دعاء الاموات لمشاري

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate

الاثنين، 6 مارس 2023

ج2.قطوف مختارة من تفسير سورة البقرة الجزء الثاني – الآيات 126 - 199 . الدكتور شاذل رشان الموصل - العراق

قطوف مختارة من تفسير سورة البقرة

الجزء الثاني – الآيات 126 - 199 . 

الدكتور شاذل رشان الموصل - العراق-الإصدار الأول

1438هـ - 2016م 

القسم السابع والثلاثون: الآية 126-129 . 

يُزَكِّيهِمْ: يطهّرهم.

الْعَزِيزُ: الغالب في نفسك.

قواعد البيت: أساسه.

مُسْلِمَيْنِ لَكَ: منقادين خاضعين مخلصين لك.

الْحَكِيمُ: الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه المصلحة.

مَناسِكَنا: أي متعبّداتنا، واحدها منسك ومنسك. وأصل النّسك من الذّبح، يقال: نسكت: أي ذبحت. والنّسيكة: الذّبيحة المتقرّب بها إلى الله عزّ وجلّ، ثم اتّسعوا فيه حتى جعلوها موضع العبادة.

وَالْحِكْمَةَ: هو اسم للعقل، وإنما سمي حكمة لأنه يمنع صاحبه من الجهل، ومنه حكمة الدّابّة لأنها تردّ من غربها وإفسادها وقيل:هو القرآن. وقيل: الفقه. وقيل: السنة. وقيل: الحكم والقضاء.

الاضطرار: افتعال من الضّرورة وهو فعل ما لا يتهيأ له الامتناع منه.

الْمَصِيرُ: المرجع.

وجوب تعلم مناسك الحج والعمرة على من أراد أن يحج أو يعتمر( ).

﴿ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ﴾:﴿ بَلَداً آمِناً﴾ يَعْنِي مَكَّةَ، فَدَعَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِذُرِّيَّتِهِ وَغَيْرِهِمْ بِالْأَمْنِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ، ولَمْ تَزَلْ حَرَمًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ الْمُسَلَّطِينَ، وَمِنَ الْخُسُوفِ وَالزَّلَازِلِ، وَسَائِرِ الْمَثُلَاتِ الَّتِي تَحِلُّ بِالْبِلَادِ، وَجَعَلَ فِي النُّفُوسِ الْمُتَمَرِّدَةِ مِنْ تَعْظِيمِهَا وَالْهَيْبَةِ لَهَا مَا صَارَ بِهِ أَهْلُهَا مُتَمَيِّزِينَ بِالْأَمْنِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى( ).

التنويه بفضل إبراهيم، لأن قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ﴾ سبق أنها على تقدير: واذكر إذ قال، ولولا أن هذا أمر يستحق التنويه، والإعلام ما أمر به( ).

بركة دعوة إبراهيم لأهل مكة، واستجابة الله تعالى له دعوته فلله الحمد والمنة( ).

أنه لا غنى للإنسان عن دعاء الله مهما كانت مرتبته، فلا أحد يستغني عن الدعاء أبداً، لقوله تعالى: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ... ﴾ إلخ( ).

رأفة إبراهيم بمن يؤم هذا البيت، لأن جعل البيت آمناً يتضمن الإرفاق بمن أمّه من الناس.

كان البلد مكانا قفرا، فطلب منه أن يجعله بلدا آمنا( ).

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّ رسول الله قال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لِأَهْلِهَا وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدَّهَا بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ ( ).

رأفة إبراهيم أيضاً، حيث سأل الله أن يرزق أهله من الثمرات، لقوله تعالى: ﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾( ).

الكافر لا يحرم الرزق لكفره بل له الحق في الحياة إلا أن يحارب فيقتل أو يسلم( ).

رزق الله شامل للمؤمن، والكافر، لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ كَفَرَ﴾، فالرزق عام شامل للمؤمن، والكافر، بل للإنسان، والحيوان، كما قال تعالى: ﴿ وَمَامِنْدَابَّةٍفِيالْأَرْضِإِلَّاعَلَىاللهِرِزْقُهَاوَيَعْلَمُمُسْتَقَرَّهَاوَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ ( ).

عن ابْنِ عَبَّاسٍ: دَعَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ آمَنَ دُونَ النَّاسِ خَاصَّةً، فَأَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يَرْزُقُ مَنْ كَفَرَ كَمَا يَرْزُقُ مَنْ آمَنَ، وَأَنَّهُ يُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ يَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ( ).

يجب علينا أن نتخذ من هذا الوقت القصير عملاً كثيراً ينفعنا في الآخرة، لقوله تعالى: ﴿ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ﴾، والعمل اليسير ــــ ولله الحمد ــــ يثمر ثمرات كثيرة في الآخرة يضاعف بعشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة( ).

وجوب طلب تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح، وتهذيب الأخلاق بالعلم والحكمة( ).

﴿ ثُمَّأَضْطَرُّهُإِلَىعَذَابِالنَّارِوَبِئْسَالْمَصِيرُ ﴾ الثناء على النار بهذا الذم، وأنها بئس المصير، فكل إنسان يسمع هذا من كلام الله عزّ وجلّ سوف ينفر من هذه النار، ولا يعمل عمل أهلها( ).

فضل عمارة الكعبة، لأن الله تعالى أمر نبيه أن يذكر هذه الحادثة، لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ... ﴾ إلخ.

فضل إبراهيم، وإسماعيل، عليهما الصلاة والسلام، حيث قاما برفع هذه القواعد.

من إحكام البناء أن يؤسس على قواعد،لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ﴾، وإذا بني على غير قاعدة فإنه ينهار.

جواز المعاونة في أفعال الخير.

في هذه الآيات الثلاث توسل إبراهيم وإسماعيل بأسمائه تعالى وصفاته في قبول الدعاء:﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾،﴿إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾،﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾( ).

﴿ رَبَّنَاتَقَبَّلْمِنَّا ﴾، أهمية القبول، وأن المدار في الحقيقة عليه، وليس على العمل، فكم من إنسان عمل أعمالاً كثيرة وليس له من عمله إلا التعب، فلم تنفعه، وكم من إنسان عمل أعمالاً قليلة قبلت فنفعه الله بها، ولهذا جاء في الحديث: «رب صائم حظه من صيامه الجوع، والظمأ، ورب قائم حظه من قيامه السهر» ( ).

