تفسير سورة الفرقان الايات من56. الي 67.
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
الفرقان - تفسير ابن كثير .
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) } .
يخبر تعالى عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام، التي لا تملك لهم نفعاً ولا ضرا، بلا دليل قادهم إلى ذلك، ولا حجة أدتهم إليه، بل بمجرد الآراء، والتشهي والأهواء، فهم يوالونهم (1) ويقاتلون في سبيلهم، ويعادون الله ورسوله [والمؤمنون] (2) فيهم؛ ولهذا قال: { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } أي: عونا في سبيل الشيطان على حزب الله، وحزب الله هم الغالبون، كما قال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ } [ يس : 74 -75] أي: آلهتهم التي اتخذوها من دون الله لا تملك (3) لهم نصرا، وهؤلاء الجهلة للأصنام جند محضرون يقاتلون عنهم، ويَذبُّون عن حَوْزتهم، ولكن العاقبة والنصرة لله ولرسوله في الدنيا والآخرة.
قال مجاهد: { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } قال: يظاهر الشيطان على معصية الله، يعينه.
وقال سعيد بن جبير: { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } يقول: عوناً للشيطان على ربه بالعداوة والشرك.
وقال زيد بن أسلم: { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } قال: مواليا.
ثم قال تعالى لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } أي: بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين، مبشرا بالجنة لمن أطاع الله، ونذيراً بين يدي عذاب شديد لمن خالف أمر الله.
{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي: على هذا البلاغ وهذا الإنذار من أجرة أطلبها من أموالكم، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله، { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } [ التكوير : 28]{ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا } أي: طريقا ومسلكا ومنهجا ُيقتدى فيها بما جئت به.
ثم قال: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } أي: في أمورك كلها كُن متوكلا على الله الحي الذي لا يموت أبدا، الذي هو { الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الحديد : 3] الدائم الباقي السرمدي الأبدي، الحي القيوم ربّ كل شيء ومليكه، اجعله ذُخْرك وملجأك، وهو الذي يُتَوكل عليه ويفزع إليه، فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67] .
__________
(1) في أ: "والتشهي فيهم يوالون لهم".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "لا يملكون".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي بن نُفَيْل قال: قرأت على مَعْقِل -يعني ابن عبيد الله -عن عبد الله بن أبي حسين، عن شَهْر بن حَوْشَب قال: لقي سلمانُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج (1) المدينة، فسجد له، فقال: "لا تسجد لي يا سلمان، واسجد للحي الذي لا يموت" وهذا مرسل حسن (2) .
[وقوله تعالى: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ } ، أي: اقرن بين حمده وتسبيحه] (3) ؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سبحانك اللهم رَبَّنا وبحمدك" أي: أخلص له العبادة والتوكل، كما قال تعالى: { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [ المزمل : 9] .
وقال: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123]{ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك : 29] .
وقوله: { وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } أي: لعلمه (4) التام الذي لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة.
وقوله: { الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي: هو الحي الذي لا يموت، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه، الذي خلق بقدرته وسلطانه السموات السبع في ارتفاعها واتساعها، والأرضين السبع في سفولها وكثافتها ، { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرَّحْمَنُ ] } (5) ، أي: يدبر الأمر، ويقضي الحق، وهو خير الفاصلين.
وقوله: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } أي: استعلم عنه من هو خبير به عالم به فاتبعه واقتد به، وقد عُلِم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه، على (6) سيد ولد آدم على الإطلاق، في الدنيا والآخرة، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى -فما قاله فهو حق، وما أخبر به فهو صدق، وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء، وجب ردّ نزاعهم إليه، فما يوافق أقواله، وأفعاله فهو الحق، وما يخالفها (7) فهو مردود على قائله وفاعله، كائنا من كان، قال الله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء : 59] .
وقال: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [ الشورى : 10]، وقال تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [ الأنعام : 115] أي: صدقا في الإخبار وعدلا في الأوامر والنواهي؛
__________
(1) في أ: "مخارج".
(2) ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/103) من طريق محمد بن أحمد بن سيار عن هشام عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين به
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف، أ: "بعلمه".
(5) زيادة من أ.
(6) في ف، أ: "عليه".
(7) في أ: "وما خالفها".
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
ولهذا قال: { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } قال مجاهد في قوله: { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } قال: ما أخبرتك (1) من شيء فهو كما أخبرتك. وكذا قال ابن جريج.
وقال شمر بن عطية في قوله: { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } قال: هذا القرآن خبير به.
ثم قال تعالى منكرا على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ } ؟ أي: لا نعرف الرحمن. وكانوا ينكرون أن يُسَمّى الله باسمه الرحمن، كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، ولكن اكتب كما كنت تكتب: باسمك اللهم؛ ولهذا أنزل الله: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ الإسراء : 110] أي: هو الله وهو الرحمن. وقال في هذه الآية : (2) { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ } ؟ أي: لا نعرفه ولا نُقر به؟ { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } أي: لمجرد قولك؟ { وَزَادَهُمْ نُفُورًا } ، أما (3) المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم، ويُفْرِدُونه بالإلهية ويسجدون له. وقد اتفق العلماء -رحمهم الله -على أن هذه السجدة التي في الفرقان مشروع السجودُ عندها لقارئها ومستمعها، كما هو مقرر في موضعه، والله أعلم.
{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) } .
يقول تعالى ممجدا نفسه، ومعظما على جميل ما خلق في السماء من البروج -وهي الكواكب العظام -في قول مجاهد، وسعيد بن جُبير، وأبي صالح، والحسن، وقتادة.
وقيل: هي قصور في السماء للحرس، يروى هذا عن علي، وابن عباس، ومحمد بن كعب، وإبراهيم النخعي، وسليمان بن مِهْران الأعمش. وهو رواية عن أبي صالح أيضا، والقول الأول أظهر. اللهم إلا أن يكون الكواكب العظام هي قصور للحرس، فيجتمع القولان، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5] ؛ ولهذا قال: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا } وهي الشمس المنيرة، التي هي كالسراج في الوجود، كما قال: { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا } [ النبأ : 13] .
{ وَقَمَرًا مُنِيرًا } أي: مضيئا مشرقا بنور آخر ونوع وفن آخر، غير نور الشمس، كما قال: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا } [ يونس : 5] ، وقال مخبرا عن نوح، عليه السلام، أنه قال لقومه: { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } [ نوح : 15 -16] .
__________
(1) في أ: "ما أخبرك".
(2) في ف، أ: "الآية الكريمة".
(3) في ف، أ: "فأما".
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
ثم قال: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } أي: يخلف كل واحد منهما الآخر، يتعاقبان لا يفتران. إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب ذاك (1) ، كما قال: { وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } [ إبراهيم : 33 ] ، وقال { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [ الأعراف : 54]وقال: { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40] .
وقوله: { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } (2) أي: جعلهما يتعاقبان، توقيتا لعبادة عباده له، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل. وقد جاء في الحديث الصحيح: "إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل" (3) .
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو حُرّة (4) عن الحسن: أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى، فقيل له: صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال: إنه بقي علي من وردي شيء، فأحببت أن أتمه -أو قال: أقضيه -وتلا هذه الآية: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً [لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا] } (5) (6) .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس [قوله: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } (7) ] يقول: من فاته شيء من الليل أن يعمله، أدركه بالنهار، أو من النهار أدركه بالليل. وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير. والحسن.
وقال مجاهد، وقتادة: { خِلْفَة } أي: مختلفين، هذا بسواده، وهذا بضيائه.
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) } .سب
هذه صفات عباد الله المؤمنين { الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا } أي: بسكينة ووقار من غير جَبَرية ولا استكبار، كما قال: { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } [ الإسراء : 37]. فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح، ولا أشر ولا بطر،
__________
(1) في أ: "هذا".
(2) في أ: "نشورا" وهو خطأ.
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2759) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(4) في أ: "أبو حمزة".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) وهذا منقطع، فالحسن لم يسمع من عمر.
(7) زيادة من ف، أ.
وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى من التصانع تصنعًا ورياء، فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صَبَب، وكأنما الأرض تطوى له. وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شابًا يمشي رُويدًا، فقال: ما بالك؟ أأنت مريض؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. فعلاه بالدرة، وأمره أن يمشي بقوة. وإنما (1) المراد بالهَوْن هاهنا السكينة والوقار، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" (2) .
وقال عبد الله بن المبارك، عن مَعْمَر، عن يحيى (3) بن المختار، عن الحسن البصري في قوله: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا } قال: إن المؤمنين قوم ذُلُل، ذلت منهم -والله -الأسماعُ والأبصار والجوارح، حتى تحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، وإنهم لأصحاء، ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، فقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. أما والله ما أحزنهم حزن الناس، ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة، أبكاهم الخوف من النار، وإنه من لم يتعز بعزاء الله تَقَطَّعُ نفسُه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو في مشرب، فقد قلَّ علمه (4) وحضَر عذابهُ.
وقوله: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا } أي: إذا سَفه عليهم الجهال بالسّيئ، لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، وكما قال تعالى: { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55] .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن أبي خالد الوالبي، عن النعمان بن مُقَرّن المُزَني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [وسبّ رجلٌ رجلا عنده، قال: فجعل الرجل المسبوب يقول: عليك السلام. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما] (5) إن ملكًا بينكما يذب عنك، كلما شتمك هذا قال له: بل أنت وأنت أحق به. وإذا قال له: عليك السلام، قال: لا بل عليك، وأنت أحق به. " إسناده حسن، ولم يخرجوه (6) .
وقال مجاهد: { قَالُوا سَلامًا } يعني: قالوا: سدادًا.
وقال سعيد بن جبير: ردوا معروفًا من القول.
وقال الحسن البصري: { قَالُوا [سَلامًا } ، قال: حلماء لا يجهلون] (7) ، وإن جهل عليهم حلموا. يصاحبون عباد الله نهارهم بما تسمعون (8) ، ثم ذكر أن ليلهم خير ليل.
__________
(1) في ف، أ: "وأما".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (635) ومسلم في صحيحه برقم (603) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(3) في ف، أ: "عمر".
(4) في أ: "عمله".
(5) زيادة من ف، أ، والمسند.
(6) المسند (5/445) وقال الهيثمي في المجمع (8/75): "رجاله رجال الصحيح، غير أبي خالد الوالبي وهو ثقة".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ف، أ: "بما يسمعون".
وقوله: { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } أي: في عبادته وطاعته، كما قال تعالى: { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 17 -18]، وقال { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ السجدة : 16] وقال { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } الآية [ الزمر : 9] ولهذا قال: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } أي: ملازما دائما، كما قال الشاعر (1) :
إنْ يُعَذّب يَكُنْ غَرَامًا، وإن يُعْـ ... ط جزيلا فإنه لا يُبَالي ...
ولهذا قال الحسن في قوله: { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } : كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام، وإنما الغرام اللازم ما دامت السموات والأرض. وكذا قال سليمان التيمي.
وقال محمد بن كعب [القرظي] (2) : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } يعني: ما نعموا في الدنيا؛ إن الله سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه، فأغرمهم فأدخلهم النار.
{ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } أي: بئس المنزل منظرا، وبئس المقيل مقامًا.
[و] (3) قال ابن أبي حاتم عند قوله: { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } : حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش، عن مالك بن الحارث قال: إذا طُرح الرجل في النار هوى فيها، فإذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل له: مكانك حتى تتحف، قال: فيسقى كأسا من سُمِّ الأساود والعقارب، قال: فيميز الجلد على حدة، والشعر على حدة، والعصب على حدة، والعروق على حدة.
وقال أيضًا: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عُبيد بن عمير قال: إن في النار لجبابًا فيها حيات أمثال البخت، وعقارب أمثال البغال الدلم (4) ، فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم، فكشطت لحومهم إلى أقدامهم، فإذا وجدت حر النار رجعت.
وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا سلام -يعني ابن مسكين -عن أبي ظلال، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه -عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عبدًا في جهنم لينادي ألف سنة: يا حنان، يا منان. فيقول الله لجبريل: اذهب فآتني بعبدي هذا. فينطلق جبريل فيجد أهل النار مُنكبين (5) يبكون، فيرجع إلى ربه عز وجل فيخبره، فيقول الله عز وجل: آتني به فإنه في مكان كذا وكذا. فيجيء به فيوقفه على ربه عز وجل، فيقول له: يا عبدي، كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ فيقول: يا رب شر مكان، شر مقيل. فيقول: ردوا عبدي. فيقول: يا رب، ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها! فيقول: دعوا عبدي (6) .
وقوله: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } أي: ليسوا بمبذرين في
__________
(1) هو الأعشى - ميمون بن قيس - والبيت في تفسير الطبري (19/23).
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "الدهم".
(5) في أ: "مكبين".
(6) المسند (3/230) وقال الهيثمي في المجمع (10/384): "رجاله رجال الصحيح غير أبي ظلال وضعفه الجمهور، ووثقه ابن حبان".
إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهْليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } ، كَمَا قَالَ: { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } [ الإسراء : 29].
وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام (1) بن خالد، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، عن ضَمْرَة، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فقه الرجل رفقه في معيشته". ولم يخرجوه (2) .
وقال [الإمام] (3) أحمد أيضًا: حدثنا أبو عبيدة الحداد، حدثنا سُكَين (4) بن عبد العزيز العَبْدي، حدثنا إبراهيم الهَجَري عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عال من اقتصد" . ولم يخرجوه (5) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن يحيى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون (6) حدثنا سعيد (7) بن حكيم، عن مسلم بن حبيب، عن بلال -يعني العبسي -عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أحسن القصد في الغنى، وأحسن القصد في الفقر، وأحسن القصد في العبادة" ثم قال: لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه (8) .
وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف.
وقال غيره: السرف النفقة في معصية الله.
وقال الحسن البصري: ليس النفقة في سبيل الله سرفا [والله أعلم] (9) .
__________
(1) في أ: "عاصم".
(2) المسند (5/194).
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "مسكين".
(5) المسند (1/447) وقال الهيثمي في المجمع (10/252) "في إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف".
(6) في ف، أ: "إبراهيم بن محمد بن محمد بن ميمون".
(7) في، أ: "سعد".
(8) مسند البزار برقم (3604) وقال الهيثمي في المجمع (10/252): "رواه البزار عن سعيد بن حكيم عن مسلم بن حبيب، ومسلم هذا لم أجد من ذكره إلا ابن حبان في ترجمة سعيد الراوي عنه، وبقية رجاله ثقات".
(9) زيادة من أ.
======
الفرقان - تفسير القرطبي
الآية: [56] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً}
الآية: [57] {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}
قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} يريد بالجنة مبشرا ونذيرا من النار؛ وما أرسلناك وكيلا ولا مسيطرا. {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} يريد على ما جئتكم به من القرآن والوحي. و {مَنْ} للتأكيد. {إِلاَّ مَنْ شَاءَ} لكن من شاء؛ فهو استثناء منقطع، والمعنى: لكن من شاء {أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} بإنفاقه من ماله في سبيل الله فلينفق. ويجوز أن يكون متصلا ويقدر حذف المضاف؛ التقدير: إلا أجر {مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} باتباع ديني حتى ينال كرامة الدنيا والآخرة.
الآية: [58] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}
قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} تقدم معنى التوكل في {آل عمران} وهذه السورة وأنه اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور، وأن الأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي نزه الله تعالى عما يصفه هؤلاء الكفار به من الشركاء. والتسبيح التنزيه، وقد تقدم. وقيل: {وَسَبِّحْ} أي وصل له؛ وتسمى الصلاة تسبيحا. { وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} أي عليما فيجازيهم بها.
