دعاء الاموات لمشاري

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate

السبت، 4 مارس 2023

تفسير سورة النور الايات من 11 الي20.

تفسير سورة النور الايات من 11 الي20.

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20

النور - تفسير ابن كثير 

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)

 

{ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) }

هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله تعالى (1) لها ولنبيه، صلوات الله وسلامه عليه، فأنزل [الله عز وجل] (2) براءتها صيانة لعرض الرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام (3) فقال: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ } أي: جماعة منكم، يعني: ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة، فكان المقدَّم في هذه اللعنة (4) عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، فإنه كان يجمعه ويستوشيه، حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين، فتكلموا به، وَجوّزه آخرون منهم، وبقي الأمر كذلك قريبًا من شهر، حتى نزل القرآن، وسياق ذلك في الأحاديث الصحيحة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر،عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسَيَّب، وعُرْوَة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعُبَيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله، وكلّهم قد حدثني بطائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصًا، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني، وبعض حديثهم يصدق بعضًا: ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سَفَرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعدما أنزل الحجابُ، فأنا أحْمَل في هَودَجي وأنزل فيه مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غَزْوه وقفل ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري، فإذا عقْد من جَزْع ظَفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحَبَسني ابتغاؤه. وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب -وهم يحسبون أني فيه -قالت: وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يُهَلَبْهُنَّ ولم يغشهن اللحمُ، إنما يأكلن العُلقْة من الطعام. فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا،

__________

(1) في أ: "جل شأنه".

(2) زيادة من ف، أ.

(3) في أ: "صلى الله عليه وسلم"

(4) في أ: "العصبة".

 

(6/19)

 

 

ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إليّ. فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني فنمت -وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذّكْوَانَي قد عَرَس من وراء الجيش -فادّلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني. وقد كان يراني قبل أن يُضْرَب عليّ الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخَمَّرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غيرَ استرجاعه، حتى أناخ راحلته، فَوْطئ على يَدها فركبتُها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا مُوغرين في نحر الظهيرة. فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كِبْره عبد الله بن أبي بن سلول. فَقَدمتُ المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهرا، والناس يُفيضُون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يَريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللُّطْف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم، ثم يقول: " كيف تِيكُم؟" فذلك يَرِيبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نَقِهْت وخَرَجَت معي أم مِسطْح قبل المناصع -وهو مُتَبَرَّزُنا -ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نَتَّخذَ الكُنُف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه، وكنا نتأذى بالكُنُف أن نتخذها في بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسْطَح -وهي ابنة أبي رُهْم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسْطَح بن أثاثة بن عَبَّاد بن المطلب -فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قِبَلَ بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسْطح في مِرْطها فقالت: "تَعس مسْطح". فقلت لها: بئسما قلت، تسبين رجلا [قد (1) ] شهد (2) بدرا؟ قالت: أي هَنْتاه، ألم (3) تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ فأخبرتني (4) بقول أهل الإفك، فازددتُ مرضًا إلى (5) مرضي. فلما رجعتُ إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم، ثم قال: "كيف تِيكُم؟" قلت: أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ -قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبَلهما -فأذنَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمَّتاه، ما يتحدث الناس؟ فقالت: أيْ بُنَية (6) هَوِّني عليك، فوالله لقلما كانت (7) امرأة قَطّ وضيئة، عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت: فقلتُ: سبحان الله أوقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِيّا (8) وأسامة بن زيد حين استلبث الوحيُ، يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه له من الود، فقال: يا رسول الله، هم أهلك، ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب فقال: لم يُضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدُقك الخبر. قالت (9) : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَريرة، فقال: "أيْ بَرِيرة، هل رأيت من شيء يَريبك من عائشة؟" فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إنْ رأيت عليها أمرا قَطّ أغمصُه عليها، أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سَلُول. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: "يا معشر المسلمين مَنْ يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي" . فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية -فقال لسعد ابن معاذ: لعمر الله لا تقتله (10) ولا تقدر على قتله. فقام أُسَيد بن حُضير _ وهو ابن عم سعد بن معاذ -فقال لسعد بن عبادة: كذبت! لعمر الله (11) لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هَمّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم [قائم على المنبر. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم] (12) يُخَفّضهم حتى سكتوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وبكيت يومي ذلك، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي. قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذَنَت عليَّ امرأة من الأنصار، فأذنتُ لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك (13) إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس -قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل [لي] (14) ما قيل، وقد لبث شهرًا لا يُوحَى إليه في شأني شيء -قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألْمَمْت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه. قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قَلَص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت (15) لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: والله ما أدري ما أقول للرسول. فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله.فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله. قالت: فقلت -وأنا جارية حديثة السن، لا أحفظ (16) كثيرا من القرآن -: [إني] (17) والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا، حتى استقر (18) في أنفسكم وصدقتم به، ولَئَن (19) قلت لكم إني بريئة -والله يعلم إني بريئة -لا تصدقوني [بذلك. ولئن اعترفت لكم بأمر والله عز وجل يعلم أني بريئة تصدقوني] (20) ، وإني والله ما أجد لي (21) ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف : 18]. قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مُبَرِّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقرَ في نفسي من أن يتكلم الله فِيَّ بأمر يُتلى. ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤْيا يبرّئني الله بها. قالت: فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى إنه لينحدر منه مثل الجُمَان من العرق في اليوم الشاتي، من ثِقَل القول الذي أنزل عليه . قالت (22) : فلما سُرّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال: "أبشري يا عائشة، أما الله (23) فقد بَرّأك (24) . فقالت لي أمي: قومي إليه. فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل، هو الذي أنزل براءتي (25) وأنزل الله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } عشر آيات. فأنزل الله هذه الآيات في براءتي قالت: فقال أبو بكر، رضي الله عنه -وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره -: والله لا أنفق عليه شيئًا أبدا بعد الذي قال لعائشة. فأنزل الله عز وجل: { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى قوله { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } [النور : 22] فقال أبو بكر (26) : والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فَرجّع إلى مِسْطَح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال: لا أنزعها منه أبدًا.

قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينبَ بنت جحش -زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم -، عن أمري: يا زينب، ما علمت، أوما رأيت [أو ما بلغك] (27) ؟ فقالت يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ إلا خيرًا. قالت عائشة: وهي التي كانت تُسَاميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (28) ، فعصمها الله تعالى بالورع .وطَفِقَت أختها حَمنة بنت جحش تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.

قال ابن شهاب: فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط.

أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، من حديث الزهري (29) . وهكذا رواه ابن إسحاق، عن الزهري كذلك، قال: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة. وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة (30) بنحو (31) ما تقدم، والله أعلم (32) .

ثم قال البخاري: وقال أبو أسامة، عن هشام بن عُرْوة قال: أخبَرَني أبي، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما ذُكرَ من شأني الذي ذُكر وما عَلمتُ به، قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيَّ خطيبا، فتشهد فَحَمِدَ الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، أشيروا عَلَيّ في أناس أبَنُوا أهلي، وَايمُ الله ما علمت على أهلي من سوء (33) ، وأبَنُوهم بمَن والله ما علمتُ عليه من سوء قطّ، ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر، ولا غبت في سفر إلا غاب معي". فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: ائذن يا رسول الله أن نضرب أعناقهم، فقام رجل من الخزرج -وكانت أمّ حسان [بن ثابت] (34) من رهط ذلك الرجل -فقال: كذبت، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببتَ أن تُضرب أعناقهم. حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج شَرٌّ في المسجد، وما عَلمتُ. فلما كان مساء ذلك اليوم، خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح، فعَثَرتْ فقالت: تَعس مسطح، فقلت: أيْ أمّ، أتسبين ابنك؟ وسكتت، ثم عَثَرت الثانية فقالت: تَعس مسطح. فقلت لها: أيْ أمّ، تسبين ابنك؟ ثم عَثَرت الثالثة فقالت: تَعس مسْطح. فانتهرتها فقالت: والله ما أسبه إلا فيك، فقلت: في أيّ شأني؟ قالت: فَبَقَرت لي الحديث. فقلت: وقد كان هذا؟ قالت: نعم والله. فرجعتُ إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلا ولا كثيرًا، ووُعكت، وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني إلى بيت أبي. فأرسل معي الغلام، فدخلتُ الدار، فوجدت أم رومان في السّفل، وأبا بكر فوق البيت يقرأ، فقالت [لي] (35) أمي: ما جاء بك يا بنية؟ فأخبرتها، وذكرتُ لها الحديث، وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ مني، [فقالت: يا بنية، خَفِّضي عليك الشأن؛ فإنه -والله -لَقَلَّما كانت امرأة

__________

(1) زيادة من ف، أ: والمسند.

(2) في أ: "شاهد".

(3) في ف: "أولم".

(4) في ف، أ: "وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني".

(5) في أ: "على".

(6) في ف، أ: "يا بنية".

(7) في ف: "ما كانت".

(8) في المسند: "علي بن أبي طالب"

(9) في ف: "قال".

(10) في ف: "لعمر والله لنقتلنه".

(11) في ف: "والله".

(12) زيادة من ف، أ، والمسند.

(13) في ف، أ: "كذلك".

(14) زيادة من ف، أ، والمسند.

(15) في ف، أ: "قلت".

(16) في ف، أ: "لا أقرأ".

(17) زيادة من ف، أ، والمسند.

(18) في ف، أ: "استقرت".

(19) في ف: "وإن".

(20) زيادة من ف، أ، والمسند.

(21) في ف: "والله إني لا أجد لي".

(22) في ف: "ذلك".

(23) في ف، أ: "والله".

(24) في ف، أ: "فقد برأك الله".

(25) في أ: "هو الذي برأني.

(26) في ف، أ: "فقال أبو بكر: أي والله".

(27) زيادة من ف، أ، والمسند.

(28) في ف، أ: "رسول الله".

(29) المسند (6/194) وصحيح البخاري برقم (4750) وصحيح مسلم برقم (2770).

(30) في ف، أ: "عمرة، أخبرني أبي، عن عائشة".

(31) في ف: "نحو".

(32) رواه ابن هشام في السيرة (2/297) من طريق ابن إسحاق، ورواه الحافظ ابن ديزيل في جزئه برقم (2) من طريق أبي أويس، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة.

(33) في ف، أ: "ما علمت على أهلي إلا خيرا، أو ما علمت على أهلي من سوء".

(34) زيادة من ف، أ، والبخاري.

(35) في ف، أ: "فقالت لي أمي". 

