دعاء الاموات لمشاري

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate

الاثنين، 6 مارس 2023

تفسير سورة الفرقان الايات من44.الي55.

تفسير سورة الفرقان الايات من44.الي55. 

 أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)

== 

الفرقان - تفسير ابن كثير 

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)

{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا (44) } 

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)

يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، إذا رأوه، كما قال: { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } [ الأنبياء : 36] يعنونه بالعيب والنقص، وقال هاهنا: { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا } ؟ أي: على سبيل التنقص (1) والازدراء -قبَّحهم الله -كما قال: { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [ الرعد : 32] .

وقولهم (2) : { إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا } يعنون: أنه كاد يثنيهم عن عبادة أصنامهم، لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا على عبادتها. قال الله تعالى متوعدا لهم ومتهددا: { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا

ثم قال تعالى لنبيه، منبهًا له أن من كتب الله عليه الشقاوة والضلال، فإنه لا يهديه أحد إلا الله.

{ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } أي: مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه، كان دينَه ومذهبَه، كما قال تعالى: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر:8] ؛ ولهذا قال هاهنا: { أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا } . قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زماناً، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول.

ثم قال: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا } أي: أسوأ حالا من الأنعام السارحة، فإن تلك تعقل ما خلقت له، وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له، وهم يعبدون غيره ويشركون به، مع قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسل إليهم.

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) }

من هاهنا شرع تعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة، فقال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } ؟ قال ابن عباس، وابن عمر، وأبو..

__________

(1) في ف، أ: "التنقيص".

(2) في أ: "وقوله". (6/113) 

وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)

العالية، وأبو مالك، ومسروق، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعِي، والضحاك، والحسن البصري، وقتادة، والسدي، وغيرهم: هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. { وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } أي: دائما لا يزول، كما قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ القصص : 71 -72] .

وقوله: { ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا } أي: لولا أن الشمس تطلع عليه، لما عرف، فإن (1) الضد لا يعرف إلا بضده.

وقال قتادة، والسّدي: دليلا يتلوه ويتبعه حتى يأتي عليه كله.

وقوله: { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } أي: الظل، وقيل: الشمس. { يسيرا } أي: سهلا. قال ابن عباس: سريعاً. وقال مجاهد: خفياً. وقال السّدي؛ قبضاً خفَياً، حتى لا يبقى في الأرض ظل إلا تحت سقف أو تحت شجرة، وقد أظلت الشمس ما فوقه.

وقال أيوب بن موسى: { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } أي: قليلا قليلا.

وقوله: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا } أي: يلبس الوجود ويُغَشيه (2) ، كما قال: [ { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } [ الليل : 1 ] وقال] (3) { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } [ الشمس : 4] .

{ وَالنَّوْمَ سُبَاتًا } أي: قَطْعَا للحركة لراحة الأبدان، فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعايش، فإذا جاء الليل وسكن سكنت الحركات، فاستراحت فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معا.

{ وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا } أي: ينتشر الناسُ فيه (4) لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم، كما قال تعالى: { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ القصص : 73] .

{ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا (50) } .

وهذا أيضا من قدرته التامة وسلطانه العظيم، وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات، أي: بمجيء السحاب بعدها، والرياح أنواع، في صفات كثيرة من التسخير، فمنها ما يثير السحاب، ومنها ما يحمله، ومنها ما يسوقه، ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشِّرا، ومنها ما يكون قبل ذلك يَقُمّ الأرض، ومنها ما يلقح السحاب ليمطر؛ ولهذا قال: { وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } أي: آلة يتطهر بها، كالسَّحُور والوقود (5) وما جرى مجراه. فهذا أصح ما يقال في ذلك. وأما من قال: إنه فعول

__________

(1) في ف: "وإن".

(2) في ف: "ويغشاه".

(3) زيادة من أ.

(4) في ف: "فيه الناس".

(5) في أ: "والوجود". 

بمعنى فاعل، أو: إنه مبني للمبالغة أو التعدي، فعلى كل منهما (1) إشكالات من حيث اللغة والحكم، ليس (2) هذا موضع بسطها، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، حدثني حُمَيد الطويل، عن ثابت البناني قال: دخلت مع أبي العالية في يوم مطير، وطرق البصرة قذرة، فصلى، فقلت له، فقال: { وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } قال: طهره ماء السماء.

وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا وُهَيب (3) عن داود، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية: { وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } [قال: أنزله الله ماءً طاهراً] (4) لا ينجسه شيء.

وعن أبي سعيد قال: قيل: يا رسول الله، أنتوضأ من بئر بضاعة؟ -وهي بئر يُلقَى فيها النَّتَن، ولحوم الكلاب -فقال: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" رواه الشافعي، وأحمد وصححه، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي (5) .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الأشعث، حدثنا معتمر، سمعت أبي يحدث عن سَيَّار، عن خالد بن يزيد، قال: كان عند عبد الملك بن مروان، فذكروا الماء، فقال خالد بن يزيد: منه من السماء، ومنه ما يسقيه الغيم من البحر فَيُعْذِبه الرعد والبرق. فأما ما كان من البحر، فلا يكون له نبات، فأما النبات فمما كان من السماء.

وروي عن عكرمة قال: ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة. وقال غيره: في البر بُر، وفي البحر دُرّ.

وقوله: { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا } أي: أرضا قد طال انتظارها للغيث، فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء. فلما جاءها الحيا عاشت واكتست رباها أنواع الأزاهير والألوان، كما قال تعالى: { فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5] .

{ وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا } أي: وليشرب منه الحيوان من أنعام وأناسي محتاجين إليه غاية الحاجة، لشربهم وزروعهم وثمارهم، كما قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [ الشورى : 28] وقال تعالى: { فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الروم : 50] .

وقوله: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا } أي: أمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب فمر على الأرض وتعداها وجاوزها إلى الأرض الأخرى، [فأمطرتها وكفتها فجعلتها عذقا، والتي وراءها] (6) لم ينزل فيها قطرة من ماء، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة.

__________

(1) في أ: "منها".

(2) في ف، أ: "وليس".

(3) في أ: "وهب".

(4) زيادة من ف، أ.

(5) الأم للشافعي (1/9) والمسند (3/15) وسنن أبي داود برقم (66) وسنن الترمذي برقم (66) وسنن النسائي (1/174).

(6) زيادة من ف، أ.

(6/115)

 

 

وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)

قال ابن مسعود وابن عباس: ليس عام بأكثر مطرًا من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء، ثم قرأ هذه الآية: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا } .

أي: ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات (1) . والعظام الرفات. أو: ليذكر من منع القَطْر أنما أصابه ذلك بذنب أصابه، فيقلع عما هو فيه.

وقال عُمَر مولى غُفْرَة (2) : كان جبريل، عليه السلام، في موضع الجنائز، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل، إني أحب أن أعلم أمْرَ السحاب؟" قال: فقال جبريل: يا نبي الله، هذا ملك السحاب فسله. فقال: تأتينا صَكاك مُخَتَّمة: اسق بلاد كذا وكذا، كذا وكذا قطرة. رواه ابن حاتم، وهو حديث مرسل.

وقوله: { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا } : قال عكرمة: يعني: الذين (3) يقولون: مطرنا بنَوء كذا وكذا.

وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوماً، على أثر سماء أصابتهم من الليل: "أتدرون ماذا قال ربكم" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي، مؤمن بالكوكب" (4) .

{ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) } .

يقول تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا } يدعوهم إلى الله عز وجل، ولكنا خصصناك -يا محمد -بالبعثة إلى جميع أهل الأرض، وأمرناك أن تبلغ الناس هذا القرآن، { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19] ، { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17]{ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } [ الأنعام : 92] ، { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158] . وفي الصحيحين: "بعثت إلى الأحمر والأسود" وفيهما: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"؛ ولهذا قال: { فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } يعني: بالقرآن، قاله ابن عباس { جِهَادًا كَبِيرًا } ، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73،التحريم : 9] .

__________

(1) في ف، أ: "الموتى".

(2) في ف، أ: "عقبة".

(3) في أ: "الذي".

(4) صحيح مسلم برقم (71) من حديث زيد بن خالد الجهني.

(6/116)

 

 

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)

وقوله: { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي: خلق الماءين: الحلو والملح، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار، وهذا هو البحر الحلو الفرات العذب الزلال. قاله ابن جريج، واختاره ابن جرير، وهذا الذي لا شك فيه، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات. والله سبحانه إنما أخبر بالواقع (1) لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه، فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس، فرقه تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارًا وعيونًا في كل أرض بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم.

وقوله: { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي: مالح مُرّ زعاق لا يستساغ، وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب: البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق وبحر القلزم، وبحر اليمن، وبحر البصرة، وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر، وما شاكلها وشابهها (2) من البحار الساكنة التي لا تجري، ولكن تتموج وتضطرب وتغتلم في زمن الشتاء وشدة الرياح، ومنها ما فيه مد وجَزْر، ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض (3) ، فإذا شرع الشهر في النقصان جَزَرت، حتى ترجع إلى غايتها الأولى، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد إلى الليلة الرابعة عشرة (4) ثم تشرع في النقص، فأجرى الله سبحانه وتعالى -وله القدرة التامة -العادة بذلك. فكل هذه البحار الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة الماء، لئلا يحصل بسببها نتن الهواء، فيفسد الوجود بذلك، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان. ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن ماء البحر: أنتوضأ به؟ فقال: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" . رواه الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، وأهل السنن بإسناد جيد (5) .

وقوله: { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا } أي: بين العذب والمالح { برزخا } أي: حاجزاً، وهو اليَبَس من الأرض، { وَحِجْرًا مَحْجُورًا } أي: مانعاً أن يصل أحدهما إلى الآخر، كما قال: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 19 -21] ، وقال تعالى: { أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ النمل : 61] .