الآية: [59] {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}
قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تقدم في {الأعراف} و {ا الَّذِي} في موضع خفض نعتا للحي. وقال: {بَيْنَهُمَا} ولم يقل بينهن؛ لأنه أراد الصنفين والنوعين والشيئين؛ كقول القطامي:
ألم يحزنك أن حبال قيس ... وتغلب قد تباينتا انقطاعا
أراد وحبال تغلب فثنى، والحبال جمع؛ لأنه أراد الشيئين والنوعين. {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} قال الزجاج: المعنى فاسأل عنه. وقد حكى هذا جماعة من أهل اللغة أن الباء تكون بمعنى عن؛ كما قال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] وقال الشاعر:
هلا سألت الخيل يا بنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
وقال علقمة بن عبدة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء وعما لم تعلمي. وأنكره علي بن سليمان وقال: أهل النظر ينكرون أن تكون الباء بمعنى عن؛ لأن في هذا إفسادا لمعاني قول العرب: لو لقيت فلانا للقيك به الأسد؛ أي للقيك بلقائك إياه الأسد. المعنى فاسأل بسؤالك إياه خبيرا. وكذلك قال ابن جبير: الخبير هو الله تعالى. فـ {خَبِيراً} نصب على المفعول به بالسؤال.
قلت: قول الزجاج يخرج على وجه حسن، وهو أن يكون الخبير غير الله، أي فاسأل عنه خبيرا، أي عالما به، أي بصفاته وأسمائه. وقيل: المعنى فاسأل له خبيرا، فهو نصب على الحال من الهاء المضمرة. قال المهدوي: ولا يحسن حالا إذ لا يخلو أن تكون الحال من السائل أو المسؤول، ولا يصح كونها حالا من الفاعل؛ لأن الخبير لا يحتاج أن يسأل غيره. ولا يكون من المفعول؛ لأن المسؤول عنه وهو الرحمن خبير أبدا، والحال في أغلب الأمر يتغير وينتقل؛ إلا أن يحمل على أنها حال مؤكدة؛ مثل: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} [البقرة: 91] فيجوز. وأما {الرَّحْمَنِ} ففي رفعه ثلاثة أوجه: يكون بدلا من المضمر الذي في {اسْتَوَى}. ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هو الرحمن. ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} . ويجوز الخفض بمعنى وتوكل على الحي الذي لا يموت الرحمن؛ يكون نعتا. ويجوز النصب على المدح.
الآية: [60] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً}
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} أي لله تعالى. {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} على جهة الإنكار والتعجب، أي ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب. وزعم القاضي أبو بكر بن العربي أنهم إنما جهلوا الصفة لا الموصوف، واستدل على ذلك، بقوله: {وَمَا الرَّحْمَنُ} ولم يقولوا ومن الرحمن. قال ابن الحصار: وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30]. {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} هذه قراءة المدنيين والبصريين؛ أي لما تأمرنا أنت يا محمد. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: {يأمرنا } بالياء. يعنون الرحمن؛ كذا تأوله أبو عبيد، قال: ولو أقروا بأن الرحمن أمرهم ما كانوا كفارا. فقال النحاس: وليس يجب أن يتأول عن الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد، ولكن الأولى أن يكون التأويل لهم {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتصح القراءة على هذا، وإن كانت الأولى أبين وأقرب تناولا. {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} أي زادهم قول القائل لهم اسجدوا للرحمن نفورا عن الدين. وكان سفيان الثوري يقول في هذه الآية: إلهي زادني لك خضوعا ما زاد أعداك نفورا.
الآية: [61] {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً}
قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} أي منازل. وقد تقدم ذكرها. {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} قال ابن عباس: يعني الشمس؛ نظيره؛ {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} [نوح: 16]. وقراءة العامة: {سِرَاجا} بالتوحيد. وقرأ حمزة والكسائي: { سِرَاجاً } يريدون النجوم العظام الوقادة. والقراءة الأولى عند أبي عبيد أولى؛ لأنه تأول أن السرج النجوم، وأن البروج النجوم؛ فيجيء المعنى نجوما ونجوما. النحاس: ولكن التأويل لهم أن أبان بن تغلب قال: السرج النجوم الدراري. الثعلبي: كالزهرة والمشترى وزحل والسماكين ونحوها. { وَقَمَراً مُنِيراً} ينير الأرض إذا طلع. وروى عصمة عن الأعمش {وَقَمَراً} بضم القاف لع وإسكان الميم. وهذه قراءة شاذة، ولو لم يكن فيها إلا أن أحمد بن حنبل وهو إمام المسلمين في وقته قال: لا تكتبوا ما يحكيه عصمة الذي يروي القراءات، وقد أولع أبو حاتم السجستاني بذكر ما يرويه عصمة هذا.
الآية: [62] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}
فيه أربع مسائل:
قوله تعالى: {خِلْفَةً} قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء. وكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه. ومقال للمبطون: أصابته خلفة؛ أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك. ومنه خلفه النبات، وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف. ومن هذا المعنى قول زهير بن أبي سلمى:
بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم الرئم ولد الظبي وجمعه آرام؛ يقول: إذا ذهب فوج جاء فوج. ومنه قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا.
ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتبعت ... سكنت من حلق بيعا
في بيوت وسط دسكرة ... حولها الزيتون قد ينعا
الأولي- قال مجاهد: {خِلْفَةً} من الخلاف؛ هذا أبيض وهذا أسود؛ والأول أقوى. وقيل: يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان. وقيل: هو من باب حذف المضاف؛ أي جعل الليل والنهار ذوي خلفة، أي اختلاف. {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} أي يتذكر، فيعلم أن الله لم يجعله كذلك عبثا فيعتبر في مصنوعات الله، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم. وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن: معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل. وفي الصحيح: "ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم فيصلي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة". وروى مسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل" .
الثانية- قال ابن العربي: سمعت ذا الشهيد الأكبر يقول: إن الله تعالى خلق العبد حيا عالما، وبذلك كماله، وسلط عليه آفة النوم وضرورة الحدث ونقصان الخلقة؛ إذ الكمال للأول الخالق، فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في طاعة الله فليفعل. ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوا، وينام سدس النهار راحة فيذهب ثلثاه ويبقى له من العمر عشرون سنة، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية، ولا يتلف عمره بسهر في لذة باقية عند الغني الوفي الذي ليس بعديم ولا ظلوم.
اسم العبودية، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] يعني في عدم الاعتبار؛ كما تقدم في {الْأَعْرَافِ}. وكأنه قال: وعباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض، فحذف هم؛ كقولك: زيد الأمير، أي زيد هو الأمير. فـ {الَّذِينَ} خبر مبتدأ محذوف؛ قاله الأخفش. وقيل: الخبر قوله في آخر السورة: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] وما بين المبتدأ والخبر أوصاف لهم وما تعلق بها؛ قاله الزجاج. قال: ويجوز أن يكون الخبر { الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ }. و {يَمْشُونَ } عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك العظم، لا سيما وفي ذلك الانتقال في الأرض؛ وهو معاشرة الناس وخلطتهم.
قوله تعالى: {هَوْناً} الهون مصدر الهين وهو من السكينة والوقار. وفي التفسير: يمشون على الأرض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد. والقصد والتؤدة وحسن السمت من أخلاق النبوة. وقال صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس في الإيضاع" وروي في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا زال زال تقلعا، ويخطو تكفؤا، ويمشي هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب. التقلع، رفع الرجل بقوة والتكفؤ: الميل إلى سنن المشي وقصده. والهون الرفق والوقار. والذريع الواسع الخطا؛ أي أن مشيه كان يرفع فيه رجله بسرعة ويمد خطوه؛ خلاف مشية المختال، ويقصد سمته؛ وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة. كما قال: كأنما ينحط مكن صبب، قاله القاضي عياض. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرع جبلة لا تكلفا. قال الزهري: سرعة المشي تذهب بهاء الوجه. قال ابن عطية: يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار؛ والخير في التوسط. وقال زيد بن أسلم: كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} فما وجدت من ذلك شفاء، فرأيت في المنام من جاءني فقال لى: هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض. قال القشيري؛ وقيل لا يمشون لإفساد ومعصية، بل في طاعة الله والأمور المباحة من غير هوك. وقد قال الله تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]. وقال ابن عباس: بالطاعة والمعروف والتواضع. الحسن: حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقيل: لا يتكبرون على الناس.