== حسناء، عند رجل يحبها، لها ضرائر إلا حَسَدنها، وقيل فيها وإذا هو لم يبلغ منها ما بلغ مني، فقلت: وقد عَلِم به أبي؟ قالت: نعم. قلت: ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم] (1) .فاستَعْبَرْتُ وبكيت، فسمعَ أبو بكر صوتي، وهو فوق البيت يقرأ، فنزل فقال لأمي: ما شأنها؟ قالت: بلغها الذي ذُكر من شأنها. ففاضت عيناه وقال (2) : أقسمت عليك -أيْ بُنَيّة -إلا رجعت إلى بيتك فَرَجعتُ، ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي، فسأل عني خادمي (3) فقالت:لا والله ما علمت عليها عيبا، إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خَميرها -أو: عجينها -وانتهرها بعض أصحابه فقال: اصدُقي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به، فقالت: سبحان الله. والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبْر الذهب الأحمر. وبلغ الأمر ذلك الرجلَ الذي قيل له، فقال: سبحان الله. والله ما كَشَفت كَنَف أنثى قط -قالت عائشة: فقتل شهيدا في سبيل الله -قالت: وأصبح أبواي عندي، فلم يزالا حتى دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صَلّى العصر، ثم دخل وقد اكتنفَني أبواي، عن يميني وعن شمالي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد يا عائشة، إن كنت قارفت سُوءًا أو ظَلَمت فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده". قالت: وقد جاءت امرأة من الأنصار، فهي (4) جالسة بالباب، فقلت: ألا تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئًا؟ فوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتفت إلى أبي، فقلت له: أجبْه. قال: فماذا أقول؟ فالتفتُ إلى أمي فقلت: أجيبيه. قالت: أقول ماذا؟ فلما لم يجيباه، تَشَّهدتُ فحمدتُ الله وأثنيت عليه بما هو أهله، ثم قلت: أما بعد، فَوَالله لَئن قلت لكم إني لم أفعل -والله عز وجل يشهد إني لصادقة -ما ذاك بنافعي عندكم، لقد تكلمتم به، وأشْربته قلوبكم، وإن قلت: إني قد فعلت -والله يعلم أني لم أفعل -لتقولُنَ: قد باءت به على نفسها، وإني -والله -ما أجد لي ولكم مثلا -والتمستُ اسم يعقوب فلم أقدر عليه -إلا أبا يوسف حين قال: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف : 18]، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من ساعته، فسكتنا، فَرُفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه، وهو يمسح جبينه ويقول: "أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله براءتك" قالت: وكنت (5) أشد ما كنتُ غضبًا، فقال لي أبواي: قومي [إليه] (6) فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما، ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غَيَّرتموه، وكانت عائشة تقول: أما زينب بنت جحش فقد عصمها الله بدينها، فلم تقل إلا خيرًا. وأما أختها حَمنة بنت جحش، فهلكت فيمن هلك. وكان الذي يتكلم به (7) مسطح وحسان بن ثابت. وأما المنافق عبد الله بن أبي بن سلول فهو الذي [كان] (8) يستوشيه ويجمعه، وهو الذي تولى كِبْرَه منهم هو وحمنة. قالت: وحلف أبو بكر ألا ينفع مسطحًا بنافعة أبدًا، فأنزل الله: { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى آخر الآية، يعني: أبا بكر، { وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ } يعني: مسطحا، إلى قوله: { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور : 22]. فقال أبو بكر: بلى والله يا رَبّنا، إنا لنُحِبّ أن تغفر لنا وعاد له بما كان يصنع.

هكذا رواه البخاري من هذا الوجه مُعَلَّقا بصيغة الجزم (9) عن أبي أسامة حماد بن أسامة [أحد

__________

(1) زيادة من ف، أ، والبخاري.

(2) في ف: "فقال".

(3) في ف، أ: "خادمتي".

(4) في ف: "وهي".

(5) في ف: "فكنت".

(6) زيادة من ف، أ، والبخاري.

(7) في ف: "فيه".

(8) زيادة من ف، أ، والبخاري.

(9) صحيح البخاري برقم (4757). 

== الأئمة الثقات. وقد رواه ابن جرير في تفسيره، عن سفيان بن وَكيع، عن أبي أسامة] (1) به مطولا مثله أو نحوه. (2) ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج، عن أبي أسامة، ببعضه.

وقال الإمام أحمد: حَدَثنا هُشَيْم، أخبرنا عمر (3) بن أبي سلمة، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: لما نزل عُذْري من السماء، جاءني النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني بذلك، فقلت: نَحمدُ الله لا نَحمدك (4) .

وقال الإمام أحمد: حدثني ابن أبي عَدِيّ، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عَمْرَةَ، عن عائشة قالت: لما نزل عُذْري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أَمَر برجلين وامرأة فَضُربوا حدهم (5) .

وأخرجه أهل السنن الأربعة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. ووقع عند أبي داود تسميتهم: حسان بن ثابت، ومِسْطح بن أثاثة، وحَمْنة بنت جحش.

فهذه طرق متعددة، عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها (6) .

وقد رُوي من حديث أمها أمّ رومان، رضي الله عنها، فقال الإمام أحمد:

حدثنا علي بن عاصم، أخبرنا حُصَين، عن أبي وائل، عن مسروق، عن أم رومان قالت: بينا أنا عند عائشة، إذ دخلت عليها (7) امرأة من الأنصار فقالت: فعل الله -بابنها -وفعل. فقالت عائشة: ولم؟ قالت: إنه كان فيمن حَدَّث الحديث. قالت عائشة: وأي حديث؟ قالت: كذا وكذا. قالت: وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، وبلغ أبا بكر؟ قالت: نعم، فخرت عائشة، رضي الله عنها، مغشيا عليها، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض. قالت: فقمت فدثرتها، قالت: وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما شأن هذه؟" قلت: يا رسول الله، أخذتها حمى بنافض. قال: فلعله في حديث تُحُدِّث به". قالت: فاستوت له عائشة قاعدة فقالت: والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني، ولئن اعتذرت إليكم لا تُعذرُوني، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه { وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف : 18] قالت: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عذرها، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أبو بكر، [فدخل فقال: "يا عائشة، إن الله تعالى قد أنزل عذرك". فقالت: بحمد الله لا بحمدك. فقال لها أبو بكر: تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم. قالت: فكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان يعوله أبو بكر] (8) فحلف أبو بكر ألا يصله، فأنزل الله: { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى آخر الآية[النور : 22]، قال أبو بكر: بلى، فوصله.

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) تفسير الطبري (18/74) ورواه الحافظ ابن ديزيل في جزئه برقم (1) من طريق إسماعيل بن أبي أويس، عن أبيه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مثله.

(3) في أ: "عمرو".

(4) المسند (6/30).

(5) المسند (6/35) وسنن أبي داود برقم (4474) وسنن الترمذي برقم (3181) والنسائي في السنن الكبرى برقم (7351) وسنن ابن ماجه برقم (2567).

(6) في ف: "وغيرهم".

(7) في ف: "علينا".

(8) زيادة من ف، أ، والمسند

== تفرد به البخاري دون مسلم، من طريق حُصَين (1) وقد رواه البخاري، عن موسى بن إسماعيل، عن أبي عَوَانة -وعن محمد بن سلام -، عن محمد بن فضيل، كلاهما عن حصين، به (2) وفي لفظ أبي عوانة: حدثتني أم رومان. وهذا صريح في سماع مسروق منها، وقد أنكر ذلك جماعة من الحفاظ، منهم الخطيب البغدادي، وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الخطيب: وقد كان مسروق يرسله فيقول: "سئلت أم رومان"، ويسوقه، فلعل بعضهم كتب "سُئلت" بألف، فاعتقد الراوي أنها "سَألت"، فظنه متصلا. قال الخطيب: "وقد رواه البخاري كذلك، ولم تظهر (3) له علته". كذا قال، والله أعلم.

فقوله: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ } أي: بالكذب والبهت والافتراء، { عُصْبَةٌ } أي: جماعة منكم، { لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ } أي: يا آل أبي بكر { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي: في الدنيا والآخرة، لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة، وإظهار شرف لهم باعتناء الله بعائشة أم المؤمنين، حيث أنزل الله تعالى براءتها في القرآن العظيم الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 42] ولهذا لما دخل عليها ابن عباس، رضي الله عنه (4) وهي في سياق الموت، قال لها: أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحبك، ولم يتزوج بكرًا غيرك، وأنزل (5) براءتك من السماء (6) .

وقال ابن جرير في تفسيره: حدثني محمد بن عثمان الواسطي، حدثنا جعفر بن عون، عن المعلى بن عرفان، عن محمد بن عبد الله بن جَحْش قال: تفاخَرَت عائشةُ وزينبُ، رضي الله عنهما، فقالت زينب: أنا التي نزل تزوُّجي [من السماء] (7) قال: وقالت عائشة: أنا التي نزل عُذري في كتابه، حين حملني ابن المعطل على الراحلة. فقالت لها زينب: يا عائشة، ما قلت حين ركبتيها؟ قالت:قلت : حسبي الله ونعم الوكيل. قالت: قلت كلمة المؤمنين (8) .

وقوله: { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ } أي: لكل من تكلم في هذه القضية ورَمَى أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، بشيء من الفاحشة، نصيب عظيم من العذاب.

{ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ } (9) قيل: ابتدأ به. وقيل: الذي كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه، { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي: على ذلك.

ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي بن سَلُول -قبحه الله ولعنه -وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث، وقال ذلك مجاهد وغير واحد.

وقيل: بل المراد به حسان بن ثابت، وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما

__________

(1) المسند (6/367) وصحيح البخاري برقم (4751).

(2) صحيح البخاري برقم (4143) من رواية موسى بن إسماعيل، وبرقم (3388) من رواية محمد بن سلام.

(3) في ف: "يظهر".

(4) في ف: "عنها".

(5) في ف: "ونزلت".

(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (4753).

(7) زيادة من ف، أ.

(8) تفسير الطبري (18/70).

(9) في ف، أ: "كبره منهم". 

== لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)

 

== قد يدل على ذلك لما كان لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين كان لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن محاسنه أنه كان يَذُب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [بشعره] (1) ، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هاجهم وجبريل معك"

وقال الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق قال: كنتُ عندَ عائشة، رضي الله عنها، فدخل حسان بن ثابت، فأمرت فألقي له وسادة، فلما خرج قلت لعائشة: ما تصنعين بهذا؟ يعني: يدخل عليك -وفي رواية قيل لها: أتأذنين لهذا يدخل عليك، وقد قال الله: { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ؟ قالت: وأيُّ عذاب أشدّ من العمى -وكان قد ذهب بصره -لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم. ثم قالت: إنه كان يُنافحُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها [شعرا] (2) يمتدحها به، فقال:

حَصَان رَزَانٌ ما تُزَنّ (3) بريبة ... وتُصْبح غَرْثَى من لُحوم الغَوَافل ...

