنس رضي الله عنه أنه قال: ولا مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى الحارث بن أبي اسامة: حدثنا عاصم بن علي، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: ما شممت مسكا ولا عنبرا ولا سكا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مسست ديباجا ولا حريرا ألين مسا من النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: يا أبا حمزة، أليس كأنك تنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكأنك تسمع نغمته. قال: والله إني لأرجو أن ألقاه يوم القيامة فأقول: يا رسول الله، خويدمك.

وخرج الطبراني في "معجمة الكبير" من حديث الوليد بن مسلم، [حدثنا الوليد بن مسلم]، حدثنا شيبان، عن إسماعيل بن أبي خالد،


#486#

عن قيس بن أبي حازم، عن المستورد بن شداد، عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخذت بيدة فإذا هي ألين من الحرير وأبرد من الثلج.

وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "التاريخ":

حدثنا عمرو بن مرزوق، أخبرنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، فقلت: يا رسول الله، ناولني يدك فناولنيها فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب من ريح المسك.

وقال البخاري في "تاريخه الكبير": قال آدم: حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، سمع جابر بن يزيد بن الأسود - يعني: الجرشي الخزاعي - عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يأخذون بيده فيمسحون بها وجوههم فأخذت بيده فمسحت بها وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب من المسك.

هذا مختصر، وفي أوله قصة ستأتي – إن شاء الله تعالى – في ذكر حجة الوداع.

وخرج دعلج في "مسند المقلين" من حديث سعيد بن عامر الضبعي، حدثنا شعبة، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير فسلمت ثم


#487#

جلست.

قال دعلج: ثم ذكر نحو حديث غندر، وزاد فيه: فلما قمنا من عنده جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلون يده.

قال: فأخذت يده فوضعتها على وجهي فإذا هي أطيب من المسك وأبرد من الثلج.


#488#

$[ما ورد في طيب رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم]$

وهذا الحديث وما قبله فيه التصريح بطيب رائحة أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها كانت أطيب رائحة من المسك.

وصح ذلك وثبت من حديث أنس بن مالك وغيره من الصحابة رضي الله عنهم والأحاديث في ذلك كثيرة:

ومنها: ما قال أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في "معجمه" حدثنا بشر بن سيحان، حدثنا حلبس بن غالب، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي الزناد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني زوجت ابنتي، وأنا أحب أن تعينني بشيء فقال: ((ما عندي شيء، ولكن إذا كان غدا فائتني بقارورة [واسعة الرأس] وعود شجرة، وإنه بيني وبينك أن أجيف ناحية الباب)) فلما كان من الغد أتاه بقارورة واسعة الرأس وعود شجرة. فقال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكب العرق من ذراعيه حتى امتلأت القارورة فقال: ((خدها وأمر ابنتك أن تغمس هذا العود في القارورة فتتطيب به)) قال: فكانت إذا تطيبت شم أهل


#489#

المدينة رائحة ذلك الطيب فسموا بيت المطيبين.

ويعضده قصة أم سليم في جمعها عرق النبي صلى الله عليه وسلم لما قال عندها على نطع.

قال أنس رضي الله عنه: دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟)) قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطيب.

وقال عبدان بن محمد المروزي: حدثنا الرفاعي، عن أبي بكر عياش، عن حبيب بن خدرة، عن الحريش قال: كنت مع أبي حين رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا فلما أخذته الحجارة أرعدت فضمني النبي صلى الله عليه وسلم فسال علي من عرقه مثل ريح المسك.


#490#

وقال الطبراني في "معجمه": حدثنا أحمد بن عبد الله اللحياني العكاوي - بمدينة عكا سنة خمس وسبعين ومائتين - حدثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني، حدثنا شيبان أبو معاوية [و] ورقاء بن عمر اليشكري، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي، حدثتني أم عاصم – امرأة عتبة بن فرقد السلمي – قالت: كنا عند عتبة أربع نسوة ما منا امرأة إلا وهي تجتهد في الطيب لتكون أطيب من صاحبتها، وما يمس عتبة الطيب إلا أن يمس دهنا يمسح به لحيته، ولهو أطيب ريحا منا، وكان إذا خرج إلى الناس قالوا: ما شممنا ريحا أطيب من ريح عتبة فقلت له يوما: إنا لنجتهد في الطيب ولأنت أطيب ريحا منا فمم ذاك؟ فقال: أخذني الشرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرد، فتجردت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي، فنفث في يده، ثم مسح ظهري وبطني، فعبق بي هذا الطيب من يومئذ.

وخرجه أبو أحمد دعلج بن أحمد دعلج في كتابه "مسند المقلين" من حديث علي بن عاصم، عن حصين بن عبد الرحمن بنحوه.


#491#

ورواه عمرو بن عون، عن هشيم، عن حصين، عن بعض آل عتبة، عن عتبة بن فرقد رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فتفل في كفه فمسح بها جلدي فكنت من أطيب الناس ريحا.