قلت: وهذه كلها معان متقاربة، ويجمعها العلم بالله والخوف منه، والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه؛ جعلنا الله منهم بفضله ومنه. وذهبت فرقة إلى أن {هَوْناً} مرتبط بقوله: {مْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} ، أن المشي هو هون. قال ابن عطية: ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هونا مناسبة لمشيه، فيرجع القول إلى نحو ما بيناه. وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل؛ لأنه رب ماش هونا رويدا وهو ذئب أطلس. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما ينحط في صبب. وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الأمة. وقوله عليه الصلاة والسلام: "من مشى منكم في طمع فليمش رويدا" إنما أراد في عقد نفسه، ولم يرد المشي وحده. ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط؛ حتى قال فيهم الشاعر ذما لهم:
كلهم يمشي رويد ... كلهم يطلب صيد
قلت: وفي عكسه أنشد ابن العربي لنفسه.
تواضعت في العلياء والأصل كابر ... وحزت قصاب السبق بالهون في الأمر
سكون فلا خبث السريرة أصله ... وجل سكون الناس من عظم الكبر
قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} قال النحاس: ليس {سَلاماً} من التسليم إنما هو من التسلم؛ تقول العرب: سلاما، أي تسلما منك، أي براءة منك. منصوب على أحد أمرين: يجوز أن يكون منصوبا بـ {قَالُوا} ، ويجوز أن يكون مصدرا؛ وهذا قول سيبويه. قال ابن عطية: والذي أقوله: إن {قَالُوا} هو العامل في {سَلاماً} لأن المعنى قالوا هذا اللفظ. وقال مجاهد: معنى {سَلاماً} سدادا. أي يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين. فـ {قَالُوا} على هذا التأويل عامل في قوله: {سَلاماً} على طريقة النحويين؛ وذلك أنه بمعنى قولا. وقالت فرقة: ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلاما؛ بهذا اللفظ. أي سلمنا سلاما أو تسليما، ونحو هذا؛ فيكون العامل فيه فعلا من لفظه على طريقة النحويين.
مسألة: هذه الآية كانت قبل آية السيف، نسخ منها ما يخص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة. وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه، وما تكلم فيه على نسخ سواه؛ رجح به أن المراد السلامة لا التسليم؛ لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة. والآية مكية فنسختها آية السيف. قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية. قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين لكنه على معنى قوله: تسلما منكم، ولا خير ولا شر بيننا وبينكم. المبرد: كان ينبغي أن يقال: لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم. محمد بن يزيد. أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة. ابن العربي: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم. وقد أتفق الناس على أن السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له سلام عليك.
قلت: هذا القول أشبه بدلائل السنة. وقد بينا في سورة {مَرْيَمَ} اختلاف العلماء في جواز التسليم على الكفار، فلا حاجة إلى دعوى النسخ؛ والله أعلم. وقد ذكر النضر بن شميل قال حدثني الخليل قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فلما سلمنا رد علينا السلام وقال لنا: استووا. وبقينا متحيرين ولم ندر ما قال. فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا. قال الخليل: هو من قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] فصعدنا إليه فقال: هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير، وماء نمير؟ فقلنا: الساعة فارقنا. فقال: سلاما. فلم ندر ما قال. قال. قال: الأعرابي: إنه سألكم متاركة لا خير فيها ولا شر. فقال الخليل: هو من قول الله عز وجل: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} قال ابن عطية: ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي - وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه - قال يوما بحضرة المأمون وعنده جماعة: كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له من أنت؟ فكان يقول: علي بن أبي طالب. فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها. فكنت أقول: إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك. فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه. قال المأمون: وبماذا جاوبك؟ قال: فكان يقول لي سلاما. قال الراوي: فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت. فنبه المأمون على الآية من حضره وقال: هو والله يا عم علي بن أبي طالب، وقد جاوبك بأبلغ جواب، فخزي إبراهيم واستحيا. وكانت رؤيا لا محالة صحيحة.
الآية: [64] {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً}
قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } قال الزجاج: بات الرجل يبيت إذا أدركه الليل، نام أو لم ينم. قال زهير:
فبتنا قياما عند رأس جوادنا ... يزاولنا عن نفسه ونزاوله
وأنشدوا في صفة الأولياء:
امنع جفونك أن تذوق مناما ... واذر الدموع على الخدود سجاما
واعلم بأنك ميت ومحاسب ... يا من على سخط الجليل أقاما
لله قوم أخلصوا في حبه ... فرضي بهم واختصهم خداما
قوم إذا جن الظلام عليهم ... باتوا هنالك سجدا وقياما
خمص البطون من التعفف ضمرا ... لا يعرفون سوى الحلال طعاما وقال ابن عباس: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا وقائما. وقال الكلبي: من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعا بعد العشاء فقد بات ساجدا وقائما.
الآية: [65] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}
الآية: [66] {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} أي هم مع طاعتهم مشفقون خائفون وجلون من عذاب الله. ابن عباس: يقولون ذلك في سجودهم وقيامهم. {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أي لازما دائما غير مفارق. ومنه سمي الغريم لملازمته. ويقال: فلان مغرم بكذا أي لازم له مولع به. وهذا معناه في كلام العرب فيما ذكر ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما. وقال الأعشى:
إن يعاقب يكن غراما وإن يعـ ... ــط جزيلا فإنه لا يبالي
وقال الحسن: قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم. وقال الزجاج: الغرام أشد العذاب. وقال ابن زيد: الغرام الشر. وقال أبو عبيدة: الهلاك. والمعنى واحد. وقال محمد بن كعب: طالبهم الله تعالى بثمن النعيم في الدنيا فلم يأتوا به، فأغرمهم ثمنها بإدخالهم النار .{إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أي بئس المستقر وبئس المقام. أي إنهم يقولون ذلك عن علم، وإذا قالوه عن علم كانوا أعرف بعظم قدر ما يطلبون، فيكون ذلك أقرب إلى النجح.
الآية: 67 {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية. فقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معناه أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله عز وجل فهو الإقتار، ومن أنفق، في طاعة الله تعالى فهو القوام.
وقال ابن عاس: من أنفق مائة ألف في حق فليس بسرف، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو سرف، ومن منع من حق عليه فقد قتر. وقاله مجاهد وابن زيد وغيرهما. وقال عون بن عبدالله: الإسراف أن تنفق مال غيرك. قال ابن عطية: وهذا ونحوه غير مرتبط بالآية، والوجه أن يقال. إن النفقة في معصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب في هذه الآية هو في نفقة الطاعات في المباحات، فأدب الشرع فيها ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا، وألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي العدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب، أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوساطها؛ ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أن يتصدق بجميع ماله؛ لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين، ومنع غيره من ذلك. ونعم ما قال إبراهيم النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يعرى ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب: هم الذين لا يلبسون الثياب لجمال، ولا يأكلون طعاما للذة. وقال يزيد أيضا في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعيم واللذة، ولا يلبسون ثيابا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والبر. وقال عبدالملك بن مروان لعمر بن عبدالعزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له عمر: الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية. وقال عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سرفا ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله. وفي سنن ابن ماجة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت" وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف ولم يبخلوا. كقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] وقال الشاعر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر:
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي ... دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال عمر لابنه عاصم: يا بني، كل في نصف بطنك؛ ولا تطرح ثوبا حتى تستخلقه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم. ولحاتم طي:
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
{وَلَمْ يَقْتُرُوا} قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب على اختلاف عنهما {يَقْتُرُوا} بفتح الياء وضم التاء، وهي قراءة حسنة؛ من قتر يقتر. وهذا القياس في اللازم، مثل قعد يقعد. وقرأ أبو عمرو بن العلاء وابن كثير بفتح الياء وكسر التاء، وهي لغة معروفة حسنة. وقرأ أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم الياء وكسر - التاء. قال الثعلبي: كلها لغات صحيحة. النحاس: وتعجب أبو حاتم من قراءة أهل المدينة هذه؛ لأن أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذ، وإنما يقال: اقتر إذا افتقر، كما قال عز وجل: {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وتأول أبو حاتم لهم أن المسرف يفتقر سريعا. وهذا تأويل بعيد، ولكن التأويل لهم أن أبا عمر الجرمي حكى عن الأصمعي أنه يقال للإنسان إذا ضيق: قتر يقتر ويقتر، وأقتر يقتر. فعلى هذا تصح القراءة، وإن كان فتح الياء أصح وأقرب متناولا، وأشهر وأعرف. وقرأ أبو عمرو والناس {قَوَاماً} بفتح القاف؛ يعني عدلا. وقرأ حسان بن عبدالرحمن: {قواما} بكسر القاف؛ أي مبلغا وسدادا وملاك حال. والقوام بكسر القاف، ما يدوم عليه الأمر ويستقر. وقيل: هما لغتان بمعنى. و {قَوَاماً} خبر كان، واسمها مقدر فيها، أي كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قواما؛ قال الفراء. وله قول آخر يجعل {بَيْنَ} اسم كان وينصبها؛ لأن هذه الألفاظ كثير استعمالها فتركت على حالها في موضع الرفع. قال النحاس: ما أدري ما وجه هذا؛ لأن "بينا" إذا كانت في موضع رفع رفعت؛ كما يقال: بين عينيه أحمر.