فقالت: أما أنت فلست كذلك. وفي رواية: لكنك لست كذلك (4) .

وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن قَزْعَة، حدثنا سلمة بن علقمة، حدثنا داود، عن عامر، عن عائشة أنها قالت: ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان، ولا تمثلت به إلا رجوت له الجنة، قوله لأبي سفيان -يعني ابن [الحارث] (5) بن عبد المطلب -:

هَجَوتَ مُحَمَّدا فَأجبتُ (6) عنه ... وَعندَ الله في ذاك الجزاءُ ...

فَإنَ أبي وَوَالده وعِرْضي ... لعرْضِ مُحَمَّد منكم وقاءُ ...

أَتَشْتُمُه، ولستَ لَه بكُفءٍ? ... فَشَرُّكُمَا لخَيْركُمَا الفدَاءُ ...

لِسَانِي صَارمٌ لا عَيْبَ فِيه ... وَبَحْرِي لا تُكَدِّرُه الدِّلاءُ ...

فقيل: يا أم المؤمنين، أليس هذا لغوا؟ قالت: لا إنما اللغو ما قيل عند النساء. قيل: أليس الله يقول { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، قالت: أليس قد أصابه [عذاب] (7) عظيم؟ [أليس] (8) قد ذهب بصره وكُنِّع بالسيف؟ تعني: الضربة التي ضربه إياها (9) صفوان بن المعطل [السلمي] (10) ، حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك، فعلاه بالسيف، وكاد أن يقتله (11) .

{ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) }

هذا تأديب من الله للمؤمنين في قضية (12) عائشة، رضي الله عنها، حين أفاض بعضهم في

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) زيادة من ف، أ.

(3) في ف: "ما ترن".

(4) صحيح البخاري برقم (4146) حدثني بشر بن خالد، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الأعمش، به.

(5) زيادة من ف، أ.

(6) في ف: "وأجبت".

(7) زيادة من ف، أ، والطبري.

(8) زيادة من ف، أ، والطبري.

(9) في ف: "ضربها إياه".

(10) زيادة من ف، أ.

(11) تفسير الطبري (18/69).

(12) في ف: "قصة". 

ذلك الكلام السيئ، وما ذكر من شأن الإفك، فقال: { لَوْلا } بمعنى: هلا { إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } أي: ذلك الكلام، أي: الذي رميت به أم المؤمنين { ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } أي: قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم، فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى.

وقد قيل: إنها نزلت في أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته، رضي الله عنهما، كما قال الإمام محمد بن إسحاق بن يَسَار، عن أبيه، عن بعض رجال بني النجار؛ أن أبا أيوب خالدَ بن زيد قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة، رضي الله عنها؟ قال: نعم، وذلك الكذب. أكنتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنتُ لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك. قال: فلما نزل القرآن ذكر الله، عز وجل، مَنْ قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } [النور : 11] وذلك حسان وأصحابه، الذين قالوا ما قالوا، ثم قال: { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ } (1) الآية، أي: كما قال أبو أيوب وصاحبته (2) .

وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثني ابن أبي حبيبة (3) عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن أفلح مولى أبي أيوب، أن أم أيوب قالت لأبي أيوب: ألا تسمع (4) ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أفكنت يا أم أيوب [فاعلة ذلك] (5) ؟ قالت: لا والله. قال: فعائشة والله خير منك. فلما نزل القرآن، وذكر أهل الإفك، قال الله عز وجل: { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } يعني: أبا أيوب حين قال لأم أيوب ما قال.

ويقال: إنما قالها أبي بن كعب.

وقوله: { ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } أي: هَلا ظنوا الخير، فإن أم المؤمنين أهله وأولى به، هذا ما يتعلق بالباطن، { وَقَالُوا } أي: بألسنتهم { هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } أي: كذب ظاهر على أم المؤمنين، فإن الذي وقع لم يكن ريبة، وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جَهْرَة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة، والجيش بكماله يشاهدون ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، لو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا (6) جَهْرَة، ولا كانا يُقدمان على مثل ذلك على رؤوس الأشهاد، بل كان يكون هذا -لو قُدر -خفية مستورا، فتعيَّن أن ما جاء به أهل الإفك مما رَمَوا به أم المؤمنين هو الكذب البحت، والقول الزور، والرّعُونة الفاحشة [الفاجرة] (7) والصفقة الخاسرة.

قال الله تعالى: { لَوْلا } أي: هلا { جَاءُوا عَلَيْهِ } أي: على ما قالوه { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } يشهدون على صحة ما جاءوا به { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } أي: في حكم الله كَذَبَةٌ فاجرون (8) .

__________

(1) في ف، أ: "ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا".

(2) رواه الطبري في تفسيره (18/77).

(3) في ف، أ: "حبيب".

(4) في ف: "تستمع".

(5) زيادة من ف، أ.

(6) في ف: "هذا".

(7) زيادة من ف، أ.

(8) في ف: "فجرة". 

== وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

 

{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) }

يقول [الله] (1) : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أيها الخائضون في شأن عائشة، بأن قبل توبتكم وإنابتكم إليه في الدنيا، وعفا عنكم لإيمانكم بالنسبة إلى الدار الآخرة، { لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ } ، من قضية الإفك، { عَذَابٌ عَظِيمٌ } . وهذا فيمن عنده إيمان رزقه الله بسببه التوبة إليه، كمِسْطَح، وحسان، وحَمْنةَ بنت جحش، أخت زينبَ بنت جحش. فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وأضرابه، فليس أولئك مرادين في هذه الآية؛ لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا ولا ما يعارضه. وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين، يكون مطلقًا مشروطا بعدم التوبة، أو ما يقابله من عَمَل صالح يوازنُه أو يَرجح عليه .

ثم قال تعالى: { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } قال مجاهد، وسعيد بن جبير: أي: يرويه بعضكم عن بعض، يقول هذا: سمعته من فلان، وقال فلان كذا، وذكر بعضهم كذا.

وقرأ آخرون " إِذْ تَلقُونَه بِأَلْسِنَتِكُمْ " . وفي صحيح البخاري عن عائشة: أنها كانت تقرؤها كذلك (2) وتقول: هو مِنْ وَلَق القول. يعني: الكذب الذي يستمر صاحبه عليه (3) ، تقول العرب: وَلَق فلان في السير: إذا استمر فيه (4) ، والقراءة الأولى أشهر، وعليها الجمهور، ولكن الثانية مَرْويَّة عن أم المؤمنين عائشة.

قال ابن أبي حاتم: حدَّثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، عن نافع بن عمر (5) ، عن ابن أبي مليكة، [عن عائشة أنها كانت تقرأ: " إِذْ تَلقُونَه " وتقول: إنما هو وَلَق القول -والوَلَق: الكذب. قال ابن أبي مليكة (6) ]: هي أعلم به من غيرها.

وقوله: { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي: تقولون ما لا تعلمون.

ثم قال تعالى: { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } أي: تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين، وتحسبون ذلك يسيرا [سهلا] (7) ولو لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان هَيِّنا، فكيف وهي زوجة النبي الأمي، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل! الله يغار لهذا، وهو سبحانه وتعالى، لا يُقَدِّر على زوجة نبي من أنبيائه ذلك، حاشا وكَلا ولما [لم يكن ذلك] (8) فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء، وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة؟! ولهذا قال تعالى { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } ، وفي الصحيحين:

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) صحيح البخاري برقم (4144 ، 4752).

(3) في ف: "فيه".

(4) صحيح البخاري برقم (4144).

(5) في ف، أ: "نافع، عن ابن عمر".

(6) زيادة من ف، أ.

(7) زيادة من ف، أ.

(8) زيادة من ف، أ

== وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)

 

إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله، لا يدري ما تَبْلُغ، يهوي بها في النار أبْعَد ما بين السماء والأرض" وفي رواية: "لا يلقي لها بالا" (1) .

{ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) }

هذا تأديب آخر بعد الأول: الآمر بالظن خيرا أي: إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن الخيرة (2) فأولى ينبغي الظن بهم خيرا، وألا يشعر نفسه سوى ذلك، ثم إن عَلِق بنفسه شيء من ذلك -وسوسةً أو خيالا -فلا ينبغي أن يتكلم به، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت به أنفسها (3) ما لم تقل أو تعمل" أخرجاه في الصحيحين (4) .

وقال الله تعالى: { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا } أي: ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } أي: سبحان الله أن يقال هذا الكلام على (5) زوجة [نبيه و] (6) رسوله وحليلة خليله.

ثم قال تعالى: { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا } أي: ينهاكم الله متوعِّدًا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدًا، أي: فيما يستقبل. فلهذا قال: { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي: إن كنتم تؤمنون بالله وشرعه، وتعظمون رسوله صلى الله عليه وسلم، فأما من كان متصفا بالكفر فذاك له حكم آخر.

ثم قال: { وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ } أي: يوضح لكم الأحكام الشرعية والحِكَمَ القَدَريّة، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي: عليم بما يصلح عباده، حكيم في شَرْعه وقَدَره.

{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) }

وهذا تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيئ، فقام بذهنه منه شيء،وتكلم به، فلا يكثر منه ويشيعه ويذيعه، فقد قال تعالى (7) : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا } أي: يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح، { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا } أي: بالحد، وفي الآخرة بالعذاب ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي: فردوا الأمور إليه تَرْشُدُوا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ميمون بن أبي محمد المَرَئيّ، حدثنا محمد بن عَبّاد المخزومي، عن ثَوْبَان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُؤذوا عِبادَ الله ولا تُعيِّروهم، ولا تطلبوا

__________

(1) صحيح البخاري برقم (6478) وصحيح مسلم برقم (2988) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.

(2) في أ: "الحرة".

(3) في ف: "نفسها".

(4) صحيح البخاري برقم (5269) وصحيح مسلم برقم (127) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.

(5) في ف: "عن".

(6) زيادة من ف، أ.

(7) في ف، أ: "قال الله تعالى".

 

(6/29)

 

 

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)

 

عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم، طلب الله عورته، حتى يفضحه في بيته" (1) .

{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) }

__________

(1) المسند (5/279).

 

 

 

 

 

==================

 

 

 

 

 

 

النور - تفسير القرطبي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الآيات: 11 - 22 {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ،

 

(12/195)

 

 

لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

 

(12/196)

 

 

فيه ثمان وعشرون مسألة:-

الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} {عُصْبَةٌ } خبر {إِنَّ}. ويجوز نصبها على الحال، ويكون الخبر {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ}. وسبب نزولها ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة رضوان الله عليها، وهو خبر صحيح مشهور، أغنى اشتهاره عن ذكره، وسيأتي مختصرا. وأخرجه البخاري تعليقا، وحديثه أتم. قال: وقال أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأخرجه أيضا عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان من حديث مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت: لما رميت عائشة خرت مغشيا عليها. وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبي وائل قال: حدثني مسروق بن الأجدع قال حدثتني أم رومان وهي أم عائشة قالت: بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت: فعل الله بفلان وفعل بفلان فقالت أم رومان: وما ذاك؟ قالت ابني فيمن حدّث الحديث قالت: وما ذاك؟ قالت كذا وكذا. قالت عائشة: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت نعم. قالت: وأبو بكر؟ قالت نعم فخرت مغشيا عليها فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطيتها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما شأن هذه؟" فقلت: يا رسول الله، أخذتها الحمى بنافض. قال: "فلعل في حديث تُحُدث به" قالت نعم. فقعدت عائشة فقالت: والله، لئن حلفت لا تصدقوني ولئن قلت لا تعذروني مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه والله المستعان على ما تصفون. قالت: وانصرف ولم يقل شيئا فأنزل الله عذرها. قالت: بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك. قال أبو عبد الله الحميدي: كان بعض من لقينا من الحفاظ البغداديين يقول الإرسال في هذا الحديث أبين واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسروق لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف. وللبخاري من حديث عبيدالله بن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة كانت تقرأ {إذ تَلِقُونَه

 

(12/197)

 

 

بِألسنَتِكُمْ} وتقول: الولق الكذب. قال ابن أبي مليكة: وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها. قال البخاري: وقال معمر بن راشد عن الزهري: كان حديث الإفك في غزوة المريسيع. قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست. وقال موسى بن عقبة: سنة أربع. وأخرج البخاري من حديث معمر عن الزهري قال: قال لي الوليد بن عبد الملك: أبلغك أن عليا كان فيمن قذف؟ قال: قلت لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما: كان عليٌّ مُسَلًّما في شأنها. وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجه آخر من حديث معمر عن الزهري، وفيه: قال كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال: الذي تولى كبره منهم علي بن أبي طالب؟ فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعلقمة وعبيدالله بن عبد الله بن عتبة كلهم يقول سمعت عائشة تقول: والذي تولى كبره عبد الله بن أبي. وأخرج البخاري أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة: والذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي.

الثانية: قوله تعالى: {بِالْأِفْكِ} الإفك الكذب. والعصبة ثلاثة رجال؛ قال ابن عباس. وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة. ابن عيينة: أربعون رجلا. مجاهد: من عشرة إلى خمسة عشر. وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض. والخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره. والشر ما زاد ضره على نفعه. وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة. وشرا لا خير فيه هو جهنم. فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى. فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان، إذ الخطاب لهم في قوله {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ؛ لرجحان النفع والخير على جانب الشر.

الثالثة: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع، وقفل ودنا من المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل

 

(12/198)

 

 

فمشت حتى جاوزت الجيش، فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه، فوجدته وانصرفت فلما لم تجد أحدا، وكانت شابة قليلة اللحم، فرفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه؛ فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها، فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة. وقيل: إنها استيقظت لاسترجاعه، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة، وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة؛ فوقع أهل الإفك في مقالتهم، وكان الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه ويشعله عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، وهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام ناقة عائشة فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل. وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. هذا اختصار الحديث، وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم، وهو في مسلم أكمل. ولما بلغ صفوان قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال:

تلق ذباب السيف عني فإنني ... غلام إذا هوجيت ليس بشاعر

فأخذ جماعة حسان ولببوه وجاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح حسان واستوهبه إياه. وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر؛ على ما يأتي والله أعلم. وكان صفوان هذا صاحبَ ساقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة. وقيل: كان حصورا لا يأتي النساء؛ ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة. وقيل: كان له ابنان؛ يدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ابنيه: "لهما أشبه به من الغراب بالغراب". وقوله في الحديث: والله ما كشف كنف أنثى قط؛ يريد بزنى. وقتل شهيدا رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر، وقيل: ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية.

 

(12/199)

 

 

الرابعة: قوله تعالى: {لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ} يعني ممن تكلم بالإفك. ولم يسم من أهل الإفك إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد ؛ وجهل الغير؛ قال عروة بن الزبير، وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان، وقال: إلا أنهم كانوا عصبة؛ كما قال الله تعالى. وفي مصحف حفصة {عصبة أربعة}.

الخامسة: قوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} وقرأ حميد الأعرج ويعقوب {كُبْرَه} بضم الكاف. قال الفراء: وهو وجه جيد؛ لأن العرب تقول: فلان تولى عظم كذا وكذا؛ أي أكبره. روي عن عائشة أنه حسان، وأنها قالت حين عمي: لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره؛ رواه عنها مسروق. وروي عنها أنه عبد الله بن أبي؛ وهو الصحيح، وقال ابن عباس. وحكى أبو عمر بن عبد البر أن عائشة برأت حسان من الفرية، وقالت: إنه لم يقل شيئا. وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئا من ذلك في قوله:

حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

حليلة خير الناس دينا ومنصب ... نبي الهدى والمكرمات الفواضل

عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدها غير زائل

مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل شين وباطل

فإن كان ما بلغت أني قلته ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي

فكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل

له رتب عال على الناس فضلها ... تقاصر عنها سورة المتطاول

وقد روي أنه لما أنشدها: حصان رزان؛ قالت له: لست كذلك؛ تريد أنك وقعت في الغوافل. وهذا تعارض، ويمكن الجمع بأن يقال: إن حسانا لم يقل ذلك نصا وتصريحا، ويكون عرض بذلك وأومأ إليه فنسب ذلك إليه؛ والله أعلم.

 

(12/200)

 

 

وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا، وهل جلد الحد أم لا؛ فالله أعلم أي ذلك كان:وهي المسألة:

السادسة: فروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة: مسطحا وحسان وحمنة، وذكره الترمذي وذكر القشيري عن ابن عباس قال: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار. قال القشيري: والذي ثبت في الأخبار أنه ضرب ابن أبي وضرب حسان وحمنة، وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح. قال الماوردي وغيره: اختلفوا هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإفك؛ على قولين: أحدهما أنه لم يحد أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة، ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها؛ كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم.

قلت: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي على صدق قولهم: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}. والقول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم حد أهل الإفك عبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش؛ وفي ذلك قال شاعر من المسلمين:

لقد ذاق حسان الذي كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح

وابن سلول ذاق في الحد خزية ... كما خاض في إفك من القول يفصح

تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ... وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا

وآذوا رسول الله فيها فجلدوا ... مخازي تبقى عمموها وفضحوا

فصب عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح

قلت: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحد لعبد بن أبي. روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، وتلا القرآن؛ فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين

 

(12/201)

 

 

والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. وفي كتاب الطحاوي "ثمانين ثمانين". قال علماؤنا. وإنما لم يحد عبد الله بن أبي لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما؛ فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها؛ فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف؛ كما قال الله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}. وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود "إنها كفارة لمن أقيمت عليه" ؛ كما في حديث عبادة بن الصامت. ويحتمل أن يقال: إنما ترك حد ابن أبي استئلافا لقومه واحتراما لابنه، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه؛ كما في صحيح مسلم. والله أعلم.

السابعة: قوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا. قال ابن زيد: ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه؛ قال المهدوي. و {لَوْلاَ} بمعنى هلا. وقيل: المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم؛ فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد. وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته؛ وذلك أنه دخل عليها فقالت له: يا أبا أيوب أسمعت ما قيل فقال نعم وذلك الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك قالت: لا والله قال: فعائشة والله أفضل منك؛ قالت أم أيوب نعم. فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم.

الثامنة: قوله تعالى: {بِأَنْفُسِهِمْ} قال النحاس: معنى {بِأَنْفُسِهِمْ} بإخوانهم. فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه وتواعد من ترك ذلك ومن نقله.

 

(12/202)

 

 

قلت: ولأجل هذا قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان؛ ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا.

التاسعة: قوله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} هذا توبيخ لأهل الإفك. و {لَوْلاَ} بمعنى هلا؛ أي هلا جاؤوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء. وهذا رد على الحكم الأول وإحالة على الآية السابقة في آية القذف.

العاشرة: قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي هم في حكم الله كاذبون. وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه، ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب لا في علم الله تعالى؛ وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبني على ذلك حكم الآخرة.

قلت: ومما يقوي هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه؛ وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة. وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى الله عز وجل.

الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}{فَضْلُ} رفع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا تظهره العرب. وحذف جواب {لَوْلاَ} لأنه قد ذكر مثله بعد؛ قال الله عز وجل {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}{لَمَسَّكُمْ} أي بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. وهذا عتاب من الله تعالى بليغ، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا والإفاضة: الأخذ في الحديث؛ وهو الذي وقع عليه العتاب؛ يقال: أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه.

 

(12/203)

 

 

الثانية عشرة: قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} قراءة محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف؛ من الإلقاء، وهذه قراءة بينة. وقرأ أبي وابن مسعود {إذ تتلقونه} من التلقي، بتاءين. وقرأ جمهور السبعة بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام؛ وهذا أيضا من التلقي. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الذال في التاء. وقرأ ابن كثير بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء؛ وهذه قراءة قلقة؛ لأنها تقتضي اجتماع ساكنين، وليست كالإدغام في قراءة من قرأ {فَلاَ تَنَاجُوْا. وَلاَ تَنَابَزُوا} لأن دونه الألف الساكنة، وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال. وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي الله عنهما - وهم أعلم الناس بهذا الأمر – {إِذْ تَلِقُونه} بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف؛ ومعنى هذه القراءة من قول العرب: ولق الرجل يلق ولقا إذا كذب واستمر عليه؛ فجاؤوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي. قال ابن عطية: وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه؛ فحذف حرف الجر فاتصل الضمير. وقال الخليل وأبو عمرو: أصل الولق الإسراع؛ يقال: جاءت الإبل تلق؛ أي تسرع. قال:

لما رأوا جيشا عليهم قد طرق ... جاؤوا بأسراب من الشأم ولق

إن الحصين زلق وزملق ... جاءت به عنس من الشأم تلق

يقال: رجل زلق وزملق؛ مثال هُدَبِد، وزمالق وزملق "بتشديد الميم" وهو الذي ينزل قبل أن يجامع؛ قال الراجز:

إن الحصين زلق وزملق

والولق أيضا أخف الطعن. وقد ولقه يلقه ولقا. يقال: ولقه بالسيف ولقات، أي ضربات؛ فهو مشترك.

الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا} مبالغة وإلزام وتأكيد. والضمير في {تَحْسَبُونَهُ} عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة له. و {هَيِّناً} أي شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم. {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ} في الوزر {عَظِيمٌ}. وهذا مثل قوله عليه السلام في حديث القبرين: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير" أي بالنسبة إليكم.

 

(12/204)

 

 

الرابعة عشرة: قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه الصلاة والسلام. وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان؛ وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه. وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة. و {أنْ} مفعول من أجله، بتقدير: كراهية أن ونحوه.

الخامسة عشرة: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} توقيف وتوكيد؛ كما تقول: ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلا.

السادسة عشرة: قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} يعني في عائشة؛ لأن مثله لا يكون إلا نظير القول المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما في ذلك من إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله؛ وذلك كفر من فاعله.

السابعة عشرة: قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول: من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل لأن الله تعالى يقول: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل. قال ابن العربي: قال أصحاب الشافعي من سب عائشة رضي الله عنها أدب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} في عائشة لأن ذلك كفر، وإنما هو كما قال عليه السلام: "لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه". ولو كان سلب الإيمان في سب من سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" حقيقة. قلنا: ليس كما زعمتم؛ فإن

 

(12/205)

 

 

أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى فكل من سبها بما برأها الله منه مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر؛ فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر. ولو أن رجلا سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب.

الثامنة عشرة: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أي تفشو؛ يقال: شاع الشيء شيوعا وشيعا وشيعانا وشيوعه؛ أي ظهر وتفرق. {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أي في المحصنين والمحصنات. والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان رضي الله عنهما. والفاحشة: الفعل القبيح المفرط القبح. وقيل: الفاحشة في هذه الآية القول السيء. {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} أي الحد. وفي الآخرة عذاب النار؛ أي للمنافقين، فهو مخصوص. وقد بينا أن الحد للمؤمنين كفارة. وقال الطبري: معناه إن مات مصرا غير تائب.

التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه ويعلم كل شيء. {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} روي من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها. وأيما رجل قال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقا وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة. وأيما رجل أشاع عل رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله تعالى أن يرميه بها في النار - ثم تلا مصداقه من كتاب الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} " الآية.

الموفية عشرين: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يعني مسالكه ومذاهبه؛ المعنى: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليها الشيطان. وواحد الخطوات خطوة هو ما بين القدمين. والخطوة "بالفتح" المصدر؛ يقال: خطوت خطوة، وجمعها خطوات. وتخطى إلينا فلان؛ ومنه الحديث أنه رأى رجلا يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة.

 

(12/206)

 

 

وقرأ الجمهور {خُطُوات} بضم الطاء. وسكنها عاصم والأعمش. وقرأ الجمهور {مَا زَكَى} بتخفيف الكاف؛ أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف رشدا. وقيل: {ما زكى} أي ما صلح؛ يقال: زكا يزكو زكاء؛ أي صلح. وشددها الحسن وأبو حيوة؛ أي أن تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم. وقال الكسائي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} معترض، وقوله :{مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} جواب لقوله أولا وثانيا: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}.

الحادية والعشرون: قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} الآية. المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة. وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين. وهو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف. وقيل: اسمه عوف، ومسطح لقب. وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته؛ فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح فاعتذر وقال: إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول. فقال له أبو بكر: لقد ضحكت وشاركت فيما قيل؛ ومر على يمينه، فنزلت الآية. وقال الضحاك وابن عباس: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا: والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة؛ فنزلت الآية في جميعهم. والأول أصح؛ غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع في هذه صفته غابر الدهر. روي في الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} العشر آيات، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة؛ فأنزل الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} . قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى؛ فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي؛ فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدا.

 

(12/207)

 

 

الثانية والعشرون: في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال؛ لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان؛ وكذلك سائر الكبائر؛ ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].

الثالثة والعشرون: من حلف على شيء لا يفعله فرأى فعله أولى منه أتاه وكفر عن يمينه، أو كفر عن يمينه وأتاه؛ كما تقدم في "المائدة]. ورأى الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا وأبّد ذلك أنها جُرحة في شهادته؛ ذكره الباجي في المنتقى.

الرابعة والعشرون: قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ} {وَلا يَأْتَلِ} معناه يحلف؛ وزنها يفتعل، من الألية وهي اليمين؛ ومنه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وقد تقدم في "البقرة". وقالت فرقة: معناه يقصر؛ من قولك: ألوت في كذا إذا قصرت فيه؛ ومنه قوله تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118].

الخامسة والعشرون: قوله تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم؛ وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: "من لا يرحم لا يرحم".

السادسة والعشرون: قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ. وقيل. أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب: 47]. وقد قال تعالى في آية أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22]؛ فشرح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشر به المؤمنين في تلك. ومن آيات الرجاء قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53]. وقوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ

 

(12/208)

 

 

بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19]. وقال بعضهم: أرجى آية في كتاب الله عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار.

قوله تعالى: {أن يُؤْتُوا} أي ألا يؤتوا، فحذف {لا}؛ كقول القائل:

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ذكره الزجاج. وعلى قول أبي عبيدة لا حاجة إلى إضمار {لا}. {وَلْيَعْفُو} من عفا الربع أي درس فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع.

 

 

 

 

 

================

 

 

 

 

 

 

النور - تفسير الطبري

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)

 

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) }

يقول تعالى ذكره: إن الذين جاءوا بالكذب والبهتان( عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) يقول: جماعة منكم أيها الناس.( لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) يقول: لا تظنوا ما جاءوا به من الإفك شرّا لكم عند الله وعند الناس، بل ذلك خير لكم عنده وعند

 

(19/115)

 

 

المؤمنين، وذلك أن الله يجعل ذلك كفارة للمرمي به ويظهر براءته مما رمي به، ويجعل له منه مخرجا. وقيل: إن الذي عنى الله بقوله:( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) : جماعة، منهم حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش. كما حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أبان العطار، قال: ثنا هشام بن عروة، عن عروة: أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: كتبت إليّ تسألني في الذين جاءوا بالإفك، وهم كما قال الله:( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) وأنه لم يسمّ منهم أحد إلا حسان بن ثابت، ومسْطَح بن أثاثة، وَحَمْنة بنت جَحْش، وهو يقال في آخرين لا علم لي بهم; غير أنهم عصبة كما قال الله.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد، قوله:( جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) هم أصحاب عائشة، قال ابن جريج: قال ابن عباس: قوله:( جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ )... الآية، الذين افتروا على عائشة: عبد الله بن أُبيّ، وهو الذي تولى كبره، وحسان بن ثابت، ومسطح، وحمنة بنت جحش.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) الذين قالوا لعائشة الإفك والبهتان.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) قال: الشرّ لكم بالإفك الذي قالوا، الذي تكلَّموا به، كان شرّا لهم، وكان فيهم من لم يقله، إنما سمعه، فعاتبهم الله، فقال أول شيء:( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) ثم قال:( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ).

وقوله:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ ) يقول: لكل امرئ من الذين جاءوا بالإفك جزاء ما اجترم من الإثم، بمجيئه بما جاء به، من الأولى عبد الله.

وقوله:( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ) يقول: والذي تحمل معظم ذلك الإثم والإفك منهم هو الذي بدأ بالخوض فيه.

كما حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ) يقول: الذي بدأ بذلك.

 

(19/116)

 

 

حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) قال: أصحاب عائشة عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، ومسطح، وحسان.

قال أبو جعفر: له من الله عذاب عظيم يوم القيامة.

وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله:( كِبْرهُ ) فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار:( كِبْرَهُ ) بكسر الكاف، سوى حميد الأعرج، فإنه كان يقرؤه "كُبْرهُ" بمعنى: والذي تحمل أكبره.

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب: القراءة التي عليها عوامّ القرّاء، وهي كسر الكاف، لإجماع الحجة من القرّاء عليها، وأن الكبر بالكسر: مصدر الكبير من الأمور، وأن الكبر بضم الكاف إنما هو من الولاء والنسب من قولهم: هو كُبر قومه، والكبر في هذا الموضع: هو ما وصفناه من معظم الإثم والإفك. فإذا كان ذلك كذلك، فالكسر في كافه هو الكلام الفصيح دون ضمها، وإن كان لضمها وجه مفهوم.

وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله:( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ) الآية، فقال بعضهم: هو حسان بن ثابت.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن قزعة، قال: ثنا مسلمة بن علقمة، قال: ثنا داود، عن عامر، أن عائشة قالت: ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة، قوله لأبي سفيان:

هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ... وَعِنْدَ الله في ذاكَ الجَزَاءُ... فإنَّ أبي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي... لِعِرْضِ مُحمّدٍ مِنْكُمْ وقاءُ... أتَشْتُمُهُ وَلَسْتَ لَهُ بكُفءٍ... فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُما الفِداءُ... لسانِي صَارمٌ لا عَيْبَ فِيه... وبَحْري لا تُكَدّرهُ الدّلاءُ (1)

__________

(1) هذه الأبيات الأربعة لحسان بن ثابت الأنصاري ، شاعر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، يهجو بها أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شاعر قريش قبل إسلامه . وهي من قصيدته التي مطلعها : : " عفت ذات الأصابع فالجواء " . والأبيات قرب نهاية القصيدة ، وقبلها . ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برح الخفاء

= ( وانظر القصيدة في سيرة ابن هشام طبعة الحلبي ج 4 : 64 - 66 ) وقد استشهد بها المؤلف على أن حسان كان ممن خاض في حديث الإفك الذي رميت به أم المؤمنين عائشة المبرأة ، رضي الله عنها

 

(19/117)

 

 

فقيل: يا أم المؤمنين، أليس هذا لغوا؟ قالت; لا إنما اللَّغو ما قيل عند النساء. قيل: أليس الله يقول:( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) قالت: أليس قد أصابه عذاب عظيم، أليس قد ذهب بصره، وكُنِّع بالسيف (1) .