قال حصين: فأخبرتني أم عاصم امرأته قالت: كنا عنده أربع نسوة وكنا نجتهد في الطيب فما نفارقه.

وقال مجاشع بن عمرو: حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم وأبو خيثمة وأبو عوانة وأبو بكر بن عياش وابن المبارك وأبو الأحوص كلهم عن الأعمش، عن إبراهيم قال النبي صلى الله عليه وسلم يعرف بريح الطيب.

وقال عمر بن سعيد الأبح: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: كنا نعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل بطيب ريحه.


#492#

وقال علي بن عبد العزيز البغوي: حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا إسحاق بن الفضل الهاشمي، أخبرني المغيرة بن عطية، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم خصال: لم يكن في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيب عرقه أو ريح عرفه – الشك من إسحاق – ولم يكن يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له.

خرجه البيهقي في "دلائل النبوة" للبغوي.

وأما الحديث الذي حدث به أبو الفضل محمد بن أحمد الجارودي، عن محمد بن علي بن الحسين بن الفرج الثلجي – هو أبو عبد الله الجباخاني الحافظ – حدثني محمد بن علي بن إبراهيم بن الكردي الجوزجاني، حدثنا أبو القاسم الخضر بن أبان بن زياد الهاشمي – بالكوفة – ومحمد بن شجاع البغدادي قالا: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي قال: حدثنا مالك بن دينار:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أسري بي إلى السماء بكت الأرض من فقدي فنبت الآصف من مائها، فلما رجعت إليها فضحكت فقطر من عرقي عليها فنبت الورد الأحمر، ألا من أراد [أن] يشم رائحتى فليشم الورد الأحمر)) فهذا حديث باطل اتهم به الجوزجاني هذا مع أنه تكلم في شيخه.

وإنما ذكرت هذا الحديث للمعرفة به، ولما اشتهر ين عوام الناس أن


#493#

الورد من عرق النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو الحسن الدارقطني في كتابه "الأفراد": حدثنا أبو جعفر محمد بن سليمان بن محمد الباهلي النعماني، حدثنا محمد بن حسان الأموي، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إني أراك تدخل الخلاء ثم يجيء الذي يدخل بعدك فلا نري لما يخرج منك أثرا؟ فقال: ((يا عائشة أما علمت أن الله عز وجل أمر الأرض أن تبتلع ما خرج من الأنبياء)).

هذا حديث غريب من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، تفرد به محمد بن حسان الأموي، عن عبدة بن سليمان عنه، ولم نكنبه إلا عن شيخنا هذا وكان من الثقات، قاله الدارقطني.


#494#

*قال هند: "سائل الأطراف":

أي: طويل الأصابع، ليست بمنعقدة ولا متجعدة.

وروي على الشك: "أو سائر الأطراف" بالراء، قيل: هو كناية عن فخامة جوارحه صلى الله عليه وسلم.


#495#

وجاء في رواية: "سائن الأطراف" بالنون مكان الراء، وهي بمعنى سائل -باللام – ذكره ابن الأنباري، وأن اللام تبدل من النون إن صحت الراوية بها.

قال: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر القرطبي في كتابه "جامع أحكام القرآن": السبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام، وكانت في الجاهلية تدعى بالسبابة لأنهم كانوا يسبون بها فلما جاء الله بالإسلام كرهوا هذا الاسم فسموها المشيرة، لأنهم كانوا يشيرون بها إلى الله عز وجل بالتوحيد، وتسمى أيضا بالسباحة.

قال: وروي عن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشيرة منها كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثم البنصر أقصر من الوسطى.

ورى يزيد بن هارون قال: أخبرنا عبد الله بن مقسم الطائفي، حدثتني عمتي سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت: خرجت في حجة حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وسأله أبي عن أشياء، فلقد رأيتني أتعجب - وأنا جارية - من طول أصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه.


#496#

ليس في هذا الحديث دليل على ما قاله القرطبي، وقد سبقه إلى ذلك أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم، وكأن القرطبي منه أخذ، فقال في كتابه "نوادر الأصول" في الأصل الرابع والعشرين: وقد روي لنا عن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشيرة منها كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثم البنصر أقصر من الوسطى.

ثم قال بعد ذلك: حدثنا الفضل بن محمد الواسطي، أخبرنا عبد الرحمن بن خالد القطان الرقي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عبد الله بن مقسم الطائفي، حدثتني سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم رضي الله عنها قالت: خرجت في حجة حجها رسول الله صلى الله عليه سلم، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وسأله أبي عن أشياء، فلقد رأيتني أتعجب - وأنا جارية - من طول أصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه.

قالت: فحدثني أبي قال: ذكرت ذلك لعبد الله بن الحسن، فقال: نعم، كذلك كانت أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفيما حكاه القرطبي وقبله الترمذي الحكيم نظر؛ لأن الحديث الذي رواه الترمذي الحكيم وعلقه القرطبي ليس فيه دليل على ذلك، ولو نظرا في طرق الحديث وحملا مطلقة على مقيده كان أسلم، وعلما أن المراد بالأصبع المطلقة في الحديث هي الأصبع التي تلي الإبهام من رجل النبي صلى الله عليه وسلم.