=======
الفرقان - تفسير الطبري
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (57) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ ) يا محمد إلى من أرسلناك إليه( إِلا مُبَشِّرًا ) بالثواب الجزيل، من آمن بك وصدّقك، وآمن بالذي جئتهم به من عندي، وعملوا به( وَنَذِيرًا ) من كذّبك وكذّب ما جئتهم به من عندي، فلم يصدّقوا به، ولم يعملوا( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) يقول له: قل لهؤلاء الذين أرسلتك إليهم، ما أسألكم يا قوم على ما جئتكم به من عند ربي أجرا، فتقولون: إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه، فلا نتبعه فيه، ولا نعطيه من أموالنا شيئا،( إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ) يقول: لكن من شاء منكم اتخذ إلى ربه سبيلا طريقا بإنفاقه من ماله في سبيله، وفيما يقربه إليه من الصدقة والنفقة في جهاد عدوّه، وغير ذلك من سبل الخير.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) }
يقول تعالى ذكره: وتوكل يا محمد على الذي له الحياة الدائمة التي لا موت معها، فثق به في أمر ربك وفوّض إليه، واستسلم له، واصبر على ما نابك فيه. قوله:( وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) يقول: واعبده شكرا منك له على ما أنعم به عليك. قوله:( وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ ...
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
خَبِيرًا ) يقول: وحسبك بالحي الذي لا يموت خابرا بذنوب خلقه، فإنه لا يخفى عليه شيء منها، وهو محص جميعها عليهم حتى يجازيهم بها يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) }
يقول تعالى ذكره:( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ )( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) فقال:( وَمَا بَيْنَهُمَا ) وقد ذكر السماوات والأرض، والسماوات جماع، لأنه وجه ذلك إلى الصنفين والشيئين، كما قال القطامي:
ألَمْ يَحْزُنْكَ أنَّ حِبالَ قَيْسٍ... وتَغْلِبَ قَدْ تَبايَنَتا انقِطاعا (1)
يريد: وحبال تغلب فثنى، والحبال جمع، لأنه أراد الشيئين والنوعين.
وقوله:( فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) قيل: كان ابتداء ذلك يوم الأحد، والفراغ يوم الجمعة( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ ) يقول: ثم استوى على العرش الرحمن وعلا عليه، وذلك يوم السبت فيما قيل. وقوله:( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) يقول: فاسأل يا محمد خبيرا بالرحمن، خبيرا بخلقه، فإنه خالق كلّ شيء، ولا يخفى عليه ما خلق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله:( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) قال: يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتك شيئا، فاعلم أنه كما أخبرتك، أنا الخبير، والخبير في قوله:( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) منصوب على الحال من الهاء التي في قوله به.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا
__________
(1) البيت للقطامي ، وقد سبق الكلام عنه مفصلا ، والشاهد فيه هنا : أن الشاعر قال : "تباينتا" بالتثنية ، مع أن حبال جمع حبل . والمسوغ لذلك : أن حبال قيس جماعة ، وحبال تغلب جماعة أخرى ، فعاملهما في إعادة الضمير عليهما معاملة المفردين ، ومثله في القرآن : { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما} لأنه وجه ذلك إلى الصفتين .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) }
يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم:( اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ ) أي اجعلوا سجودكم لله خالصا دون الآلهة والأوثان. قالوا:( أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ).
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة:( لِمَا تَأْمُرُنَا ) بمعنى: أنسجد نحن يا محمد لما تأمرنا أنت أن نسجد له. وقرأته عامة قرّاء الكوفة "لمَا يَأْمُرُنا"بالياء، بمعنى: أنسجد لما يأمر الرحمن، وذكر بعضهم أن مُسيلمة كان يُدعى الرحمن، فلما قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم اسجدوا للرحمن، قالوا: أنسجد لما يأمرنا رحمن اليمامة؟ يعنون مُسَيلمة بالسجود له.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان مستفيضتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحد منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله:( وَزَادَهُمْ نُفُورًا ) يقول: وزاد هؤلاء المشركين قول القائل لهم: اسجدوا للرحمن من إخلاص السجود لله، وإفراد الله بالعبادة بعدا مما دعوا إليه من ذلك فرارا.
القول في تأويل قوله تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) }
يقول تعالى ذكره: تقدّس الربّ الذي جعل في السماء بروجا، ويعني بالبروج: القصور، في قول بعضهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن العلاء ومحمد بن المثنى وسلم بن جنادة، قالوا: ثنا عبد الله بن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية بن سعد، في قوله:( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال: قصورا في السماء، فيها الحرس.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني أبو معاوية، قال: ثني إسماعيل، عن يحيى بن رافع، في قوله:( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال: قصورا في السماء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم( جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال: قصورًا في السماء.
حدثني إسماعيل بن سيف، قال: ثني عليّ بن مسهر، عن إسماعيل، عن أبي صالح، في قوله:( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال: قصورا في السماء فيها الحرس.
وقال آخرون: هي النجوم الكبار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن المثنى، قال: ثنا يعلى بن عبيد، قال: ثنا إسماعيل، عن أبي صالح( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال: النجوم الكبار.
قال: ثنا الضحاك، عن مخلد، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الكواكب.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( بُرُوجًا ) قال: البروج: النجوم.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: هي قصور في السماء، لأن ذلك في كلام العرب( وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) وقول الأخطل:
كَأَنَّهَا بُرْجُ رُوميّ يُشَيِّدُهُ... بانٍ بِجِصّ وآجُر وأحْجارِ (1)
يعني بالبرج: القصر.
قوله:( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا ) اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا ) على التوحيد، ووجهوا تأويل ذلك إلى أنه جعل فيها الشمس، وهي السراج التي عني عندهم بقوله:( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا ).
كما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، في قوله:( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ) قال: السراج: الشمس.
وقرأته عامة قرّاء الكوفيين "وَجَعَلَ فِيها سُرُجا"على الجماع، كأنهم وجهوا تأويله: وجعل فيها نجوما( وَقَمَرًا مُنِيرًا ) وجعلوا النجوم سرجا إذ كان يهتدي بها.
__________
(1) البيت للأخطل كما قال المؤلف . والبرج : المراد به القصر كما قاله . وقد كثر في كلام العرب تشبيه إبل السفر القوية الموثقة الخلق بأبنية الرومي ، ومن ذلك قول طرفة في وصف ناقته : كَقَنْطَرَةِ الرُّوميّ أقسَمَ رَبُّهَا ... لَتُكْتَفَنْ حَتَى تُشَادَ بِقَرْمَدِ
والبيت شاهد على أن البرج معناه : القصر .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار، لكل واحدة منهما وجه مفهوم، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله:( وَقَمَرًا مُنِيرًا ) يعني بالمنير: المضيء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:( جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) فقال بعضهم: معناه: أن الله جعل كل واحد منهما خلفًا من الآخر، في أن ما فات أحدهما من عمل يعمل فيه لله، أدرك قضاؤه في الآخر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقيق قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: فاتتني الصلاة الليلة، فقال: أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكورا.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) يقول: من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار، أو من النهار أدركه بالليل.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله:( جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال: جعل أحدهما خلفا للآخر، إن فات رجلا من النهار شيء أدركه من الليل، وإن فاته من الليل أدركه من النهار.