قال: ثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: كنت عند عائشة، فدخل حسان بن ثابت، فأمرت، فألقي له وسادة; فلما خرج قلت لعائشة: ما تصنعين بهذا، وقد قال الله ما قال؟ فقالت: قال الله:( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) وقد ذهب بصره، ولعلّ الله يجعل ذلك العذاب العظيم: ذهاب بصره.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: دخل حسان بن ثابت على عائشة، فشبَّب بأبيات له، فقال:

وتصبح غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافِل (2)

فقالت عائشة: أما إنك لست كذلك، فقلت: تدعين هذا الرجل يدخل عليك، وقد أنزل الله فيه:( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ ) الآية؟ فقالت: وأيّ عذاب أشدّ من العمى، وقالت: إنه كان يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثني محمد بن عثمان الواسطي، قال: ثنا جعفر بن عون، عن المُعَلَّى بن عرفان، عن محمد بن عبد الله بن جحش، قال: تفاخرت عائشة وزينب، قال:

__________

(1) كنع بالسيف : ضرب به حتى يبس جلده ( اللسان )

(2) هذا عجز بيت لحسان بن ثابت ، من أبيات له في مدح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه بعد أن نزلت براءتها في سورة النور ، من الإفك الذي خاض فيه بعض الصحابة ، وكان حسان من أشدهم خوضًا فيه ، حتى إذا حصحص الحق ، وظهرت براءة أم المؤمنين ندم حسان واعتذر ، وقال يمدحها في أبيات له . وصدر البيت * حصان رزان ما تزن بريبة *

والحصان : العفيفة والرزان : الرزينة الثابتة التي لا يستخفها الطيش . وتزن ترمي وتتهم . والريبة : التهمة والشك . وغرثى : جائعة ، يريد لا تغتاب النساء ، والغوافل : جمع غافلة ، وهي التي غفل قلبها عن الشر ( وانظر سيرة ابن هشام طبعة الحلبي 3 : 319 ، 320 )

 

(19/118)

 

 

فقالت زينب: أنا التي نزل تزويجي من السماء قال: وقالت عائشة: أنا التي نزل عذري في كتابه حين حملني ابن المعطّل على الراحلة، فقالت لها زينب: يا عائشة، ما قلت حين ركبتيها، قالت: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل، قالت: قلت كلمة المؤمنين.

وقال آخرون: هو عبد الله بن أُبَي ابن سلول.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان الذين تكلموا فيه: المنافق عبد الله بن أُبي ابن سلول، وكان يستوشيه ويجمعه، وهو الذي تولى كبره، ومسطح، وحسان بن ثابت.

حدثنا سفيان، قال: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن علقمة بن وقاص وغيره أيضا، قالوا: قالت عائشة: كان الذي تولى كبره: الذي يجمعهم في بيته، عبد الله بن أُبي ابن سلول.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن شهاب، قال: ثني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة، قالت: كان الذي تولى كبره: عبد الله بن أُبي.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس:( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا ) الآية، الذين افتروا على عائشة: عبد الله بن أُبي، وهو الذي تولى كبره، وحسان، ومسطح، وحمنة بنت جحش.

حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أبان العطار، قال: ثنا هشام بن عروة في الذين جاءوا بالإفك، يزعمون أنه كان كِبْرُ ذلك عبد الله بن أُبي ابن سلول، أحد بني عوف بن الخزرج، وأخبرت أنه كان يحدّث به عنهم، فيقرّه ويسمعه ويستوشيه.

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أما الذي تولى كبره منهم، فعبد الله بن أُبي ابن سلول الخبيث، هو الذي ابتدأ هذا الكلام، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثم جاء يقود بها.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث،

 

(19/119)

 

 

قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: والذي تولى كبره هو عبد الله بن أُبي ابن سلول، وهو بدأه.

وأولى القولين في ذلك بالصواب: قول من قال: الذي تولى كبره من عصبة الإفك، كان عبد الله بن أُبي، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير، أن الذي بدأ بذكر الإفك، وكان يجمع أهله ويحدثهم، عبد الله بن أُبي ابن سلول، وفعله ذلك على ما وصفت كان توليه كبر ذلك الأمر.

وكان سبب مجيء أهل الإفك، ما حدَّثنا به ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، ثني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله، وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وأثبت اقتصاصا، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدّق بعضا:

زعموا أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزاة غزاها، فخرج سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد ما أنزل الحجاب، وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل إلى المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني، أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جَزْع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، قالت: وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يُهَبِّلْهُن ولم يَغْشَهن اللحم، إنما يأكلن العُلْقة من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السنّ، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعد ما استمرّ الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني ويرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني،

 

(19/120)

 

 

فنمت حتى أصبحت. وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل أن يضرب الحجاب عليّ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما تكلمت بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته، فوطئ على يديها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أُبي ابن سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيت شهرا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: "كيف تيكم؟ " فذلك يريبني، ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت، فخرجت مع أمّ مسطح قبل المناصع، وهو متبرّزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه (1) وكنا نتأذّى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأمّ مسطح، وهي ابنة أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصدّيق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أمّ مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت! أتسبين رجلا قد شهد بدرا؟ فقالت: أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى منزلي، ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: "كيف تيكم؟ " فقلت: أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ قال: "نعم"، قالت: وأنا (2) حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قِبَلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أبويّ، فقلت لأمي: أي أمتاه، ماذا يتحدّث الناس؟ فقالت: أي بنية، هوّني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر، إلا أكثرن عليها. قالت: قلت: سبحان الله، أو قد تحدّث الناس بهذا وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت، فدخل عليّ أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي: ما يبكيها؟ قالت: لم تكن علمت ما قيل لها، فأكبّ يبكي، فبكى ساعة، ثم قال: اسكتي يا بنية، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي.

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب، وأُسامة بن زيد، حين استلبث الوحي، يستشيرهما في فراق أهله قالت: فأما أُسامة، فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود فقال: يا رسول الله، هم أهلك، ولا نعلم إلا خيرا. وأما عليّ فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، يعني: بريرة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِيرة، فقال: "هَلْ رأيْت منْ شَيء يَرِيبُكِ مِنْ عائِشَةَ؟ " قالت له بريرة: والذي بعثك بالحقّ، ما رأيت عليها أمرا قطّ أغمصه عليها، أكثر من أنها حديثة السنّ، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "مَنْ يَعْذُرُني مِمَّنْ قَدْ بَلَغني أذَاهُ في أهْلِي؟ " يعني عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر أيضا: "يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَني أذَاهُ فِي أهْلِي؟ فَوَاللهِ ما عَلِمْتُ عَلى أهْلِي إلا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلا ما عَلِمْتُ عَلَيْه إلا خَيْرًا، وما كانَ يَدْخُل على أهْلِي إلا مَعي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك؛ فقام سعد بن عبادة، فقال، وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال: أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عمة سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت، لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله

__________

(1) كذا رواه الإمام مسلم في صحيحه ( 17 : 106 ) بشرح النووي . وفي صحيح البخاري طبعة الحلبي ( 5: 150 ) : البرية قبل الغائط ، في مكان : التنزه

(2) هذه رواية مسلم . وفي صحيح البخاري ( 5 : 150 ) : قالت : أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت : فأذن .. . إلخ

 

(19/121)

 

 

صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في بيت أبويّ، فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي; قالت: فبينا نحن على ذلك، دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جلس عندي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحَى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: "أمَّا بَعْدُ يَا عائشَةُ، فإنَّهُ بَلَغَني عَنْكِ كَذَا وكَذَا، فإنْ كُنْت بَرِيئَةً فَسَيُبَرئُكِ اللهُ، وإن كُنْتِ ألمَمْتِ بِذَنْبٍ، فاسْتَغْفِري اللهَ، وَتُوبِي إلَيْهِ، فإنَّ العَبْدَ إذَا اعْتَرَف بِذَنْبِهِ ثُمَّ تابَ، تابَ اللهُ عَلَيْهِ". فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي، حتى ما أحسّ منه دمعة، قلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرًا من القرآن: إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا، حتى استقرّ في أنفسكم، حتى كدتم أن تصدِّقوا به، فإن قلت لكم: إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف (1) ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) ثم تولّيت واضطجعت على فراشي، وأنا والله أعلمُ أني بريئة، وأن الله سيبرّئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحي يُتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام رؤيا يبرّئني الله بها، قالت: والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي، من ثقل القول الذي أُنزل عليه، قالت: فلما سُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، كان أوّل كلمة تكلم بها أن قال: "أبْشِرِي يا عائِشَةُ، إنَّ اللهَ قَدْ برَّأك!" فقالت لي أمي، قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي. فأنزل الله:( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) عشر آيات، فأنزل هذه الآيات براءة لي. قالت: فقال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، قالت: فأنزل الله:( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) حتى بلغ:( غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فقال أبو بكر: إني لأحبّ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: لا أنزعها منه أبدا.

قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري، وما رأت، وما سمعت، فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب، فهلكت فيمن هلك.

قال الزهري بن شهاب: هذا الذي انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، وعن علقمة بن وقاص الليثي، عن سعيد بن المسيب، وعن عروة بن الزبير، وعن عبيد الله بن عتبة بن مسعود، قال الزهري: كلّ قد حدثني بعض هذا الحديث، وبعض القوم كان له أوعى من بعض. قال: وقد جمعت لك كل الذي قد حدثني.

وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة; قال: وثني محمد بن إسحاق، قال: ثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة قال: وثني عبد الله بن بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة قالت: وكل قد اجتمع في حديثه قصة خبر عائشة عن نفسها، حين قال أهل الإفك فيها ما قالوا، وكله قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا، ويحدث بعضهم ما لم يحدث بعض، وكلّ كان عنها ثقة، وكلّ قد حدّث عنها ما سمع.

قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزاة بني المصطلق، أقرع بين نسائه، كما كان يصنع، فخرج سهمي عليهنّ، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت: وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق، لم يهيجهن اللحم فيثقلن؛

__________

(1) لم تذكر أم المؤمنين رضي الله عنها اسم النبي يعقوب أبي يوسف عليهما السلام ، لأنها كانت جارية حديثة السن ، ولم تقرأ كثيرًا من القرآن بعد

 

(19/123)

 

 

قالت: وكنت إذا رحل بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين يرحلون بي بعيري ويحملوني، فيأخذون بأسفل الهودج يرفعونه فيضعونه على ظهر البعير، فينطلقون به؛ قالت: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك، وجه قافلاحتى إذا كان قريبا من المدينة، نزل منزلا فبات بعض الليل، ثم أذن في الناس بالرحيل. فلما ارتحل الناس، خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي من جزع ظَفَار، فلما فرغت انسلّ من عنقي وما أدري; فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل، قالت: فرجعت عَوْدِي إلى بَدْئي، إلى المكان الذي ذهبت إليه، فالتمسته حتى وجدته، وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون بي البعير.

ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى، عن ابن ثور.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا وما علمت فتشهد فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: " أمَّا بَعْدُ أشِيرُوا عَلَيَّ في أُناسٍ أبَنُوا أهْلِي، واللهِ ما عَلِمْتُ عَلى أهْلِي سُوءًا قَطُّ، وأبَنوهُم بمَنْ واللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ سُوءًا قَطُّ، ولا دَخَلَ بَيْتِي قَطُّ إلا وأنا حاضِرٌ، ولا أغِيبُ في سَفَرٍ إلا غَابَ مَعِي" فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، نرى أن نضرب أعناقهم، فقام رجل من الخزرج، وكانت أمّ حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل، فقال: كذبت، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج في المسجد شر، وما علمت به، فلما كان مساء ذلك اليوم، خرجت لبعض حاجتي ومعي أمّ مسطح، فعثرت، فقالت: تعس مسطح، فقلت علام تسبين ابنك فسكتت، ثم عثرت الثانية، فقالت: تعس مسطح، قلت: علام تسبين ابنك؟ فسكتت، ثم عثرت الثالثة، فقالت: تعس مسطح فانتهرتها وقلت: علام تسبين ابنك؟ قالت: والله ما أسبه إلا فيك، قلت: في أيّ شأني، فبقرت (1) لي الحديث، فقلت: وقد كان هذا؟ قالت: نعم والله، قالت: فرجعت إلى بيتي فكأن الذي خرجتُ له لم أخرج له، ولا أجد منه قليلا ولا كثيرا، ووعكت، فقلت: يا رسول الله، أرسلني إلى بيت أبي، فأرسل معي الغلام، فدخلت الدار فإذا أنا بأمي أمّ رومان، قالت: ما جاء بك يا بُنية؟ فأخبرتها، فقالت: خفِّضي عليك الشأن،

__________

(1) بقرت لي الحديث : أخبرتني به مفصلا

 

(19/125)

 

 

فإنه والله ما كانت امرأة جميلة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا حسدنها وقلن فيها، قلت: وقد علم بها أبي؟ قالت: نعم. قلت: ورسول الله؟ قالت: نعم، فاستعبرت وبكيت، فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ، فنزل فقال لأمي: ما شأنها؟ قالت: بلغها الذي ذكر من أمرها، ففاضت عيناه، فقال: أقسمت عليك إلا رجعت إلى بيتك.

فرجعت ، فأصبح أبواي عندي، فلم يزالا عندي حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بعد العصر، وقد اكتنفني أبواي، عن يميني، وعن شمالي، فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: " أمَّا بَعْدُ يا عائِشَةُ، إن كُنْتِ قَارفتِ سُوءًا أوْ ألمَمْتِ فَتُوبِي إلى الله، فإنَّ الله يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه" وقد جاءت امرأة من الأنصار وهي جالسة، فقلت: ألا تستحي من هذه المرأة أن تقول شيئا؟ فقلت لأبي: أجبه، فقال: أقول ماذا؟ قلت لأمي: أجيبيه، فقالت: أقول ماذا؟ فلما لم يجيباه تشهدت، فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله، ثم قلت: أما بعد، فوالله لئن قلت لكم إني لم أفعل، والله يعلم إني لصادقة ما ذا بنافعي عندكم، لقد تكلم به وأشربته قلوبكم، وإن قلت إني قد فعلت، والله يعلم أني لم أفعل، لتقولنّ قد باءت به على نفسها، وأيم الله، ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف وما أحفظ اسمه:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) وأنزل الله على رسوله ساعتئذ، فرفع عنه، وإني لأتبين السرور في وجهه، وهو يمسح جبينه يقول: " أبْشِرِي يا عائِشَةُ، فَقَدْ أنزلَ اللهُ بَرَاءَتَكِ" فكنت أشدّ ما كنت غضبا، فقال لي أبواي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمده ولا أحمدكما، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه، ولكني أحمد الله الذي أنزل براءتي. ولقد جاء رسول الله بيتي، فسأل الجارية عني، فقالت: والله ما أعلم عليها عيبا، إلا أنها كانت تنام حتى كانت تدخل الشاة فتأكل حصيرها أو عجينها، فانتهرها بعض أصحابه، وقال لها: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عروة: فعتب على من قاله، فقال: لا والله ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر، وبلغ ذلك الرجل الذي قيل له، فقال: سبحان الله ما كشفت كنف أنثى قطّ، فقتل شهيدا في سبيل الله، قالت عائشة: فأما زينب بنت جحش فعصمها الله بدينها، فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة أختها، فهلكت فيمن هلك، وكان الذين تكلموا فيه: المنافق عبد الله بن أُبي ابن سلول، وكان يستوشيه ويجمعه، وهو الذي تولى كبره،

 

(19/126)

 

 

ومسطحا، وحسان بن ثابت، فحلف أبو بكر أن لا ينفع مسطحا بنافعة، فأنزل الله:( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) . يعني أبا بكر،( أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ ) يعني: مسطحا( أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال أبو بكر: بلى والله، إنا لنحبّ أن يغفر الله لنا، وعاد أبو بكر لمسطح بما كان يصنع به.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن علقمة بن وقاص وغيره أيضا، قال: خرجت عائشة تريد المذهب (1) ومعها أمّ مسطح، وكان مسطح بن أثاثة ممن قال ما قال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل ذلك، فقال: " كَيْفَ تَرَوْنَ فِيمَنْ يُؤْذِيني فِي أهْلِي ويَجْمَعُ في بَيْتِهِ مَنْ يُؤْذِيني؟ " فقال سعد بن معاذ: أي رسول الله، إن كان منا معشر الأوس جلدنا رأسه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا فأطعناك، فقال سعد بن عبادة: يا بن معاذ، والله ما بك نصرة رسول الله، ولكنها قد كانت ضغائن في الجاهلية، وإحن لم تحلل لنا من صدوركم بعد، فقال ابن معاذ: الله أعلم ما أردت، فقام أسيد بن حضير فقال: يا بن عبادة، إن سعدا ليس شديدا، ولكنك تجادل عن المنافقين، وتدفع عنهم، وكثر اللغط في الحيين في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على المنبر، فما زال النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئ بيده إلى الناس هاهنا وهاهنا، حتى هدأ الصوت.

وقالت عائشة: كان الذي تولى كبره، والذي يجمعهم في بيته، عبد الله بن أُبي ابن سلول، قالت: فخرجت إلى المذهب ومعي أمّ مسطح، فعثرت، فقالت: تعس مسطح، فقلت: غفر الله لك، أتقولين هذا لابنك ولصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت ذلك مرّتين، وما شعرت بالذي كان، فحُدثت، فذهب عني الذي خرجت له، حتى ما أجد منه شيئا،

ورجعت على أبويّ: أبي بكر، وأمّ رومان فقلت: أما اتقيتما الله في وما وصلتما رحمي؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي قال، وتحدّث الناس بالذي تحدثوا به ولم تعلماني، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أي بنية، والله لقلما أحبّ رجل قطّ امرأته إلا قالوا لها نحو الذي قالوا لك، أي بنية ارجعي إلى بيتك حتى نأتيك فيه، فرجعت وارتكبني صالب من حمى، فجاء أبواي

__________

(1) المذهب : مكان التبرز في الخلاء

 

(19/127)

 

 

لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)

 

فدخلا وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على سريري وجاهي، فقالا أي بينة، إن كنت صنعت ما قال الناس فاستغفري الله، وإن لم تكوني صنعتيه فأخبري رسول الله بعذرك، قلت: ما أجد لي ولكم إلا كأبي يوسف( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) قالت: فالتمست اسم يعقوب فما قدرت، أو فلم أقدر عليه، فشخص بصر رسول الله إلى السقف، وكان إذا نزل عليه وجد قال الله:( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا ) فوالذي هو أكرمه، وأنزل عليه الكتاب ما زال يضحك حتى إني لأنظر إلى نواجذه سرورا، ثم مسح عن وجهه، فقال: " يا عائشَةُ أبْشرِي، قد أنزل اللهُ عُذْرَك" قلت: بحمد الله لا بحمدك، ولا بحمد أصحابك، قال الله:( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ )... حتى بلغ( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) وكان أبو بكر حلف أن لا ينفع مسطحا بنافعة، وكان بينهما رحم، فلما أنزلت:( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ )... حتى بلغ:( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال أبو بكر: بلى، أي ربّ، فعاد إلى الذي كان لمسطح( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ )... حتى بلغ( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) قالت عائشة: والله ما كنت أرجو أن ينزل فيّ كتاب ولا أطمع به، ولكن أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا تذهب ما في نفسه، قالت: وسأل الجارية الحبشية فقالت: والله لعائشة أطيب من طيب الذهب، وما بها عيب إلا أنها ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل عجينها، ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنك الله، قال: فعجب الناس من فقهها.

القول في تأويل قوله تعالى : { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) }

وهذا عتاب من الله تعالى ذكره أهل الإيمان به فيما وقع في أنفسهم من إرجاف من أرجف في أمر عائشة بما أرجف به، يقول لهم تعالى ذكره: هلا أيها الناس إذ سمعتم ما قال أهل الإفك في عائشة ظن المؤمنون منكم والمؤمنات بأنفسهم خيرا: يقول: ظننتم بمن قرف بذلك منكم خيرا، ولم تظنوا به أنه أتى الفاحشة، وقال بأنفسهم، لأن أهل الإسلام كلهم بمنزلة نفس واحدة، لأنهم أهل ملة واحدة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

 

(19/128)

 

 

لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

 

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن بعض رجال بني النجار، أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أمّ أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أمّ أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك، قال: فلما نزل القرآن، ذكر الله من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك:( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) وذلك حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا، ثم قال:( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ )... الآية: أي كما قال أبو أيوب وصاحبته.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا ) ما هذا الخير ظنّ المؤمن أن المؤمن لم يكن ليفجر بأمه، وأن الأم لم تكن لتفجر بابنها، إن أراد أن يفجر فجر بغير أمه،

يقول: إنما كانت عائشة أما، والمؤمنون بنون لها، محرّما عليها، وقرأ:( لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ )... الآية.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله:( ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا ) قال لهم خيرا، ألا ترى أنه يقول:( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) . يقول: بعضكم بعضا، وسلموا على أنفسكم، قال: يسلم بعضكم على بعض.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف عن الحسن، في قوله:( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا ) يعني بذلك المؤمنين والمؤمنات.