إثبات السمع لله عزّ وجلّ( )، لقوله تعالى ﴿ إِنَّكَأَنْتَالسَّمِيعُالْعَلِيمُ ﴾.

إثبات العلم لله ــــ تبارك وتعالى، لقوله تعالى﴿ إِنَّكَأَنْتَالسَّمِيعُالْعَلِيمُ ﴾، جملةً، وتفصيلاً، موجوداً، أو معدوماً، ممكناً، أو واجباً، أو مستحيلاً ( ).

الدعاء يكون باسم «الرب»، لأن إجابة الدعاء من شأن الربوبية، لأنها خَلْق، وإيجاد.

شدة افتقار الإنسان إلى ربه، حيث كرر كلمة: ﴿ رَبَّنَا ﴾، وأنه بحاجة إلى ربوبية الله الخاصة التي تقتضي عناية خاصة( ).

الإنسان مفتقر إلى تثبيت الله، وإلا هلك، لقوله تعالى: ﴿ مُسْلِمَيْنِ لَكَ ﴾، فإنهما مسلمان بلا شك: فهما نبيَّان، ولكن لا يدوم هذا الإسلام إلا بتوفيق الله، قال الله سبحانه وتعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَوْلَاأَنْثَبَّتْنَاكَلَقَدْكِدْتَتَرْكَنُإِلَيْهِمْشَيْئًاقَلِيلًا (74) إِذًالَأَذَقْنَاكَضِعْفَالْحَيَاةِوَضِعْفَالْمَمَاتِ﴾( ).

أهمية الإخلاص، لقوله تعالى: ﴿ مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾:﴿لَكَ﴾ تدل على إخلاص الإسلام لله عزّ وجلّ ( ).

ينبغي للإنسان أن يشمل ذريته في الدعاء، لأن الذرية الصالحة من آثار الإنسان الصالحة، لقوله تعالى: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ﴾، وقال إبراهيم في آية أخرى: ﴿ وَاجْنُبْنِيوَبَنِيَّأَنْنَعْبُدَالْأَصْنَامَ ﴾( )، فالذرية صلاحها لها شأن كبير بالنسبة للإنسان( ).

الأصل في الإنسان الجهل، لقوله تعالى: ﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ يعني: أعلمنا بها.

﴿ مَناسِكَنا ﴾ أَصْلَ النُّسُكِ فِي اللُّغَةِ الْغَسْلُ، يُقَالُ مِنْهُ: نَسَكَ ثَوْبَهُ إِذَا غَسَلَهُ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْعِبَادَةِ، يُقَالُ: رَجُلٌ نَاسِكٌ إِذَا كَانَ عَابِدًا. والْمُرَادِ بِالْمَنَاسِكِ هُنَا: كُلُّ مَا يُتَعَبَّدُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى( ).

الأصل في العبادات أنها توقيفية ــــ يعني: الإنسان لا يتعبد لله بشيء إلا بما شرع ــــ، لقوله تعالى: ﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾( ).

افتقار كل إنسان إلى توبة الله، لقوله تعالى: ﴿ وَتُبْ عَلَيْنَا﴾، إذ لا يخلو الإنسان من تقصير.

قَال إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ﴿ وَتُبْ عَلَيْنا ﴾ وَهُمْ أَنْبِيَاءٌ مَعْصُومُونَ، طَلَبَا التَّثْبِيتِ وَالدَّوَامِ، لَا أَنَّهُمَا كَانَ لَهُمَا ذَنْبٌ. وهما لَمَّا عَرَفَا الْمَنَاسِكَ وَبَنَيَا الْبَيْتَ أَرَادَا أَنْ يُبَيِّنَا لِلنَّاسِ وَيُعَرِّفَاهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ وَتِلْكَ الْمَوَاضِعَ مَكَانَ التَّنَصُّلِ مِنَ الذُّنُوبِ وَطَلَبِ التَّوْبَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَتُبْ عَلَى الظَّلَمَةِ مِنَّا( ).

التوسل بأسماء الله يكون باسم مطابق لما دعا به،لقوله تعالى:﴿ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، ولقوله تعالى﴿وَلِلَّهِالْأَسْمَاءُالْحُسْنَىفَادْعُوهُبِهَا ﴾( ).

إن كون الرسول منهم أقرب إلى قبول دعوته، لقوله تعالى: ﴿ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾، لأنهم يعرفونه، كما قال تعالى: ﴿مَاضَلَّصَاحِبُكُمْوَمَاغَوَى﴾( )، حيث أضافه إليهم، يعني: صاحبكم ــــ الذي تعرفونه، وتعرفون رجاحة عقله، وتعرفون أمانته ــــ ما ضل، وما غوى.

﴿ الْحِكْمَةُ ﴾ السُّنَّةُ وَبَيَانُ الشَّرَائِعِ. وَنُسِبَ التَّعْلِيمُ إِلَى النَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ يُعْطِي الْأُمُورَ الَّتِي يُنْظَرُ فِيهَا، وَيَعْلَمُ طَرِيقَ النَّظَرِ بِمَا يُلْقِيهِ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ وَحْيِهِ( ).

 

 

 

 

 

 

القسمالثامن والثلاثون: الآية 130-132

 

 

 

 

 

 

 

لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي لمن الفائزين.

مِلَّةِ إِبْراهِيمَ: دينه.

سَفِهَ نَفْسَهُ: يعني خسر.

الدُّنْيا: تأنيث أدنى، وهو القرب، سميت بذلك لدنوّها وسبقها الآخرة.

يَرْغَبُ عَنْ:يُعرض وينصرف ويكره.

اصْطَفَيْنَاهُ: اخترناه لرسالتنا.

أَسْلَمَ: أخلص العبادة لله، وخضع وتذلل وانقاد له.

اصْطَفَى: اختار.

الدِّينَ: دين الإسلام.

المخالفين للرسل سفهاء، لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾، وقوله في المنافقين: ﴿ أَلَاإِنَّهُمْهُمُالسُّفَهَاءُ ﴾( ).

﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ ﴾يَزْهَدُ فِيهَا وَيَنْأَى بِنَفْسِهِ عَنْهَا، أَيْ عَنِ الْمِلَّةِ وَهِيَ الدِّينُ وَالشَّرْعُ( ).

الرشد في اتباع ملة إبراهيم، لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾( ).

﴿ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾بِمَعْنَى جَهِلَ، أَيْ جَهِلَ أَمْرَ نَفْسِهِ فَلَمْ يُفَكِّرْ فِيهَا( ).