وقال آخرون: بل معناه أنه جعل كل واحد منهما مخالفا صاحبه، فجعل هذا أسود وهذا أبيض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال: أسود وأبيض.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا سفيان، عن عمر بن قيس بن أبي مسلم الماصر، عن مجاهد( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال: أسود وأبيض.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن كل واحد منهما يخلف صاحبه، إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا قيس، عن عمر بن قيس الماصر، عن مجاهد، قوله:( جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال: هذا يخلف هذا، وهذا يخلف هذا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال: لو لم يجعلهما خلفة لم يدر كيف يعمل، لو كان الدهر ليلا كله كيف يدري أحد كيف يصوم، أو كان الدهر نهارا كله كيف يدري أحد كيف يصلي. قال: والخلفة: مختلفان، يذهب هذا ويأتي هذا، جعلهما الله خلفة للعباد، وقرأ( لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) والخلفة: مصدر، فلذلك وحدت، وهي خبر عن الليل والنهار; والعرب تقول: خلف هذا من كذا خلفة، وذلك إذا جاء شيء مكان شيء ذهب قبله، كما قال الشاعر:
وَلهَا بالمَاطِرُونَ إذَا... أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَا خِلْفَةٌ حَتَّى إذَا ارْتَبَعَتْ... سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا (1)
__________
(1) البيتان ليزيد بن معاوية من مقطوعة له ذكرها صاحب ( خزانة الأدب الكبرى 3: 278- 280) قالها متغزلا في امرأة نصرانية كانت قد ترهبت في دير عند الماطرون وهو بستان بظاهر دمشق . وفي الأبيات "خرفة" في موضع "خلفة" وخرافة بضم الخاء : ما يخترف ويجتنى ، وهذه رواية المبرد في الكامل .
ورواية المؤلف موافقة لرواية صاحب العباب ، وكذلك رواها العيني عن أبي القوطية قال : الرواية : هي الخلفة باللام ، وهو ما يطلع من الثمر بعد الثمر الطيب . قال البغدادي : والجيد عندي رواية الخلفة ، على أنها اسم من الاختلاف ، أي التردد . وارتبعت : دخلت في الربيع . ويروى : ربعت ، بمعناه . ويروى : ذكرت : بدل سكنت ، وجلق : مدينة بالشام ، والبيع : جمع بيعة بكسر الباء، وهي متعبد . قال الجوهري وصاحبا العباب ، والمصباح : هي للنصارى ، وقال العيني : البيعة: لليهود ، والكنيسة للنصارى ، وهذا لا يناسب قوله إن الشعر في نصرانية . ومعنى البيتين : إن لهذه المرأة ترددًا إلى الماطرون في الشتاء ، فإن النمل يخزن الحب في الصيف ، ليأكله في الشتاء ؛ وإذا دخلت في أيام الربيع ارتحلت إلى البيع التي بجلق . ا ه. وأورد المؤلف الشعر شاهدًا على معنى الخلفة كما شرحه البغدادي .
وكما قال زهير:
بِهَا العِيْنُ والآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً... وأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلّ مَجْثَمِ (1)
يعني بقوله: يمشين خلفة: تذهب منها طائفة، وتخلف مكانها طائفة أخرى. وقد يحتمل أن زُهَيرا أراد بقوله: خلفة: مختلفات الألوان، وأنها ضروب في ألوانها وهيئاتها. ويحتمل أن يكون أراد أنها تذهب في مشيها كذا، وتجيء كذا.
وقوله( لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ) يقول تعالى ذكره: جعل الليل والنهار، وخلوف كل واحد منهما الآخر حجة وآية لمن أراد أن يذكَّر أمر الله، فينيب إلى الحق( أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) أو أراد شكر نعمة الله التي أنعمها عليه في اختلاف الليل والنهار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله( أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) قال: شكر نعمة ربه عليه فيهما.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله:( لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ) ذاك آية له( أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) قال: شكر نعمة ربه عليه فيهما.
واختلف القرّاء في قراءة قوله:( يَذَّكَّرَ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين:( يَذَّكَّرَ ) مشددة، بمعنى يتذكر. وقرأه عامة قرّاء الكوفيين: "يَذْكُرَ"
__________
(1) البيت من معلقة زهير بن أبي سلمى ( مختار شعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ص 228) قال شارحه : العين : جمع عيناء ، بقر الوحش . والآرام : جمع رئم ، وهو الظبي الخالص البياض . وخلفة : يخلف بعضها بعضًا . والأطلاء : جمع الطلا ، وهو الولد من ذوات الظلف. والمجثم : المربض ، والشاهد في البيت عند المؤلف في قوله "خلفة" كما في الشاهد الذي قبله : أي يذهب بعضها ويخلفه بعض .
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
مخففة، وقد يكون التشديد والتخفيف في مثل هذا بمعنى واحد. يقال: ذكرت حاجة فلان وتذكرتها.
والقول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب فيهما.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) }
يقول تعالى ذكره:( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) بالحلم والسكينة والوقار غير مستكبرين، ولا متجبرين، ولا ساعين فيها بالفساد ومعاصي الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا، فقال بعضهم: عنى بقوله:( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) أنهم يمشون عليها بالسكينة والوقار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالوقار والسكينة.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن أبي الوضاح، عن عبد الكريم، عن مجاهد:( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالحلم والوقار.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى; وحدثني الحارث; قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، قوله:( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالوقار والسكينة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) بالوقار والسكينة.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد وعبد الرحمن( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قالا بالسكينة والوقار.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن شريك، عن جابر، عن عمار، عن عكرمة، في قوله:( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالوقار والسكينة.
قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أيوب، عن عمرو الملائي( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالوقار والسكينة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يمشون عليها بالطاعة والتواضع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) بالطاعة والعفاف والتواضع.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: يمشون على الأرض بالطاعة.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثني عمي عبد الله بن وهب، قال: كتب إليّ إبراهيم بن سويد، قال: سمعت زيد بن أسلم يقول: التمست تفسير هذه الآية( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) فلم أجدها عند أحد، فأُتيت في النوم فقيل لي: هم الذين لا يريدون يفسدون في الأرض.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: لا يفسدون في الأرض.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: لا يتكبرون على الناس، ولا يتجبرون، ولا يفسدون. وقرأ قول الله( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يمشون عليها بالحلم لا يجهلون على من جهل عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أبي الأشهب، عن الحسن في( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: حلماء، وإن جُهِلَ عليهم لم يجهلوا.
حدثنا ابن حميد قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: حلماء.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله:( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: علماء حلماء لا يجهلون.
وقوله:( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) يقول: وإذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول، أجابوهم بالمعروف من القول، والسداد من الخطاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبو الأشهب، عن الحسن( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ) ... الآية، قال: حلماء، وإن جُهل عليهم لم يجهلوا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن معمر، عن يحيى بن المختار، عن الحسن، في قوله( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) قال: إن المؤمنين قوم ذُلُلٌ، ذلّت منهم والله الأسماع والأبصار والجوارح، حتى يحسبهم الجاهل مرضى، وإنهم لأصحاء القلوب، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، فقالوا:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) والله ما حزنهم حزن الدنيا، ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا به الجنة، أبكاهم الخوف من النار، وإنه من لم يتعز بعزاء الله تَقَطَّعَ نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعم ومشرب، فقد قلّ علمه وحضر عذابه.
حدثنا ابن بشار قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) قال: سدادا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن أبي الوضاح، عن عبد الكريم، عن مجاهد( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) قال: سَدَادا من القول.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوريّ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) حلماء.