خرج الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه "دلائل النبوة" الحديث المذكور من رواية ابن هارون، أخبرنا عبد الله بن يزيد بن مقسم - وهو ابن ضبة


#497#

حدثتني عمتي سارة بنت مقسم، عن ميمونة بنت كردم قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهو على ناقة له وأنا مع أبي، فأخذ بقدمه، فأقر له رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.

وحدث بنحوه أبو داود في "سننه" عن الحسن بن علي، ومحمد بن مثنى كلاهما عن يزيد بن هارون.

وقال أحمد بن منيع في "مسنده": حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عبد الله بن يزيد بن مقسم، حدثتني عمتي سارة بنت مقسم، عن ميمونة بنت كردم قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهو على ناقة وأنا مع أبي وبيد رسول الله صلى الله عليه وسلم درة كدرة الكتاب، فسمعت الأعراب والناس يقولون: الطبطبية الطبطبية، فدنا منه أبي فأخذ بقدمه، وأقر له رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.

الطبطبية: صوت تلاطم السيل.

وحدث بالحديث يعقوب بن سفيان في "تاريخه" فقال: حدثني


#498#

عبد العظيم بن عبد الله بن يزيد بن ضبة الثقفي، سمعت أبي عبد الله بن يزيد، عن عمته سارة بنت مقسم:

عن ميمونة بنت كردم الثقفية قالت: إني لرديفة على عجز دابة أبي في حجة الوداع إذ قيل: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنا منه أبي حتى أخذ بقدمه فكاني أنظر إلى طول أصبعه التي تلي الإبهام، وفضلها على سائر أصابعه.

وذكر الإمام أحمد في "مسنده" قال: حدثنا [يزيد بن هارون، قال أنا عبد الله بن] يزيد بن مقسم، حدثتني عمتي سارة بنت مقسم، عن ميمونة بنت كردم قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهو على ناقته، وأنا مع أبي، وبيد رسول الله صلى الله عليه وسلم درة كدرة الكتاب، فسمعت الأعراب والناس يقولون: الطبطبية الطبطبية، فدنا منه أبي، فأخذ بقدمه، فأقر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.

قالت: فقال له أبي: إني شهدت جيش عثران قالت: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الجيش.

قال طارق بن المرقع: من يعطيني رمحا بثوابه؟

قال: قلت وما ثوابه؟ قال: أزوجه أول بنت تكون لي.

قال: فأعطيته رمحي ثم تركته حتى ولدت له ابنة فبلغت فأتيته، فقلت: جهز لي أهلي، فقال: لا والله لا أجهزهم حتى تحدث صداقا


#499#

غير ذلك، فحلفت أن لا أفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وتقدر أي النساء هي))؟ قلت: قد رأت القتير، قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعها عنك لا خير لك فيها)) قال: فراعني ذلك ونظرت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تأثم ولا يأثم صاحبك)).

قالت: فقال له أبي في ذلك المقام: إني نذرت أن أذبح عددا من الغنم – قال: لا أعلمه إلا قال: خمسين شاة - على رأس بوانة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل عليها من هذه الأوثان شيء))؟

قال: لا، قال: ((فأوف لله بما نذرت له)) قالت: فجمعها أبي فجعل يذبحها، وانفلتت منه شاة فطلبها وهو يقول: اللهم أوف عني بنذري حتى أجدها، فذبحها.

وقال أيضا: وحدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الله بن يزيد بن ضبة الطائفي، حدثتني عمة لي يقال لها: سارة بنت مقسم، عن مولاتها ميمونة بنت كردم أنها كانت مع أبيها، فذكرت أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة وبيده درة .. فذكر الحديث.

وقال أيضا: حدثني أبو أحمد، وحدثنا عبد الله -يعني: ابن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي – عن يزيد بن مقسم، عن مولاته ميمونة بنت كردم قالت: كنت ردف أبي فسمعته يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحر ببوانة، فقال: ((أبها وثن أم طاغية؟)) فقال: لا، قال: ((أوف بنذرك)).


#500#

وأخرج البيهقي في "الدلائل" من طريق يحيى بن يمان، حدثنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كانت أصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم خنصره من رجله متظاهرة.

*قال هند: "خمصان الأخمصين":

"خمصان" بضم الخاء المعجمة، وجاء فتحها لغة، وحكى أبو عمرو بن العلاء في لغة: خمصانة، والرجل خمصان أي: بالفتح والخمص بالتحريك، وتسكن الميم مع ضم الخاء: الضمور، يقال: خمص الرجل – مثلث الميم – فهو خمصان وخميص إذا كان ضامر البطن.

وفسر قول هند بأنه إشارة إلى ضمور الأخمصين منه صلى الله عليه وسلم، والأخمصان خصر القدمين اللذان لا ينالهما الأرض من وسط القدمين.

قال أبو بكر محمد بن هارون الروياني: يريد أنه ليس بالذي يستوي باطن قدميه حتى يمس خمصيه الأرض. انتهى.


#501#

وقد جاءت الرواية بخلاف ذلك، فروي عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان يطأ بقدميه ليس له أخمص يقبل جميعا ويدبر جميعا، لم أر مثله صلى الله عليه وسلم.

حدث به إسحاق بن راهويه، عن عمرو بن الحارث، عن عبد الله بن سالم، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن سعيد.

رواه مقطعا في "تاريخه" يعقوب بن سفيان، عن إسحاق.

وقال النضر بن شميل: حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما صيغ من فضة، رجل الشعر مفاض البطن عظيم مشاش المنكبين يطأ بقدمه جميعا، إذا أقبل أقبل جميعا، وإذا أدبر [أدبر] جميعا.

فيكون قول هند: "خمصان الأخمصين" أي: ذاهبهما؛ لأن أصل


#502#

الخمص ضمور البارز وذهابه، فكأنه قال: ذاهب الأخمصين، كما فسر في حديث أبي هريرة آنفا.

وصرح به أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك فيما أخبرنا أبو محمد عبد القادر بن أبي إسحاق الحريري بقراءتي عليه، أخبرتك فاطمة بنت أبي عمرو الصالحية، أخبرنا أحمد بن أبي محمد الناسخ، أخبرنا إسماعيل بن أحمد، أخبرنا عبد الدائم الهلالي، أخبرنا عبد الوهاب الكلابي، أخبرنا محمد بن خريم، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي، عن أبيه: عن رجل من الأنصار أن رجلا من بني عامر بن صعصعة قال لأبي أمامة الباهلي: صف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض تعلوه حمرة، أدعج العينين، أهدب الأشفار، شثن الأطراف، ذو مسربة، عظيم الهامة، كثير الشعر، كأن في شعره اللؤلؤ، أعنق الناس، أديم وجه، لم أر مثله قبله ولا بعده في الرجال من هو أطول منه، وفي الرجال من هو أقصر منه، إذا مشى تكفأ كأنما يمشي في صعد، وإذا التفت التفت جميعا، منفتق الخاصرة، لا أخمص له، يطأ على قدميه كلها، عليه سحوليتان، إزاره تحت ركبتيه بأربع أصابع، ورداؤه إذا تعطف به لم يحط به، فهو واضعه تحت إبطه، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو أقرب إلى كتفه اليمنى .. الحديث بطوله.


#503#

وفي حديث شعبة، عن سماك عن حرب، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم أشكل العين منهوس العقب.

[روي قوله: "منهوس العقب"] بالسين المهملة وبالمعجمة أيضا، وفسره راويه سماك بن حرب بقليل لحم العقب.

*قال هند: "مسيح القدمين ينبو عنهما الماء":

قال أبو عبيد الهروي: أراد أنهما ملساوان، ليس فيهما وسخ ولا شقاق ولا تكسن، فإذا أصابهما الماء نبا عنهما. وقال غيره في معناه: أي: أن ظاهرهما ممسوح غير منعقد، فعيل بمعنى مفعول، فإذا صب عليها الماء مر سريعا فينبو عنهما الماء ولا يقف.

وقال أبو بكر الروياني: يعني: أنه ممسوح ظاهر القدمين، فالماء إذا صب عليهما مر عليهما مرا سريعا لاستوائهما وامتلاسهما.


#504#

قال ابن الجوزي في كتاب "الوفا": قال بعض البلغاء - يعني: في قدمي النبي صلى الله عليه وسلم: [شعر]

يا رب بالقدم التي أوطأتها ... من قاب قوسين المحل الأعظما

وبحرمة القدم التي جعلت لها ... كف المؤيد بالرسالة سلما

ثبت على متن الصراط تكرما ... قدمي وكن لي منقذا ومسلما

واجعلهما ذخري ومن كانا له ... أمن العذاب ولا يخاف جهنما

*قال هند: "إذا زال زال قلعا":

اختلف في ضبط هذه اللفظة، فقال أبو عبيد الهروي: قرأت هذا الحرف في كتاب "غريب الحديث" لابن الأنباري: قلعا بفتح القاف وكسر اللام، وكذلك قرأته بخط الأزهري. قال: وهذا كما جاء


#505#

في حديث آخر: "كأنما ينحط من صب" والانحدار: من الصبب، [و] التقلع: من الأرض قريب بعضه من بعض، أراد أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعمل التثبت ولا يبين منه في هذه الحالة استعجال، ولا مبادرة شديدة.

وقيل: هو بفتح القاف وسكون اللام مصدر بمعنى [الفاعل أي: إذا زال زال قالعا لرجله من الأرض.

وقيل: بضم القاف وسكون اللام مصدر بمعنى] الأول.

وفي رواية: "إذا زال زال تقلعا".

وفي حديث علي رضي الله عنه: إذا مشى يتقلع.

وخرج البيهقي في "سننه الكبري" من حديث عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه: أنه أتى عائشة هو وصاحبان له يطلبان رسول الله


#506#

صلى الله عليه وسلم، فلم يجداه، فأطعمتهما عائشة – رضي الله عنها – تمرا وعصيدا فلم يلبثا أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلع يتكفأ فقال: ((هل أطعمكما أحد؟)) فقلت: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الحديث.

*قال هند: "ويخطو تكفؤا ويمشي هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب": معنى قوله: "يخطو تكفؤا" أي: مائلا إلى جهة ممشاه وغرضه.

وقيل: التكفؤ التمايل إلى قدام، وروي مهموزا على الأصل، وغير مهموز كما جاء في رواية: "إذا مشى تكفى تكفيا".

وقوله: "ويمشي هونا" أي: في رفق ولين، وبالسكينة والوقار، غير مختال ولا معجب.


#507#

وقوله "ذريع المشية" أي: سريعها، وظاهره ضد قوله: "ويمشي هونا" ولا تضاد بينهما؛ لأن معنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم مع تثبته في المشي يتابع بين الخطوات ويوسعها فيسبق غيره، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: وما رأيت أحدا أسرع من رسول الله صلى الله عليه سلم في مشيه، كأنما الأرض تطوى له .. الحديث وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.

وقال القاضي عياض في تفسير "ذريع المشي" أي: أن مشيه صلى الله عليه وسلم كان يرفع فيه رجليه بسرعة ويمد خطوه خلاف مشية المختال، ويقصد سمته، وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة، كما قال: كأنما ينحط من صبب.

قول القاضي رحمه الله: "برفق وتثبت دون عجلة"، لا يسلم له مع قوله: "يرفع فيه رجليه بسرعة" إلا أن يريد بذلك المعنى الذي قدمناه من الجمع بين قوله ويمشي هونا وذريع المشية.

وقد روى ابن لهيعة، عن أبي يونس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه،


#508#

وما رأيت أحدا أسرع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشيته، كأنما تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث.

خرجه الترمذي لابن لهيعة وقال: هذا حديث غريب.

وخرجه أحمد في "مسنده" من طريق ابن لهيعة.

تابعه عمرو بن الحارث فيما حدث به ابن المبارك في كتابه "الزهد" فقال: أخبرنا رشدين بن سعد، حدثني عمرو بن الحارث، عن أبي يونس مولى أبي هريرة أنه سمع أبا هريرة فذكره.

وأبو يونس اسمه سليم بن جبير، سماه البخاري في "تاريخه" ومسلم في كتاب "الكنى" وغيرهما.

وروى الحديث ابن حبان في "تاريخه" ولفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فكنت إذا مشيت يسبقني فأهرول، فقال رجل إلى جنبي: إن الأرض تطوى له. غريب.

ورواه أبو بكر سعيد بن يعقوب الطالقاني – وهو ثقة - عن ابن المبارك، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، حدثني فلان، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن


#509#

النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى مشى مجتمعا ليس فيه كسل.

ورواه أبو عروبة الحسين بن أبي معشر الحراني فقال: حدثنا عبدة - يعني: ابن عبد الله - حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن رجل، عن ابن عباس، فذكره بنحوه.

تابعهما هدبة بن خالد وغيره عن حماد.

والرجل المبهم هو عكرمة، صرح به أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في روايته عن المقدمي، حدثنا يحيى بن راشد، حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى مشى مشيا يعرف أنه ليس بمشي عاجز ولا كسلان.

وقال ابن المبارك في كتابه "الزهد" أخبرنا أبو إسرائيل، عن سيار أبي الحكم حدثه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي مشية السوقي لا العاجز ولا الكسلان.

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث يحيى بن أيوب عن حميد، عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنه يتوكأ.

لم يروه عن حميد إلا يحيى بن أيوب، قاله الطبراني.

وليس كذلك، فإنه لم ينفرد به يحيى بن أيوب بل تابعه عليه غيره فقد خرجه أبو داود في "سننه" وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"


#510#

عن وهب بن بقية، عن خالد هو ابن عبد الله الواسطي الطحان، عن حميد، عن أنس.

وخرجه الترمذي، عن حميد بن مسعدة عن عبد الوهاب، عن حميد به، وقال: حسن صحيح غريب.

وهذه الروايات تدل على أن مشيته صلى الله عليه وسلم لم تكن بتماوت ولا بمهانة بل بسكينة ووقار، ومع هذا كأنما ينحط من صبب كمشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء.

والصيب: الموضع المنحدر من الأرض.

وروي: "كأنما يهوي في صبوب".

قال أبو داود في "سننه": حدثنا حسين بن معاذ، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد الجريري، عن أبي الطفيل قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت كيف رأيته؟ قال: كان أبيض مليحا إذا مشى كأنما يهوي في صبوب.

روى "صبوب" بفتح الصاد وضمها، وبالضم: جمع صبب، وهو ما انحدر من الأرض، وبالفتح اسم لما يصب على الإنسان من ماء ونحوه.

ومعنى يهوي: ينزل وذلك مشية القوي من الرجال.


#511#

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي حافيا ومنتعلا.

*قال هند: "وإذا التفت التفت جميعا":

وفي حديث علي رضي الله عنه: "وإذا التفت التفت معا".

وقال وكيع بن الجراج في كتابه في "الزهد": حدثنا مسعر، عن عون بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضحك إلا تبسما ولا يلتفت إلا جميعا.

وقال أحمد بن صالح: حدثنا ابن أبي فديك، حدثنا ابن أبي ذئب عن صالح بن أبي صالح - مولى التوأمة - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان ينعت النبي صلى الله عليه وسلم: شبح الذراعين أهدب أشفار العينين بعيد ما بين المنكبين


#512#

يقبل جميعا ويدبر جميعا .. الحديث.

قال أحمد بن صالح: يعني: بشبح الذراعين تام الذراعين.

ومعنى: "التفت معا" ونحوه: أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يلوي عنقه ورأسه إذا أراد أن يلتفت إلى ورائه فعل الطائش العجل إنما يدير بدنه جميعا وينظر.

وقيل: أراد أنه لا يسارق النظر.

*قال هند: "خافض الطرف":

أصل الطرف: تحرك البصر بالنظر، يقال: طرف البصر يطرف – بالكسر – طرفا تحرك، ثم سمي البصر طرفا.

ومعنى "خافض الطرف" أي: يغض بصره ويطرفه، كما قال بعده: نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء.

*[قال هند]: "جل نظره الملاحظة":

الملاحظة: أن ينظر إلى الشيء بلحظ عينه، وهو شقها الذي يلي الصدغ والأذن، ولا يحدق إليه تحديقا، وفي هذا دليل الحياء والكرم.


#513#

*قال هند: "يسوق أصحابه":

ويروى "ينس أصحابه" وهما بمعني، يقال: نس إبله نسا، أي: ساقها، أي: يقدمهم أمامه ويمشي وراءهم.

وروى الحارث بن أبي أسامة، عن عبد العزيز بن أبان، حدثنا سفيان، عن الأسود بن قيس العبدي، عن نبيح أبي عمرو، عن جابر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: ((امشوا أمامي وخلوا ظهري للملائكة)).

وخرجه ابن ماجه في "سننه" عن علي بن محمد، عن وكيع، عن سفيان ولفظه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى مشى أصحابه أمامه وتركوا ظهره للملائكة.


#514#

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بنحوه.

وقيل: إن ظهره صلى الله عليه وسلم كان للملائكة لتعظيم خاتم النبوة الذي عند نغض كتفه، أو يكون لغيره من الإكرام الزائد الذي لا يعبر عنه.

وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث ثابت البناني، عن شعيب بن عبد الله بن عمرو، عن أبيه رضي الله عنه قال: ما رئي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا ولا يطأ عقبه رجلان.

وخرجه أبو بكر أحمد بن السني في كتابه "رياضة المتعلمين" فقال: حدثني عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا أحمد بن يحيى الأودي، حدثنا أبو أسامة، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن شعيب بن عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا ولا يطأ عقبه رجلان.

وقال: أخبرنا محمد بن علي بن بحر، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، حدثنا السميط: أن أبا السوار حدثه، عن خاله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأناس يتبعونه قال: فاتبعته معهم قال: فعجبني القوم يسعون،


#515#

وأتقي القوم، فأتى علي فضربني بعسيب أو قضيب أو بسواك كان معه - والله ما أوجعني - فلما أصبحنا أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم إن ناسا يتبعوني وإني لا أحب أن يتبعوني، اللهم فمن ضربته أو شتمته فاجعلها له كفارة وأجرا)) أو قال: ((مغفرة ورحمة)).

*قال هند: "ويبدأ من لقيه بالسلام":

هكذا في رواية ابن شاذان، وفي رواية الترمذي وغيره: "ويبدر من لقيه بالسلام" والمعنى واحد، إلا أنه يقال: بدأ بالأمر قدمه على غيره، وبدر إليه أسرع.

وقال الحسن – رضوان الله عليه - قلت: صف لي منطقه صلى الله عليه وسلم. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة:

وفي رواية ابن عباس التي ذكرناها عن هند بن أبي هالة رضي الله عنه قال: كان – بأبي وأمي – طويل الصمت، دائم الفكرة، متواتر الأحزان.

ومتواتر ومتواصل، معناهما قريب.

وتواصل أحزانه صلى الله عليه وسلم، ودوام فكره، وعدم راحته؛ لاهتمامه بأمر الدين والقيام بما بعث به وكلف تبليغه، وخوفه من أمور الآخرة.

وقد وردت أحاديث تشعر بذلك منها: ما قال الإمام أحمد في "مسنده" حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ وحسين بن محمد المعنى، قالا: أخبرنا أبو رجاء عبد الله بن واقد الهروي، حدثنا محمد بن مالك، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ


#516#

بصر بجماعة فقال: ((علام اجتمع عليه هؤلاء))؟ قيل: على قبر يحفرونه، ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدر بين يدي أصحابه مسرعا حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه. قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، قال: فبكى حتى بل الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا فقال: ((أي إخواني، لمثل هذا اليوم فأعدوا)).

وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتابه في "الزهد": حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ثابت أبو سلمة الدوسي، عن سالم بن عبد الله قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ارزقني عينين هطالتين تبكيان بذروف الدموع ويشفياني من خشيتك قبل أن يكون الدمع دما والأضراس جمرا)).

وقال وكيع بن الجراح في كتابه في "الزهد": حدثنا زياد بن أبي مسلم أبو عمرو، عن صالح أبي الخليل قال: لما نزلت: {أفمن هذا الحديث تعجبون . وتضحكون ولا تبكون} فما رئي النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكا أو مبتسما.


#517#

وخرج الترمذي في "الشمائل" من حديث ثابت، عن مطرف عن أبيه رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء.

وقال يحيى بن سعيد القطان: حدثنا قدامة بن عبد الله، حدثتني جسرة، سمعت أبا ذر رضي الله عنه يقول: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية حتى أصبح الآية: {إن تعذبهم فإنهم عبادك}.

وخرجه النسائي، عن نوح بن حبيب، وابن ماجه عن أبي بشر بكر بن خلف – ختن المقرئ – كلاهما عن يحيى بن سعيد.

وقال عبد الله بن المبارك في كتابه "الزهد": أخبرنا أيضا – يعني: إسماعيل بن مسلم العبدي – عن أبي المتوكل الناجي: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام ذات ليلة بآية من القرآن يكررها على نفسه.

وخرج أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" من طريق روح بن مسافر، عن محمد بن الملائي، عن أبيه، عن أبي هريرة، أو عن محمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة فقرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) فبكى حتى سقط، فقرأها عشرين


#518#

مرة كل ذلك يبكي حتى سقط ثم قال في آخر ذلك: ((لقد خاب من لم يرحمه الرحمن الرحيم)).

روح أبو بشر، وكناه لوين: "أبا المعطل" أحد المتروكين، قال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات، لا تحل الرواية عنه.

وخرج أيضا من طريق أبي جناب وهو يحيى بن أبي حية الكلبي، أخبرنا عطاء قال: دخلت أنا وعبد الله بن عمر وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: حدثيني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت ثم قالت: كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلة حتى دخل معي في لحافي، وألزق جلده بجلدي قال: ((يا عائشة، ائذني لي أتعبد لربي عز وجل)) فقلت: إني أحب قربك وهواك. قالت: فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء، ثم قام


#519#

فقرأ القرآن قالت: ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت [حجره، ثم اتكأ على جنبه الأيمن، ثم وضع يده اليمنى تحت خده، ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت] الأرض. قال: فجاءه بلال فآذنه بصلاة الفجر، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر! قال: ((أفلا أكون عبدا شكورا)) وقال: ((ألا أبكي وقد أنزل علي الليلة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} إلى قوله: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها)).

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث عمرو بن هاشم البيروتي، حدثنا سليمان بن أبي كريمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن


#520#

عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل عني أو من سره أن ينظر إلى، فلينظر إلى أشعث شاحب مشمر لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، رفع له علم فشمر إليه، اليوم المضمار وغدا السباق، والغاية الجنة أو النار)).

وقال محمد بن مصفى الحمصي: حدثنا محمد بن حمير، عن أبي بكر، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اشترى أسامة بن زيد رضي الله عنهما وليدة بمائة دينار إلى شهر فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر، إن أسامة لطويل الأمل، والذي نفسي بيده، ما طرفت عيناي إلا وظننت أن شفري لا يلتقيان حتى أقبض، ولا رفعت طرفي فظننت أني واضعه حتى أقبض، ولا لقمت لقمة إلا ظننت أني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت))، ثم قال: ((يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين)).

تفرد به محمد بن حمير فيما قاله أبو نعيم.


#521#

وقال حماد بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد في كتابه "تركة النبي صلى الله عليه وسلم": حدثنا مسدد، حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي السفر، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطا أنا وأمي فقال: ((ما هذا يا عبد الله))؟ فقلت: يا رسول الله شيء أصلحه، قال: ((الأمر أسرع من ذاك)).

وخرج الطبراني من حديث سليمان بن موسى، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة، حدثني خبيب بن سليمان بن سمرة، [عن أبيه، عن سمرة] بن جندب رضي الله عنه فذكر أحاديث منها: قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إني لألج هذه الغرفة ما ألجها حينئذ إلا خشية أن يكون فيها مال فأتوفى ولم أنفقه)).