وقوله:( وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ) يقول: وقال المؤمنون والمؤمنات: هذا الذي سمعناه من القوم الذي رمي به عائشة من الفاحشة كذب وإثم، يبين لمن عقل وفكر فيه أنه كذب وإثم وبهتان.

كما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: أخبرنا عوف عن الحسن:( وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ) قالوا: إن هذا لا ينبغي أن يتكلم به إلا من أقام عليه أربعة من الشهود، وأقيم عليه حدّ الزنا.

القول في تأويل قوله تعالى : { لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ

 

(19/129)

 

 

فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) }

يقول تعالى ذكره: هلا جاء هؤلاء العصبة الذين جاءوا بالإفك، ورموا عائشة بالبهتان، بأربعة شهداء يشهدون على مقالتهم فيها وما رَمَوها به،

فإذا لم يأتوا بالشهداء الأربعة على حقيقة ما رَمَوْها به( فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) يقول: فالعُصْبة الذين رَمَوها بذلك عند الله هم الكاذبون فيما جاءوا به من الإفك.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) }

يقول تعالى ذكره:( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) أيها الخائضون في أمر عائشة، المُشِيعُون فيها الكذب والإثم، بتركه تعجيل عقوبتكم( وَرَحْمَتُهُ ) إياكم لعفوه عنكم( فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) بقبول توبتكم مما كان منكم في ذلك؛( لَمَسَّكُمْ فِيمَا ) خضتم فيه من أمرها عاجلا في الدنيا( عَذَابٌ عَظِيمٌ ).

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ) هذا للذين تكلموا فنشروا ذلك الكلام،( لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ).

القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) }

يقول تعالى ذكره: لمسَّكم فيما أفضتم فيه من شأن عائشة عذاب عظيم، حين تلَّقونه بألسنتكم، و" إذ" من صلة قوله "لمسَّكم" ويعني بقوله:( تَلَقَّوْنَهُ ) تتلقون الإفك الذي جاءت به العصبة من أهل الإفك، فتقبلونه، ويرويه بعضكم عن بعض يقال: تلقيت هذا الكلام عن فلان، بمعنى أخذته منه، وقيل ذلك؛ لأن الرجل منهم فيما ذُكِرَ يَلْقى آخر، فيقول: أوَمَا بلغك كذا وكذا عن عائشة؟ ليُشيع عليها بذلك

 

(19/130)

 

 

الفاحشة. وذكر أنها في قراءة أُبيّ: " إذ تَتَلقَّوْنه" بتاءين، وعليها قراءة الأمصار، غير أنهم قرءوها:( تَلَقَّوْنَهُ ) بتاء واحدة؛ لأنها كذلك في مصاحفهم.

وقد رُوي عن عائشة في ذلك، ما حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكَم، قال: ثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقرأ هذه الآية: " إذْ تَلِقُونَهُ بِألْسِنَتكُمْ" تقول: إنما هو وَلْق الكذب، وتقول: إنما كانوا يلقون الكذب. قال ابن أبي مليكة: وهي أعلم بما فيها أنزلت، قال نافع: وسمعت بعض العرب (1) يقول: اللَّيق: الكذب.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا نافع بن عمر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الجمحِيّ، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، أنها كانت تقرأ: "إذْ تَلِقُونَهُ بألْسِنَتِكم" وهي أعلم بذلك وفيها أنزلت، قال ابن أبي مليكة: هو من وَلْق الكذب.

قال أبو جعفر: وكأن عائشة وجَّهت معنى ذلك بقراءتها "تَلِقُونَهُ" بكسر اللام وتخفيف القاف، إلى: إذ تستمرّون في كذبكم عليها، وإفككم بألسنتكم، كما يقال: ولق فلان في السير فهو يَلِق: إذا استمرّ فيه; وكما قال الراجز:

إنَّ الجُلَيْدَ زَلِقٌ وَزُمَلِقْ... جاءتْ بِهِ عَنْسٌ مِنَ الشَّأمِ تَلِقْ

مُجَوَّعُ البَطْنِ كِلابيُّ الخُلُقْ (2)

وقد رُوي عن العرب في الوَلْق: الكذب: الألْق، والإلِق: بفتح الألف وكسرها، ويقال في فعلت منه: ألقت، فأنا ألق، وقال بعضهم:

مَنْ لِيَ بالمُزَرَّرِ اليَلامِقِ... صاحِبِ أدْهانٍ وألقٍ آلِقِ (3)

__________

(1) لم نقف عليه فيما بأيدينا من كتب اللغة ، فلعله مصحف .

(2) هذه الأبيات ثلاثة من مشطور الرجز ، للقلاخ بن حزن المنقري نقلها صاحب ( اللسان : زلق ) . قال : رجل زلق و زملق مثال هديد و زمالق و زملق ( بتشديد الميم ) ، وهو الذي ينزل قبل أن يجامع . قال القلاخ بن حزن المنقري .. . الأبيات : ثم قال : والجليد : هو الجليد الكلابي . التهذيب : والعرب تقول : زلق و زملق ، وهو الشكاز ، الذي ينزل إذا حدث المرأة من غير جماع . قال ويقال للخفيف الطياش : زمل و زملوق و زمالق وفي ( اللسان : ولق ) . قال : وولق في سيره ولقا : أسرع . ونسب أبيات الشاهد للشماخ ، ولم أجدها في ديوان الشماخ المطبوع بمصر سنة 1327 . 1 هـ .

(3) هذان بيتان من الرجز أنشدها الأزهري عن بعضهم ( اللسان : ولق ) . وألق الكلام : متابعته في سرعة . والألق : الاستمرار في الكذب وألق يألق ألقا مثال ضرب يضرب ضربا . واليلامق : جمع يلمق ، وهو القباء ( فارسي معرب ) .. . واستشهد المؤلف بالبيتين على أن بعضهم قرأ قوله تعالى : { إذ تلقونه بألسنتكم } بكسر اللام ، وتخفيف القاف ، على أنه بمعنى الاستمرار في الكذب

 

(19/131)

 

 

وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)

 

والقراءة التي لا أستجيز غيرها:( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ) على ما ذكرت من قراءة الأمصار، لإجماع الحجة من القرّاء عليها.

وبنحو الذي قلنا من التأويل في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد:( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ) قال: تَرْوُونه بعضُكم عن بعض.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ) قال: تَرْوُونه بعضكم عن بعض.

قوله:( وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ) يقول تعالى ذكره: وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم من الأمر الذي تَرْوُونه، فتقولون: سمعنا أن عائشة فعلت كذا وكذا، ولا تعلمون حقيقة ذلك ولا صحته،( وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا ) وتظنون أن قولكم ذلك وروايتكموه بألسنتكم، وتلقِّيكموه بعضكم عن بعض هين سهل، لا إثم عليكم فيه ولا حرج،( وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ) يقول: وتلقِّيكم ذلك كذلك وقولُكموه بأفواهكم، عند الله عظيم من الأمر; لأنكم كنتم تؤذون به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحليلته.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) }

يقول تعالى ذكره:( وَلَوْلا ) أيها الخائضون في الإفك الذي جاءت به عصبة منكم،( إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ) ممن جاء به( قُلْتُمْ ) ما يحلّ لنا أن نتكلم بهذا، وما ينبغي لنا أن نتفوّه به( سُبْحَانَكَ ) تنزيها لك يا ربّ وبراءة إليك مما جاء به هؤلاء( هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ) يقول: هذا القول بهتان عظيم.

 

(19/132)

 

 

يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)

 

القول في تأويل قوله تعالى : { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) }

يقول تعالى ذكره: يذكِّرُكم الله وينهاكم بآي كتابه، لئلا تعودوا لمثل فعلكم الذي فعلتموه في أمر عائشة من تلقِّيكم الإفك الذي روي عليها بألسنتكم، وقولكم بأفواهكم ما ليس لكم به علم فيها أبدا( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) يقول: إن كنتم تتعظون بعظات الله، وتأتمرون لأمره، وتنتهون عما نهاكم عنه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) قال: والذي هو خير لنا من هذا، أن الله أعلمنا هذا لكيلا نقع فيه، لولا أن الله أعلمناه لهلكنا كما هلك القوم، أن يقول الرجل: أنا سمعته ولم أخترقه (1) ولم أتقوله، فكان خيرًا حين أعلمناه الله، لئلا ندخل في مثله أبدا، وهو عند الله عظيم وقوله:( وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ): ويفصّل الله لكم حججه عليكم بأمره ونهيه، ليتبين المطيع له منكم من العاصي، والله عليم بكم وبأفعالكم، لا يخفى عليه شيء، وهو مجاز المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، حكيم في تدبير خلقه، وتكليفه ما كلَّفهم من الأعمال وفرضه ما فرض عليهم من الأفعال.

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) }

يقول تعالى ذكره: إن الذين يحبون أن يذيع الزنا في الذين صدّقوا بالله ورسوله ويظهر ذلك فيهم،( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يقول: لهم عذاب وجيع في الدنيا، بالحدّ الذي جعله الله حدّا لرامي المحصَناتِ والمحصنين إذا رموهم بذلك، وفي الآخرة عذاب جهنم إن مات مصرّا على ذلك غير تائب. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن

__________

(1) اخترق الكذب : مثل اخترعه ، وافتعله ، وصنعه .

 

(19/133)

 

 

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)

 

مجاهد، قوله:( يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ) قال: تظهر في شأن عائشة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) قال: الخبيث عبد الله بن أُبي ابن سلول، المنافق، الذي أشاع على عائشة ما أشاع عليها من الفرية،( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ).

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ) قال: تظهر; يتحدّث عن شأن عائشة.

وقوله:( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره: والله يعلم كذب الذين جاءوا بالإفك من صدقهم، وأنتم أيها الناس لا تعلمون ذلك، لأنكم لا تعلمون الغيب، وإنما يعلم ذلك علام الغيوب. يقول: فلا تَرْووا ما لا علم لكم به من الإفك على أهل الإيمان بالله، ولا سيما على حلائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهلكوا.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) }

يقول تعالى ذكره: ولولا أن تفضَّل الله عليكم أيها الناس ورحمكم، وأن الله ذو رأفة، ذو رحمة بخلقه لهلكتم فيما أفضتم فيه، وعاجلتكم من الله العقوبة. وترك ذكر الجواب لمعرفة السامع بالمراد من الكلام بعده، وهو قوله:( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ )... الآية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

والثمن الجنة لعبد الملك القاسم

سلسلة أين نحن من هؤلاء ؟  كتاب والثمن الجنة لعبد الملك القاسم  بسم الله الرحمن الرحيم  المقدمة  الحمد لله الذي وعد من أطاعه جنات عدن تجري ...