قال: ثنا الحسين، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أبي الأشهب، عن الحسن، قال: حلماء لا يجهلون، وإن جُهِل عليهم حلموا ولم يسفهوا، هذا نهارهم فكيف ليلهم - خير ليل - صفوا أقدامهم، وأجْرَوا دموعهم على خدودهم يطلبون إلى الله جلّ ثناؤه في فكاك رقابهم.
قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبادة، عن الحسن، قال: حلماء لا يجهلون وإن جهل عليهم حلموا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) }
يقول تعالى ذكره: والذين يبيتون لربهم يصلون لله، يراوحون بين سجود في صلاتهم وقيام. وقوله:( وَقِيَامًا ) جمع قائم، كما الصيام جمع صائم( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ) يقول تعالى ذكره: والذين يدعون الله أن يصرف عنهم عقابه وعذابه حذرا منه ووجلا . وقوله:( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) يقول: إن عذاب جهنم كان غراما ملحا دائما لازما غير مفارق من عذِّب به من الكفار، ومهلكا له. ومنه قولهم: رجل مُغْرم، من الغُرْم والدَّين. ومنه قيل للغريم غَريم لطلبه حقه، وإلحاحه على صاحبه فيه. ومنه قيل للرجل المولع للنساء: إنه لمغرَم بالنساء، وفلان مغرَم بفلان: إذا لم يصبر عنه; ومنه قول الأعشى:
إنْ يُعَاقِب يَكُنْ غَرَاما وَإِنْ يُعْـ... ـطِ جَزِيلا فَإِنَّهُ لا يبالي (1)
يقول: إن يعاقب يكن عقابه عقابا لازما، لا يفارق صاحبه مهلكا له، وقول
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة ( ديوانه طبع القاهرة ، بشرح الدكتور محمد حسين ، ص 9 ) وهو من قصيدة يمدح بها الأسود بن المنذر اللخمي ، وأولها ما بكاء الكبير بالأطلال
والغرام الشر الدائم ، ومنه قوله تعالى { إن عذابها كان غرامًا } أي هلاكًا ولزامًا لهم . يقول : إن عاقب كان غرامًا ، وإن أعطى لم يبال العذال.
بشر بن أبي خازم:
وَيوْمَ النِّسارِ وَيَوْمَ الجِفا... رِ كَانَ عِقَابًا وَكَانَ غَرَاما (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن الحسن اللاني، قال: أخبرنا المعافي بن عمران الموصلي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله:( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) قال: إن الله سأل الكفار عن نعمه، فلم يردّوها إليه، فأغرمهم، فأدخلهم النار.
قال: ثنا المعافي، عن أبي الأشهب، عن الحسن، في قوله:( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) قال: قد علموا أن كلّ غريم مفارق غريمه إلا غريم جهنم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) قال: الغرام: الشرّ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، في قوله:( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) قال: لا يفارقه.
وقوله( إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ) يقول: إن جهنم ساءت مستقرًّا ومقاما، يعني بالمستقرّ: القرار، وبالمقام: الإقامة; كأن معنى الكلام: ساءت جهنم منزلا
__________
(1) البيت لبشر بن أبي خازم كما قال المؤلف . وفي اللسان نسبه للطرماح . قال : والغرام : اللازم من العذاب ، والشر الدائم ، والبلاء ، والحب ، والعشق ، وما لا يستطاع أن يتفصى منه ، وقال الزجاج : هو أشد العذاب في اللغة . قال الله عز وجل : { إن عذابها كان غرامًا } ، وقال الطرماح : " ويوم النسار .. . " البيت . وقوله عز وجل : { إن عذابها كان غرامًا } : أي ملحًا دائمًا ملازمًا . وفي معجم ما استعجم للبكري (طبعة القاهرة ص 385) الجفار : بكسر أوله ، وبالراء المهملة : موضع بنجد ، وهو الذي عنى بشر بن أبي خازم بقوله : " ويوم الجفار .. . " البيت . وقال أبو عبيدة : الجفار : في بلاد بني تميم . وقال البكري في رسم النسار : النسار ، بكسر أوله : على لفظ الجمع ، وهي أجبل صغار ، شبهت بأنسر واقعة ، وذكر ذلك أبو حاتم . وقال في موضع آخر : هي ثلاث قارات سود ، تسمى الأنسر . وهناك أوقعت طيئ وأسد وغطفان ، وهم حلفاء لبني عامر وبني تميم ، ففرت تميم ، وثبتت بنو عامر ، فقتلوهم قتلا شديدًا ؛ فغضبت بنو تميم لبني عامر ، فتجمعوا ولقوهم يوم الجفار ، فلقيت أشد مما لقيت بنو عامر ، فقال بشر ابن أبي خازم : غَضِبَتْ تَمِيمٌ أنْ تُقْتَّلَ عَامِر ... يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْقِبُوا بِالصَّيْلَمِ
قلت : الصيلم : الداهية المستأصلة . وفي رواية : فأعتبوا { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
ومقاما. وإذا ضمت الميم من المقام فهو من الإقامة، وإذا فتحت فهو من قمت، ويقال: المقام إذا فتحت الميم أيضا هو المجلس، ومن المُقام بضمّ الميم بمعنى الإقامة، قول سلامة بن جندل:
يَوْمانِ: يَوْمُ مُقَاماتٍ وأَنْدِيَةٍ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إلى الأعْداءِ تَأوِيبَ (1)
ومن المُقام الذي بمعنى المجلس، قول عباس بن مرداس:
فأيِّي ما وأيُّكَ كانَ شَرًّا... فقِيدَ إلى المَقَامَة لا يَرَاها (2)
يعني: المجلس.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) }
يقول تعالى ذكره: والذين إذا أنفقوا أموالهم لم يسرفوا في إنفاقها.
ثم اختلف أهل التأويل في النفقة التي عناها الله في هذا الموضع، وما الإسراف فيها والإقتار. فقال بعضهم: الإسراف ما كان من نفقة في معصية الله وإن قلت: قال: وإياها عني الله، وسماها إسرافا. قالوا: والإقتار: المنع من حقّ الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) قال: هم المؤمنون لا يسرفون فينفقون في معصية الله، ولا يُقترون فيمنعون حقوق الله تعالى.
__________
(1) البيت لسلامة بن جندل ، كما قال المؤلف . ( وانظر اللسان : أوب ) . والمقامات جمع مقامة ، بمعنى الإقامة ، والتأويب في كلام العرب : سير النهار كله إلى الليل . يقول : إننا نمضي حياتنا على هذا النحو : نجعل يوماً للإقامة ، يجتمع أولو الرأي فينا في أنديتهم ومجالسهم ، ليتشاوروا ويدبروا أمر القبيلة ؛ واليوم الآخر نجعله للإغارة على الأعداء نشنها عليهم ، ولو سرنا إليهم النهار كله فما نبالي ، لأننا أهل عزة ومنعة . واستشهد به المؤلف عند قوله تعالى في صفة جهنم : { إنها ساءت مستقرًا ومقامًا } أي إقامة .
(2) البيت لعباس بن مرداس ، أنشده ابن بري في ( اللسان : قوم ) وهو شاهد على أن المقام والمقامة ، بفتح الميم : المجلس . وقال البغدادي في الخزانة ( 2 : 230 ) يدعو على الشر منهما ، أي من كان منا شرَّا أعماه الله في الدنيا ، فلا يبصر حتى يقاد إلى مجلسه . وقال شارح اللباب : أي قيد إلى مواضع إقامة الناس وجمعهم في العرصات لا يراها ، أي قيد أعمى لا يرى المقامة . والبيت من جملة أبيات للعباس بن مرداس السلمي ، قالها لخفاف بن ندبه في أمر شجر بينهما .
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا ابن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله ما كان سرفا، ولو أنفقت صاعا فى معصية الله كان سرفا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله:( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) قال: في النفقة فيما نهاهم وإن كان درهما واحدا، ولم يقتروا ولم يُقصِّروا عن النفقة في الحق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) قال: لم يسرفوا فينفقوا في معاصي الله كلّ ما أنفق في معصية الله، وإن قلّ فهو إسراف، ولم يقتروا فيمسكوا عن طاعة الله. قال: وما أُمْسِكَ عن طاعة الله وإن كثر فهو إقتار.
قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني إبراهيم بن نشيط، عن عمر مولى غُفرة أنه سئل عن الإسراف ما هو؟ قال: كلّ شيء أنفقته في غير طاعة الله فهو سرف.
وقال آخرون: السرف: المجاوزة في النفقة الحدّ، والإقتار: التقصير عن الذي لا بدّ منه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن مغيرة، عن إبراهيم، قوله:( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) قال: لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف.
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن يزيد بن خنيس أبو عبد الله المخزومي المكي، قال: سمعت وهيب بن الورد أبا الورد مولى بني مخزوم، قال: لقي عالم عالما هو فوقه في العلم، فقال: يرحمك الله أخبرني عن هذا البناء الذي لا إسراف فيه ما هو؟ قال: هو ما سترك من الشمس، وأكنك من المطر، قال: يرحمك الله، فأخبرني عن هذا الطعام الذي نصيبه لا إسراف فيه ما هو؟ قال: ما سدّ الجوع ودون الشبع، قال: يرحمك الله، فأخبرني عن هذا اللباس الذي لا إسراف فيه ما هو؟ قال: ما ستر عورتك، وأدفأك من البرد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن شريح،
عن يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية:( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا ) ... الآية، قال: كانوا لا يلبسون ثوبا للجمال، ولا يأكلون طعاما للذّة، ولكن كانوا يريدون من اللباس ما يسترون به عورتهم، ويكتَنُّون به من الحرّ والقرّ، ويريدون من الطعام ما سدّ عنهم الجوع، وقواهم على عبادة ربهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن يزيد بن مرّة الجعفي. قال: العلم خير من العمل، والحسنة بين السيئتين، يعني: إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وخير الأعمال أوساطها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا كعب بن فروخ، قال: ثنا قتادة، عن مطرِّف بن عبد الله، قال: خير هذه الأمور أوساطها، والحسنة بين السيئتين. فقلت لقتادة: ما الحسنة بين السيئتين؟ فقال:( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) ... الآية.
وقال آخرون: الإسراف هو أن تأكل مال غيرك بغير حق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا سالم بن سعيد، عن أبي مَعْدان، قال: كنت عند عون بن عبد الله بن عتبة، فقال: ليس المسرف من يأكل ماله، إنما المسرف من يأكل مال غيره.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، قول من قال: الإسراف في النفقة الذي عناه الله في هذا الموضع: ما جاوز الحدّ الذي أباحه الله لعباده إلى ما فوقه، والإقتار: ما قصر عما أمر الله به، والقوام: بين ذلك.
وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن المسرف والمقتر كذلك، ولو كان الإسراف والإقتار في النفقة مرخصا فيهما ما كانا مذمومين، ولا كان المسرف ولا المقتر مذموما، لأن ما أذن الله في فعله فغير مستحقّ فاعله الذمّ.
فإن قال قائل: فهل لذلك من حدّ معروف تبينه لنا؟ قيل: نعم ذلك مفهوم في كلّ شيء من المطاعم والمشارب والملابس والصدقة وأعمال البرّ وغير ذلك، نكره تطويل الكتاب بذكر كلّ نوع من ذلك مفصلا غير أن جملة ذلك هو ما بيَّنا وذلك نحو أكل آكل من الطعام فوق الشبع ما يضعف بدنه، وينهك قواه ويشغله عن طاعة ربه، وأداء فرائضه؛ فذلك من السرف، وأن يترك الأكل وله إليه سبيل حتى يضعف ذلك جسمه وينهك قواه ويضعفه عن أداء فرائض ربه؛ فذلك من الإقتار وبين ذلك القوام على هذا النحو، كل ما جانس ما ذكرنا، فأما اتخاذ الثوب للجمال يلبسه عند اجتماعه مع الناس، وحضوره المحافل والجمع والأعياد دون ثوب مهنته، أو أكله من الطعام ما قوّاه على عبادة ربه، مما ارتفع عما قد يسدّ الجوع، مما هو دونه من الأغذية، غير أنه لا يعين البدن على القيام لله بالواجب معونته، فذلك خارج عن معنى الإسراف، بل ذلك من القوام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ببعض ذلك، وحضّ على بعضه، كقوله: "مَا عَلى أحَدِكُمْ لَوْ اتَّخَذَ ثَوْبَيْنِ: ثَوْبًا لِمِهْنَتِهِ، وَثَوْبًا لجُمْعَتِهِ وَعِيدِه"وكقوله: "إذَا أنْعَمَ اللهُ عَلَى عبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ" وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد بيَّناها في مواضعها.
وأما قوله:( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) فإنه النفقة بالعدل والمعروف على ما قد بيَّنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن أبي سليمان، عن وهب بن منبه، في قوله:( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) قال: الشطر من أموالهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله:( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) النفقة بالحقّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) قال: القوام: أن ينفقوا في طاعة الله، ويمسكوا عن محارم الله.
قال: أخبرني إبراهيم بن نشيط، عن عمر مولى غُفْرة، قال: قلت له: ما القوام؟ قال: القوام: أن لا تنفق في غير حقّ، ولا تمسك عن حقّ هو عليك. والقوام في كلام العرب، بفتح القاف، وهو الشيء بين الشيئين. تقول للمرأة المعتدلة الخلق: إنها لحسنة القوام في اعتدالها، كما قال الحطيئة:
طَافَتْ أُمَامَةُ بالرُّكْبانِ آونَةً... يا حُسْنَهُ مِنْ قَوَام ما وَمُنْتَقَبا (1)
__________
(1) البيت للحطيئة : وآونة : جمع أوان . والقوام : حسن الطول . والمنتقب : مصدر ميمي بمعنى الانتقاب . يقول : إن أمامة كانت أحيانًا تطوف بالركبان ، فما أعدل قوامها ، وأحسن نقبتها . والنقاب : ما وضع على مارن الأنف من أغطية الوجه . والنقبة : هيئة الانتقاب به ، يقال : إن فلانة لحسنة النقبة . ويكون معنى القوام كذلك : الشيء الوسط بين الشيئين . وقد حمل عليه المؤلف معنى البيت .
فأما إذا كسرت القاف فقلت: إنه قِوام أهله، فإنه يعني به: أن به يقوم أمرهم وشأنهم. وفيه لغات أُخَر، يقال منه: هو قيام أهله وقيّمهم في معنى قوامهم. فمعنى الكلام: وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواما معتدلا لا مجاوزة عن حد الله، ولا تقصيرا عما فرضه الله، ولكن عدلا بين ذلك على ما أباحه جلّ ثناؤه، وأذن فيه ورخص.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله:( وَلَمْ يَقْتُرُوا ) فقرأته عامة قرّاء المدينة"ولمْ يُقْتروا" بضم الياء وكسر التاء من أقتر يَقْتِر. وقرأته عامة قرّاء الكوفيين( وَلَمْ يَقْتُرُوا ) بفتح الياء وضم التاء من قتر يَقْتُر. وقرأته عامة قرّاء البصرة"وَلمْ يَقْتِروا"بفتح الياء وكسر التاء من قتر يَقْتِر.
والصواب من القول في ذلك، أن كل هذه القراءات على اختلاف ألفاظها لغات مشهورات في العرب، وقراءات مستفيضات وفي قرّاء الأمصار بمعنى واحد، فبأيتها قرأ القارئ فمصيب.
وقد بيَّنا معنى الإسراف
والإقتار بشواهدهما فيما مضى في كتابنا في كلام العرب، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا
الموضع. وفي نصب القَوام وجهان: أحدهما ما ذكرت، وهو أن يجعل في كان اسم الإنفاق
بمعنى: وكان إنفاقهم ما أنفقوا بين ذلك قواما: أي عدلا والآخر أن يجعل بين هو الاسم،
فتكون وإن كانت في اللفظة نصبا في معنى رفع، كما يقال: كان دون هذا لك كافيا، يعني
به: أقلّ من هذا كان لك كافيا، فكذلك يكون في قوله:( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ
قَوَامًا ) لأن معناه: وكان الوسط من ذلك قواما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق