دعاء الاموات لمشاري

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate

الاثنين، 6 مارس 2023

تفسير سورة الفرقان الايات من 6/الي77. والاخر

تفسير سورة الفرقان الايات من 6/الي77. والاخر

وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)

==== 

الفرقان - تفسير ابن كثير 

وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)

{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) } .

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقيق، عن عبد الله -هو ابن مسعود -قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: الذنب أكبر؟ قال: "أن تَجعل لله ندًا وهو خلقك". قال: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعم معك". قال: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك". قال عبد الله: وأنزل الله تصديق ذلك: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } .

وهكذا رواه النسائي عن هَنَّاد بن السري، عن أبي معاوية، به (1) .

وقد أخرجه البخاري ومسلم، من حديث الأعمش ومنصور -زاد البخاري: وواصل -ثلاثتهم عن أبي وائل، شقيق بن سلمة، عن أبي مَيْسَرة عمرو بن شرحبيل، عن ابن مسعود، به (2) ، فالله أعلم، ولفظهما عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ الحديث .

طريق غريب: وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، حدثنا عامر بن مُدْرِك، حدثنا السري -يعني ابن إسماعيل -حدثنا الشعبي، عن مسروق قال: قال عبد الله: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته، فجلس على نَشَز من الأرض، وقعدت أسفل منه، ووجهي حيال ركبتيه، واغتنمت (3) خلوته وقلت (4) : بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أي الذنوب (5) أكبر؟ قال: "أن تدعو لله ندًا وهو خلقك".قلت: ثم مه؟ (6) قال: "أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك". قلت: ثم مه؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك". ثم قرأ: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } . [إلى آخر] (7) الآية (8) .

وقال النسائي: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يَسَاف، عن سلمة بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ألا إنما هي أربع -فما أنا بأشح عليهن مني منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم -: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا" (9) .

وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن المديني، رحمه الله، حدثنا محمد بن فضيل بن غَزْوان، حدثنا محمد بن سعد (10) الأنصاري، سمعت أبا طيبة الكَلاعي، سمعت المقداد بن الأسود، رضي الله عنه، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ما تقولون في الزنى"؟ قالوا: حَرّمه الله ورسوله، فهو حَرَام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره". قال: "ما تقولون في السرقة"؟ قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام. قال: "لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره" (11) .

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا عمار بن نصر، حدثنا بَقيَّة، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن الهيثم بن مالك الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نُطفة وضعها رجل في رَحِم لا يحل له" (12) .

__________

(1) المسند (1/380) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11368).

(2) صحيح البخاري برقم (6811) وصحيح مسلم برقم (68).

(3) في ف: "فاغتنمت".

(4) في أ: "فقلت".

(5) في أ: "الذنب".

(6) في أ: "أي".

(7) زيادة من أ.

(8) صحيح البخاري برقم (6811) وصحيح مسلم برقم (68).

(9) النسائي في السنن الكبرى رقم (11373).

(10) في ف، أ: "سعيد".

(11) المسند (6/8) وقال الهيثمي في المجمع (8/168) "رجاله ثقات".

(12) الورع لابن أبي الدنيا برقم (137) "وهو مرسل، وفي إسناده بقية وهو مدلس وابن أبي مريم ضعيف" أ.هـ مستفادا من كلام المحقق الفاضل محمد الحمود

وقال ابن جُرَيج: أخبرني يعلى، عن سعيد بن جبير أنه سمعه يحدث (1) عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزَنَوا فأكثروا، ثم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا (2) كفارة، فنزلت: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } ، ونزلت: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ] } (3) [ الزمر : 53] .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي فَاخِتة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: "إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتدع الخالق، وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك، وينهاك أن تزني بحليلة جارك". قال سفيان: وهو قوله: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } (4) .

وقوله: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } . روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: { أَثَامًا } واد في جهنم.

وقال عكرمة: { يَلْقَ أَثَامًا } أودية في جهنم يعذب فيها الزناة. وكذا رُوي عن سعيد بن جبير، ومجاهد.

وقال قتادة: { يَلْقَ أَثَامًا } نكالا كنا نحدث أنه واد في جهنم.

وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول: يا بني، إياك والزنى، فإن أوله مخافة، وآخره ندامة.

وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن جرير وغيره، عن أبي أمامة الباهلي -موقوفا ومرفوعا -أن "غيا" و"أثاما" بئران في قعر جهنم (5) أجارنا الله منها بمنه وكرمه.

وقال السدي: { يَلْقَ أَثَامًا } : جزاء.

وهذا أشبه بظاهر الآية؛ ولهذا فسره بما بعده مبدلا منه، وهو قوله: { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي: يكرر عليه ويغلظ، { وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } أي: حقيرا ذليلا.

وقوله: { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ [عَمَلا ] صَالِحًا } (6) أي: جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر { إِلا مَنْ تَابَ } في الدنيا إلى الله (7) من جميع ذلك، فإن الله يتوب عليه.

وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل، ولا تعارض (8) بين هذه وبين آية النساء: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [ النساء : 93] فإن هذه

__________

(1) في أ: "يحدثه".

(2) في أ: "أن لنا إن عملنا".

(3) زيادة من ف، أ.

(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/277) وعزاه لابن أبي حاتم. ووقع فيه: "عن أبي قتادة" فإن كان كذلك فهو موصول، وإن كان كما هو مثبت هنا فهو مرسل، ولم يتبين لي الصواب منهما، والله أعلم.

(5) تفسير الطبري (19/29).

(6) زيادة من ف، وهو الصواب.

(7) في ف: "إلى الله في الدنيا".

(8) في أ: "ولا معارض".

(6/126)

 

 

وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة، فتحمل على من لم يتب، لأن هذه مقيدة بالتوبة، ثم قد قال [الله] (1) تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ،116] .

وقد ثبتت السنة الصحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل، كما ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب، وقبل منه، وغير ذلك من الأحاديث.

وقوله: { فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } : في معنى قوله: { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قولان:

أحدهما: أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قال: هم المؤمنون، كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك فحوَّلهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات.

وروى مجاهد، عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الآية:

بُدّلْنَ بَعْدَ حَرِّهِ خَريفا (2) وَبَعْدَ طُول النَّفَس الوَجيفَا (3)

يعني: تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها.

وقال عطاء بن أبي رباح: هذا في الدنيا (4) ، يكون الرجل على هيئة قبيحة، ثم يبدله الله بها خيرا.

وقال سعيد بن جبير: أبدلهم بعبادة الأوثان عبادة الله، وأبدلهم (5) بقتال المسلمين قتالا مع المسلمين للمشركين، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات.

وقال الحسن البصري: أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصا، وأبدلهم بالفجور إحصانا وبالكفر إسلاما.

وهذا قول أبي العالية، وقتادة، وجماعة آخرين.

والقول الثاني: أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات، وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار. فيوم القيامة وإن وجده مكتوبا عليه لكنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته، كما ثبتت السنة بذلك، وصحت به الآثار المروية عن السلف، رحمهم الله تعالى -وهذا سياق الحديث -قال الإمام أحمد:

حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سُوَيْد، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار، وآخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة: يؤتى برجل فيقول: نَحّوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا؟ فيقول: نعم -لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا -

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) في أ: "صريفا".

(3) البيت في تفسير الطبري (19/30).

(4) في أ: "هذا يكون في الدنيا".

(5) في ف: "وبدلهم".

(6/127)

 

 

فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة. فيقول: يا رب، عملت أشياء لا أراها هاهنا". قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. وانفرد به مسلم (1) .

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هاشم بن يزيد، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم بن زرعة، عن شُرَيْح بن عبيد (2) عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان: أعطني صحيفتك. فيعطيه إياها، فما وجد في صحيفته من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان، وكتبهن حسنات، فإذا أراد أن ينام أحدكم فليكبر ثلاثًا وثلاثين تكبيرة، ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة، ويسبح ثلاثًا وثلاثين تسبيحة، فتلك مائة" (3) .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة وعارم قالا حدثنا ثابت -يعني: ابن يزيد أبو زيد -حدثنا عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: يعطى رجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها، فإذا سيئاته (4) ، فإذا كاد (5) يسوء ظنه نظر (6) في أسفلها فإذا حسناته، ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات.

وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا سليمان بن موسى الزهري أبو داود، حدثنا أبو العَنْبَس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: ليأتين الله عز وجل بأناس (7) يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات، قيل: مَنْ هم يا أبا هريرة؟ قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات.

وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سَيَّار، حدثنا جعفر، حدثنا أبو حمزة، عن أبي الضيف -وكان من أصحاب معاذ بن جبل -قال: يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف: المتقين، ثم الشاكرين، ثم الخائفين، ثم أصحاب اليمين. قلت: لِمَ سموا أصحاب اليمين؟ قال: لأنهم عملوا الحسنات (8) والسيئات، فأعطوا كتبهم بأيمانهم، فقرؤوا سيئاتهم حرفا حرفا -قالوا: يا ربنا، هذه سيئاتنا، فأين حسناتنا؟. فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات، فعند ذلك قالوا:(هاؤم اقرؤوا كتابيه) ، فهم أكثر أهل الجنة.

وقال علي بن الحسين زين العابدين: { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قال: في الآخرة.

وقال مكحول: يغفرها لهم فيجعلها حسنات: [رواهما ابن أبي حاتم، وروى ابن جرير، عن سعيد بن المسيب مثله] (9) .

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم،

__________

(1) المسند (5/170) وصحيح مسلم برقم (190).

(2) في ف، أ: "عبدة".

(3) المعجم الكبير للطبراني (3/296) قال الهيثمي في المجمع (10/121) "فيه محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف" ولم يثبت سماعه عن أبيه أيضا.

(4) في أ: "إساءته".

(5) في أ: "كان".

(6) في أ: "ينظر".

(7) في أ: "أناس".

(8) في أ: "بالحسنات".

(9) زيادة من ف، أ.

(6/128)

 

 

حدثنا أبو (1) جابر، أنه سمع مكحولا يحدث قال: جاء شيخ كبير هرم قد سقط (2) حاجباه على عينيه، فقال: يا رسول الله، رجل غدر وفجر، ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطعها بيمينه، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم، فهل له من توبة؟ فقال له رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم: "أسلمتَ؟" قال (4) : أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن (5) محمدًا عبده ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن الله غافر لك ما كنت كذلك، ومبدل (6) سيئاتك حسنات". فقال: يا رسول الله، وغَدَراتي وفَجَراتي؟ فقال: "وغَدرَاتك وفَجَراتك" . فَوَلّى الرجل يهلل ويكبر (7) (8) .

وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة، عن صفوان بن عَمْرو (9) ، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي فَرْوَةَ -شَطْب -أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها، ولم يترك حاجة ولا داجة، فهل له من توبة؟ فقال: "أسلمتَ؟" فقال: نعم، قال: "فافعل الخيرات، واترك السيئات، فيجعلها (10) الله لك خيرات كلها". قال: وغَدرَاتي وفَجَراتي؟ قال: "نعم". قال فما زال يكبر حتى توارى (11) .

ورواه الطبراني من طريق أبي فَروة الرهاوي، عن ياسين الزيات، عن أبي سلمة الحِمْصي، عن يحيى بن جابر، عن سلمة بن نفيل مرفوعًا (12) .

وقال أيضًا: حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان، عن فُلَيْح الشماس، عن عبيد بن أبي عبيد (13) عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: جاءتني امرأة فقالت: هل لي من توبة؟ إني زنيت وولدت وقتلته. فقلت (14) لا ولا نَعمت العين ولا كرامة. فقامت وهي تدعو بالحسرة. ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح، فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بئسما قلت! أما كنت تقرأ هذه الآية: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } إلى قوله: { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } فقرأتها عليها. فخرَّت ساجدة وقالت: الحمد لله الذي جعل لي مخرجًا.

هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي رجاله مَنْ لا يُعرف والله أعلم. وقد رواه ابن جرير من

__________

(1) في أ: "ابن".

(2) في أ: "أسقطت".

(3) في أ: "النبي".

(4) في أ: "فقال".

(5) في أ: "وأشهد أن".

(6) في أ: "ويبدل".

(7) في ف، أ: "يكبر ويهلل".

(8) وقد وصله الإمام أحمد في مسنده (4/384) من طريق نوح بن قيس عن أشعث بن جابر الحداني عن مكحول عن عمرو بن عبسة به مرفوعا باختصار في أوله وآخره، وقال الهيثمي في المجمع (1/32) : "رجاله موثقون إلا أنه من رواية مكحول عن عمرو بن عبسة، فلا أدري أسمع منه أم لا".

(9) في أ: "عمر".

(10) في ف، أ: "فيجعلهم".

(11) المعجم الكبير للطبراني (7/314) ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (3/352) من طريق أبي القاسم البغوي عن محمد بن هارون الحربي عن أبي المغيرة به. وقال أبو القاسم البغوي: "روى هذا الحديث غير محمد بن هارون عن أبي المغيرة عن صفوان عن عبد الرحمن بن جبير: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم طويلا شطب الممدود، وأحسب أن محمد بن هارون صحف فيه، والصواب ما قال غيره".

(12) المعجم الكبير للطبراني (7/53) وقال الهيثمي في المجمع (1/31) : "في إسناده ياسين الزيات يروي الموضوعات".

(13) في هـ، ف، أ: "عن فليح بن عبيد بن أبي عبيد الشماس عن أبيه" والمثبت من الطبري.

(14) في أ: "فقال".

(6/129)

 

 

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)

حديث إبراهيم بن المنذر الحزَامي بسنده بنحوه، وعنده: فخرجت تدعو بالحسرة وتقول: يا حسرتا! أخلق هذا الحسن للنار؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، تَطَلَّبها (1) في جميع دور المدينة فلم يجدها، فلما كان من الليلة المقبلة جاءته، فأخبرها بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرت ساجدة، وقالت: الحمد لله الذي جعل لي مخرجًا وتوبة مما عملت. وأعتقت جارية كانت معها وابنتها، وتابت إلى الله عز وجل (2)

ثم قال تعالى مخبرًا عن عموم رحمته بعباده (3) وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان، جليل أو حقير، كبير أو صغير: فقال { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } أي: فإن الله يقبل (4) توبته، كما قال تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 110]، وقال { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ التوبة : 104]، وقال { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53]،أي: لمن تاب إليه.

{ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) }

وهذه أيضا من صفات عباد الرحمن، أنهم: { لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قيل: هو الشرك وعبادة الأصنام. وقيل: الكذب، والفسق، واللغو، والباطل.

وقال محمد بن الحنفية: [هو] (5) اللهو والغناء.

وقال أبو العالية، وطاوس، ومحمد بن سيرين، والضحاك، والربيع بن أنس، وغيرهم: هي أعياد المشركين (6) .

وقال عمرو بن قيس: هي مجالس السوء والخنا.

وقال مالك، عن الزهري: [شرب الخمر] (7) لا يحضرونه ولا يرغبون فيه، كما جاء في الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر" (8) .

وقيل: المراد بقوله تعالى: { لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } أي: شهادة الزور، وهي الكذب متعمدا على غيره،

__________

(1) في ف: "فطلبها".

(2) تفسير الطبري (19/27) ورواه ابن مردويه كما في الدر المنثور (6/279) وقال السيوطي: "إسناده ضعيف".

(3) في أ: "لعباده".

(4) في أ: "يتقبل".

(5) زيادة من أ.

(6) في ف: "للمشركين".

(7) زيادة من ف، أ.

(8) رواه الترمذي في السنن برقم (2801) من طريق ليث بن أبي سليم عن طاوس عن جابر به مرفوعا، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث طاوس عن جابر إلا من هذا الوجه" ثم نقل كلام العلماء في تضعيف ليث بن أبي سليم.

(6/130)

 

 

كما [ثبت] (1) في الصحيحين عن أبي بَكْرَة قال: قال (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكْبر الكبائر" ثلاثا، قلنا: بلى، يا رسول الله، قال: "الشرك بالله، وعقوق الوالدين". وكان متكئًا فجلس، فقال: "ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور [ألا وقول الزور وشهادة الزور]. (3) فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت (4) .

والأظهر من السياق أن المراد: لا يشهدون الزور، أي: لا يحضرونه؛ ولهذا قال: { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } أي: لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به مرُّوا، ولم يتدنسوا منه بشيء (5) ؛ ولهذا قال: { مَرُّوا كِرَامًا } .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو الحسين العجلي، عن محمد بن مسلم، أخبرني إبراهيم بن مَيْسَرة، أن ابن مسعود مر بلهو معرضًا (6) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أصبح ابن مسعود، وأمسى كريمًا".

وحدثنا الحسن بن محمد بن سلمة النحوي، حدثنا حبان، أنا عبد الله، أنا محمد بن مسلم، أخبرني ابن ميسرة قال: بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا فلم يقف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (7) : " لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما" (8) . ثم تلا إبراهيم بن ميسرة: { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } (9) .

وقوله: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } [و] (10) هذه من صفات المؤمنين { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الأنفال:2]، بخلاف الكافر، فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يُقْصر عما كان عليه، بل يبقى مستمرا على كفره وطغيانه وجهله وضلاله، كما قال تعالى: { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 124 -125] .

فقوله: { لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } أي: بخلاف الكافر الذي ذكر بآيات ربه، فاستمر على حاله، كأن لم يسمعها أصم أعمى.

قال مجاهد: قوله: { لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } لم يسمعوا : ولم يبصروا، ولم يفقهوا شيئًا.

وقال الحسن البصري: كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى.

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) في ف، أ: "عن".

(3) زيادة من ف، أ.

(4) صحيح البخاري برقم (2654) وصحيح مسلم برقم (87).

(5) في أ: "فيه شيء".

(6) في أ: "فلم يقف".

(7) في أ: "النبي".

(8) زيادة من ف، أ.

(9) ورواه ابن عساكر كما في المختصر لابن منظور (14/55) من طريق إبراهيم بن ميسرة به.

(10) زيادة من أ.

(6/131)

 

 

وقال قتادة: قوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } يقول: لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه، فهم -والله -قوم عقلوا عن الله (1) وانتفعوا بما (2) سمعوا من كتابه.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا عبد الله بن حُمْران، حدثنا ابن عَوْن قال: سألت الشعبي قلت: الرجل يرى القوم سجودا ولم يسمع ما سجدوا، أيسجد معهم؟ قال: فتلا هذه الآية: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } يعني: أنه لا يسجد معهم لأنه لم يتدبر آية السجدة (3) فلا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة، بل يكون على بصيرة من أمره، ويقين واضح بَيِّن.

وقوله: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } يعني: الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم وذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له.

قال ابن عباس: يعنون من يعمل بالطاعة، فتقرُّ به أعينهم في الدنيا والآخرة.

وقال عكرمة: لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالا ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين.

وقال الحسن البصري -وسئل عن هذه الآية -فقال: أن يُري الله العبد المسلم من زوجته، ومن أخيه، ومن حميمه طاعة الله. لا والله ما شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولدا، أو ولد ولد، أو أخا، أو حميما مطيعا لله عز وجل.

وقال ابن جُرَيْج في قوله: { هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } قال: يعبدونك ويحسنون (4) عبادتك، ولا يجرون علينا الجرائر.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني: يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يَعْمَر (5) بن بشر (6) حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يومًا، فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم! لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت. فاستغضب، فجعلت أعجبُ، ما قال إلا خيرًا! ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى مَحْضَرًا غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه؟ والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبَّهم الله على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين لما جاء به نبيكم، قد (7) كُفيتم البلاء بغيركم؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها نبيًا من الأنبياء في فترة من جاهلية، ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان. فجاء بفُرقان فَرَقَ به بين الحق والباطل، وفَرَقَ بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى والده وولده، أو أخاه كافرًا، وقد فتح الله قُفْل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل

__________

(1) في أ: "الحق".

(2) في أ: "مما".

(3) في ف، أ: "أمر السجدة".

(4) في أ: "فيحسنون".

(5) في هـ، ف، أ: "معمر" والمثبت من المسند.

(6) في أ: "بشير".

(7) في ف، أ: "وقد".

(6/132)

 

 

أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)

النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وإنها التي قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } . وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجوه (1) .

وقوله: { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس: أئمة يقتدى بنا في الخير.

وقال غيرهم: هداة مهتدين (2) [ودعاة] (3) إلى الخير، فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم (4) وأن يكون هداهم متعديًا (5) إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر (6) ثوابًا، وأحسن مآبًا؛ ولهذا ورد في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية" (7) .

{ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) } .

لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من [هذه] (8) الصفات الجميلة، والأفعال والأقوال (9) الجليلة (10) -قال بعد ذلك كله: { أُوْلَئِك } أي: المتصفون بهذه { يُجْزَوْن } أي: يوم القيامة { الْغُرْفَةَ } وهي الجنة.

قال أبو جعفر الباقر، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسُّدِّيّ: سميت بذلك لارتفاعها.

{ بِمَا صَبَرُوا } أي: على القيام بذلك { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا } أي: في الجنة { تَحِيَّةً وَسَلامًا } أي: يُبْتَدرُون (11) فيها بالتحية والإكرام، ويلقون [فيها] (12) التوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام، فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار .

وقوله: { خَالِدِينَ فِيهَا } أي: مقيمين، لا يظعنون ولا يَحُولون ولا يموتون، ولا يزولون عنها ولا يبغون عنها حولا كما قال تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108] .

وقوله { حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } أي: حسنت منظرا وطابت مَقيلا ومنزلا.

__________

(1) المسند (6/2).

(2) في أ: "مهديين".

(3) زيادة من أ.

(4) في أ: "ذراريهم".

(5) في أ: "متعد".

(6) في أ: "أكبر".

(7) صحيح مسلم برقم (1631).

(8) زيادة من ف، أ.

(9) في ف، أ: "الأقوال والأفعال".

(10) في أ: "الجميلة".

(11) في أ: "يبتدون".

(12) زيادة من ف، أ.

(6/133)

 

 

ثم قال (1) تعالى: { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } أي: لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا.

وقال مجاهد، وعمرو بن شعيب: { مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } يقول: ما يفعل بكم ربي.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ } يقول: لولا إيمانكم، وأخبر الله الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه (2) إلى المؤمنين.

وقوله: { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } أي: أيها الكافرون { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } أي: فسوف يكون تكذيبكم (3) لزامًا لكم، يعني: مقتضيا لهلاككم وعذابكم ودماركم في الدنيا والآخرة، ويدخل في ذلك يوم بدر، كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومحمد بن كعب القرظي، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم.

وقال الحسن البصري: { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } يعني: يوم القيامة. ولا منافاة بينهما. والله أعلم.

__________

(1) في أ: "وقال".

(2) في ف: "حبب".

(3) في أ: "تكذيبهم".

==== 

الفرقان - تفسير القرطبي 

الآية: [68] {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}

الآية: [69] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً}

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان، وقتلهم النفس بوأد البنات؛ وغير ذلك من الظلم والاغتيال، والغارات، ومن الزنى الذي كان عندهم مباحا. وقال من صرف هذه الآية عن ظاهرها من أهل المعاني: لا يليق بمن أضافهم الرحمن إليه إضافة الاختصاص، وذكرهم ووصفهم من صفات المعرفة والتشريف وقوع هذه الأمور القبيحة منهم حتى يمدحوا بنفيها عنهم لأنهم أعلى وأشرف، فقال: معناها لا يدعون الهوى إلها، ولا يذلون أنفسهم بالمعاصي فيكون قتلا لها. ومعنى {إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي إلا بسكين الصبر وسيف المجاهدة فلا ينظرون إلى نساء ليست لهم بمحرم بشهوة فيكون سفاحا؛ بل بالضرورة فيكون كالنكاح. قال شيخنا أبو العباس: وهذا كلام رائق غير أنه عند السبر مائق. وهي نبعة باطنية ونزعة باطلية وإنما صح تشريف عباد الله باختصاص الإضافة بعد أن تحلوا بتلك الصفات الحميدة وتخلوا عن نقائض ذلك من الأوصاف الذميمة، فبدأ في صدر هذه الآيات بصفات التحلي تشريفا لهم، ثم أعقبها بصفات التخلي تبعيدا لها؛ والله أعلم.

قلت: ومما يدل على بطلان ما ادعاه هذا القائل من أن تلك الأمور ليست على ظاهرها ما روى مسلم من حديث عبدالله بن مسعود قال قلت: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: "أن تدعو لله ندا وهو خلقك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم" قال: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" فأنزل الله تعالى تصديقها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} . والأثام في كلام العرب العقاب، وبه قرأ ابن زيد وقتادة هذه الآية.

(13/75)

 

 

ومنه قول الشاعر:

جزى الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقا والعقوق له أثام

أي جزاء وعقوبة. وقال عبدالله بن عمرو وعكرمة ومجاهد: إن {أثاما} واد في جهنم جعله الله عقابا للكفرة. قال الشاعر:

لقيت المهالك في حربنا ... وبعد المهالك تلقى أثاما

وقال السدي: جبل فيها. قال:

وكان مقامنا ندعو عليهم ... بأبطح ذي المجاز له أثام

وفي "صحيح مسلم" أيضا عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا؛ فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، وهو يخبرنا بأن لما عملنا كفارة، فنزلت: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} . ونزل: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية. وقد قيل: إن هذه الآية، {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} نزلت في وحشي قاتل حمزة؛ قاله سعيد بن جبير وابن عباس. وسيأتي في {الزمر} بيانه. قوله تعالى: {إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا} أي بما يحق أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان؛ على ما تقدم بيانه في{الْأَنْعَامِ}. {وَلا يَزْنُونَ} فيستحلون الفروج بغير نكاح ولا ملك يمين. ودلت هذه الآية على أنه ليس بعد الكفر أعظم من قتل النفس بغير الحق ثم الزنى؛ ولهذا ثبت في حد الزنا القتل لمن كان محصنا أو أقصى الجلد لمن كان غير محصن.

قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي {يُضَعَفْ. وَيَخْلُدْ} جزما. وقرأ ابن كثير: {يُضَعَفْ} بشد العين وطرح الألف وبالجزم في {يُضَاعَفْ. وَيَخْلُدْ} وقرأ طلحة بن سليمان: {نُضَعَفْ} بضم النون وكسر العين المشددة .{الْعَذَابِ} نصب {وَيَخْلُدْ} جزم، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة.

(13/76)

 

 

وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: {يُضَاعَفْ. وَيَخْلُدْ} بالرفع فيهما على العطف والاستئناف. وقرأ طلحة بن سليمان: {وَيَخْلُدْ} بالتاء على معنى مخاطبة الكافر. وروي عن أبي عمرو {وَيَخْلُدْ} بضم الياء من تحت وفتح اللام. قال أبو علي: وهي غلط من جهة الرواية. و {يُضَاعَفْ} بالجزم بدل من {يَلْقَ} الذي هو جزاء الشرط. قال سيبويه: مضاعفة العذاب لقي الأثام. قال الشاعر:

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا

وقال آخر:

إن علي الله أن تبايعا ... تؤخذ كرها أو تجيء طائعا

وأما الرفع ففيه قولان: أحدهما أن تقطعه مما قبله. والآخر أن يكون محمولا على المعنى؛ كأن قائلا قال: ما لقي الأثام؟ فقيل له: يضاعف له العذاب. {مُهَاناً} معناه ذليلا خاسئا مبعدا مطرودا.

الآية: [70] {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}

قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني. واختلفوا في القاتل من المسلمين على ما تقدم بيانه في {النساء} ومضى في {المائدة} القول في جواز التراخي في الاستثناء في اليمين، وهو مذهب ابن عباس مستدلا بهذه الآية.

قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قال النحاس: من أحسن ما قيل فيه أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع. وقال مجاهد والضحاك: أن يبدلهم

(13/77)

 

 

الله من الشرك الإيمان وروي نحوه عن الحسن. قال الحسن: قوم يقولون التبديل في الآخرة، وليس كذلك، إنما التبديل في الدنيا؛ يبدلهم الله إيمانا من الشرك، وإخلاصا من الشك، وإحصانا من الفجور. وقال الزجاج: ليس بجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن بجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة. وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن السيئات تبدل بحسنات" . وروي معناه عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وغيرهما. وقال أبو هريرة: ذلك في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته، فيبدل الله السيئات حسنات. وفي الخبر: "ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات" فقيل: ومن هم؟ قال: "الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات" . رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره الثعلبي والقشيري. وقيل: التبديل عبارة عن الغفران؛ أي يغفر الله لهم تلك السيئات لا أن يبدلها حسنات.

قلت: فلا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "اتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن" . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق في كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا" فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. وقال أبو طويل: يا رسول الله، أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها فهل له من توبة؟ قال: "هل أسلمت" ؟ قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك عبد الله ورسوله. قال: "نعم .

(13/78)

 

 

تفعل الخيرات وتترك السيئات يجعلهن الله كلهن خيرات" . قال: وغدراتي وفجراتي يا نبي الله؟ قال: "نعم" . قال: الله أكبر! فما زال يكررها حتى توارى. ذكره الثعلبي. قال مبشر بن عبيد، وكان عالما بالنحو والعربية: الحاجة التي تقطع على الحاج إذا توجهوا. والداجة التي تقطع عليهم إذا قفلوا. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .

الآية: 71 {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً}

قوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} لا يقال: من قام فإنه يقوم؛ فكيف قال من تاب فإنه يتوب؟ فقال ابن عباس: المعنى من آمن من أهل مكة وهاجر ولم يكن قتل وزنى بل عمل صالحا وأدى الفرائض فإنه يتوب إلى الله متابا؛ أي فإني قدمتهم وفضلتهم على من قاتل النبي صلى الله عليه وسلم واستحل المحارم. وقال القفال: يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين، ولهذا قال: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [مريم: 60] ثم عطف عليه من تاب من المسلمين واتبع توبته عملا صالحا فله حكم التائبين أيضا. وقيل: أي من تاب بلسانه ولم يحقق ذلك بفعله، فليست تلك التوبة نافعة؛ بل من تاب وعمل صالحا فحقق توبته بالأعمال الصالحة فهو الذي تاب إلى الله متابا، أي تاب حق التوبة وهي النصوح ولذا أكد بالمصدر. فـ {مَتَاباً} مصدر معناه التأكيد، كقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] أي فإنه يتوب إلى الله حقا فيقبل الله توبته حقا.

الآية: [72] {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}

فيه مسألتان

الأولي- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أي لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه. والزور كل باطل زور وزخرف، وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد. وبه فسر الضحاك وابن زيد وابن عباس وفي رواية عن ابن عباس أنه أعياد المشركين. عكرمة: لعب

(13/79)

 

 

كان في الجاهلية يسمى بالزور. مجاهد: الغناء؛ وقاله محمد ابن الحنفية أيضا. ابن جريج: الكذب؛ وروي عن مجاهد. وقال علي بن أبي طلحة ومحمد بن علي: المعنى لا يشهدون بالزور، من الشهادة لا من المشاهدة. قال ابن العربي: أما القول بأنه الكذب فصحيح، لأن كل ذلك إلى الكذب يرجع، وأما من قال إنه لعب كان في الجاهلية فإنه يحرم ذلك إذا كان فيه قمار أو جهالة، أو أمر يعود إلى الكفر، وأما القول بأنه الغناء فليس ينتهي إلى هذا الحد.

قلت: من الغناء ما ينتهي سماعه إلى التحريم، وذلك كالأشعار التي توصف فيها الصور المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرك الطباع ومخرجها عن الاعتدال، أو يثير كامنا من حب اللهو؛ مثل قول بعضهم:

ذهبي اللون تحسب من ... وجنتيه النار تقتدح

خوفوني من فضيحته ... ليته وافي وافتضح

لا سيما إذا اقترن بذلك شبابات وطارات مثل ما يفعل اليوم في هذه الأزمان، على ما بيناه في غير هذا الموضع. وأما من قال إنه شهادة الزور، وهي:

الثانية- فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، ويحلق رأسه، ويطوف به في السوق. وقال أكثر أهل العلم: ولا تقبل له شهادة أبدا وإن تاب وحسنت حاله فأمره إلى الله. وقد قيل: إنه إذا كان غير مبرز فحسنت حال قبلت شهادته حسبما تقدم بيانه في سورة {الْحَجَّ} فتأمله هناك.

قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} اللغو، وهو كل سقط من قول أو فعل؛ فيدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك مما قاربه، وتدخل فيه سفه المشركين وأذاهم المؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر. وقال مجاهد: إذا أوذوا صفحوا. وروي عنه: إذا ذكر النكاح كنوا عنه. وقال الحسن: اللغو المعاصي كلها. وهذا جامع. و {كِرَاماً} معناه معرضين منكرين لا يرضونه، ولا يمالئون عليه، ولا يجالسون أهله.

(13/80)

 

 

أي مروا مر الكرام الذين لا يدخلون في الباطل. يقال تكرم فلان عما يشينه، أي تنزه وأكرم نفسه عنه. وروي أن عبدالله بن مسعود سمع غناء فأسرع وذهب، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد أصبح ابن أم عبد كريما" . وقيل: من المرور باللغو كريما أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

الآية: [73] {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً}

فيه مسألتان:

الأولي- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} أي إذا قرئ عليهم القرآن ذكروا آخرتهم ومعادهم ولم يتغافلوا حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع. {لَمْ يَخِرُّوا} وليس ثم خرور؛ كما يقال: قعد يبكي لسان وإن كان غير قاعد؛ قاله الطبري واختاره؛ قال ابن عطية: وهو أن يخروا صما وعميانا هي صفة الكفار، وهي عبارة عن إعراضهم؛ وقرن ذلك بقولك: قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام، وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة. قال ابن عطية: فكأن المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر، فإذا أعرض وضل كان ذلك خرورا، وهو السقوط على غير نظام وترتيب؛ وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجدا لكن أصله على غير ترتيب. وقيل: أي إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم فخروا سجدا وبكيا، ولم يخروا عليها صما وعميانا. وقال الفراء: أي لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا.

الثانية- قال بعضهم: إن من سمع رجلا يقرأ سجدة يسجد معه؛ لأنه قد سمع آيات الله تتلى عليه. قال ابن العربي: وهذا لا يلزم إلا القارئ وحده، وأما غيره فلا يلزمه ذلك إلا في مسألة واحدة؛ وهو أن الرجل إذا تلا القرآن وقرأ السجدة فإن كان الذي جلس معه جلس ليسمعه فليسجد معه، وإن لم يلتزم السماع معه فلا سجود عليه. وقد مضى هذا في {الأَعْرَافِ}.

(13/81)

 

 

الآية: [74] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}

الآية: [75] {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً}

الآية: [76] {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}

الآية: [77] {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قال الضحاك: أي مطيعين لك. وفيه جواز الدعاء بالولد. والذرية تكون واحدا وجمعا. فكونها للواحد قوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم: 5] وكونها للجمع {ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} [النساء: 9] وقد مضى في {البقرة} اشتقاقها مستوفى. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والحسن: {وَذُرِّيَّاتِنَا} وقرأ أبو عمر وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى: {وَذُرِّيَّاتِنَا} بالإفراد. {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} نصب على المفعول، أي قرة أعين لنا. وهذا نحو قوله عليه الصلاة والسلام لأنس: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه" . {وَآلَ عِمْرَانَ}و {مَرْيَمَ} وذلك أن الإنسان إذا بورك له في مال وولده قرت عينه بأهله وعياله، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة أو كانت عنده ذرية محافظون على الطاعة، معاونون له على وظائف الدين والدنيا، لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده، فتسكن عينه عن الملاحظة، ولا تمتد عينه إلى ما ترى؛ فذلك حين قرة العين، وسكون النفس. ووحد {قُرَّةَ} لأنه مصدر؛ تقول: قرت عينك قرة. وقرة العين يحتمل أن تكون من القرار، ويحتمل أن تكون من القر وهو الأشهر. والقر البرد؛ لأن العرب تتأذى بالحر وتستريح إلى البرد. وأيضا فإن دمع السرور بارد، ودمع الحزن سخن، فمن هذا يقال: أقر الله عينك، وأسخن الله عين العدو. وقال الشاعر:

فكم سخنت بالأمس عين قريرة ... وقرت عيون دمعها اليوم ساكب

(13/82)

 

 

قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} أي قدوة يقتدى بنا في الخير، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيا قدوة؛ وهذا هو قصد الداعي. وفي الموطأ: "إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم" فكان ابن عمر يقول في دعائه: اللهم اجعلنا من أئمة المتقين. وقال: {إِمَاماً} ولم يقل أئمة على الجمع؛ لأن الإمام مصدر. يقال: أم القوم فلان إماما؛ مثل الصيام والقيام. وقال بعضهم: أراد أئمة، كما يقول القائل أميرنا هؤلاء، يعني أمراءنا. وقال الشاعر:

يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي ... إن العواذل لسن لي بأمير

أي أمراء. وكان القشيري أبو القاسم شيخ الصوفية يقول: الإمامة بالدعاء لا بالدعوى، يعني بتوفيق الله وتيسيره ومنته لا بما يدعيه كل أحد لنفسه. وقال إبراهيم النخعي: لم يطلبوا الرياسة بل بأن يكونوا قدوة في الدين. وقال ابن عباس: اجعلنا أئمة هدى، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة: 24] وقال مكحول: اجعلنا أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون. وقيل: هذا من المقلوب؛ مجازه: واجعل المتقين لنا إماما؛ وقال مجاهد. والقول الأول أظهر وإليه يرجع قول ابن عباس ومكحول، ويكون فيه دليل. على أن طلب الرياسة في الدين ندب. وإمام واحد يدل على جمع؛ لأنه مصدر كالقيام. قال الأخفش: الإمام جمع آم من أم يؤم جمع على فعال، نحو صاحب وصحاب، وقائم وقيام.

قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} {أُولَئِكَ} خبر {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} في قول الزجاج على ما تقدم، وهو أحسن ما قيل فيه. وما تخلل بين المبتدأ وخبره أوصافهم من التحلي والتخلي؛ وهي إحدى عشرة: التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف والإقتار، والنزاهة عن الشرك، والزنى والقتل، والتوبة وتجنب الكذب، والعفو عن المسيء، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله. و {الْغُرْفَةَ} الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا. حكاه ابن شجره. وقال الضحاك: الغرفة الجنة. {بِمَا صَبَرُوا} أي بصبرهم على أمر ربهم: وطاعة نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام. وقال محمد بن علي بن الحسين: {بِمَا صَبَرُوا} على الفقر والفاقة في الدنيا. وقال الضحاك: {بِمَا صَبَرُوا } عن الشهوات. {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى

(13/83)

 

 

وحمزة والكسائي وخلف: {وَيُلَقَّوْنَ} مخففة، واختاره الفراء؛ قال لأن العرب تقول: فلان يتلقى بالسلام وبالتحية وبالخير بالتاء، وقلما يقولون فلان يلقى السلامة. وقرأ الباقون: {وَيُلَقَّوْنَ} واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان: 11]. قال أبو جعفر النحاس: وما ذهب إليه الفراء واختاره غلط؛ لأنه يزعم أنها لو كانت {وَيُلَقَّوْنَ} كانت في العربية بتحية وسلام، وقال كما يقال: فلان يتلقى بالسلام وبالخير؛ فمن عجيب ما في هذا الباب أنه قال يتلقى والآية {وَيُلَقَّوْنَ} والفرق بينهما بين: لأنه يقال فلان يتلقى بالخير ولا يجوز حذف الباء، فكيف يشبه هذا ذاك! وأعجب من هذا أن في القرآن {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} ولا يجوز أن يقرأ بغيره. وهذا يبين أن الأولى على خلاف ما قال. والتحية من الله والسلام من الملائكة. وقيل: التحية البقاء الدائم والملك العظيم؛ والأظهر أنهما بمعنى واحد، وأنهما من قبل الله تعالى؛ دليله قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44] وسيأتي. {خَالِدِينَ} نصب على الحال {فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}.

قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} هذه آية مشكلة تعلقت بها الملحدة. يقال: ما عبأت بفلان أي ما باليت به؛ أي ما كان له عندي وزن ولا قدر. وأصل يعبأ من العبء وهو الثقل. وقول الشاعر:

كأن بصدره وبجانبيه ... عبيرا بات يعبؤه عروس

أي يجعل بعضه على بعض. فالعبء الحمل الثقيل، والجمع أعباء. والعبء المصدر. وما استفهامية؛ ظهر في أثناء كلام الزجاج، وصرح به الفراء. وليس يبعد أن تكون نافية؛ لأنك إذا حكمت بأنها استفهام فهو نفي خرج مخرج الاستفهام؛ كما قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلاَّ الأِحْسَانُ} [الرحمن: 60] قال ابن الشجري: وحقيقة القول عندي أن موضع {ما} نصب؛ والتقدير: أي عبء يعبأ بكم؛ أي أي مبالاة يبالي ربي بكم لولا دعاؤكم؛ أي لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه، فالمصدر الذي هو الدعاء على هذا القول مضاف إلى مفعوله؛ وهو اختيار

(13/84)

 

 

الفراء. وفاعله محذوف وجوابه لولا محذوف كما حذف في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد: 31] تقديره: لم يعبأ بكم. ودليل هذا القول قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فالخطاب لجميع الناس؛ فكأنه قال لقريش منهم: أي ما يبال الله بكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت؛ وذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله. ويؤيد هذا قراءة ابن الزبير وغيره. {فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ} فالخطاب بما يعبأ لجميع الناس، ثم يقول لقريش: فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون التكذيب هو سبب العذاب لزاما. وقال النقاش وغيره: المعنى؛ لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك. بيانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [العنكبوت: 65] ونحو هذا. وقيل: {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ} أي بمغفرة ذنوبكم ولا هو عنده عظيم {لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} معه الآلهة والشركاء. بيانه: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147]. قال الضحاك. وقال الوليد بن أبي الوليد: بلغني فيها أي ما خلقتكم ولي حاجة إليكم إلا تسألوني فأغفر لكم وأعطيكم. وروى وهب بن منبه أنه كان في التوراة: "يا ابن آدم وعزتي ما خلقتك لأربح عليك إنما خلقتك لتربح علي فاتخذني بدلا من كل شيء فأنا خير لك من كل شيء". قال ابن جني: قرأ ابن الزبير وابن عباس {فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ} . قال الزهراوي والنحاس: وهي قراءة ابن مسعود وهي على التفسير؛ للتاء والميم في {كَذَّبْتُمْ} . وذهب القتبي والفارسي إلى أن الدعاء مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف. الأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه؛ وجواب {لَوْلا} محذوف تقديره في هذا الوجه: لم يعذبكم. ونظير قوله: لولا دعاؤكم آلهة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]. {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} أي كذبتم بما دعيتم إليه؛ هذا على القول الأول؛ وكذبتم بتوحيد الله على الثاني. {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أي يكون تكذيبكم ملازما لكم. والمعنى: فسوف يكون جزاء التكذيب كما قال: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف: 49] أي جزاء ما عملوا وقوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام: 30] أي جزاء ما كنتم تكفرون. وحسن إضمار التكذيب لتقدم ذكر فعله؛ لأنك إذا ذكرت الفعل دل بلفظه على مصدره، كما قال: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [آل عمران: 110] أي لكان الإيمان. وقوله: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] أي يرضى الشكر. ومثله كثير. وجمهور المفسرين

(13/85)

 

 

على أن المراد باللزام هنا ما نزل بهم يوم بدر، وهو قول عبدالله ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي مالك ومجاهد ومقاتل وغيرهم. وفي صحيح مسلم عن عبدالله: وقد مضت البطشة والدخان واللزام. وسيأتي مبينا في سورة {الدخان} إن شاء الله تعالى. وقالت فرقة: هو توعد بعذاب الآخرة. وعن ابن مسعود أيضا: اللزام التكذيب نفسه؛ أي لا يعطون التوبة منه؛ ذكره الزهراوي؛ فدخل في هذا يوم بدر وغيره من العذاب الذي يلزمونه. وقال أبو عبيدة: لزاما فيصلا أي فسوف يكون فيصلا بينكم وبين المؤمنين. والجمهور من القراء على كسر اللام؛ وأنشد أبو عبيدة لصخر:

فإما ينجوا من خسف أرض ... فقد لقيا حتوفهما لزاما

ولزاما وملازمة واحد. وقال الطبري: {لِزَاماً} يعني عذابا دائما لازما، وهلاكا مفنيا يلحق بعضكم ببعض؛ كقول أبي ذؤيب:

ففاجأه بعادية لزام ... كما يتفجر الحوض اللقيف

يعني باللزام الذي يتبع بعضه بعضا، وباللقيف المتساقط الحجارة المتهدم. النحاس: وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال سمعت قعنبا أبا السمال يقرأ: {لَزاما} بفتح اللام. قال أبو جعفر: يكون مصدر لزم والكسر أولى، يكون مثل قتال ومقاتلة، كما أجمعوا على الكسر في قوله عز وجل: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً} [طه: 129]. قال غيره: اللزام بالكسر مصدر لازم لزاما مثل خاصم خصاما، واللزام بالفتح مصدر لزم مثل سلم سلاما أي سلامة؛ فاللزام بالفتح اللزوم، واللزام الملازمة، والمصدر في القراءتين وقع موقع اسم الفاعل. فاللزام وقع موقع ملازم، واللزام وقع موقع لازم. كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} [الملك: 30] أي غائرا. قال النحاس: وللفراء قول في اسم يكون؛ قال: يكون مجهولا وهذا غلط؛ لأن المجهول لا يكون خبره إلا جملة، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90] وكما حكى النحويون كان زيد منطلق يكون في كان مجهول ويكون المبتدأ وخبره خبر المجهول، التقدير: كان الحديث؛ فأما أن يقال كان منطلقا، ويكون في كان مجهول فلا يجوز عند أحد علمناه. وبالله التوفيق وهو المستعان والحمد لله رب العالمين.

==== 

الفرقان - تفسير الطبري 

وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)

(19/302) 

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)

إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) }

يقول تعالى ذكره: والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر، فيشركون في عبادتهم إياه، ولكنهم يخلصون له العبادة ويفردونه بالطاعة( وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ) قتلها( إِلا بِالْحَقِّ ) إما بكفر بالله بعد إسلامها، أو زنا بعد إحصانها، أو قتل نفس، فتقتل بها( وَلا يَزْنُونَ ) فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ) يقول: ومن يأت هذه الأفعال، فدعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرّم الله بغير الحق، وزنى( يَلْقَ أَثَامًا ) يقول: يلق من عقاب الله عقوبة ونكالا كما وصفه ربنا جلّ ثناؤه، وهو أنه( يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا )، ومن الأثام قول بَلْعَاءَ بن قيس الكناني:

جَزَى اللهُ ابْنَ عُرْوَةَ حيْثُ أمْسَى... عُقُوقا والعُقُوقُ لَهُ أثامُ (1)

يعني بالأثام: العقاب.

وقد ذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل قوم من المشركين أرادوا الدخول في الإسلام، ممن كان منه في شركه هذه الذنوب، فخافوا أن لا ينفعهم مع ما سلف منهم من ذلك إسلام، فاستفتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية، يعلمهم أن الله قابل توبة من تاب منهم.

__________

(1) البيت لبلعام بن قيس بن ربيعة بن عبد الله بن يعمر ، واسمه حميضة وهو من كنانة بن خزيمة ، وكان بلعاء رأس بني كنانة في أكثر حروبهم ومغازيهم ، وكان كثير الغارات على العرب ، وله أخبار في حروب الفجار . وهو شاعر محسن ، قال في كل فن أشعاراً جيادًا ( انظر المؤتلف والمختلف 106 ومعجم الشعراء للمرزباني 357 ) . والبيت أنشده صاحب ( اللسان : أثم ) ونسبه إلى شافع الليثي . ونسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن إلى بلعاء بن قيس الكناني ، وعنه أخذ المؤلف قال في اللسان : " قال أبو إسحاق : تأويل الأثام : المجازاة وفال أبو عمرو الشيباني : لقي فلان أثام ذلك : أي جزاء ذلك ، فإن الخليل وسيبويه يذهبان إلى أن معناه : يلقى جزاء الأثام . وقول شافع الليثي في ذلك جزى الله ابن عروة ...... ... .............. له أثام"

أي عقوبة مجازاة العقوق ، وهي قطيعة الرحم . وقال الليث : الأثام في جملة التفسير عقوبة الإثم . وقيل في قوله تعالى {يلق أثاما} قيل : هو واد في جهنم . قال ابن سيده: والصواب عندي : أن معناه : يلق عقاب الأثام. ا هـ .

(19/303)

 

 

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: ثني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قَتَلُوا فأكثروا، فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تدعونا إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ) ونزلت:( قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) إلى قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) قال ابن جُرَيج: وقال مجاهد مثل قول ابن عباس سواء.

حدثنا عبد الله بن محمد الفريابي، قال: ثنا سفيان، عن أبي معاوية، عن أبي عمرو الشيباني، عن عبد الله، قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما الكبائر؟ قال: أنْ تَدْعُوَ للهِ نِدّا وهُوَ خَلَقَكَ وأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأَكُلَ مَعَكَ، وأنْ تَزْنِي بِحَلِيلَةِ جَارِكَ ، وقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ).

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان عن الأعمش ومنصور، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله، قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ أنْ تَجْعَلَ للهِ نِدّا وهُوَ خَلَقَكَ، قلت: ثم أي؟ قال: أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأَكُلَ مَعَكَ، قلت: ثم أي؟ قال: أنْ تُزَاني حَلِيلَةِ جَارِكَ" فأنزل تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم:( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ) " ... الآية.

حدثنا سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا عليّ بن قادم، قال: ثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي ميسرة، عن عبد الله بن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحوه.

حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثني عمي يحيى بن عيسى،

(19/304)

 

 

عن الأعمش، عن سفيان، عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الذنب أكبر؟ ثم ذكر نحوه.

حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: ثنا عامر بن مدرك، قال: ثنا السريّ - يعني ابن إسماعيل - قال: ثنا الشعبي، عن مسروق، قال: قال عبد الله: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فاتبعته، فجلس على نشَز من الأرض، وقعدت أسفل منه، ووجهي حيال ركبتيه، فاغتنمت خلوته وقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، أي الذنوب أكبر؟ قال : "أنْ تَدْعُوَ للهِ نِدّا وهُوَ خَلَقَكَ. قلت: ثم مه؟ قال: "أنْ تَقْتَلَ وَلَدَكَ كَرَاهِيَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ". قلت: ثم مه؟ قال: "أنْ تُزَانِي حَلِيلَةِ جَارِكَ"، ثم تلا هذه الآية:( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) ... إلى آخر الآية.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، قال: ثني سعيد بن جُبير، أو حُدثت عن سعيد بن جُبير، أن عبد الرحمن بن أبزى أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين التي في النساء( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ) ... إلى آخر الآية، والآية التي في الفرقان( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ) إلى( وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) قال ابن عباس: إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره، ثم قتل مؤمنا متعمدا، فلا توبة له، والتي في الفرقان لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة: فقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرّم الله بغير الحقّ، فما ينفعنا الإسلام؟ قال: فنزلت( إِلا مَنْ تَابَ ) قال: فمن تاب منهم قُبل منه.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، قال: ثني سعيد بن جبير، أو قال: حدثني الحكم عن سعيد بن جُبير، قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزي، فقال: سل ابن عباس، عن هاتين الآيتين، ما أمرهما عن الآية التي في الفرقان( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ) الآية، والتي في النساء( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ) فسألت ابن عباس عن ذلك، فقال: لما أنزل الله التي في الفرقان، قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس التي حرّم الله، ودعونا مع الله إلها آخر، فقال:( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) الآية. فهذه لأولئك. وأما التي في النساء( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ) ... الآية، فإن الرجل إذا عرف الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا، فجزاؤه جهنم، فلا توبة له. فذكرته لمجاهد،

(19/305)

 

 

فقال: إلا من ندم.

حدثنا محمد بن عوف الطائي، قال: ثنا أحمد بن خالد الذهني، قال: ثنا شيبان، عن منصور بن المعتمر، قال: ثني سعيد بن جُبير، قال لي سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى: سل ابن عباس، عن هاتين الآيتين عن قول الله:( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) ... إلى( مَنْ تَابَ ) وعن قوله( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ) ... إلى آخر الآية، قال: فسألت عنها ابن عباس، فقال: أنزلت هذه الآية في الفرقان بمكة إلى قوله( وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) فقال المشركون: فما يغني عنا الإسلام، وقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرّم الله، وأتينا الفواحش، قال: فأنزل الله( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) ... إلى آخر الآية، قال: وأما من دخل في الإسلام وعقله، ثم قتل، فلا توبة له.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال في هذه الآية( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ) ... الآية، قال: نزلت في أهل الشرك.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن سعيد بن جُبير، قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزي أن أسأل ابن عباس عن هذه الآية( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) فذكر نحوه.

حدثني عبد الكريم بن عمير، قال: ثنا إبراهيم بن المنذر، قال: ثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان، مَولى لبني الديل من أهل المدينة، عن فليح الشماس، عن عبيد بن أبي عبيد، عن أبي هريرة، قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العَتَمة، ثم انصرفت فإذا امرأة عند بابي، ثم سلمت، ففتحت ودخلت، فبينا أنا في مسجدي أصلي، إذ نقرت الباب، فأذنت لها، فدخلت فقالت: إني جئتك أسألك عن عمل عملت، هل لي من توبة؟ فقالت: إني زنيت وولدت، فقتلته، فقلت : ولا لا نعمت العين ولا كرامة، فقامت وهي تدعو بالحسرة تقول: يا حسرتاه، أخُلق هذا الحسن للنار؟ قال: ثم صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح من تلك الليلة، ثم جلسنا ننتظر الإذن عليه، فأذن لنا، فدخلنا، ثم خرج من كان معي، وتخلفت، فقال: مَا لَكَ يا أبا هُرَيْرَةَ، ألَكَ حَاجَة؟ فقلت له: يا رسول الله صليت معك البارحة ثم

(19/306)

 

 

انصرفت. وقصصت عليه ما قالت المرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قُلْت لَهَا؟ قال: قلت لها: لا والله، ولا نعمت العين ولا كرامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بِئسَ مَا قُلتَ، أمَا كُنْتَ تَقْرَأ هذِهِ الآية( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ) ... الآية( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) فقال أبو هريرة: فخرجت، فلم أترك بالمدينة حصنا ولا دارًا إلا وقفت عليه، فقلت: إن تكن فيكم المرأة التي جاءت أبا هريرة الليلة، فلتأتني ولتبشر; فلما صليت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم العشاء، فإذا هي عند بابي، فقلت: أبشري، فإني دخلت على النبيّ، فذكرت له ما قلت لي، وما قلت لك، فقال: وبئس ما قلت لها، أما كنت تقرأ هذه الآية؟ فقرأتها عليها، فخرّت ساجدة، فقالت: الحمد لله الذي جعل مخرجًا وتوبة مما عملت، إن هذه الجارية وابنها حرَّان لوجه الله، وإني قد تبت مما عملت".

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، قال: اختلفت إلى ابن عباس ثلاث عشرة سنة، فما شيء من القرآن إلا سألته عنه، ورسولي يختلف إلى عائشة، فما سمعته ولا سمعت أحدا من العلماء يقول: إن الله يقول لذنب: لا أغفره.

وقال آخرون: هذه الآية منسوخة بالتي في النساء.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني المغيرة بن عبد الرحمن الحراني، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد أنه دخل على أبيه وعنده رجل من أهل العراق، وهو يسأله عن هذه الآية التي في تبارك الفرقان، والتي في النساء( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ) فقال زيد بن ثابت: قد عرفت الناسخة من المنسوخة، نسختها التي في النساء بعدها بستة أشهر.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال الضحاك بن مزاحم: هذه السورة بينها وبين النساء( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ) ثمان حجج. وقال ابن جُرَيج: وأخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جُبير: هل لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ فقال: لا فقرأ عليه هذه الآية كلها، فقال سعيد بن جُبير:

(19/307)

 

 

قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي، فقال: هذه مكية، نسختها آية مدنية، التي في سورة النساء، وقد أتينا على البيان عن الصواب من القول في هذه الآية التي في سورة النساء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وبنحو الذي قلنا في الأثام من القول، قال أهل التأويل، إلا أنهم قالوا: ذلك عقاب يعاقب الله به من أتى هذه الكبائر بواد في جهنم يُدعى أثاما.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يحدّث، عن قتادة، عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو، قال: الأثام: واد في جهنم.

حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:( يَلْقَ أَثَامًا ) قال: واديا في جهنم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، حدثنا ابن حميد قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، في قوله:( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ) قال: واديا في جهنم فيه الزناة.

حدثني العباس بن أبي طالب، قال: ثنا محمد بن زياد، قال: ثنا شرقي بن قطاميّ، عن لقمان بن عامر الخزاعيّ، قال: جئت أبا أمامة صديّ بن عجلان الباهلي، فقلت: حدثني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فدعا لي بطعام، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ صَخْرَةً زِنَةَ عَشْر عَشْرَوَاتٍ قُذِفَ بِها مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ ما بَلَغَتْ قَعْرَهَا خَمْسِينَ خَرِيفا، ثُمَّ تَنْتَهِي إلى غَيٍّ وأثامٍ". قلت: وما غيّ وأثام؟ قال: بِئْرَان فِي أَسْفَلِ جَهَنَّمَ يَسِيلُ فِيهِمَا صَدِيدُ أهْلِ النَّار، وهما اللذان ذكر الله في كتابه( أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) وقوله في الفرقان( وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ).

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( يَلْقَ أَثَامًا ) قال: الأثام الشرّ، وقال: سيكفيك ما وراء ذلك:( يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ).

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( يَلْقَ أَثَامًا ) قال: نكالا قال: وقال: إنه واد في جهنم.

(19/308)

 

 

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن هشيم، قال: أخبرنا زكريا بن أبي مريم قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة سبعين خريفا بحجر يهوي فيها أو بصخرة تهوي، عظمها كعشر عشراوات سمان، فقال له رجل: فهل تحت ذلك من شيء؟ قال: نعم غيّ وأثام.

قوله:( يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأته عامة قراء الأمصار سوى عاصم( يُضَاعفْ ) جزما( وَيَخْلُدْ ) جزما. وقرأه عاصم:( يضَاعَفُ ) رفعا( وَيَخْلُدُ ) رفعا كلاهما على الابتداء، وأن الكلام عنده قد تناهى عند( يَلْقَ أَثَامًا ) ثم ابتدأ قوله:( يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ ). والصواب من القراءة عندنا فيه: جزم الحرفين كليهما: يضاعفْ، ويخلدْ، وذلك أنه تفسير للأثام لا فعل له، ولو كان فعلا له كان الوجه فيه الرفع، كما قال الشاعر:

مَتى تأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نَارِهِ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ (1)

فرفع تعشو، لأنه فعل لقوله تأته، معناه: متى تأته عاشيا.

وقوله( وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) ويبقى فيه إلى ما لا نهاية في هوان. وقوله:( إِلا مَنْ

__________

(1) البيت للحطيئة ( اللسان : عشا ) . قال : عشا إلى النار وعشاها عشوًا وعشوًا (كفعول ) واعتشاها واعتشى بها : كله: رآها ليلا على بعد ، فقصدها مستضيئا بها ؛ قال الحطيئة : * متى تأته تعشو *

البيت . أي متى تأته لا تتبين ناره من ضعف بصرك . ا هـ . وجملة تعشو : في محل نصب على الحال . ولذلك قال المؤلف : فرفع تعشو لأنه فعل لقوله تأته ، أي : هو حال من فاعل تأته . أي متى تأته عاشيًا . أما ما رواه الطبري من أن القراء مختلفون في قراءة : (يضاعف ) جزمًا ورفعًا فهو كلام وجيه ، ولكل قراءة تأويلها من جهة النحو ، ولكنه يؤثر رواية الجزم على التفسير ، أي البدل مما قبله ، وهو (يلق ) والذي ذهب إليه المؤلف تبع فيه الفراء في معاني القرآن (مصور الجامعة رقم 24059 ص 226) قال : وقوله : { ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة } : قرأت القراء بجزم { يضاعف} ورفعه عاصم بن أبي النجود ؛ والوجه الجزم . وذلك إن فسرته ولم يكن فعلا لما قبله ( أي مصاحبا الفعل الذي قبله) فالوجه الجزم . وما كان فعلا لما قبله رفعته ، فأما المفسر للمجزوم ( أي المبدل منه ) فقوله : {ومن يفعل ذلك يلق أثاما} ثم فسر الأثام ، فقال { يضاعف له العذاب} . ومثله في الكلام : " إن تكلمني توصني بالخير والبر أقبل منك" . ألا ترى أنك فسرت الكلام بالبر ، ولم يكن له فعلا له ، فلذلك جزمت ، ولو كان الثاني فعلا للأول لرفعته ، كقولك : " إن تأتنا تطلب الخير تجده " . ألا ترى تجد تطلب فعلا للإتيان ، كقيلك : إن تأتنا طالبًا للخير تجده ، قال الشاعر : متى تأته تعشو ...

" البيت ، فرفع تعشو لأنه أراد : متى تأته عاشيًا . ورفع عاصم {يضاعف له} ، لأنه أراد الاستئناف ، كما تقول : إن تأتنا نكرمك ، نعطيك كل ما تريد ، لا على الجزاء .

(19/309)

 

 

تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) يقول تعالى ذكره: ومن يفعل هذه الأفعال التي ذكرها جلّ ثناؤه يلق أثاما( إِلا مَنْ تَابَ ) يقول: إلا من راجع طاعة الله تبارك وتعالى بتركه ذلك، وإنابته إلى ما يرضاه الله( وَآمَنَ ) يقول: وصدّق بما جاء به محمد نبيّ الله( وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) يقول: وعمل بما آمره الله من الأعمال، وانتهى عما نهاه الله عنه.

قوله:( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ). اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: فأولئك يبدّل الله بقبائح أعمالهم في الشرك، محاسن الأعمال في الإسلام، فيبدله بالشرك إيمانا، وبقيل أهل الشرك بالله قيل أهل الإيمان به، وبالزنا عفة وإحصانا.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) قال: هم المؤمنون كانوا قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك، فحوّلهم إلى الحسنات، وأبدلهم مكان السيئات حسنات.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) ... إلى آخر الآية، قال: هم الذين يتوبون فيعملون بالطاعة، فيبدّل الله سيئاتهم حسنات حين يتوبون.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن سعيد، قال: نزلت( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) ... إلى آخر الآية في وحشي وأصحابه، قالوا: كيف لنا بالتوبة، وقد عبدنا الأوثان، وقتلنا المؤمنين، ونكحنا المشركات، فأنزل الله فيهم( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) فأبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الله، وأبدلهم بقتالهم مع المشركين قتالا مع المسلمين للمشركين، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قال ابن عباس، في قوله:( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) قال: بالشرك إيمانا، وبالقتل إمساكا، والزنا إحصانا.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت

(19/310)

 

 

الضحاك يقول في قوله:( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) وهذه الآية مكية نزلت بمكة( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ) يعني: الشرك، والقتل، والزنا جميعا. لما أنزل الله هذه الآية قال المشركون من أهل مكة: يزعم محمد أن من أشرك وقتل وزنى فله النار، وليس له عند الله خير، فأنزل الله( إِلا مَنْ تَابَ ) من المشركين من أهل مكة،( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) يقول: يبدّل الله مكان الشرك والقتل والزنا: الإيمان بالله، والدخول في الإسلام، وهو التبديل في الدنيا. وأنزل الله في ذلك( يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) يعنيهم بذلك( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) يعني ما كان في الشرك، يقول الله لهم:(أَنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ)، يدعوهم إلى الإسلام، فهاتان الآيتان مكيتان والتي في النساء( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ) ... الآية، هذه مدنية، نزلت بالمدينة، وبينها وبين التي نزلت في الفرقان ثمان سنين، وهي مبهمة ليس منها مخرج.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تُمَيْلة، قال ثنا أبو حمزة، عن جابر، عن مجاهد، قال: سُئل ابن عباس عن قول الله جلّ ثناؤه:( يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) فقال:

بُدِّلْنَ بَعْدَ حَرّهِ خَرِيفا... وَبَعْدَ طُولِ النَّفَسِ الوَجِيفا (1)

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) ...إلى قوله:( وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) فقال المشركون: ولا والله ما كان هؤلاء الذين مع محمد إلا معنا، قال: فأنزل الله( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ ) قال: تاب من الشرك، قال: وآمن بعقاب الله ورسوله( وَعَمِلَ عَمَلا

__________

(1) هذا بيت للبيد العامري الشاعر . وروايته هكذا غامضة . ولم أجده في أصل ديوانه ، وإنما وجدته في الملحق بالديوان (طبع ليدن ص 56) ، وروايته فيه كرواية السيوطي في الإتقان : وهذه الرواية أجود وأوضح ، وهي : بَدّلْنَ بَعْدَ النَّفَش الوَجِيفا ... وَبَعْدَ طُولِ الحِرَّةِ الصَّرِيفا

يصف لبيد جماعة من الإبل ، بأنها كانت ترعى ليلا زمنًا طويلا، ثم بدلت بذلك الوجيف ، وهو ضرب من سير الإبل والخيل سريع ، يقال: وجف البعير والفرس وجفًا ، ووجيفًا أسرع وبدلت بعد طول الاجتراء في مباركها الصريف . والاجتراء : أن يخرج دو الكرش جزءًا من الطعام ليمضغه جيدًا ثم يعيده والصريف يطلق على معان ، منها اللبن ساعة يحلب ، والخمر؛ والمراد به هنا صوت ناب الناقة إذا حركته ، وإنما يكون ذلك إذا نالها الإعياء والكلال فكأن لبيدًا يقول تبدلت أحوالها بعد النعيم بؤسًا .

(19/311)

 

 

صَالِحًا ) قال: صدّق،( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) قال: يبدّل الله أعمالهم السيئة التي كانت في الشرك بالأعمال الصالحة حين دخلوا في الإيمان.

وقال آخرون: بل معنى ذلك، فأولئك يبدل الله سيئاتهم في الدنيا حسنات لهم يوم القيامة.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني أحمد بن عمرو البصري، قال: ثنا قريش بن أنس أبو أنس، قال: ثني صالح بن رستم، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) قال: تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القيامة.

حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا محمد بن حازم أبو معاوية، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذرّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لأعْرِفُ آَخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ، وآخِرَ أَهْلِ النَّارِ دُخُولا الجَنَّةَ، قال: يُؤتَى بِرجُلٍ يَومَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ: نَحُّوا كِبَارَ ذُنُوبِهِ وسَلُوهُ عَنْ صِغَارِهَا، قال: فَيُقُالُ لَهُ: عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا، وَعَمِلْتَ كَذَا وكَذَا، قال: فيَقُولُ: يا رَبّ لَقَدْ عَمِلْتُ أشْيَاءَ ما أرَاها هاهُنَا، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، قال: فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ".

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من تأوّله: فأولئك يبدل الله سيئاتهم: أعمالهم في الشرك حسنات في الإسلام، بنقلهم عما يسخطه الله من الأعمال إلى ما يرضى.

وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت على ما كانت عليه من القُبح، وغير جائز تحويل عين قد مضت بصفة إلى خلاف ما كانت عليه إلا بتغييرها عما كانت عليه من صفتها في حال أخرى، فيجب إن فعل ذلك كذلك أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا في الكفر بعينه إيمانا يوم القيامة بالإسلام ومعاصيه كلها بأعيانها طاعة، وذلك ما لا يقوله ذو حجا.

وقوله:( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) يقول تعالى ذكره: وكان الله ذا عفو عن ذنوب من تاب من عباده، وراجع طاعته، وذا رحمة به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها. قوله:( وَمَنْ تَابَ ) يقول: ومن تاب من المشركين، فآمن بالله ورسوله

(19/312)

 

 

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)

( وَعَمِلَ صَالِحًا ) يقول: وعمل بما أمره الله فأطاعه، فإن الله فاعل به من إبداله سيئ أعماله في الشرك بحسنها في الإسلام، مثل الذي فعل من ذلك بمن تاب وآمن وعمل صالحا قبل نزول هذه الآية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ) قال: هذا للمشركين الذين قالوا لما أنزلت( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) ... إلى قوله( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان هؤلاء إلا معنا، قال: ومن تاب وعمل صالحا فإن لهم مثل ما لهؤلاء( فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ) لم تُحظر التوبة عليكم.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) }

اختلف أهل التأويل في معنى الزور الذي وصف الله هؤلاء القوم بأنهم لا يشهدونه، فقال بعضهم: معناه الشرك بالله.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله:( لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) قال: الشرك.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) قال: هؤلاء المهاجرون، قال: والزور قولهم لآلهتهم، وتعظيمهم إياها.

وقال آخرون: بل عني به الغناء.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن عبد الأعلى المحاربيّ قال: ثنا محمد بن مروان، عن ليث، عن مجاهد في قوله:( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) قال: لا يسمعون الغناء.

(19/313)

 

 

وقال آخرون: هو قول الكذب.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله:( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) قال: الكذب.

قال أبو جعفر: وأصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه، أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل في ذلك، لأنه محسَّن لأهله، حتى قد ظنوا أنه حق، وهو باطل، ويدخل فيه الغناء، لأنه أيضا مما يحسنه ترجيع الصوت، حتى يستحلي سامعه سماعه، والكذب أيضا قد يدخل فيه لتحسين صاحبه إياه، حتى يظنّ صاحبه أنه حق، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور.

فإذا كان ذلك كذلك، فأولى الأقوال بالصواب في تأويله أن يقال: والذين لا يشهدون شيئا من الباطل لا شركا، ولا غناء، ولا كذبا ولا غيره، وكلّ ما لزمه اسم الزور، لأن الله عمّ في وصفه إياهم أنهم لا يشهدون الزور، فلا ينبغي أن يخص من ذلك شيء إلا بحجة يجب التسليم لها، من خبر أو عقل.

وقوله:( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) اختلف أهل التأويل في معنى اللغو الذي ذُكر في هذا الموضع، فقال بعضهم: معناه: ما كان المشركون يقولونه للمؤمنين، ويكلمونهم به من الأذى. ومرورهم به كراما إعراضهم عنهم وصفحهم.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال: صفحوا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله:( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال: إذا أوذوا مرّوا كراما، قال: صفحوا.

وقال آخرون: بل معناه: وإذا مرّوا بذكر النكاح، كفوا عنه.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوام

(19/314)

 

 

بن حوشب، عن مجاهد( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال: إذا ذكروا النكاح كفوا عنه.

حدثني الحارث، قال: ثنا الأشيب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام بن حوشب، عن مجاهد،( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال: كانوا إذا أتوا على ذكر النكاح كفوا عنه.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبي مخزوم، عن سيار( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) إذا مرّوا بالرفث كفُّوا.

وقال آخرون: إذا مرّوا بما كان المشركون فيه من الباطل مرّوا منكرين له.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال: هؤلاء المهاجرون، واللغو ما كانوا فيه من الباطل، يعني المشركين وقرأ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ )

وقال آخرون: عُني باللغو هاهنا: المعاصي كلها.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله:( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال: اللغو كله: المعاصي.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المؤمنين الذين مدحهم بأنهم إذا مروا باللغو مرّوا كراما، واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح فسبّ الإنسان الإنسان بالباطل الذي لا حقيقة له من اللغو. وذكر النكاح بصريح اسمه مما يُستقبح في بعض الأماكن، فهو من اللغو، وكذلك تعظيم المشركين آلهتهم من الباطل الذي لا حقيقة لما عظموه على نحو ما عظموه، وسماع الغناء مما هو مستقبح في أهل الدين، فكل ذلك يدخل في معنى اللغو، فلا وجه إذ كان كل ذلك يلزمه اسم اللغو، أن يقال: عُني به بعض ذلك دون بعض، إذ لم يكن لخصوص ذلك دلالة من خبر أو عقل. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: وإذا مرّوا بالباطل فسمعوه أو رأوه، مرّوا كراما، مرورهم كراما في بعض ذلك بأن لا يسمعوه، وذلك كالغناء. وفي بعض ذلك بأن يعرضوا عنه ويصفحوا، وذلك إذا أو ذوا بإسماع القبيح من القول، وفي بعضه بأن يَنْهَوْا عن

(19/315)

 

 

وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)

ذلك، وذلك بأن يروا من المنكر ما يغير بالقول فيغيروه بالقول. وفي بعضه بأن يضاربوا عليه بالسيوف، وذلك بأن يروا قوما يقطعون الطريق على قوم، فيستصرخهم المراد ذلك منهم، فيصرخونهم، وكلّ ذلك مرورهم كراما.

وقد حدثني ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، قال: مرّ ابن مسعود بلهو مسرعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ أصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَكَرِيما".

وقيل: إن هذه الآية مكية.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت السديّ يقول:( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال: هي مكية، وإنما عني السديّ بقوله هذا إن شاء الله، أن الله نسخ ذلك بأمره المؤمنين بقتال المشركين بقوله:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وأمرهم إذا مرّوا باللَّغو الذي هو شرك، أن يُقاتلوا أمراءه، وإذا مرّوا باللغو، الذي هو معصية لله أن يغيروه، ولم يكونوا أمروا بذلك بمكة، وهذا القول نظير تأويلنا الذي تأولناه في ذلك.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) }

يقول تعالى ذكره: والذين إذا ذكَّرهم مذكِّر بحجج الله، لم يكونوا صما لا يسمعون، وعميا لا يبصرونها ولكنهم يِقَاظُ القلوب، فهماء العقول، يفهمون عن الله ما يذِّكرهم به، ويفهمون عنه ما ينبههم عليه، فيوعون مواعظه آذانا سمعته، وقلوبا وعته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:( لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ) فلا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يفقهون حقا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن

(19/316)

 

 

مجاهد، قوله:( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ) قال: لا يفقهون، ولا يسمعون، ولا يبصرون.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علَية، عن ابن عون، قال: قلت للشعبيّ: رأيت قوما قد سجدوا ولم أعلم ما سجدوا منه أسجد (1) قال:( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ).

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ) قال: هذا مثل ضربه الله لهم، لم يدعوها إلى غيرها، وقرأ قول الله:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) ... الآية.

فإن قال قائل: وما معنى قوله( لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ) أوَ يَخرّ الكافرون صما وعميانا إذا ذكروا بآيات الله، فَيُنْفَى عن هؤلاء ما هو صفة للكفار؟ قيل: نعم، الكافر إذا تُليت عليه آيات الله خرّ عليها أصم وأعمى، وخرّه عليها كذلك: إقامته على الكفر، وذلك نظير قول العرب: سببت فلانا، فقام يبكي، بمعنى فظلّ يبكي، ولا قيام هنالك، ولعله أن يكون بكى قاعدا، وكما يقال: نهيت فلانا عن كذا، فقعد يشتمني: ومعنى ذلك: فجعل يشتمني، وظلّ يشتمني، ولا قعود هنالك، ولكن ذلك قد جرى على ألسن العرب، حتى قد فهموا معناه. وذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول: قعد يشتمني، كقولك: قام يشتمني، وأقبل يشتمني; قال: وأنشد بعض بني عامر:

لا يُقْنِعُ الجَارِيَةَ الخِضَابُ... ولا الوِشاحانِ ولا الجِلْبابُ... منْ دُونِ أنْ تَلْتَقِي الأرْكابُ... وَيَقْعُدَ الأيْرُ لَهُ لُعابُ (2)

__________

(1) أي فكنت أسجد معهم . ولكنه اختصر الكلام . وكثير من هؤلاء القائلين والمجيبين يختصرون الكلام إلى حد الرمز والإشارة ، اكتفاء بدلالة الحال .

(2) هذه أربعة أبيات من مشطور الرجز ، رواها الفراء في معاني القرآن عن بعض العرب ( مصور الجامعة ص 227) قال : وسمعت العرب تقول : قعد يشتمني ، كقولك: قام يشتمني، وأقبل يشتمني ، وأنشد بعض العرب : * لا يقنع الجارية ......... *

الأبيات . وفي البيت الرابع : "ويقعدّ الهنُ " ... إلخ كقولك : يصير . وقوله : الأركاب ، هو جمع ركب ، كسبب ، وهو العانة أو منبتها ، أو ظاهر الفرج . قال الخليل : هو للمرأة خاصة وقال الفراء : هو للرجل والمرأة . وأنشد الفراء : " لا يقنع الجارية ... " الأبيات . وفي التهذيب : ولا يقال : ركب للرجل . وقيل : يجوز أن يقال : ركب للرجل . والهن (في رواية الفراء) : الحر.

(19/317)

 

 

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)

بمعنى: يصير، فكذلك قوله:( لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ) إنما معناه: لم يصَمُّوا عنها، ولا عموا عنها، ولم يصيروا على باب ربهم صُمًّا وعمْيانًا، كما قال الراجز:

وَيَقْعَدَ الهَنُ لَهُ لُعَابُ

بمعنى: ويصير.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) }

يقول تعالى ذكره: والذين يرغبون إلى الله في دعائهم ومسألتهم بأن يقولوا: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا ما تقرّ به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) يعنون: من يعمل لك بالطاعة فتقرّ بهم أعيننا في الدنيا والآخرة.

حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا حزم، قال: سمعت كثيرا سأل الحسن، قال: يا أبا سعيد، قول الله:( هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) في الدنيا والآخرة؟ قال: لا بل في الدنيا، قال: وما ذاك؟ قال: المؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله.

حدثنا الفضل بن إسحاق، قال: ثنا سالم بن قُتَيبة، قال: ثنا حزم، قال: سمعت الحسن فذكر نحوه.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: قرأ حضرمي( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) قال: وإنما قرّة أعينهم أن يروهم يعملون بطاعة الله.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن جُرَيج فيما قرأنا عليه في قوله:( هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) قال: يعبدونك فيحسنون عبادتك،

(19/318)

 

 

ولا يجرُّون الجرائر.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قوله:( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) قال: يعبدونك يحسنون عبادتك، ولا يجرّون علينا الجرائر.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) قال: يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.

حدثنا محمد بن عون، قال: ثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، قال: ثني أبي، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نفير، عن أبيه، قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود، فقال: لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أشدّ حالة بُعث عليها نبيّ من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فَرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى ولده ووالده وأخاه كافرا، وقد فتح الله قفل قلبه بالإسلام، فيعلم أنه إن مات دخل النار، فلا تقرّ عينه، وهو يعلم أن حبيبه في النار، وإنها للتي قال الله:( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) ... الآية.

حدثني ابن عوف، قال: ثني علي بن الحسن العسقلاني، عن عبد الله بن المبارك، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَيرٍ، عن أبيه، عن المقداد، نحوه.

وقيل: هب لنا قرّة أعين، وقد ذكر الأزواج والذريات وهم جمع، وقوله:( قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) واحدة لأن قوله: قرّة أعين مصدر من قول القائل: قرّت عينك قرة، والمصدر لا تكاد العرب تجمعه.

وقوله:( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: اجعلنا أئمة يَقْتَدِي بنا من بعدنا.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل، قال: ثني عون بن سلام، قال: أخبرنا بشر بن عمارة عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله:( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) يقول: أثمة يُقْتَدَى بنا.

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) أثمة التقوى ولأهله يقتدى بنا. قال ابن زيد: كما قال لإبراهيم:( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ).

(19/319)

 

 

وقال آخرون: بل معناه: واجعلنا للمتقين إمامًا: نأتمّ بهم، ويأتمّ بنا من بعدنا.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) أئمة نقتدي بمن قبلنا، ونكون أئمة لمن بعدنا.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد:( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) قال: اجعلنا مؤتمين بهم، مقتدين بهم.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: واجعلنا للمتقين الذين يتقون معاصيك، ويخافون عقابك إماما يأتمون بنا في الخيرات، لأنهم إنما سألوا ربهم أن يجعلهم للمتقين أئمة ولم يسألوه أن يجعل المتقين لهم إماما، وقال:( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) ولم يقل أئمة. وقد قالوا: واجعلنا وهم جماعة، لأن الإمام مصدر من قول القائل: أمّ فلان فلانا إماما، كما يقال: قام فلان قياما وصام يوم كذا صياما. ومن جمع الإمام أئمة، جعل الإمام اسما، كما يقال: أصحاب محمد إمام، وأئمة للناس. فمن وحَّد قال: يأتمّ بهم الناس. وهذا القول الذي قلناه في ذلك قول بعض نحويِّي أهل الكوفة. وقال بعض أهل البصرة من أهل العربية: الإمام في قوله:( لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) جماعة، كما تقول: كلهم عُدُول. قال: ويكون على الحكاية كما يقول القائل: إذا قيل له: من أميركم، هؤلاء أميرنا، واستشهد لذلك بقول الشاعر:

يا عاذِلاتي لا تُرِدْنَ مَلامَتِي... إنَّ العوَاذلَ لَسْنَ لي بأمِيرِ (1)

__________

(1) البيت من شواهد بن هشام في المغني في حرف اللام ، على أن قوله : " لا تردن ملامتي " أبلغ من : لا تلمني لأنه نهى عن السبب ، والنهي عن إرادة الفعل أبلغ من النهي عن الفعل نفسه . وقال الأمير في حاشيته : قوله : " بأمير" : أخبر به عن الجمع ، إما لكونه "فعيلا" يستوي فيه الواحد وغيره ، قال الله تعالى : { والملائكة بعد ذلك ظهير} . أو أنه صفة لمفرد لفظًا ، جمع معنى محذوف ، أي بفريق أمير . فلاحظ في الإخبار معناه وفي وصفه لفظه . قلت : ولم ينسب البيت ابن هشام ولا الأمير ، ولا ذكره السيوطي في شرح شواهد المغني في حرف اللام. وتوحيد الأمير في البيت نظير توحيد الإمام في قوله تعالى: { واجعلنا للمتقين إمامًا } ، وكلاهما يراد به الجمع في المعنى . قال في اللسان : وقوله تعالى : {واجعلنا للمتقين إمامًا} . قال أبو عبيدة : هو واحد يدل على الجمع . ا هـ .

(19/320)

 

 

أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)

القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا (75) }

يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفت صفتهم من عبادي، وذلك من ابتداء قوله:( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) ... إلى قوله:( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا ) ... الآية( يُجْزَوْنَ ) يقول: يُثابون على أفعالهم هذه التي فعلوها في الدنيا( الْغُرْفَةَ ) وهي منزلة من منازل الجنة رفيعة( بِمَا صَبَرُوا ) يقول: بصبرهم على هذه الأفعال، ومقاساة شدتها. وقوله:( وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا ) اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة( وَيُلَقَّوْنَ ) مضمومة الياء، مشدّدة القاف، بمعنى: وتتلقاهم الملائكة فيها بالتحية. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة: "وَيَلْقَوْنَ"بفتح الياء، وتخفيف القاف.

والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأة الأمصار بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن أعجب القراءتين إليّ أن أقرأ بها "وَيَلْقَوْنَ فِيهَا"بفتح الياء، وتخفيف القاف. لأن العرب إذا قالت ذلك بالتشديد، قالت: فلان يُتَلَّقَّى بالسلام وبالخير ونحن نتلقاهم بالسلام، قرنته بالياء وقلما تقول: فلان يُلقَّى السلام، فكان وجه الكلام لو كان بالتشديد، أن يقال: ويُتَلَقَّوْنَ فيها بالتحية والسلام.

وإنما اخترنا القراءة بذلك، كما تجيز أخذت بالخطام، وأخذت الخطام.

وقد بيَّنا معنى التحية والسلام فيما مضى قبل، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.

القول في تأويل قوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) }

يقول تعالى ذكره: أولئك يجزون الغرفة بما صبروا، خالدين في الغرفة، يعني أنهم ماكثون فيها، لابثون إلى غير أمد، حسنت تلك الغرفة قرارا لهم ومقاما. يقول: وإقامة. وقوله:( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه: قل يا محمد لهؤلاء الذين أرسلت إليهم: أيّ شيء يَعُدّكم، وأيّ شيء يصنع بكم ربي؟ يقال منه: عبأت به أعبأ عبئا،

(19/321)

 

 

وعبأت الطيب أعبؤه: إذا هيأته، كما قال الشاعر:

كأنَّ بِنَحْرِهِ وبمَنْكَبَيْهِ... عَبِيرًا باتَ يَعْبَؤُهُ عَرُوسُ (1)

يقول: يهيئه ويعمله يعبؤُه عبا وعبوءا، ومنه قولهم: عَبَّأت الجيش بالتشديد والتخفيف فأنا أعبئه: أُهَيِّئُهُ والعبءُ: الثقل.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي ) يصنع لولا دعاؤكم.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي ) قال: يعبأ: يفعل.

وقوله:( لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ) يقول: لولا عبادة من يعبده منكم، وطاعة من يطيعه منكم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ) يقول: لولا إيمانكم، وأخبر الله الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حبَّبه إلى المؤمنين.

وحدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ) قال: لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه وتطيعوه.

__________

(1) البيت لأبي زبيد الطائي يصف أسدًا (اللسان : عبأ) . قال : عبأ الطيب يعبؤه عبئًا : صنعه وخلطه ، قال أبو زبيد يصف أسدًا : " كأن بنحره ... " البيت . ويروى : " بات يخبؤه " . وقال الفراء في معاني القرآن : وقوله : { ما يعبأ بكم ربي } : استفهام ، أي ما يصنع بكم لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام ؟ وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ( ص 170) : ومنه قوله ؛ ما عبأت بك شيئًا : أي ما عددتك شيئًا . ا هـ .

(19/322)

 

 

وقوله:( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ) يقول تعالى ذكره لمشركي قريش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد كذبتم أيها القوم رسولكم الذي أرسل إليكم وخالفتم أمر ربكم الذي أمر بالتمسك به لو تمسكتم به، كان يعبأ بكم ربي، فسوف يكون تكذيبكم رسول ربكم، وخلافكم أمر بارئكم، عذابًا لكم ملازما، قتلا بالسيوف وهلاكا لكم مفنيا يلحق بعضكم بعضا، كما قال أبو ذُؤَيب الهُذَليّ:

فَفاجأَهُ بِعادِيَةٍ لِزَامٍ... كمَا يَتَفَجَّرُ الحَوْضُ اللَّقِيفُ (1)

يعني باللزام: الكبير الذي يتبع بعضه بعضا، وباللقيف: المتساقط الحجارة المتهدّم، ففعل الله ذلك بهم، وصدقهم وعده، وقتلهم يوم بدر بأيدي أوليائه، وألحق بعضهم ببعض، فكان ذلك العذاب اللزام.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني مولى لشقيق بن ثور أنه سمع سلمان أبا عبد الله، قال: صليت مع ابن الزُّبير فسمعته يقرأ: فقد كذب الكافرون.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سعيد بن أدهم السدوسيّ، قال: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة، عن عبد المجيد، قال: سمعت مسلم بن عمار، قال: سمعت ابن عباس يقرأ هذا الحرف: فقد كذب الكافرون( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ).

حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) يقول: كذب الكافرون أعداء الله.

__________

(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي ( اللسان : لقف) . قال : وحوض لقف ولقيف : تهور من أسفله واتسع ، ومنه قول أبي ذؤيب :* فلم تر غير عادية لزامًا *

.. . البيت قال : ويقال: الملآن . والأول: هو الصحيح . قال : والعادية : القوم يعدون على أرجلهم أي : فحملتهم لزامًا ، كأنهم لزموه ، لا يفارقون ما هم فيه . ا هـ . وقال في (لزم) : واللزام : الملازم قال أبو ذؤيب : ( البيت كروايته في لقف ) ثم فسره كما فسره هناك . قال : واللقيف : المتهور من أسفله . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ( مصورة الجامعة رقم 26059 ص 170) : لزام : أي كثيرة بعضها في أثر بعض وبهامشه : اللقيف المتهدم ، الذي سقطت حجاره بعضها على بعض . اه .

(19/323)

 

 

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود، قال: فسوف يلقون لزاما يوم بدر.

حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق. قال: قال عبد الرحمن: خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم.

حدثني الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، قوله:( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) قال أُبَيِّ بن كعب: هو القتل يوم بدر.

حدثنا بن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عمرو، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: اللزام: يوم بدر.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) قال: هو يوم بدر.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) قال: يوم بدر.

حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.

قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن مَعْمر، عن منصور، عن سفيان، عن ابن مسعود، قال: اللزام، القتل يوم بدر.

حُدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) الكفار كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله، فسوف يكون لزاما، وهو يوم بدر.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، قال: قد مضى اللزام، كان اللزام يوم بدر، أسروا سبعين، وقتلوا سبعين.

وقال آخرون: معنى اللزام: القتال.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( فَسَوْفَ

(19/324)

 

 

يَكُونُ لِزَامًا ) قال: فسوف يكون قتالا اللزام: القتال.

وقال آخرون: اللزام: الموت.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) قال: موتا.

وقال بعض أهل العلم بكلام العرب: معنى ذلك: فسوف يكون جزاء يلزم كل عامل ما عمل من خير أو شرّ. وقد بيَّنا الصواب من القول في ذلك. وللنصب في اللزامِ وجه آخر غير الذي قلناه، وهو أن يكون في قوله( يَكُون ) مجهول، ثم ينصب اللزام على الخبر كما قيل:

إذَا كان طَعْنًا بَيْنَهُمْ وَقتالا

وقد كان بعض من لا علم له بأقوال أهل العلم يقول في تأويل ذلك: قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ما تَدْعون من دونه من الآلهة والأنداد، وهذا قول لا معنى للتشاغل به لخروجه عن أقوال أهل العلم من أهل التأويل.

آخر تفسير سورة الفرقان، والحمد لله وحده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

والثمن الجنة لعبد الملك القاسم

سلسلة أين نحن من هؤلاء ؟  كتاب والثمن الجنة لعبد الملك القاسم  بسم الله الرحمن الرحيم  المقدمة  الحمد لله الذي وعد من أطاعه جنات عدن تجري ...