وقوله: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } أي: خلق الإنسان من نطفة ضعيفة، فسواه وعَدّله، وجعله كامل الخلقة، ذكراً أو أنثى، كما يشاء، { فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } ، فهو في ابتداء أمره ولد نسيب، ثم يتزوج فيصير صهراً، ثم يصير له أصهار وأختان وقرابات. وكل ذلك من ماء مهين؛ ولهذا قال: { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } .

{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) }

__________

(1) في أ: "عن الواقع".

(2) في أ: "وأشبهها".

(3) في أ: "وقيض".

(4) في أ: "عشر".

(5) سبق تخريجه عند تفسير الآية: 3 من سورة المائدة.

==== 

الفرقان - تفسير القرطبي 

الآية: 44 {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}

قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} ولم يقل أنهم لأن منهم من قد علم أنه يؤمن. وذمهم جل وعز بهذا. {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} سماع قبول أو يفكرون فيما تقول فيعقلونه؛ أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع. وقيل: المعنى أنهم لما لم ينتفعوا بما يسمعون فكأنهم لم يسمعوا؛ والمراد أهل مكة. وقيل: {أَمْ} بمعنى بل في مثل هذا الموضع. {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ} أي في الأكل والشرب لا يفكرون في الآخرة. {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام. وقال مقاتل: البهائم تعرف ربها وتهتدي إلى مراعيها وتنقاد لأربابها التي تعقلها، وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم. وقيل: لأن البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك أيضا.

الآية: [45] {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً،}

الآية: [46] {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً}

(13/36)

 

 

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين، ومجوز أن تكون من العلم. وقال الحسن وقتادة وغيرهما: مد الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وقيل: هو من غيوبة الشمس إلى طلوعها. والأول أصح؛ والدليل على ذلك أنه ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة؛ فإن فيها يجد المريض راحة والمسافر وكل ذي علة: وفيها ترد نفوس الأموات والأرواح منهم إلى الأجساد، وتطيب نفوس الأحياء فيها. وهذه الصفة مفقودة بعد المغرب. وقال أبو العالية: نهار الجنة هكذا؛ وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. أبو عبيدة: الظل بالغداة والفيء بالعشي؛ لأنه يرجع بعد زوال الشمس؛ سمي فيئا لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب. قال الشاعر، وهو حميد بن ثور يصف سرحة وكني بها عن امرأة:

فلا الظل من برد الضحا تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تذوق

وقال ابن السكيت: الظل ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس. وحكى أبو عبيدة عن رؤية قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل. {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} أي دائما مستقرا لا تنسخه الشمس. ابن عباس: يريد إلى يوم القيامة، وقيل: المعنى لو شاء لمنع الشمس الطلوع. {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أي جعلنا الشمس بنسخها الظل عند مجيئها دالة على أن الظل شيء ومعنى؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها ولولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة. فالدليل فعيل بمعنى الفاعل. وقيل: بمعنى المفعول كالقتيل والدهين والخضيب. أي دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به؛ أي أتبعناها إياه. فالشمس دليل أي حجة وبرهان، وهو الذي يكشف المشكل ويوضحه. ولم يؤنث الدليل وهو صفة الشمس لأنه في معنى الاسم؛ كما يقال: الشمس برهان والشمس حق. {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} يريد ذلك الظل الممدود. {إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} أي يسيرا قبضه علينا. وكل أمر ربنا عليه يسير. فالظل مكثه في هذا الجو بمقدار طلوع

(13/37)

 

 

الفجر إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضا، وخلفه في هذا الجو شعاع الشمس فأشرق على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها، فإذا غربت فليس هناك ظل، إنما ذلك بقية نور النهار. وقال قوم: قبضه بغروب الشمس؛ لأنها ما لم تغرب فالظل فيه بقية، وإنما يتم زواله بمجيء الليل ودخول الظلمة عليه. وقيل: إن هذا القبض وقع بالشمس؛ لأنها إذا طلعت أخذ الظل في الذهاب شيئا فشيئا؛ قاله أبو مالك وإبراهيم التيمي. وقيل: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} أي قبضنا ضياء الشمس بالفيء {قَبْضاً يَسِيراً}. وقيل: {يَسِيراً} أي سريعا، قاله الضحاك. قتادة: خفيا؛ أي إذا غابت الشمس قبض الظل قبضا خفيا؛ كلما قبض جزء منه جعل مكانه جزء من الظلمة، وليس يزول دفعة واحدة. فهذا معنى قول قتادة؛ وهو قول مجاهد.

الآية: [47] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً}

فيه أربع مسائل:

الأولى- قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} يعني سترا للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن. قال الطبري: وصف الليل باللباس تشبيها من حيث يستر الأشياء ويغشاها.

الثانية- قال ابن العربي: ظن بعض الغفلة أن من صلى عريانا في الظلام أنه يجزئه؛ لأن الليل لباس. وهذا يوجب أن يصلي في بيته عريانا إذا أغلق عليه بابه. والستر في الصلاة عبادة تختص بها ليست لأجل نظر الناس. ولا حاجة إلى الإطناب في هذا.

الثالثة- قوله تعالى: {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} أي راحة لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال. وأصل السبات من التمدد. يقال: سبتت المرأة شعرها أي نقضته وأرسلته. ورجل مسبوت أي ممدود الخلقة. وقيل: للنوم سبات لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة. وقيل:

(13/38)

 

 

السبت القطع؛ فالنوم انقطاع عن الاشتغال؛ ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الأعمال فيه. وقيل: السبت الإقامة في المكان؛ فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه؛ فالنوم سبات على معنى أنه سكون عن الاضطراب والحركة. وقال الخليل: السبات نوم ثقيل؛ أي جعلنا نومكم ثقيلا ليكمل الإجمام والراحة.

الرابعة- قوله تعالى: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} من الانتشار للمعاش؛ أي النهار سبب الإحياء للانتشار. شبه اليقظة فيه بتطابق الإحياء مع الإماتة. وكان عليه السلام إذا أصبح قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" .

الآية: [48] {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} تقدم في {الأعراف} مستوفي.

قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}

فيه خمس عشرة مسألة:

الأولى- قوله تعالى: {مَاءً طَهُوراً} يتطهر به؛ كما يقال: وضوء للماء الذي يتوضأ به. وكل طهور طاهر وليس كل طاهر طهورا. فالطهور: "بفتح الطاء" الاسم. وكذلك الوضوء والوقود. وبالضم المصدر، وهذا هو المعروف في اللغة؛ قاله ابن الأنباري. فبين أو الماء المنزل من السماء طاهر في نفسه مطهر لغيره؛ فإن الطهور بناء مبالغة في طاهر وهذه المبالغة اقتضت أن يكون طاهرا مطهرا. وإلى هذا مذهب الجمهور. وقيل: إن {طَهُوراً} بمعنى طاهر؛ وهو قول أبي حنيفة؛ وتعلق بقوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21] يعني طاهرا.  ويقول الشاعر:

خليلي هل في نظرة بعد توبة ... أداوي بها قلبي علي فجور

إلى رجح الأكفال غيد من الظبا ... عذاب الثنايا ريقهن طهور

فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر. وتقول العرب: رجل نؤوم وليس ذلك بمعنى أنه. منيم لغيره، وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه. ولقد أجاب علماؤنا عن هذا فقالوا: وصف شراب الجنة بأنه طهور يفيد التطهير عن أوضار الذنوب وعن خسائس الصفات كالغل والحسد، فإذا شربوا هذا الشراب يطهرهم الله من رحض الذنوب وأوضار الاعتقادات الذميمة، فجاؤوا الله بقلب سليم، ودخلوا الجنة بصفات التسليم، وقيل لهم حينئذ: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. ولما كان حكمه في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الأعضاء كانت تلك حكمته في الآخرة. وأما قول الشاعر:

ريقهن طهور

فإنه قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية لعذوبته وتعلقه بالقلوب، وطيبه في النفوس، وسكون غليل المحب برشفه حتى كأنه الماء الطهور، وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشعرية؛ فإن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق إلى الكذب، ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية، وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون. ألا ترى إلى قول بعضهم:

ولو لم تلامس صفحة الأرض رجلها

لما كنت أدري علة للتيمم

وهذا كفر صراح، نعوذ بالله منه. قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا منتهى لباب كلام العلماء، وهو بالغ في فنه؛ إلا أني تأملت من طريق العربية فوجدت فيه

(13/40)

 

 

مطلعا مشرقا، وهو أن بناء فعول للمبالغة، إلا أن المبالغة قد تكون في الفعل. المتعدي كما قال الشاعر:

ضروب بنصل السيف سوق سمانها

وقد تكون في الفعل القاصر كما قال الشاعر:

نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل

وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة ومن الشرع طهارة؛ كقوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور". وأجمعت الأمة لغة وشريعة على أن وصف طهور يختص بالماء فلا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة؛ فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدل دليل على أن الطهور هو المطهر، وقد يأتي فعول لوجه آخر ليس من هذا كله وهو العبارة به الآلة للفعل لا عن الفعل كقولنا: وقود وسحور بفتح الفاء، فإنها عبارة عن الحطب الطعم المتسحر به؛ فوصف الماء بأنه طهور: "بفتح الطاء" أيضا يكون خبرا عن الآلة التي يتطهر بها. فإذا ضمت الفاء في الوقود والسحور والطهور عاد إلى الفعل وكان خبرا عنه. فثبت بهذا أن اسم الفعول: "بفتح الفاء" يكون بناء للمبالغة ويكون خبرا عن الآلة، وهو الذي خطر ببال الحنفية، ولكن قصرت أشداقها عن لوكه، وبعد هذا يقف البيان عن المبالغة وعن الآلة على الدليل بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} . وقوله عليه السلام: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" يحتمل المبالغة ويحتمل العبارة به عن الآلة؛ فلا حجة فيه لعلمائنا، لكن يبقى قول {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] نص في أن فعله يتعدى إلى غيره.

الثانية: المياه المنزلة من السماء المودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها، والمخالط للماء على ثلاثة اضرب: ضرب يوافقه

(13/41)

 

 

في صفتيه جميعا، فإذا خالطه فغيره لم يسلبه وصفا منهما لموافقته لهما وهو التراب. والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة، فاذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه وهو التطهير؛ كماء الورد وسائر الطاهرات. والضرب الثالث يخالفه في الصفتين جميعا، فإذا خالطه فغيره سلبه الصفتين جميعا لمخالفته له فيهما وهو النجس.

الثالثة- ذهب المصريون من أصحاب مالك إلى أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة، وأن الكثير لا يفسده إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه من المحرمات. ولم يحدوا بين القليل والكثير حدا يوقف عنده، إلا أن ابن القاسم روى عن مالك في، الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب، ولم يكن غسل ما به من الأذى أنه قد أفسد الماء؛ وهو مذهب ابن القاسم وأشهب وابن عبدالحكم ومن اتبعهم من المصريين. إلا ابن وهب فإنه يقول في الماء بقول المدنيين من أصحاب مالك. وقولهم ما حكاه أبو مصعب عنهم وعنه: أن الماء لا تفسده النجاسة الحالة فيه قليلا كان أو كثيرا إلا أن تظهر فيه النجاسة الحالة فيه وتغير منه طعما أو ريحا أو لونا. وذكر أحمد بن المعدل أن هذا قول مالك بن أنس في الماء. وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير وأبو الفرج الأبهري وسائر المنتحلين لمذهب مالك، من البغداديين؛ وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وداود بن علي. وهو مذهب أهل البصرة، وهو الصحيح في النظر وجيد الأثر. وقال أبو حنيفة: إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته كثيرا كان أو قليلا إذا تحققت عموم النجاسة فيه. ووجه تحققها عنده أن تقع مثلا نقطة بول في بركة، فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس، وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس. وفي المجموعة نحو مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي بحديث القلتين، وهو حديث مطعون فيه؛ اختلف في إسناده ومتنه؛ أخرجه أبو داود والترمذي وخاصة الدارقطني، فإنه صدر به كتابه وجمع طرقه. قال ابن العربي: وقد رام الدارقطني على إمامته أن يصحح حديث القلتين فلم يقدر. وقال أبو عمر بن عبدالبر: وأما ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين فمذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت

(13/42)

 

 

في الأثر؛ لأنه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل، ولأن القلتين لا يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع، فلو كان ذلك حدا لازما لوجب على العلماء البحث عنه ليقفوا على حد ما حده النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من أصل دينهم وفرضهم، ولو كان ذلك كذلك ما ضيعوه، فلقد بحثوا عما هو أدون من ذلك وألطف.

قلت: وفيما ذكر ابن المنذر في القلتين من الخلاف يدل على عدم التوقيف فيهما والتحديد. وفي سنن الدارقطني عن حماد بن زيد عن عاصم بن المنذر قال: القلال الخوابي العظام. وعاصم هذا هو أحد رواة حديث القلتين. ويظهر من قول الدارقطني أنها مثل قلال هجر؛ لسياقه حديث الإسراء عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة" . وذكر الحديث. قال ابن العربي: وتعلق علماؤنا بحديث أبي سعيد الخدري في بئر بضاعة، رواه النسائي والترمذي وأبو داود وغيرهم. وهو أيضا حديث ضعيف لا قدم له في الصحة فلا تعويل عليه. وقد فاوضت الطوسي الأكبر في هذه المسألة فقال: إن أخلص المذاهب في هذه المسألة مذهب مالك، فإن الماء طهور ما لم يتغير أحد أوصافه؛ إذ لا حديث في الباب يعول عليه، وإنما المعول على ظاهر القرآن وهو قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} وهو ما دام بصفاته، فإذا تغير عن شيء منها خرج عن الاسم لخروجه عن الصفة، ولذلك لما لم يجد البخاري إمام الحديث والفقه في الباب خبرا يعول عليه قال: "باب إذا تغير وصف الماء" وأدخل الحديث الصحيح: "ما من أحد يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك" . فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدم بحاله وعليه رائحة المسك، ولم تخرجه الرائحة عن صفة الدموية. ولذلك قال علماؤنا: إذا تغير الماء بريح جيفة على طرفه وساحله لم يمنع ذلك الوضوء منه. ولو تغير بها وقد وضعت فيه لكان ذلك تنجيسا له للمخالطة والأول مجاورة لا تعويل عليها.

(13/43)

 

 

قلت: وقد استدل به أيضا على نقيض ذلك، وهو أن تغير الرائحة يخرجه عن أصله. ووجه هذا الاستدلال أن الدم لما استحالت رائحته إلى رائحة المسك خرج عن كونه مستخبثا نجسا، وأنه صار مسكا؛ وإن المسك بعض دم الغزال.

فكذلك الماء إذا تغيرت رائحته. وإلى هذا التأويل ذهب الجمهور في الماء. وإلى الأول ذهب عبدالملك. قال أبو عمر: جعلوا الحكم للرائحة دون اللون، فكان الحكم لها فاستدلوا عليها في زعمهم بهذا الحديث. وهذا لا يفهم منه معنى تسكن إليه النفس، ولا في الدم معنى الماء فيقاس عليه، ولا يشتغل بمثل هذا الفقهاء، وليس من شأن أهل العلم اللغز به وإشكاله؛ وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه، ولذلك أخذ الميثاق عليهم ليبيننه. للناس ولا يكتمونه، والماء لا يخلو تغيره بنجاسة أو بغير نجاسة، فإن كان بنجاسة وتغير فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر ولا مطهر، وكذلك أجمعوا أنه إذا تغير بغير نجاسة أنه طاهر على أصله. وقال الجمهور. إنه غير مطهر إلا أن يكون تغيره من تربة ومأة. وما أجمعوا عليه فهو الحق الذي لا إشكال فيه، ولا التباس معه.

الرابعة- الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز عنه فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به، لعدم الاحتراز منه والانفكاك عنه؛ وقد روى ابن وهب عن مالك أن غيره أولى منه.

الخامسة- قال علماؤنا رحمة الله عليهم: ويكره سؤر النصراني وسائر الكفار والمدمن الخمر، وما أكل الجيف؛ كالكلاب وغيرها. ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه حتى يستيقن النجاسة. قال البخاري: وتوضأ عمر رضي الله عنه من بيت نصرانية. ذكر سفيان بن عيينة قال: حدثونا عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما كنا بالشام أتيت عمر بن الخطاب بماء فتوضأ منه فقال: من أين جئت بهذا الماء؟ ما رأيت ماء عذبا ولا ماء سماء أطيب منه. قال قلت: جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية؛ فلما توضأ أتاها فقال: "أيتها العجوز أسلمي تسلمي، بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق. قال: فكشفت عن رأسها؛ فإذا

(13/44)

 

 

مثل الثغامة، فقالت: عجوز كبيرة، وإنما أموت الآن! فقال عمر رضى الله عنه: اللهم اشهد". خرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا أحمد بن إبراهيم البوشنجي قال حدثنا سفيان.. فذكره. ورواه أيضا عن الحسين بن إسماعيل قال حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توضأ من بيت نصرانية أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمي.. ؛ وذكر الحديث بمثل ما تقدم.

السادسة- فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك: يغسل الإناء سبعا ولا يتوضأ منه وهو طاهر. وقال الثوري: يتوضأ بذلك الماء ويتمم معه. وهو قول عبدالملك بن عبدالعزيز ومحمد بن مسلمة. وقال أبو حنيفة: الكلب نجس ويغسل الإناء منه لأنه نجس. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. وقد كان مالك يفرق بين ما يجوز اتخاذه من الكلاب وبين ما لا يجوز اتخاذه منها في غسل الإناء من ولوغه. وتحصيل مذهبه أنه طاهر عنده لا ينجس ولوغه شيئا ولغ فيه طعاما ولا غيره؛ إلا أنه استحب هراقة ما ولغ فيه من الماء ليسارة مؤنته. وكلب البادية والحاضرة سواء. ويغسل الإناء منه على كل حال سبعا تعبدا. هذا ما استقر عليه مذهبه عند المناظرين من أصحابه. ذكر ابن وهب وقال: حدثنا عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة، فقيل له: إن الكلاب والسباع ترد عليها. فقال: "لا ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور" أخرجه الدارقطني. وهذا نص في طهارة الكلاب وطهارة ما تلغ فيه. وفي البخاري عن ابن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرشون شيئا من ذلك. وقال عمر بحضرة الصحابة لصاحب الحوض الذي سأله عمرو بن العاص: هل ترد حوضك السباع. فقال عمر: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا. أخرجه مالك والدارقطني. ولم يفرق بين السباع، والكلب من جملتها، ولا حجة للمخالف

(13/45)

 

 

في الأمر بإراقة ما ولغ فيه وأن ذلك للنجاسة، وإنما أمر بإراقته لأن النفس تعافه لا لنجاسته؛ لأن التنزه من الأقذار مندوب إليه، أو تغليظا عليهم لأنهم نهوا عن اقتنائها كما قال ابن عمر والحسن؛ فلما لم ينتهوا عن ذلك غلظ عليهم في الماء لقلته عندهم في البادية، حتى يشتد عليهم فيمتنعوا من اقتنائها. وأما الأمر بغسل الإناء فعبادة لا لنجاسته كما ذكرناه بدليلين: أحدهما: أن الغسل قد دخله العدد. الثاني: أنه جعل للتراب فيه مدخل لقول عليه السلام: "وعفروه الثامنة بالتراب" . ولو كان للنجاسة لما كان للعدد ولا للتراب في مدخل كالبول. وقد جعل صلى الله عليه وسلم الهر وما ولغ فيه طاهرا، والهر سبع لا خلاف في ذلك؛ لأنه يفترس ويأكل الميتة؛ فكذلك الكلب وما كان مثله من السباع؛ لأنه إذا جاء نص ذلك في أحدهما كان نصا في الآخر. وهذا من أقوى أنواع القياس. هذا لو لم يكن هناك دليل؛ وقد ذكرنا النص على طهارته فسقط قول المخالف. والحمد لله.

السابعة- ما مات في الماء مما لا دم له فلا يضر الماء إن لم يغير ريحه؛ فإن أنتن لم يتوضأ به. وكذلك ما كان ل دم سائل من دواب الماء كالحوت والضفدع لم يفسد ذلك الماء موته فيه؛ إلا أن تتغير رائحته، فإن تغيرت رائحته وأنتن لم يجز التطهر به ولا الوضوء منه، وليس بنجس عند مالك. وأما ما له نفس سائلة فمات في الماء ونزح مكانه ولم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر مطهر سواء كان الماء قليلا أو كثيرا عند المدنيين. واستحب بعضهم. أن ينزح من ذلك الماء دلاء لتطيب النفس به، ولا يحدون في ذلك حدا لا يتعدى. ويكرهون استعمال ذلك الماء قبل نزح الدلاء، فإن استعمله أحد في غسل أو وضوء جاز إذا كانت حاله ما وصفنا. وقد كان بعض أصحاب مالك يرى لمن توضأ بهذا الماء وإن لم يتغير أن يتيمم، فيجمع بين الطهارتين احتياطا، فإن لم يفعل وصلى بذلك الماء أجزأه. وروى الدارقطني عن محمد بن سيرين أن زنجيا وقع في زمزم - يعني فمات - فأمر به ابن عباس رضي الله عنه فأخرج فأمر بها أن تنزح. قال: فغلبتهم عين جاءتهم من  الركن فأمر بها فدسمت بالقباطي والمطارف حتى نزحوها، فلما نزحوها انفجرت عليهم. وأخرجه عن أبي الطفيل أن غلاما وقع في بئر زمزم فنزحت. وهذا يحتمل أن يكون الماء تغير، والله أعلم. وروى. شعبة عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقول: كل نفس سائلة لا يتوضأ منها، ولكن رخص في الخنفساء والعقرب والجراد والجدجد إذا وقعن في الركاء فلا بأس به. قال شعبة: وأظنه قد ذكر الوزغة. أخرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن الوليد قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة...؛ فذكره.

الثامنة- ذهب الجمهور من الصحابة وفقهاء الأمصار وسائر التابعين بالحجاز والعراق أن ما ولغ فيه الهر من الماء طاهر، وأنه لا بأس بالوضوء بسؤره؛ لحديث أبي قتادة، أخرجه مالك وغيره. وقد روي عن أبي هريرة فيه خلاف. وروي عن عطاء بن أبي رباج وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهم أمروا بإراقة ماء ولغ فيه الهر وغسل الإناء منه. واختلف في ذلك عن الحسن. ويحتمل أن كون الحسن رأى في فمه نجاسة ليصح مخرج الروايتين عنه. قال الترمذي لما ذكر حديث مالك: "وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة، هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم؛ مثل الشافعي وأحمد وإسحاق، لم يروا بسؤر الهرة بأسا". وهذا أحسن شيء في الباب، وقد جود مالك هذا الحديث عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، ولم يأت به أحد أتم من مالك. قال الحافظ أبو عمر: الحجة عند التنازع والاختلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح من حديث أبي قتادة أنه أصغى لها الإناء حتى شربت. الحديث. وعليه اعتماد الفقهاء في كل مصر إلا أبا حنيفة ومن قال بقول؛ فإنه كان يكره سؤره. وقال: إن توضأ به أحد أجزأه، ولا أعلم حجة لمن كره الوضوء بسؤر الهرة أحسن من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة، وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب فقاس الهر عليه، وقد فرقت السنة بينهما في باب  التعبد في غسل الإناء، ومن حجته السنة خاصمته، وما خالفها مطرح. وبالله التوفيق. ومن حجتهم أيضا ما رواه قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين" شك قرة. وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة بن خالد، وقرة ثقة ثبت.

قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني، ومتنه: "طهور الإناء إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات الأولى بالتراب والهر مرة أو مرتين". قرة شك. قال أبو بكر: كذا رواه أبو عاصم مرفوعا، ورواه غيره عن قرة: "ولوغ الكلب" مرفعا و"ولوغ الهر" موقوفا. وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يغسل الإناء من الهر كما يغسل من الكلب" قال الدارقطني: لا يثبت هذا مرفوعا والمحفوظ من قول أبي هريرة واختلف عنه. وذكر معمر وابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يجعل الهر مثل الكلب. وعن مجاهد أنه قال في الإناء يلغ فيه السنور قال: اغسله سبع مرات. قال الدارقطني.

التاسعة- الماء المستعمل طاهر إذا كانت أعضاء المتوضئ به طاهرة؛ إلا أن مالكا وجماعة من الفقهاء الجلة كانوا يكرهون الوضوء به. وقال مالك: لا خير فيه، ولا أحب لأحد أن يتوضأ به، فإن فعل وصلى لم أر عليه إعادة الصلاة ويتوضأ لما يستقبل. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: لا يجوز استعماله في رفع الحدث، ومن توضأ به أعاد؛ لأنه ليس بماء مطلق؛ ويتيمم واجده لأنه ليس بواجد ماء. وقال بقولهم في ذلك اصبغ بن الفرج، وهو قول الأوزاعي. واحتجوا بحديث الصنابحي خرجه مالك وحديث عمرو بن عنبسة أخرجه مسلم، وغير ذلك من الآثار. وقالوا: الماء إذا توضئ به خرجت الخطايا معه؛ فوجب التنزه عنه لأنه ماء الذنوب. قال أبو عمر: وهذا عندي لا وجه له؛ لأن الذنوب لا تنجس الماء لأنها لا أشخاص لها ولا أجسام تمازج الماء فتفسده، وإنما معنى قوله: "خرجت الخطايا مع الماء" إعلام منه بأن الوضوء للصلاة عمل يكفر الله به السيئات عن عباده  المؤمنين رحمة منه بهم وتفضلا عليهم. وقال أبو ثور وداود مثل قول مالك، وأن الوضوء بالماء المستعمل جائز؛ لأنه ماء طاهر لا ينضاف إليه شيء وهو ماء مطلق. واحتجوا بإجماع الأمة على طهارته إذا لم يكن في أعضاء المتوضئ نجاسة. وإلى هذا ذهب أبو عبدالله المروزي محمد بن نصر. وروي عن علي بن أبى طالب وابن عمر وأبي أمامة وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري والنخعي ومكحول والزهري أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللا: إنه يجزئه أن يمسح بذلك البلل رأسه؛ فهؤلاء كلهم أجازوا الوضوء بالماء المستعمل. روي عبدالسلام بن صالح حدثنا إسحاق بن سويد عن العلاء بن زياد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرضي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم ذات يوم وقد اغتسل وقد بقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء، فقلنا: يا رسول الله، هذه لمعة لم يصبها الماء؛ فكان له شعر وارد، فقال بشعره هكذا على المكان فبله" . أخرجه الدارقطني، وقال: عبدالسلام بن صالح هذا بصري وليس بقوي وغيره من الثقات يرويه عن إسحاق عن العلاء مرسلا، وهو الصواب.

قلت: الراوي الثقة عن إسحاق بن سويد العدوي عن العلاء بن زياد العدوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل...؛ الحديث فيما ذكره هشيم. قال ابن العربي: "مسألة الماء المستعمل إنما تنبني على أصل آخر، وهو أن الآلة إذا أدي بها فرض هل يؤدى بها فرض آخر أم لا؛ فمنع ذلك المخالف قياسا على الرقبة إذا أدى بها فرض عتق لم يصلح أن يتكرر في أداء فرض آخر؛ وهذا باطل من القول، فإن العتق إذا أتى على الرق أتلفه فلا يبقى محل لأداء الفرض بعتق آخر. ونظيره من الماء ما تلف على الأعضاء فإنه لا يصح أن يؤدى به فرض آخر لتلف عينه حسا كما تلف الرق في الرقبة بالعتق حكما، وهذا نفيس فتأملوه".

  العاشرة- لم يفرق مالك وأصحابه بين الماء تقع فيه النجاسة وبين النجاسة يرد عليه الماء، راكدا كان الماء أو غير راكد؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه فغير طعمه أو لونه أو ريحه" . وفرقت الشافعية فقالوا: إذا وردت النجاسة: على الماء تنجس؛ واختاره ابن العربي. وقال: من أصول الشريعة في أحكام الماء أن ورود النجاسة على الماء ليس كورود الماء على النجاسة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده". فمنع من ورود اليد على الماء وأمر بإيراد الماء عليها، وهذا أصل بديع في الباب، ولولا وروده على النجاسة - قليلا كان أو كثيرا - لما طهرت. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في بول الأعرابي في المسجد: " صبوا عليه ذنوبا من ماء". قال شيخنا أبو العباس: واستدلوا أيضا بحديث القلتين، فقالوا: إذا كان الماء دون القلتين فحلته نجاسة تنجس وإن لم تغيره، وإن ورد ذلك القدر فأقل على النجاسة فأذهب عينها بقي الماء على طهارته وأزال النجاسة. وهذه مناقضة، إذ المخالطة قد حصلت في الصورتين، وتفريقهم بورود الماء على النجاسة وورودها عليه فرق صوري ليس فيه من الفقه شيء، فليس الباب باب التعبدات بل من باب عقلية المعاني، فإنه من باب إزالة النجاسة وأحكامها. ثم هذا كله منهم يرده قوله عليه الصلاة والسلام: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" .

قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني عن رشدين بن سعد أبي الحجاج عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة الباهلي وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه ذكر اللون. وقال: لم يرفعه غير رشدين بن سعد عن معاوية بن صالح وليس بالقوي، وأحسن منه في الاستدلال ما رواه أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيدالله بن عبدالله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد الخدري قال قيل: يا رسول الله،/ أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر تلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" أخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني كلهم بهذا الإسناد. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وقد جود أبو أسامة. هذا الحديث ولم يرو أحد حديث أبى سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة. فهذا الحديث نصي في ورود النجاسة على الماء، وقد حكم صلى الله عليه وسلم بطهارته وطهوره. قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها؛ قلت: أكثر ما يكون الماء فيها؟ قال: إلى العانة. قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة. قال أبو داود: وقدرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غير بناؤها عما كانت عليه؟ فقال لا. ورأيت فيها ماء متغير اللون. فكان هذا دليلا لنا على ما ذكرناه، غير أن ابن العربي قال: إنها في وسط السبخة، فماؤها متغيرا من قرارها؛ والله أعلم.

الحادية عشرة- الماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل النجاسات هو الماء القراح الصافي من ماء السماء والأنهار والبحار والعيون والآبار، وما عرفه الناس ماء مطلقا غير مضاف إلى شيء خالطه كما خلقه الله عز وجل صافيا ولا يضره لون أرضه على ما بيناه. وخالف في هذه الجملة. أبو حنيفة وعبدالله بن عمرو وعبدالله بن عمر فأما أبو حنيفة فأجاز الوضوء بالنبيذ في السفر، وجوز إزالة النجاسة بكل مائع طاهر. فأما بالدهن والمرق فعنه رواية أنه لا يجوز إزالتها به. إلا أن أصحابه يقولون: إذا زالت النجاسة به جاز. وكذلك عنده النار والشمس؛ حتى أن جلد الميتة إذا جف في الشمس طهر من غير دباغ. وكذلك النجاسة على الأرض إذا جفت بالشمس فإنه يطهر ذلك الموضع، بحيث تجوز الصلاة عليه، ولكن لا يجوز التيمم بذلك التراب. قال ابن العربي: لما وصف الله سبحانه الماء بأنه طهور وامتن بإنزاله من السماء ليطهرنا به دل على اختصاصه بذلك؛ وكذلك قال عليه الصلاة  والسلام لأسماء بنت الصديق حين سألته عن دم الحيض يصيب الثوب: "حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء" . فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء لما في ذلك من إبطال الامتنان، وليست النجاسة معنى محسوسا حتى يقال كل ما أزالها فقد قام به الغرض، وإنما النجاسة حكم شرعي عين له صاحب الشرع الماء فلا يلحق به غيره؛ إذ ليس في معناه، ولأنه لو لحق به لأسقطه، والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل في إسقاطه سقط في نفسه. وقد كان تاج السنة ذو العز بن المرتضى الدبوسي يسميه فرخ زنى.

قلت: وأما ما استدل به على استعمال النبيذ فأحاديث واهية، ضعاف لا يقوم شيء منها على. ساق؛ ذكرها الدارقطني وضعفها ونص عليها. وكذلك ضعف ما روي عن ابن عباس موقوفا: "النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء". في طريقه ابن محرز متروك الحديث. وكذلك ما روي عن علي أنه قال: لا بأس بالوضوء بالنبيذ. الحجاج وأبو ليلى ضعيفان. وضعف حديث ابن مسعود وقال: تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث. وذكر عن علقمة بن قيس قال: قلت لعبدالله بن مسعود: أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن؟ فقال لا.

قلت: هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة رواته. وأخرج الترمذي حديث ابن مسعود قال: سألني النبي صلى الله عليه وسلم: "ما في إداوتك" فقلت: نبيذ. فقال: "ثمرة طيبة وماء طهور" قال: فتوضأ منه. قال أبو عيسى: وإنما روي هذا الحديث، عن أبي زيد عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا نعرف له رواية. غير هذا الحديث، وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ، منهم سفيان وغيره، وقال بعض أهل العلم: لا يتوضأ بالنبيذ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وقال إسحاق: إن ابتلي رجل بهذا فتوضأ بالنبيذ وتيمم أحب إلي. قال أبو عيسى: وقول من يقول لا يتوضأ بالنبيذ أقرب إلى الكتاب والسنة وأشبه؛ لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا  صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6]. وهذه المسألة مطولة في كتب الخلاف؛ وعمدتهم التمسك بلفظ الماء حسبما تقدم في "المائدة" بيانه والله أعلم.

الثانية عشرة- لما قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} وقال: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] توقف جماعة في ماء البحر؛ لأنه ليس بمنزل من السماء؛ حتى رووا عن عبدالله بن عمر وابن عمرو معا أنه لا يتوضأ به؛ لأنه نار ولأنه طبق جهنم. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين حكمه حين قال لن سأله: "هو الطهور ماؤه الجل ميتته" أخرجه مالك. وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبو بكر وعمر وابن عباس، لم يروا بأسا بماء البحر، وقد كره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء بماء البحر؛ منهم ابن عمر وعبدالله بن عمرو، وقال عبدالله بن عمرو: هو نار. قال أبو عمر؛ وقد سئل أبو عيسى الترمذي عن حديث مالك هذا عن صفوان بن سليم فقال: هو عندي حديث صحيح. قال أبو عيسى فقلت للبخاري: هشيم يقول فيه أبي ابن برزة. فقال: وهم فيه، إنما هو المغيرة بن أبي بردة. قال أبو عمر: لا أدري ما هذا من البخاري رحمه الله، ولو كان صحيحا لأخرجه في مصنفه الصحيح عنده، ولم يفعل لأنه لا يعول في الصحيح إلا على الإسناد. وهذا الحديث لا يحتج أهل الحديث بمثل إسناده، وهو عندي صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به، ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء، وإنما الخلاف بينهم في بعض معانيه. وقد أجمع جمهور من العلماء وجماعة أئمة الفتوى بالأمصار من الفقهاء: أن البحر طهور ماؤه، وأن الوضوء به جائز؛ إلا ما روي عن عبدالله بن عمر بن الخطاب وعبدالله بن عمرو بن العاص أنهما كرها الوضوء بماء البحر، ولم يتابعهما أحد من فقهاء الأمصار على ذلك ولا عرج عليه، ولا التفت إليه لحديث هذا الباب. وهذا يدلك على اشتهار الحديث عندهم، وعملهم به وقبولهم له، وهو أولى عندهم من الإسناد الظاهر الصحة لمعنى ترده الأصول. وبالله التوفيق.

  قال أبو عمر: وصفوان بن سليم مولى حميد بن عبدالرحمن بن عوف الزهري، من عباد أهل المدينة وأتقاهم لله، ناسكا، كثير الصدقة بما وجد من قليل وكثير، كثير العمل، خائفا لله، يكنى أبا عبدالله، سكن المدينة لم ينتقل عنها، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ذكر عبدالله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يسأل عن صفوان بن سليم فقال: ثقة من خيار عباد الله وفضلاء المسلمين. وأما سعيد بن سلمة. فلم يرو عنه فيما علمت إلا صفوان - والله أعلم - ومن كانت هذه حاله فهو مجهول لا تقوم به حجة عند جميعهم. وأما المغيرة بن أبي بردة فقيل عنه إنه غير معروف في حملة العلم كسعيد بن سلمة. وقيل: ليس بمجهول. قال أبو عمر: المغيرة بن أبي بردة وجدت ذكره في مغازي موسى بن نصير بالمغرب، وكان موسى يستعمله على الخيل، وفتح الله له في بلاد البربر فتوحات في البر والبحر. وروى الدارقطني من غير طريق مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يطهره ماء البجر فلا طهره الله" . قال إسناده حسن.

الثالثةعشرة- قال ابن العربي: توهم قوم أن الماء إذا فضلت للجنب منه فضله لا يتوضأ به، وهو مذهب باطل، فقد ثبت عن ميمونة أنها قالت: أجنبت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلت من جفنة وفضلت فضلة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتسل منه فقلت: إني قد اغتسلت منه. فقال: "إن الماء ليس عليه نجاسة - أو - إن الماء لا يجنب" . قال أبو عمر: وردت آثار في هذا الباب مرفوعة في النهي عن أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة. وزاد بعضهم في بعضها: ولكن ليغترفا جميعا. فقالت طائفة: لا يجوز أن يغترف الرجل مع المرأة في إناء واحد؛ لأن كل واحد منهما متوضئ بفضل صاحبه. وقال آخرون: إنما كره من ذلك أن تنفرد المرأة بالإناء ثم يتوضأ الرجل بعدها بفضلها. وكل واحد منهم روى بما ذهب إليه أثرا. والذي ذهب إليه الجمهور من العلماء وجماعة فقهاء الأمصار أنه لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة وتتوضأ المرأة من فضله، انفردت المرأة بالإناء أو لم تنفرد. وفي مثل هذا آثار كثيرة صحاح. والذي نذهب إليه أن  الماء لا ينجسه شيء إلا ما ظهر فيه من النجاسات أو غلب عليه منها؛ فلا وجه للاشتغال بما لا يصح من الآثار والأقوال. والله المستعان.

روى الترمذي عن ابن عباس قال: حدثتني ميمونة قالت: كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة. قال هذا حديث حسن صحيح. وروى البخاري عن عائشة قالت: كنت اغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يقال له الفرق. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة. وروى الترمذي عن ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، في جفنة فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ منه فقالت: يا رسول الله، إني كنت جنبا. قال: "إن الماء لا يجنب" . قال: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول سفيان الثوري ومالك والشافعي. وروى الدارقطني عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أتوضأ أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وقد أصابت الهرة منه قبل ذلك. قال: هذا حديث حسن صحيح. وروي أيضا عن رجل من بني غفار قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل طهور المرأة" . وفي الباب عن عبدالله بن سرجس، وكره بعض الفقهاء فضل طهور المرأة، وهو قول أحمد وإسحاق.

الرابعة عشرة- روى الدارقطني عن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب كان يسخن له الماء في قمقمة ويغتسل به. قال: وهذا إسناد صحيح. وروي عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سخنت ماء في الشمس. فقال: "لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص" . رواه خالد بن إسماعيل المخزومي، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وهو متروك. ورواه عمرو بن محمد الأعشم عن فليح عن الزهري عن عروة عن عائشة. وهو منكر الحديث، ولم يروه غيره عن فليح، ولا يصح عن الزهري؛ قاله الدارقطني.

  الخامسة عشرة- كل إناء طاهر فجائز الوضوء منه إلا إناء الذهب والفضة؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذهما. وذلك - والله أعلم - للتشبه بالأعاجم والجبابرة لا لنجاسة فيهما. ومن توضأ فيهما أجزاه وضوءه وكان عاصيا باستعمالهما. وقد قيل: لا يجزئ الوضوء في أحدهما. والأول أكثر؛ قال أبو عمر. وكل جلد ذكي فجائز استعماله للوضوء وغير ذلك. وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ؛ على اختلاف من قوله. وقد تقدم في {النحل}.

الآية: 49 { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً}

قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ} أي بالمطر. {بَلْدَةً مَيْتاً} بالجدوبة والمحل وعدم النبات. قال كعب: المطر روح الأرض يحييها الله به. وقال: {مَيْتاً} ولم يقل ميتة لأن معنى البلدة والبلد واحد؛ قاله الزجاج. وقيل: أراد بالبلد المكان. "ونسقيه" قراءة العامة بضم النون. وقرأ عمر بن الخطاب وعاصم والأعمش فيما روى المفضل عنهما {وَنُسْقِيَه} : "بفتح" النون. {مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} أي بشرا كثيرا وأناسي واحده إنسي نحو جمع القرقور قراقير وقراقر في قول الأخفش والمبرد وأحد قولي الفراء؛ وله قول آخر وهو أن يكون واحده إنسانا ثم تبدل من النون ياء؛ فتقول: أناسي، والأصل أناسين، مثل سرحان وسراحين، وبستان وبساتين؛ فجعلوا الياء عوضا من النون، وعلى هذا يجوز سراحي وبساتي، لا فرق بينهما. قال الفراء: ويجوز {أَنَاسِيَّ} بتخفيف الياء التي فيما بين لام الفعل وعينه؛ مثل قراقير وقراقر. وقال {كَثِيراً} ولم يقل كثيرين؛ لأن فعيلا قد يراد به الكثرة؛ نحو {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69].  الآية: [50] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً}

قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} يعني القرآن، وقد جرى ذكره في أول السورة: قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان: 1]. وقوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان: 29] وقوله: {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان: 30]. {لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} أي جحودا له وتكذيبا به. وقيل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} هو المطر. روي عن ابن عباس وابن مسعود: وأنه ليس عام بأكثر مطرا من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء، فما زيد لبعض نقص من غيرهم. فهذا معنى التصريف. وقيل: "صرفناه بينهم" وابلا وطشا وطلا ورهاما - الجوهري: الرهام الأمطار اللينة - ورذاذا. وقيل: تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات وسقي البساتين والغسل وشبهه. {لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} قال عكرمة: هو قولهم في الأنواء: مطرنا بنوء كذا. قال النحاس: ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافا أن الكفر ها هنا قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا؛ وأن نظيره فعل النجم كذا، وأن كل من نسب إليه فعلا فهو كافر. وروى الربيع بن صبيح قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبح الناس فيها رجلين شاكر وكافر فأما الشاكر فيحمد الله تعالى على سقياه وغياثه وأما الكافر فيقول مطرنا بنوء كذا وكذا". وهذا متفق على صحته بمعناه وسيأتي في الواقعة إن شاء الله وروي من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي صرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار". وقيل: التصريف راجع إلى الريح، وقد ممضى في {البقرة} بيانه. وقرأ حمزة والكسائي: {لِيَذَّكَّرُوا} مخففة الذال من الذكر. الباقون مثقلا من التذكر؟ أي ليذكروا نعم الله ويعلموا أن من أنعم بها لا يجوز الإشراك به؛ فالتذكر قريب من الذكر غير أن التذكر يطلق فيما بعد عن القلب فيحتاج إلى تكلف في التذكر.  الآية: [51] {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً}،

الآية: [52] {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}

قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} أي رسولا ينذرهم كما قسمنا. المطر ليخف عليك أعباء النبوة، ولكنا لم نفعل بل جعلناك نذيرا للكل لترتفع درجتك فاشكر نعمة الله عليك. {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} أي فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم. {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} قال ابن عباس بالقرآن. ابن زيد: بالإسلام. وقيل: بالسيف؛ وهذا فيه بعد؛ لأن السورة مكية نزلت قبل الأمر بالقتال. {جِهَاداً كَبِيراً } لا يخالطه فتور.

الآية: [53] {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً}

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} عاد الكلام إلى ذكر النعم. و{مَرَجَ} خلى وخلط وأرسل. قال مجاهد: أرسلهما وأفاض أحدهما في الآخر. قال ابن عرفة: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي خلطهما فهما يلتقيان؛ يقال: مرجته إذا خلطته. ومرج الدين والأمر اختلط واضطرب؛ ومنه قوله تعالى: {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5]. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعبدالله بن عمرو بن العاصي: "إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وهكذا" وشبك بين أصابعه فقلت له: كيف أصنع عند ذلك، جعلني الله فداك! قال: "الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بخاصة أمر نفسك ودع عنك أمر العامة" خرجه النسائي وأبو داود وغيرهما. وقال الأزهري: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} خلى بينهما؛ يقال مرجت الدابة إذا خليتها ترعى. وقال ثعلب: المرج الإجراء؛ فقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي أجراهما. وقال الأخفش: يقول قوم أمرج البحرين مثل مرج فعل وأفعل. {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} أي حلو شديد العذوبة

{وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي فيه ملوحة ومرارة. وروي عن طلحة أنه قرئ: {وَهَذَا مَلْحٌ} بفتح الميم وكسر اللام. {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} أي حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه؛ كما قال في سورة الرحمن {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بينهما بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19 - 20]. {وَحِجْراً مَحْجُوراً} أي سترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر. فالبرزخ الحاجز، والحجر المانع. وقال الحسن: يعني بحر فارس وبحر الروم. وقال ابن عباس وابن جبير: يعني بحر السماء وبحر الأرض. قال ابن عباس: يلتقيان في كل عام وبينهما برزخ قضاء من قضائه. {وَحِجْراً مَحْجُوراً} حراما محرما أن يعذب هذا الملح بالعذب، أو يصلح هذا العذب بالملح.

الآية: [54] { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً}

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً} أي خلق من النطفة إنسانا. {فَجَعَلَهُ} أي جعل الإنسان {نَسَباً وَصِهْراً} . وقيل: {مِنَ الْمَاءِ} إشارة إلى أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء. وفي هذه الآية تعديد النعمة على الناس في، إيجادهم بعد العدم، والتنبيه على العبرة في ذلك.

قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين. قال ابن العربي: النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع؛ فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ولم يكن نسبا محققا، ولذلك لم يدخل تحت قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] بنته من الزنى؛ لأنها ليست ببنت له في أصح القولين لعلمائنا وأصح القولين في الدين؛ وإذا لم يكن نسب شرعا فلا صهر شرعا فلا يحرم الزنى بنت أم ولا أم بنت، وما يحرم من الحلال لا يحرم من الحرام؛ لأن الله امتن بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما.  قلت: اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى أو أخته أو بنت ابنه من زنى؛ فحرم ذلك قوم منهم ابن القاسم، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، وأجاز ذلك آخرون منهم عبدالملك بن الماجشون، وهو قول الشافعي، وقد مضى هذا في {النِّسَاءَ} مجودا. قال الفراء: النسب الذي لا يحل نكاحه، والصهر الذي يحل نكاحه. وقاله الزجاج: وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته؛ فكل واحد من الصهرين قد خالط صاحبه، فسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها. وقيل: الصهر قرابة النكاح؛ فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء. والأصهار يقع عاما لذلك كله؛ قاله الأصمعي. وقال ابن الأعرابي: الأختان أبو المرأة وأخوهما وعمها - كما قال الأصمعي - والصهر زوج ابنة الرجل وأخوه وأبوه وعمه. وقال محمد بن الحسن في رواية أبي سليمان الجوزجاني: أختان الرجل أزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته، وكل ذات محرم منه، وأصهاره كل ذي رحم محرم من زوجته. قال النحاس: الأولى في هذا أن يكون القول في الأصهار ما قال الأصمعي، وأن يكون من قبلهما جميعا. يقال: صهرت الشيء أي خلطته؛ فكل واحد منهما قد خلط صاحبه. والأولى في الأختان ما قال محمد بن الحسن لجهتين: إحداهما الحديث المرفوع، روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبدالله بن قسيط عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنت يا علي فختني وأبو ولدي وأنت مني وأنا منك" . فهذا على أن زوج البنت ختن. والجهة الأخرى أن اشتقاق الختن من ختنه إذا قطعه؛ وكان الزوج قد انقطع عن أهله، وقطع زوجته عن أهلها. وقال الضحاك: الصهر قرابة الرضاع. قال ابن عطية: وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر خمس. وفي رواية أخرى من الصهر سبع؛ يريد قوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23] فهذا هو النسب. ثم يريد بالصهر قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} إلى قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}. ثم ذكر المحصنات. ومحمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر ما ذكر معه، فقد أشار  بما ذكر إلى عظمه وهو الصهر، لا أن الرضاع صهر، وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه. ومن روى وحرم من الصهر خمس أسقط من الآيتين الجمع بين الأختين والمحصنات؛ وهن ذوات الأزواج.

قلت: فابن عطية جعل الرضاع مع ما تقدم نسبا، وهو قول الزجاج. قال أبو إسحاق: النسب الذي ليس بصهر من قوله جل ثناؤه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله {تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] والصهر من له التزويج. قال ابن عطية: وحكى الزهراوي قولا أن النسب من جهة البنين والصهر من جهة البنات.

قلت: وذكر هذا القول النحاس، وقال: لأن المصاهرة من جهتين تكون. وقال ابن سيرين: نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه؛ لأنه جمعه معه نسب وصهر. قال ابن عطية: فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة. {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} على خلق ما يريده.

الآية: [55] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً}

قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} لما عدد النعم وبين كمال قدرته عجب من المشركين في إشراكهم به من لا يقدر على نفع ولا ضر؛ أي إن الله هو الذي خلق ما ذكره، ثم هؤلاء لجهلهم يعبدون من دونه أمواتا جمادات لا تنفع ولا تضر. {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} روي عن ابن عباس {الْكَافِرُ} هنا أبو جهل لعنه الله؛ وشرحه أنه يستظهر بعبادة الأوثان على أوليائه. وقال عكرمة: {الْكَافِرُ} إبليس، ظهر على عداوة ربه. وقال مطرف: {الْكَافِرُ} هنا الشيطان. وقال الحسن: {ظَهِيراً} أي معينا للشيطان على المعاصي. وقيل: المعنى؛ وكان الكافر على ربه هينا ذليلا لا قدر له ولا وزن عنده؛ من قول العرب: ظهرت به أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه. ومنه قوله تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود: 92] أي هينا.  ومنه قول الفرزدق: تميم بن قيس لا تكونن حاجتي ... بظهر فلا يعيا علي جوابها

هذا معنى قول أبي عبيدة. وظهير بمعنى مظهور. أي كفر الكافرين هين على الله تعالى، والله مستهين به لأن كفره لا يضره. وقيل: وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قويا غالبا يعمل به ما يشاء؛ لأن الجماد لا قدرة له على دفع ضر ونفع.

==== 

الفرقان - تفسير الطبري 

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا (44) }

يعني تعالى ذكره:( أَرَأَيْتَ ) يا محمد( مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ ) شهوته التي يهواها وذلك أن الرجل من المشركين كان يعبد الحجر، فإذا رأى أحسن منه رمى به، وأخذ الآخر يعبده، فكان معبوده وإلهه ما يتخيره لنفسه، فلذلك قال جلّ ثناؤه( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا ) يقول تعالى ذكره: أفأنت تكون يا محمد على هذا حفيظا في أفعاله مع عظيم جهله؟( أَمْ تَحْسَبُ ) يا محمد أن أكثر هؤلاء المشركين( يَسْمَعُونَ ) ما يتلى عليهم، فيعون( أَوْ يَعْقِلُونَ ) ما يعاينون من حجج الله، فيفهمون( إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ ) يقول: ما هم إلا كالبهائم التي لا تعقل ما يقال لها، ولا تفقه، بل هم من البهائم أضلّ سبيلا لأن البهائم تهتدي لمراعيها، وتنقاد لأربابها، وهؤلاء الكفرة لا يطيعون ربهم، ولا يشكرون نعمة من أنعم عليهم، بل يكفرونها، ويعصون من خلقهم وبرأهم.

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) }  // يقول تعالى ذكره:( أَلَمْ تَرَ ) يا محمد( كَيْفَ مَدَّ ) ربك( الظِّلَّ ) وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) يقول: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) قال: مدّه ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جُبير، في قوله:( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ) قال: الظلّ: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا أبو محصن، عن حصين، عن أبي مالك، قال:( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) قال: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) قال. ظلّ الغداة قبل أن تطلع الشمس.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال: الظلّ: ظلّ الغداة.

قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عكرمة، قوله:( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) قال: مدّه من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) يعني: من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس.

قوله:( وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ) يقول: ولو شاء لجعله دائما لا يزول، ممدودا

(19/275)

 

 

لا تذهبه الشمس، ولا تنقصه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ) يقول: دائما.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال، ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ) قال: لا تصيبه الشمس ولا يزول.

حدثنا القاسم. قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد( وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ) قال: لا يزول.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ) قال: دائما لا يزول.

وقوله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ) يقول جلّ ثناؤه: ثم دللناكم أيها الناس بنسخ الشمس إياه عند طلوعها عليه، أنه خلْق من خلق ربكم، يوجده إذا شاء، ويفنيه إذا أراد; والهاء في قوله: "عليه" من ذكر الظلّ. ومعناه: ثم جعلنا الشمس على الظلّ دليلا. قيل: معنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس التي تنسخه لم يعلم أنه شيء، إذا كانت الأشياء إنما تعرف بأضدادها، نظير الحلو الذي إنما يعرف بالحامض والبارد بالحارِّ، وما أشبه ذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ) يقول: طلوع الشمس.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ) قال: تحويه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن  مجاهد، مثله.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ) قال: أخرجت ذلك الظل فذهبت به وقوله:( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ) يقول تعالى ذكره: ثم قبضنا ذلك الدليل من الشمس على الظلّ إلينا قبضا خفيا سريعا بالفيء الذي نأتي به بالعشيّ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ) قال: حوى الشمس الظلّ. وقيل: إن الهاء التي في قوله:( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا ) عائدة على الظلّ، وإن معنى الكلام: ثم قبضنا الظلّ إلينا بعد غروب الشمس، وذلك أن الشمس إذا غربت غاب الظلّ الممدود، قالوا: وذلك وقت قبضه.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله:( يَسِيرًا ) فقال بعضهم: معناه: سريعا.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ) يقول: سريعا.

وقال آخرون: بل معناه: قبضا خفيا.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ) قال: خفيا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج( قَبْضًا يَسِيرًا ) قال: خفيا، قال: إن ما بين الشمس والظلّ مثل الخيط، واليسير الفعيل من اليسر، وهو السهل الهين في كلام العرب. فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك، يتوجه لما روي عن ابن عباس ومجاهد؛ لأن سهولة قبض ذلك قد تكون بسرعة وخفاء. وقيل: إنما قيل( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ) لأن الظلّ بعد غروب الشمس لا يذهب

  وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ

 سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)

كله دفعة، ولا يقبل الظلام كله جملة، وإنما يقبض ذلك الظلّ قبضا خفيا، شيئا بعد شيء ويعقب كل جزء منه يقبضه جزء من الظلام.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) }

يقول تعالى ذكره: الذي مدّ الظل ثم جعل الشمس عليه دليلا هو الذي جعل لكم أيها الناس الليل لباسا. وإنما قال جلّ ثناؤه( جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا ) لأنه جعله لخلقه جنة يجتنون فيها ويسكنون، فصار لهم سترا يستترون به، كما يستترون بالثياب التي يُكسونها. وقوله:( وَالنَّوْمَ سُبَاتًا ) يقول: وجعل لكم النوم راحة تستريح به أبدانكم، وتهدأ به جوارحكم. وقوله:( وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ) يقول تعالى ذكره: وجعل النهار يقظة وحياة من قولهم: نَشر الميتُ، كما قال الأعشى:

حَتى يقُولَ النَّاسُ مِمَّا رأَوْا... يا عَجَبا للْمَيِّتِ النَّاشِرِ (1)

ومنه قول الله:( وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا )

وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ) قال: ينشر فيه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.

وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك، أنه عقيب قوله:( وَالنَّوْمَ سُبَاتًا ) في الليل. فإذ كان ذلك كذلك، فوصف النهار بأن فيه اليقظة والنشور من النوم أشبه إذ كان النوم أخا الموت. والذي قاله مجاهد غير بعيد من الصواب؛ لأن الله أخبر أنه جعل النهار معاشا، وفيه الانتشار للمعاش، ولكن النشور مصدر من قول القائل: نشر،

__________

(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة ( ديوان طبعة القاهرة ، بشرح الدكتور محمد حسين 141) وهو من قصيدة يهجو بها علقمة بن علاثة ، ويمدح عامر بن الطفيل في المنافرة التي جرت بينهما . وقبل البيت قوله : لَو أسْنَدَتْ مَيْتًا إلى صَدْرِهَا ... عَاشَ وَلَمْ يَنْقَلْ إلى قَابِرِ

والبيت كذلك في ( اللسان : نشر) قال : ونشر الله الميت ينشره نشرًا ونشورًا ، وأنشره ، فنشر الميت ( برفع الميت ) لا غير : أحياه قال الأعشى : حتى يقول ... " البيت . وهذا محل الشاهد عند المؤلف

وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)

فهو بالنشر من الموت والنوم أشبه، كما صحّت الرواية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا أصبح وقام من نومه: " الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَما أماتَنا، وإلَيْهِ النُّشُورُ".

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) }

يقول تعالى ذكره: والله الذي أرسل الرياح الملقحة( بُشْرًا ) : حياة أو من الحيا والغيث الذي هو منزله على عباده( وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) يقول: وأنزلنا من السحاب الذي أنشأناه بالرياح من فوقكم أيها الناس ماء طهورا.( لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ) يعني أرضا قَحِطة عذية لا تُنبت. وقال:( بَلْدَةً مَيْتًا ) ولم يقل ميتة، لأنه أريد بذلك لنحيي به موضعًا ومكانًا ميتًا( وَنُسْقِيَهُ ) من خلقنا( أَنْعَامًا ) من البهائم( وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ) يعني الأناسيّ: جمع إنسان وجمع أناسي، فجعل الياء عوضا من النون التي في إنسان، وقد يجمع إنسان: إناسين، كما يجمع النَشْيان (1) نشايين. فإن قيل: أناسيّ جمع واحده إنسيّ، فهو مذهب أيضًا محكي، وقد يجمع أناسي مخففة الياء، وكأن من جمع ذلك كذلك أسقط الياء التي بين عين الفعل ولامه، كما يجمع القرقور: قراقير وقراقر. ومما يصحح جمعهم إياه بالتخفيف، قول العرب: أناسية كثيرة.

القول في تأويل قوله تعالى{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا(50)}

يقول تعالى ذكره: ولقد قسمنا هذا الماء الذي أنزلناه من السماء طهورا لنحيي به الميت من الأرض بين عبادي، ليتذكروا نعمي عليهم، ويشكروا أيادي عندهم وإحساني إليهم( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا ) يقول: إلا جحودا لنعمي عليهم، وأياديّ عليهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

__________

(1) يقال : رجل نشوان ، من السكر ؛ ونشيان للخبر : يختبر الأخبار أول ورودها ، ويبحث عنها . وأصلها الواو .  وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: سمعت الحسن بن مسلم يحدّث طاوسا، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: ما عام بأكثر مطرا من عام، ولكنّ الله يصرّفه بين خلقه; قال: ثم قرأ:( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ).

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، قال: ثنا الحسن بن مسلم، عن سعيد بن جُبير، قال: قال ابن عباس: ما عام بأكثر مطرا من عام، ولكنه يصرفه في الأرضين، ثم تلا( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ).

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله:( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ) قال: المطر ينزله في الأرض، ولا ينزله في الأرض الأخرى، قال: فقال عكرِمة: صرفناه بينهم ليذّكروا.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ) قال: المطر مرّة هاهنا، ومرّة هاهنا.

حدثنا سعيد بن الربيع الرازي، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن يزيد بن أبي زياد، أنه سمع أبا جحيفة يقول: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ليس عام بأمطر من عام، ولكنه يصرفه، ثم قال عبد الله:( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ).

وأما قوله:( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا ) فإن القاسم حدثنا قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج عن ابن جُرَيج، عن عكرمة:( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا ) قال: قولهم في الأنواء.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) }

يقول تعالى ذكره: ولو شئنا يا محمد لأرسلنا في كلّ مصر ومدينة نذيرا ينذرهم بأسنا على كفرهم بنا، فيخفّ عنك كثير من أعباء ما حملناك منه، ويسقط عنك بذلك مؤنة عظيمة، ولكنا حملناك ثقل نذارة جميع القرى، لتستوجب بصبرك عليه إن صبرت ما أعدّ الله لك من الكرامة عنده، والمنازل الرفيعة قِبَله، فلا تطع الكافرين فيما يدعونك [وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)

إليه من أن تعبد آلهتهم، فنذيقك ضعف الحياة وضعف الممات، ولكن جاهدهم بهذا القرآن جهادا كبيرا، حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله، ويدينوا به ويذعنوا للعمل بجميعه طوعا وكرها.

وبنحو الذي قلنا في قوله:( وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ) قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس، قوله( فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ) قال: بالقرآن.

وقال آخرون في ذلك بما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ) قال: الإسلام. وقرأ( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) وقرأ( وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) وقال: هذا الجهاد الكبير.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) }

يقول تعالى ذكره: والله الذي خلط البحرين، فأمرج أحدهما في الآخر، وأفاضه فيه. وأصل المرج الخلط، ثم يقال للتخلية مرج؛ لأن الرجل إذا خلى الشيء حتى اختلط بغيره، فكأنه قد مرجه، ومنه الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله لعبد الله بن عمرو: "كَيْفَ بِكَ يا عَبْدَ اللهِ إذَا كُنْتَ في حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وأماناتُهُمْ، وصَارُوا هَكَذا وشبَّك بين أصابعه. يعني بقوله: قد مرجت: اختلطت، ومنه قول الله:( فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) أي مختلط. وإنما قيل للمرج مرج من ذلك، لأنه يكون فيه أخلاط من الدوابّ، ويقال: مَرَجْت دابتك: أي خليتها تذهب حيث شاءت. ومنه قول الراجز:

رَعَى بِهَا مَرَجَ رَبيعٍ مَمْرَج (1)

وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

__________

(1) البيت من مشطور الرجز ، للعجاج الراجز ( ديوانه طبع ليبسك سنة 1093 ص 9 ) وهو البيت الثاني والثمانون من أرجوزته التي مطلعها * ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا *

وضبط ناشره لفظ ممرج ، بضم الميم الأول وكسر الراء ، والصواب ما في اللسان ، ونقلناه عنه ، وهو اسم مكان من مرج الدابة يمرجها ( من باب نصر ) إذا أرسلها ترعى في المرج

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) يعني أنه خلع أحدهما على الآخر.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) أفاض أحدهما على الآخر.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) يقول: خلع أحدهما على الآخر.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد( مَرَجَ ) أفاض أحدهما على الآخر.

وقوله( هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ ) الفرات: شديد العذوبة، يقال: هذا ماء فرات: أي شديد العذوبة وقوله( وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) يقول: وهذا ملح مرّ، يعني بالعذب الفرات: مياه الأنهار والأمطار، وبالملح الأجاج: مياه البحار.

وإنما عنى بذلك أنه من نعمته على خلقه، وعظيم سلطانه، يخلط ماء البحر العذب بماء البحر الملح الأجاج، ثم يمنع الملح من تغيير العذب عن عذوبته، وإفساده إياه بقضائه وقدرته، لئلا يضرّ إفساده إياه بركبان الملح منهما، فلا يجدوا ماء يشربونه عند حاجتهم إلى الماء، فقال جلّ ثناؤه:( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) يعني حاجزا يمنع كل واحد منهما من إفساد الآخر( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) يقول: وجعل كلّ واحد منهما حراما محرّما على صاحبه أن يغيره ويفسده.

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) يعني أنه خلع أحدهما على الآخر، فليس يفسد العذب المالح، وليس يفسد المالح العذب، وقوله:( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) قال: البرزخ: الأرض بينهما( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) يعني: حجر أحدهما على الآخر بأمره وقضائه، وهو مثل قوله( وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ) .

وحدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) قال: محبسا، قوله:( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) قال: لا يختلط البحر بالعذب.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) قال: حاجزا لا يراه أحد، لا يختلط العذب في البحر. قال ابن جُرَيج: فلم أجد بحرا عذبا إلا الأنهار العذاب، فإن دجلة تقع في البحر، فأخبرني الخبير بها أنها تقع في البحر، فلا تمور فيه بينهما مثل الخيط الأبيض، فإذا رجعت لم ترجع في طريقها من البحر، والنيل يصبّ في البحر.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) قال: البرزخ أنهما يلتقيان فلا يختلطان، وقوله( حِجْرًا مَحْجُورًا ) : أي لا تختلط ملوحة هذا بعذوبة هذا، لا يبغي أحدهما على الآخر.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن رجاء، عن الحسن، في قوله:( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) قال: هذا اليبس.

حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) قال: جعل هذا ملحا أجاجًا، قال: والأجاج: المرّ.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول:( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) يقول: خلع أحدهما على الآخر، فلا يغير أحدهما طعم الآخر( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) هو الأجل ما بين الدنيا والآخرة( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) جعل الله بين البحرين حجرا، يقول: حاجزا حجز أحدهما عن الآخر بأمره وقضائه.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:[ وَجَعَلَ  ] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)

بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) وجعل بينهما سترا لا يلتقيان. قال: والعرب إذا كلم أحدهم الآخر بما يكره قال حجرا، قال: سترا دون الذي تقول.

قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في معنى قوله:( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) دون القول الذي قاله من قال معناه: إنه جعل بينهما حاجزا من الأرض أو من اليبس، لأن الله تعالى ذكره أخبر في أوّل الآية أنه مرج البحرين، والمرج: هو الخلط في كلام العرب على ما بيَّنت قبل، فلو كان البرزخ الذي بين العذب الفرات من البحرين، والملح الأجاج أرضا أو يبسا لم يكن هناك مرج للبحرين، وقد أخبر جلّ ثناؤه أنه مرجهما، وإنما عرفنا قدرته بحجزه هذا الملح الأجاج عن إفساد هذا العذب الفرات، مع اختلاط كلّ واحد منهما بصاحبه. فأما إذا كان كلّ واحد منهما في حيز عن حيز صاحبه، فليس هناك مرج، ولا هناك من الأعجوبة ما ينبه عليه أهل الجهل به من الناس، ويذكرون به، وإن كان كلّ ما ابتدعه ربنا عجيبا، وفيه أعظم العبر والمواعظ والحجج البوالغ.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) }

يقول تعالى ذكره: والله الذي خلق من النطف بشرا إنسانا فجعله نسبا، وذلك سبعة، وصهرا، وهو خمسة.

كما حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ) النسب: سبع، قوله:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ) ... إلى قوله( وَبَنَاتُ الأخْتِ ) والصهر خمس، قوله:( وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ) ... إلى قوله( وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ).

وقوله:( وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ) يقول: وربك يا محمد ذو قدرة على خلق ما يشاء من الخلق، وتصريفهم فيما شاء وأراد.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) }

يقول تعالى ذكره: ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهة لا تنفعهم، فتجلب  إليهم نفعا إذا هم عبدوها، ولا تضرّهم إن تركوا عبادتها، ويتركون عبادة من أنعم عليهم هذه النعم التي لا كفاء لأدناها، وهي ما عدّد علينا جلّ جلاله في هذه الآيات من قوله:( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) إلى قوله:( قَدِيرًا )، ومن قدرته القدرة التي لا يمتنع عليه معها شيء أراده، ولا يتعذّر عليه فعل شيء أراد فعله، ومن إذا أراد عقاب بعض من عصاه من عباده أحلّ به ما أحلّ بالذين وصف صفتهم من قوم فرعون وعاد وثمود وأصحاب الرّسّ، وقرونا بين ذلك كثيرا، فلم يكن لمن غضب عليه منه ناصر، ولا له عنه دافع( وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) يقول تعالى ذكره: وكان الكافر معينا للشيطان على ربه، مظاهرا له على معصيته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد( وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) قال: يظاهر الشيطان على معصية الله بعينه.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) قال: معينا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. قال ابن جُرَيج: أبو جهل معينا ظاهر الشيطان على ربه.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله:( وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) قال: عونا للشيطان على ربه على المعاصي.

حدثني يونس. قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) قال: على ربه عوينا. والظهير: العوين. وقرأ قول الله:( فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ) قال: لا تكونن لهم عوينا. وقرأ أيضا قول الله:( وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ ) قال: ظاهروهم: أعانوهم.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) يعني: أبا الحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا جهل بن هشام.  وقد كان بعضهم يوجه معنى قوله:( وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) أي وكان الكافر على ربه هينا، من قول العرب: ظهرت به، فلم ألتفت إليه، إذا جعله خلف ظهره فلم يلتفت إليه، وكأنّ الظهير كان عنده فعيل صرف من مفعول إليه من مظهور به، كأنه قيل: وكان الكافر مظهورا به. والقول الذي قلناه هو وجه الكلام، والمعنى الصحيح، لأن الله تعالى ذكره أخبر عن عبادة هؤلاء الكفار من دونه، فأولى الكلام أن يتبع ذلك ذمه إياهم، وذمّ فعلهم دون الخبر عن هوانهم على ربهم، ولم يجر لاستكبارهم عليه ذكر، فيتبع بالخبر عن هوانهم عليه.==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

والثمن الجنة لعبد الملك القاسم

سلسلة أين نحن من هؤلاء ؟  كتاب والثمن الجنة لعبد الملك القاسم  بسم الله الرحمن الرحيم  المقدمة  الحمد لله الذي وعد من أطاعه جنات عدن تجري ...