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا عصمة بن الفضل، حدثنا يحيى بن يحيى، عن عبد الله بن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن حنش، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج فيهرق الماء فيتمسح


#522#

بالتراب فأقول: يا رسول، إن الماء منك قريب قال: ((ما أدري لعلي لا أبلغه)).

وقال أحمد: حدثني يحيى مرة كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فأهراق الماء فتيمم فقيل له: إن الماء منا قريب. تفرد به ابن لهيعة فيما أعلم.

تابع موسى بن داود ويحيى بن يحيى: عبد الله بن المبارك فحدث به في كتابه "الزهد" عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة، عن حنش، فلم يذكر الأعرج.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن عتاب بن زياد، حدثنا عبد الله بن المبارك .. فذكره كذلك.

وقال ابن سعد أيضا: أخبرنا عتاب بن زياد، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا عبد العزيز بن أبي رواد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد جنازة أكثر الصمات، وأكثر حديث نفسه، وكانوا يرون أنما يحدث نفسه بأمر الميت وما يرد عليه وما هو مسئول عنه.


#523#

*قال هند: "ولا يتكلم في غير حاجة":

خرج أبو داود في "سننه" من حديث عبيد الله بن الأخنس، أخبرني الوليد بن عبد الله، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه [من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه] ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق)).

وخرجه أحمد بن حنبل فقال: حدثنا يزيد بن هارون، ومحمد بن يزيد قالا: أخبرنا ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن


#524#

جده بنحوه.

تابعهما عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن ابن إسحاق.

ورواه محمد بن عبيد الله العرزمي ومحمد بن مثنى بن الصباح ودويد بن طارق وغيرهم عن عمرو، ولفظ المثنى أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أكتب كل ما أسمع منك؟ قال: ((نعم))، قال: وفي الغضب والرضا؟ قال: ((نعم، إني لا أقول في الغضب والرضا إلا الحق)).

وخرَّجه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه "(تقييد العلم" من طرق منها: طريق عبد الرحيم بن هارون الغساني، حدثنا إسماعيل المكي، عن داود بن شابور، عن عمرو بن شعيب، بنحوه.

قال عبد الرحيم: فحدثت به شعبة بن الحجاج فقال: سمعته كما سمع إسماعيل من داود بن شابور عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مثله.

ورواه أبو كدينة يحيى بن المهلب، عن عطاء بن السائب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو كذلك.

ورواه ابن وهب فقال: حدثني عبد الرحمن بن سلمان، عن عقيل بن خالد، عن عمرو بن شعيب أن شعيبا حدثه ومجاهدا: أن عبد الله بن عمرو حدثهما أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكتب ما أسمع منك؟ قال: ((نعم))

قال عبد الله: عند الغضب وعند الرضا؟!

قال: ((نعم، إنه لا ينبغي لي أن


#525#

أقول إلا حقا))

*قال هند: "طويل السكوت": روي عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سَمُرَة: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال: نعم، فكان كثير الصمت.

وفي رواية: كان طويل الصمت، وكان أصحابه يتناشدون الأشعار ويذكرون أمر الجاهلية، ويتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

*قال هند: "يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه": معناه من قولهم خطيب أشدق، إذا فتح فمه بالكلام وأخرج كل حرف من مكانه بغير تكلف، وقيل فيما حكاه أبو الحسن علي ابن الأثير: أنه صلى الله عليه وسلم [كان] لا يتشدق في كلامه بأن يفتح فاه كله ويتقعر في الكلام، والأول عندي أظهر، والله أعلم.

والشدق - بكسر الشين المعجمة وفتحها -: جانب الفم وإلى الشدقين ينتهي شق الفم.



[1] [[هذا العنوان من طبعة الكتب العلمية]]

[2] [[هذا العنوان من طبعة الكتب العلمية]]

[3] [[هذا العنوان زيادة من طبعة الكتب العلمية]]

[4] [[ من هنا إلى نهاية صفحة (132) لم يرد في طبعة الكتب العلمية، ولا مكان له هنا، وقد تقدم بنصه في هذه الطبعة صفحة (123)]]

[5] [[ هذين البيتين من طبعة الكتب العلمية]]

[6] انتهى هاهنا ما وجد من النسخة الخطية المصورة من جامعة الإمام محمد بن سعود بالمملكة السعودية حفظها الله.

[[وقد سقط من هذه الطبعة (350) صفحة، وهي موجودة في طبعة دار الكتب العلمية، من الصفحة (1374) من المجلد الثالث إلى آخر هذا المجلد صفحة (1724)]]

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

والثمن الجنة لعبد الملك القاسم

سلسلة أين نحن من هؤلاء ؟  كتاب والثمن الجنة لعبد الملك القاسم  بسم الله الرحمن الرحيم  المقدمة  الحمد لله الذي وعد من أطاعه جنات عدن تجري ...