مخالفة هذه الملة سفه، مهما كان الإنسان حكيماً في قوله فإنه يعتبر سفيهاً إذا لم يلتزم بشريعة الله( ).

﴿ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا ﴾أَيِ اخْتَرْنَاهُ لِلرِّسَالَةِ فَجَعَلْنَاهُ صَافِيًا مِنَ الْأَدْنَاسِ وَاللَّفْظُ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّفْوَةِ، وَمَعْنَاهُ تَخَيُّرُ الْأَصْفَى( ).

فضيلة إبراهيم ــــ عليه الصلاة والسلام ــــ، حيث اصطفاه الله، واختاره على العالمين، لقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ﴾( ).

الصلاح وصف للأنبياء، ومن دونهم، فيوصف النبي بأنه صالح، ويوصف متبع الرسول بأنه صالح، ولهذا كانت الأنبياء ــــ عليهم الصلاة والسلام ــــ يحيون الرسول ليلة المعراج بقولهم: «مرحباً بالأخ الصالح، والنبي الصالح» ( )فوصفوه بالصلاح.

﴿ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ الصَّالِحُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ الْفَائِزُ( ).

المراد بمادة «َأسْلِمْ» في هذه الآيات الخضوع والإذعان، وقوله تعالى: مُسْلِمَيْنِ لَكَ مخلصين لك وجهينا، وهو من قوله تعالى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ. أي: أخلص وجهه وأذعن وخضع. ومن هنا كانت كلمة «الإسلام» بمصطلحها المعلوم مشيرة إلى أن «المسلم» من أسلم وجهه لربه، وخضع وأذعن وأطاع.

فضيلة إبراهيم حيث لم يتوانَ، ولم يستكبر، فبادَر بقوله: ﴿ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ حين قال له ربه عزّ وجلّ: ﴿أَسْلِمْ﴾ ولم يستكبر، بل أقر، لأنه مربوب لرب العالمين( ).

المناسبة بين قوله تعالى: ﴿ أَسْلَمْتُ ﴾، و ﴿رَبِّ﴾، كأن هذا علة لقوله تعالى: ﴿ أَسْلَمْتُ ﴾، فإن الرب هو الذي يستحق أن يُسْلَم له، الرب: الخالق، ولهذا أنكر الله سبحانه وتعالى عبادة الأصنام، وبيّن علة ذلك بأنهم لا يخلقون، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَيَدْعُونَمِنْدُونِاللهِلَايَخْلُقُونَشَيْئًاوَهُمْيُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌغَيْرُأَحْيَاءٍوَمَايَشْعُرُونَأَيَّانَيُبْعَثُونَ ﴾( ).

﴿ وَوَصَّىبِهَاإِبْرَاهِيمُبَنِيهِوَيَعْقُوبُيَابَنِيَّإِنَّاللهَاصْطَفَىلَكُمُالدِّينَفَلَاتَمُوتُنَّإِلَّاوَأَنْتُمْمُسْلِمُونَ ﴾ هذه الآية وصية قرآنية  نزلت في رعاية الأسرة( ).

﴿ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾الْزَمُوا الْإِسْلَامَ وَدُومُوا عليه ولا تفارقوهحَتَّى، تَمُوتُوا. فَأَتَى بِلَفْظٍ مُوجِزٍ يَتَضَمَّنُ الْمَقْصُودَ، وَيَتَضَمَّنُ وَعْظًا وَتَذْكِيرًا بِالْمَوْتِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْءَ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَمُوتُ وَلَا يَدْرِي مَتَى، فَإِذَا أُمِرَ بِأَمْرٍ لَا يَأْتِيهِ الْمَوْتُ إِلَّا وَهُوَ عَلَيْهِ، فَقَدْ تَوَجَّهَ الْخِطَابُ مِنْ وَقْتِ الْأَمْرِ دائبا لازما( ).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسمالتاسع والثلاثون: الآية 133-134

 

 

 

 

 

 

شُهَدَاءَ:حاضرين.

أُمَّةٌ: جماعة.

خَلَتْ: مضت وذهبت.

لَهَا مَا كَسَبَتْ:جزاء ما عملت.

كنّى بالموت عن مقدماته لأنه إِذا حضر الموت نفسُه لا يقول المحتضر شيئاً، وفي قوله ﴿ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ﴾ كناية غريبة وهو أنه غائب ولا بدّ أن يقدم ولذلك يقال في الدعاء: واجعل الموت خير غائب ننتظره ( ).

الموت حق حتى على الأنبياء، قال الله تعالى: ﴿ وَمَامُحَمَّدٌإِلَّارَسُولٌقَدْخَلَتْمِنْقَبْلِهِالرُّسُلُ ﴾ ( ).

جواز الوصية عند حضور الأجل، لقوله تعالى: ﴿ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ ﴾، وهذا كالوصية لهم، ولكنه يشترط أن يكون الموصي يعي ما يقول، فإن كان لا يعي ما يقول فإنه لا تصح وصيته( ).

قوله:﴿آبَائِكَ﴾ شمل العم والأب والجد، فالجد إبراهيم والعم إِسماعيل والأب إِسحاق( ).

أبناء يعقوب كانوا على التوحيد، حيث قالوا: ﴿ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ ﴾، وهذا لا شك توحيد منهم.

التوحيد وصية الأنبياء، لقوله تعالى: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ ﴾.

أهمية التوحيد، والعناية به، لقوله تعالى: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ﴾.

العبادة والألوهية معناهما واحد، لكن العبادة باعتبار العابد، والألوهية باعتبار المعبود، ولهذا كان أهل العلم يسمون التوحيد توحيد العبادة، وبعضهم يقول: توحيد الألوهية.

النفوس مجبولة على اتباع الآباء، لكن إن كان على حق فهو حق، وإن كان على باطل فهو باطل، لقولهم: ﴿ وَإِلَهَ آبَائِكَ ﴾، ولهذا الذين حضروا وفاة أبي طالب قالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب.

إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: ﴿ إِلَهًا وَاحِدًا ﴾( ).

﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ﴾مِثْلُهُ، يُرِيدُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يُضَافُ إِلَيْهِ أَعْمَالٌ وَأَكْسَابٌ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَقْدَرَهُ عَلَى ذَلِكَ، إِنْ كَانَ خَيْرًا فَبِفَضْلِهِ وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَبِعَدْلِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. فَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ لِأَفْعَالِهِ، عَلَى مَعْنَى: أَنَّهُ خُلِقَتْ لَهُ قُدْرَةً مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ، يُدْرِكُ بِهَا الْفَرْقَ بَيْنَ حَرَكَةِ الِاخْتِيَارِ وَحَرَكَةِ الرَّعْشَةِ مَثَلًا، وذلك التمكن هو مناط التكليف. وقالت الْجَبْرِيَّةُ بِنَفْيِ اكْتِسَابِ الْعَبْدِ، وَإِنَّهُ كَالنَّبَاتِ الَّذِي تَصْرِفُهُ الرِّيَاحُ. وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ خِلَافَ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ( ).

الاعتماد على أعمال الآباء لا يجدي شيئاً، لقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ... ﴾ الآية، يعني هم مضوا، وأسلموا لله، وأنتم أيها اليهود الموجودون في عهد الرسول عليكم أن تنظروا ماذا كسبتم لأنفسكم( ).

الإشارة إلى أنه ينبغي لنا أن نسكت عما جرى بين الصحابة، لأنا نقول كما قال الله لهؤلاء: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ فنحن معنيون الآن بأنفسنا، ويُذكر عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ــــ رحمه الله ــــ أنه سئل عما جرى بين الصحابة، فقال لهم: «هذه دماء طهر الله سيوفنا منها، فنحن نطهر ألسنتنا منها»، هذه كلمة عظيمة، فعلى هذا النزاع فيما جرى بين معاوية، وعلي بن أبي طالب، وعائشة، وما أشبه ذلك لا محل له، لكن الذي يجب أن نعتني به حاضر الأمة، هذا الذي يجب أن يبين فيه الحق، ويبطَل فيهالباطل، ونقول:

﴿ رَبَّنَااغْفِرْلَنَاوَلِإِخْوَانِنَاالَّذِينَسَبَقُونَابِالْإِيمَانِوَلَاتَجْعَلْفِيقُلُوبِنَاغِلًّالِلَّذِينَآمَنُوارَبَّنَاإِنَّكَرَءُوفٌرَحِيمٌ﴾.( )

الإنسان وعملَه، لقوله تعالى:﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ﴾فلا أحد يعطى من عمل أحد، ولا يؤخذ منه، قال تعالى: ﴿كُلُّنَفْسٍبِمَاكَسَبَتْرَهِينَةٌ ﴾( ).

﴿ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ﴾أَيْ لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ أَحَدٍ( ).

إثبات عدل الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يؤاخذ أحداً بما لم يعمله، لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.

﴿ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ نفي السؤال عن عمل الغير، ومفهومها: ثبوت السؤال عن عمل العامل، وأنه مسؤول عن العمل( ).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسمالاربعون: الآية 135-138

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الحنيف: من كان على دين إبراهيم .

الْأَسْبَاطِ: أولاد سيدنا يعقوب عليه الصلاة والسلام، وأحفاده.

صِبْغَةَ اللهِ:دين الله الذي فطرنا عليه.

شِقاقٍ: عداوة ومباينة وقيل: مباينة واختلاف.

عابدون: خاضعون أذلّاء، من قولهم معبّد، أي مذلّل قد أثّر الناس فيه.

الكفر برسول، كفر بكل الرسل فقد كفر اليهود بعيسى، وكفر النصارى بمحمد فأصبحوا بذلك كافرين، وآمن المسلمون بكل الرسل فأصبحوا بذلك مؤمنين( ).

أهل الباطل يدْعون إلى ضلالهم، ويدَّعون فيه الخير، ﴿ كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ هذه دعوة إلى ضلال، ﴿ تَهْتَدُوا ﴾: ادعاء أن ذلك خير.

مقابلة الباطل بالحق، لقوله تعالى: ﴿ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾، إذ لابد للإنسان من أن يسير على طريق، لكن هل هو حق، أو باطل؟! بين الله أن كل ما خالف الحق فهو باطل في قوله تعالى: ﴿ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾( ).

الشرك ممتنع في حق الأنبياء، لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.

الذين يؤمنون بوجود الله لكن يشركون معه غيره في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته لم يكونوا مؤمنين( ).

الكتب التي أوتيها الرسل قد نزلت من عند الله،لقوله تعالى:﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾،ولقوله تعالى: ﴿ لَقَدْأَرْسَلْنَارُسُلَنَابِالْبَيِّنَاتِوَأَنْزَلْنَامَعَهُمُالْكِتَابَوَالْمِيزَانَلِيَقُومَالنَّاسُبِالْقِسْطِ ﴾  ( ).

الإشارة إلى البداءة بالأهم ــــ وإن كان متأخراً، لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ مع أن ما أنزل إلينا متأخر عما سبق( ).

يجب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل، على حد سواء في أصل الإيمان، وأما الشرائع فلكلٍّ منهم جعل الله شرعة ومنهاجاً، كما قال تعالى: ﴿ لِكُلٍّجَعَلْنَامِنْكُمْشِرْعَةًوَمِنْهَاجًا ﴾  ( ).

﴿ وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ﴾وَالْأَسْبَاطُ: وَلَدُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ وَلَدًا، وُلِدَ لِكُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ، وَاحِدُهُمْ سِبْطٌ. وَالسِّبْطُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبِيلَةِ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَسُمُّوا الْأَسْبَاطَ مِنَ السَّبْطِ وَهُوَ التَّتَابُعُ، فَهُمْ جَمَاعَةٌ مُتَتَابِعُونَ( ).

الْأَسْباطِ  في بني يعقوب كالقبائل في بني إسماعيل.واحدهم سبط، وهم اثنا عشر سبطا من اثني عشر ولدا ليعقوب. وإنما سمّي هؤلاء بالأسباط وهؤلاء بالقبائل ليفصل بين ولد إسماعيل وولد إسحاق( ).

الإسلام لا بد أن يكون بالقلب، واللسان، والجوارح، لإطلاقه في قوله تعالى: ﴿ مُسْلِمُونَ ﴾، فيستسلم قلب المرء لله ــــ تبارك وتعالى ــــ محبة، وتعظيماً، وإجلالاً، ويستسلم لسانه لما أمره الله سبحانه وتعالى أن يقول، وتستسلم جوارحه لما أمره الله تعالى أن يفعل( ).

﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ. الْمَعْنَى: فَإِنْ آمَنُوا مِثْلَ إِيمَانِكُمْ، وَصَدَّقُوا مِثْلَ تَصْدِيقِكُمْ فَقَدِ اهْتَدَوْا، فَالْمُمَاثَلَةُ وَقَعَتْ بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ( ).

كلمة﴿مِثْلِ﴾ زائدة. معناه: فإن آمنوا بمن آمنتم به وهو الله تعالى، أو بما آمنتم به وهو دين الإسلام( ).

﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾ أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ﴿ فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ ﴾ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الشِّقَاقُ الْمُنَازَعَةُ. وَقِيلَ: الشِّقَاقُ الْمُجَادَلَةُ وَالْمُخَالَفَةُ وَالتَّعَادِي. وَأَصْلُهُ مِنَ الشِّقِّ وَهُوَ الْجَانِبُ، فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي شِقٍّ غَيْرِ شِقِّ صَاحِبِهِ.

﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ﴾أَيْ فَسَيَكْفِي اللَّهُ رَسُولَهُ عَدُوَّهُ. فَكَانَ هَذَا وَعْدًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَيَكْفِيهِ مَنْ عَانَدَهُ وَمَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْمُتَوَلِّينَ بِمَنْ يَهْدِيهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنْجَزَ لَهُ الْوَعْدَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي قَتْلِ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ وَإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ( ).

﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ سُمِّيَ الدِّينُ صِبْغَةً اسْتِعَارَةً وَمَجَازًا مِنْ حَيْثُ تَظْهَرُ أَعْمَالُهُ وَسِمَتُهُ عَلَى الْمُتَدَيِّنِ، كَمَا يَظْهَرُ أَثَرُ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ( ).

أن دين الله سبحانه وتعالى أحسن الأديان، وأكملها، وأشملها، وأقومها بمصالح العباد، لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ﴾ ( ).

وجوب إخلاص العبادة لله، لقوله تعالى: ﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾، فقدم المعمول لإفادة الحصر، وعبادة الله فخر، وشرف للعبد، ولهذا جاء وصف العبودية في المقامات العليا لرسول الله فجاءت في مقام الدفاع عنه في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْكُنْتُمْفِيرَيْبٍمِمَّانَزَّلْنَاعَلَىعَبْدِنَا ﴾( )، وفي مقام تكريمه بالإسراء في قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَالَّذِيأَسْرَىبِعَبْدِهِلَيْلًامِنَالْمَسْجِدِالْحَرَامِإِلَىالْمَسْجِدِالْأَقْصَى ﴾ ( )، وفي مقام رسالته، مثل قوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُلِلَّهِالَّذِيأَنْزَلَعَلَىعَبْدِهِالْكِتَابَوَلَمْيَجْعَلْلَهُعِوَجًا﴾( ).

من اسرار البيان تقديم السمع على العلم كقوله تعالى:﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾( )وقوله ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾( )وذلك أنه خبر يتضمن التخويف والتهديد. فبدأ بالسمع لتعلقه بالأصوات وهمس الحركات فإن من سمع حسك وخفي صوتك أقرب إليك في العادة ممن يقال لك: إنه يعلم وإن كان علمه تعالى متعلقاً بما ظهر وبطن وواقعاً على ما قرب وشطن. ولكن ذكر السميع أوقع في باب التخويف من ذكر العليم فهو أولى بالتقديم.ويمكن أن يقال: إن السمع من وسائل العلم فهو يسبقه( ).

 

 

 

القسمالحادي والأربعون: الآية 139-141

 

 

 

 

 

 

أَتُحَاجُّونَنا: أتجادلوننا، وقيل: أتخاصموننا.

مُخْلِصُونَ: يقصدون بنيتهم وأعمالهم الله .

خَلَتْ: ذهبت وانقضت.

الإنكار على اليهود والنصارى الذين يحاجون المسلمين في الله مع إقرارهم بأنه ربهم، لقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ﴾( ).

﴿أَتُحَاجُّونَنا﴾أَيْ أَتُجَاذِبُونَنَا الْحُجَّةَ عَلَى دَعْوَاكُمْ وَالرَّبُّ وَاحِدٌ، وَكُلٌّ مُجَازًى بِعَمَلِهِ، فَأَيُّ تَأْثِيرٍ لِقِدَمِ الدِّينِ( ).

وجوب البراءة من أعمال الكفار، لقوله تعالى: ﴿ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾، فإن المراد بذلك البراءة مما هم عليه( ).

﴿فِي اللَّهِ"﴾أَيْ فِي دِينِهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ وَالْحَظْوَةِ لَهُ( ).

ينبغي للمرء أن يفتخر بما هو عليه من الحق، لقوله تعالى: ﴿ وَلَنَا أَعْمَالُنَا﴾ أي فنحن مفتخرون بها بريئون من أعمالكم( ).

لا يجوز التشبه بأعداء الله، لأن المشابهة موافقة في العمل، لهذا قال النبي : «من تشبه بقوم فهومنهم» ( )، وهنا قال تعالى: ﴿ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾: فنحن متميزون عنكم، وأنتم متميزون عنا.

﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾أَيْ مُخْلِصُونَ الْعِبَادَةَ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّوْبِيخِ، أَيْ وَلَمْ تُخْلِصُوا أَنْتُمْ فَكَيْفَ تَدَّعُونَ مَا نَحْنُ أَوْلَى بِهِ مِنْكُمْ!. وَالْإِخْلَاصُ حَقِيقَتُهُ تَصْفِيَةُ الْفِعْلِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْمَخْلُوقِينَ( ).

إبطال دعوى هؤلاء اليهود، والنصارى أن إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، كانوا هوداً أو نصارى، فهذه الدعوى باطلة، بل وصفُ هؤلاء الإسلام، فإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط ليسوا هوداً، ولا نصارى، بل هم مسلمون لله سبحانه وتعالى( ).

﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾تَقُولُونَ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا عَلَى دِينِكُمْ( ).

رد علم هذه الأشياء إلى الله، لقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ ﴾( ).

﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ فِي ادِّعَائِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى. فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْكُمْ، أَيْ لَمْ يَكُونُوا هُودًا وَلَا نَصَارَى( ).

الرد على أهل التحريف في أسماء الله، وصفاته الذين يقولون: «إن هذا جائز عقلاً على الله، فنقر به، وهذا يمتنع عقلاً على الله، فلا نقر به» ( ).

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾لَفْظُهُ الِاسْتِفْهَامُ، وَالْمَعْنَى: لَا أحد أظلم.﴿مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً﴾يُرِيدُ عِلْمَهُمْ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ( ).

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ فهي شهادة عندهم، مودعة من الله، لا من الخلق، فيقتضي الاهتمام بإقامتها، فكتموها، وأظهروا ضدها، جمعوا بين كتم الحق، وعدم النطق به، وإظهار الباطل، والدعوة إليه، أليس هذا أعظم الظلم؟ بلى والله، وسيعاقبهم عليه أشد العقوبة( ).

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانُوا يَقْرَؤُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الذِي أَتَاهُمْ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلامُ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا بُرَآءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، فشهِد اللَّهُ بِذَلِكَ، وَأَقَرُّوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِلَّهِ، فَكَتَمُوا شَهَادَةَ الله عندهم من ذلك( ).

عظم كتم العلم، لقوله تعالى:﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ﴾ ( ).

﴿وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾وَعِيدٌ وَإِعْلَامٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ أَمْرَهُمْ سُدًى وَأَنَّهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ( ).

كمال علم اللهومراقبته لعباده، لقوله تعالى﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ( ).

الْغَافِلُ: الَّذِي لَا يَفْطِنُ لِلْأُمُورِ إِهْمَالًا مِنْهُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَرْضِ الْغُفْلِ وَهِيَ الَّتِي لَا عِلْمَ بِهَا وَلَا أَثَرَ عُمَارَةٍ. وَنَاقَةٌ غُفْلٌ: لَا سِمَةَ بِهَا. وَرَجُلٌ غُفْلٌ: لَمْ يُجَرِّبِ الْأُمُورَ( ).

ثبوت الصفات المنفية، وهي ما نفاه الله سبحانه وتعالى عن نفسه، لقوله تعالى: ﴿ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾، فإن هذه صفة منفية، وليست ثبوتية، والصفات المنفية متضمنة لإثبات كمال ضدها، فلكمال مراقبته، وعلمه سبحانه وتعالى ليس بغافل عما نعمل( ).

﴿ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ فِيهِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ، أَيْ: أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِعَمَلِكُمْ، وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهِ.

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾كَرَّرَهَا لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ، أَيْ إِذَا كَانَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى إِمَامَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ يُجَازَوْنَ بِكَسْبِهِمْ فَأَنْتُمْ أَحْرَى، فوجب التأكيد، فلذلك كررها( ).

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ المعول عليه ما اتصف به الإنسان، لا عمل أسلافه وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال، لا بالانتساب المجرد للرجال( ).

إضافة العمل إلى العامل، ففيه رد على الجبرية الذين يقولون: «إن الإنسان مجبر على عمله»، لقوله تعالى: ﴿ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ ( ).

 

القسمالثاني والأربعون: الآية 142-143

 

 

 

 

 

 

 

 

السُّفَهَاءُ:السفه: الخفة في العقل الذي يؤدي إلى الطيش والجهل.

وَلَّاهُمْ: صرفهم.

قِبْلَتِهِمُ:  الجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة.

أُمَّةً وَسَطًا:متوسطين معتدلين.

الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا: التوجه إلى بيت المقدس.

يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ: يرتد عن الإسلام إلى الكفر.

تحقق وقوع خبر الله عزّ وجلّ، لأنهم قالوا ذلك( ).

علم الله بما سيكون لقوله تعالى ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾.

﴿مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ وهي استقبال بيت المقدس، أي: أيُّ شيء صرفهم عنه؟ وفي ذلك الاعتراض على حكم الله وشرعه، وفضله وإحسانه( ).

اعتراض اليهود على تحويل القبلة سفه وجهالة لأنه لا يعتمد على منطق سليم( ).

تسلية النبي وأصحابه، حيث أخبر الله تعالى أنه لا يعترض عليه في ذلك إلا سفيه( ).

ودلت الآية على أنه لا يعترض على أحكام الله، إلا سفيه جاهل معاند، وأما الرشيد المؤمن العاقل، فيتلقى أحكام ربه بالقبول، والانقياد، والتسليم( ).

إعلام المرء بما يتوقع أن يكون ليستعد له، ومن ذلك أن النبي لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: «إنكتأتي قوماً أهل كتاب»، ليكون مستعداً( ).

القبلة: الجهة. يقال: إلى أين قبلتك؟ أي إلى أين تتوجّه؟ وسمّيت القبلة قبلة لأن المصلّي يقابلها وتقابله ولذلك قيل: إنها مشتقّة من المقابلة( ).

عموم ملك الله عزّ وجلّ، لقوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾، فهو المالك سبحانه وتعالى للجهات يُصرِّف إليها العباد كيف يشاء( ).

﴿لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي: فإذا كان المشرق والمغرب ملكا لله، ليس جهة من الجهات خارجة عن ملكه، ومع هذا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ومنه هدايتكم إلى هذه القبلة التي هي من ملة أبيكم إبراهيم، فلأي شيء يعترض المعترض بتوليتكم قبلة داخلة تحت ملك الله( ).

 

الجهات كلّها لله تعالى خَلْقاً وملكاً فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى( ).

جواز تعليل الأحكام الشرعية بمقتضى الربوبية لإسكات الناس حتى لا يحصل منازعة ( ).

إثبات مشيئة الله، لقوله تعالى: ﴿ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ ( ).

﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ والمطلق يحمل على المقيد، فإن الهداية والضلال، لهما أسباب أوجبتها حكمة الله وعدله، وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب الهداية، التي إذا أتى بها العبد حصل له الهدى كما قال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ﴾( ).

الهداية بيد الله، لقوله تعالى: ﴿ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾، ومنها: أنْ هدَى هذه الأمة إلى القبلة التي يرضاها الرسول .

الثناء على هذه الأمة، لأنها التي على صراط مستقيم، لأن أول من يدخل في قوله تعالى: ﴿ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ هؤلاء الذين تولوا عن بيت المقدس إلى الكعبة( ).

أفضلية أمة الإسلام على سائر الأمم لكونها أمة الوسط والوسطية شعارها لقوله تعالى: ﴿ وَسَطًا ﴾( ).

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ أي: عدلا خيارا، وما عدا الوسط، فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة، وسطا في كل أمور الدين، وسطا في الأنبياء، بين من غلا فيهم، كالنصارى، وبين من جفاهم، كاليهود، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك، ووسطا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى( ).

إن هذه الأمة تشهد على الأمم يوم القيامة، لقوله تعالى: ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ ( ).

﴿ولتكونوا شهداء على الناس﴾ يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه، فإنها معصومة في ذلك. وفيها اشتراط العدالة في الحكم، والشهادة، والفتيا، ونحو ذلك( ).

الأمة المحمدية أفضل الأمم لذلك اختارها الله للشهادة على الخلائق يوم القيامة( ).

إن نبينا يكون شهيداً علينا يوم القيامة ــــ شهيداً علينا بالعدالة، وقيل: شهيداً علينا بأنه بلغ البلاغ المبين ( ).

إثبات رسالة النبي لقوله تعالى: ﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾( ).

﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ وهي استقبال بيت المقدس أولا ( ).

قد يمتحن الله سبحانه وتعالى العباد بالأحكام الشرعية إيجاباً، أو تحريماً، أو نسخاً، لقوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْيَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾.

أراد بالعلم في قوله ﴿لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ التمييز للعباد، كقوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾( )( ).

﴿إِلا لِنَعْلَمَ﴾ أي: شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن( ).

تحويل القبلة امتحانٌ لإيمان الناس ليتميّز المؤمن الصادق عن الفاجر المنافق( ).

وجوب اتباع الرسول لقوله تعالى: ﴿لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾.

﴿مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ ويؤمن به، فيتبعه على كل حال، لأنه عبد مأمور مدبر، ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة، أنه يستقبل الكعبة، فالمنصف الذي مقصوده الحق، مما يزيده ذلك إيمانا، وطاعة للرسول( ).

إثبات علم الله، لقوله تعالى: ﴿ لِنَعْلَمَ ﴾، وعلم الله سبحانه وتعالى محيط بكل شيء، كما قال تعالى: ﴿ لِتَعْلَمُواأَنَّاللهَعَلَىكُلِّشَيْءٍقَدِيرٌوَأَنَّاللهَقَدْأَحَاطَبِكُلِّشَيْءٍعِلْمًا ﴾( ).

سمى الله مخالفة الرسول انقلاباً على العقب، لقوله تعالى: ﴿ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ ( ).

وأما من انقلب على عقبيه، وأعرض عن الحق، واتبع هواه، فإنه يزداد كفرا إلى كفره، وحيرة إلى حيرته، ويدلي بالحجة الباطلة، المبنية على شبهة لا حقيقة لها( ).

أن تغيير القبلة شاق إلا على طائفة معينة من الناس، لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ﴾.

﴿وَإِنْ كَانَتْ﴾ أي: صرفك عنها ﴿لَكَبِيرَةٌ﴾ أي: شاقة ﴿إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم، وشكروا، وأقروا له بالإحسان، حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم، الذي فضله على سائر بقاع الأرض، وجعل قصده، ركنا من أركان الإسلام( ).

أمر الله رسوله الكريم بالتوجه إلى البيت العتيق في الصلاة، بعد أن توجه إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وذلك لحكمة جليلة هي امتحان إيمان الناس، واختبار صدق يقينهم، ليظهر المؤمن الصادق، من الكاذب المنافق، وليعيد لهذه الأمة التي اختارها الله، قيادة ركب الإنسانية، بعد أن تخلت عنها ردحاً من الزمان كما قال تعالى: ﴿هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس... ﴾( ).

البيت العتيق الذي رفع قواعده أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، هو قبلة أهل الأرض، كما أنّ البيت المعمور قبلة أهل السماء يطوفون حوله يسبّحون بحمد الله( ).

﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي: ما ينبغي له ولا يليق به تعالى، بل هي من الممتنعات عليه، فأخبر أنه ممتنع عليه، ومستحيل، أن يضيع إيمانكم، وفي هذا بشارة عظيمة لمن مَنَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان، بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم، فلا يضيعه( ).

سمى الله تعالى الصلاة «إيماناً» في قوله ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي صلاتكم لأن الإِيمان لا يتمُّ إِلا بها، ولأنها تشتمل على نيةٍ وقولٍ وعمل( ).

﴿لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ وحفظه نوعان:حفظ عن الضياع والبطلان، بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص من المحن المقلقة، والأهواء الصادة، وحفظ له بتنميته لهم، وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم، ويتم به إيقانهم، فكما ابتدأكم، بأن هداكم للإيمان، فسيحفظه لكم، ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره، وثوابه، وحفظه من كل مكدر، بل إذا وجدت المحن المقصود منها، تبيين المؤمن الصادق من الكاذب( ).

إثبات عموم الرحمة لكل الناس، لقوله تعالى:﴿ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾، وهذه هي الرحمة العامة التي بها يعيش الناس في دنياهم برزق الله من طعام، وشراب، وكسوة، وغيرها، وأما الرحمة الخاصة فهي للمؤمنين خاصة، وبها يحصل سعادة الدنيا، والآخرة، كالعلم والإيمان المثمرَين لطاعة الله، ورسوله( ).

 

 

 

 

 

القسمالثالث والأربعون: الآية 144-145

 

 

 

 

 

 

 

تَقَلُّبَ وَجْهِكَ: تطلعك وتردد نظرك إلى جهة السماء مرة بعد مرة.

فَلَنُوَلِّيَنَّكَ: فلنوجهنك.

شَطْرَ: نحو وجهه.

أَهْوَاءَهُمْ: جمع هوى، وهو ما تميل إليه نفوسهم.

اقتضت حكمة الله أن يجمع (أمة التوحيد) على قبلةٍ واحدة، فأمر خليله إبراهيم عليه السلام أن يبني هذا البيت العتيق، ليكون مثابة للناس وأمناً، ومصدراً للإشعاع والنور الرباني، ومكاناً لحج بيته المعظم، يأتيه الناس من كل فج عميق﴿لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾( ).

إثبات رؤية الله عزّ وجلّ، لقوله تعالى﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ﴾( )

يقول الله لنبيه: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ أي: كثرة تردده في جميع جهاته، شوقا وانتظارا لنزول الوحي باستقبال الكعبة( ).

النظر إلى السماء ليس سوء أدب مع الله، لقوله تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ﴾ لكن في الصلاة لا يرفع بصره إلى السماء، لورود الوعيد الشديد به( ).

﴿وَجْهكَ﴾ ولم يقل: "بصرك "لزيادة اهتمامه، ولأن تقليب الوجه مستلزم لتقليب البصر( ).

أدب الرسول الله كان يمنعه من سؤال تحويل القبلة ولذلك أكرمه الله بما يرضى( ).

إثبات عظمة الله سبحانه وتعالى، لقوله تعالى: ﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً ﴾، فإن ضمير الجمع للتعظيم( ).

الكعبة المشرفة قبلة أبي الأنبياء وقد جمع الله بها قلوب العباد( ).

تَرْضَاهَا رضا المحبّة بالطبع، لا رضا التسليم والانقياد لأمر الله تعالى( ).

﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾ أطلق الوجه وأراد به الذات كقوله ﴿ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ﴾( )، وهذا النوع يسمى «المجاز المرسل» من باب إِطلاق الجزء وإِرادة الكل( ).

شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: أي قصده ونحوه، أي تلقاءه، والتلقاء: النحو. وشطر الشيء: نصفه أيضا.( )

في التعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام إِشارة إِلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين، لأن في إِصابة عين الكعبة من البعيد حرجاً عظيماً على الناس( ).

الوجه أشرف الأعضاء حيث عبر به عن سائر الجسم( ).

عظمة هذا المسجد لوصفه بالحرام - أي ذي الحرمة والتعظيم - ولهذا كان من يدخله آمناً.( )

﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ﴾ أي: نوجهك لولايتنا إياك، ﴿قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ أي: تحبها، وهي الكعبة، وفي هذا بيان لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم، حيث إن الله تعالى يسارع في رضاه، ثم صرح له باستقبالها فقال: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ والوجه: ما أقبل من بدن الإنسان( ).

الكعبة المشرفة - زادها الله شرفاً وتعظيماً - هي رمز التوحيد - ومظهر الإيمان، وقبلة أبي الأنبياء إبراهيم خليل الرحمن وحولها تلتقي أفئدة الملايين من المؤمنين لأنها مظهر وحدتهم، وسرّ اجتماع كلمتهم، فلا عجب أن يأمرهم الله تعالى بالتوجه إليها في صلاتهم، أينما كانوا في مشارق الأرض ومغاربها كما قال تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْفَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ... ﴾( ).

وجوب الاتجاه إلى القبلة في أيّ مكان كان الإنسان: من بر، أو بحر، أو جو، لقوله تعالى: ﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾، ويشمل من كان في مكة، ومن كان بعيداً عنها، ومن كان في جوف الكعبة، لعموم قوله تعالى: ﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ ﴾.

﴿وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ﴾ أي: من بر وبحر، وشرق وغرب، جنوب وشمال( ).

يسقط استقبال القبلة في مواضع، منها:

أـ عند صلاة النفل في سفر، فيصلي حيث كان وجهه.

ب ــــ عند الخوف الشديد إذا كان لا يمكن استقبال القبلة.

ج ــــ إذا كان عاجزاً عن استقبال القبلة لمرض ــــ أو صلب ــــ يعني: لو صلب إلى غير القبلة، أو نحو ذلك( ).

مراعاة الشريعة اجتماع المسلمين على وجهة واحدة، لأنه تعالى قال: ﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ ( ).

﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أي: جهته.ففيها اشتراط استقبال الكعبة، للصلوات كلها، فرضها، ونفلها، وأنه إن أمكن استقبال عينها، وإلا فيكفي شطرها وجهتها، وأن الالتفات بالبدن، مبطل للصلاة، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده( ).

بيان عناد اليهود والنصارى، لقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾، ولكن مع ذلك شنعوا على النبي تشنيعاً عظيماً حين توجه إلى الكعبة بأمر ربه( ).

أهل الكتاب يعلمون أن تحويل القبلة حق ولكنهم أرادوا فتنة المؤمنين( ).

إن ما كان من عند الله فهو حق، لقوله تعالى: ﴿ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ مضافاً إلى الله: ﴿ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ ( ).

﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ بل يحفظ عليهم أعمالهم، ويجازيهم عليها، وفيها وعيد للمعترضين، وتسلية للمؤمنين( ).

انتفاء غفلة الله عزّ وجلّ عن أعمالهم المتضمن لكمال علمه، وإحاطته بهم، ولا يكفي أن نقول: انتفاء الغفلة فقط، بل نقول: المتضمن لكمال العلم، والإحاطة، لقوله تعالى: ﴿ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾( ).

﴿أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ﴾ أي: بكل برهان ودليل يوضح قولك ويبين ما تدعو إليه( ).

كان الرسول حريصاً على هداية الخلق، لأن قوله تعالى: ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ ﴾ دليل على أنه كان يعرض الآيات، ويبين الحقائق، ولكن لا ينتفعون بها( ).

﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ أي: ما تبعوك، لأن اتباع القبلة، دليل على اتباعه، ولأن السبب هو شأن القبلة، وإنما كان الأمر كذلك، لأنهم معاندون، عرفوا الحق وتركوه، فالآيات إنما تفيد وينتفع بها من يتطلب الحق، وهو مشتبه عليه، فتوضح له الآيات البينات، وأما من جزم بعدم اتباع الحق، فلا حيلة فيه( ).

شدة عناد هؤلاء الذين أوتوا الكتاب، وأنهم مهما أوتوا من الآيات فإنهم لن ينصاعوا لها، ولن يتبعوها( ).

﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ أبلغ من قوله: "وَلا تَتَّبِعْ "لأن ذلك يتضمن أنه صلى الله عليه وسلم اتصف بمخالفتهم، فلا يمكن وقوع ذلك منه( ).

﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ إنما قال: "أهواءهم "ولم يقل "دينهم "لأن ما هم عليه مجرد أهوية  نفس، حتى هم في قلوبهم يعلمون أنه ليس بدين، ومن ترك الدين، اتبع الهوى ولا محالة، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾( ).

إن الذين أوتوا الكتاب لن يتبعوا قبلة الرسول وإذا كان كذلك فلن يتبعوا دينه، لأن القبلة بعض الدين، فمتى كفروا بها فهو كفر بالدين كله( ).

الكعبة قبلة للمسلمين خاصة، لأنه تعالى أضاف استقبالها إليهم، ولكن الظاهر ــــ والله أعلم ــــ أن الكعبة قبلة لكل الأنبياء، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّأَوَّلَبَيْتٍوُضِعَلِلنَّاسِلَلَّذِيبِبَكَّةَمُبَارَكًا ﴾ ( )، وهكذا قال شيخ الإسلام: إن المسجد الحرام قبلة لكل الأنبياء، لكن أتباعهم من اليهود، والنصارى هم الذين بدلوا هذه القبلة( ).

إذا وصل العبد الضعيف إلى مجلس الملك العظيم، فإنه لا بدّ أن يستقبله بوجهه، وألا يكون معرضاً عنه، وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه، ويبالغ في الخدمة والتضرع له، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقلاً للملك لا معرضاً عنه، والقراءة والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة( ).

المقصود من الصلاة حضور القلب، وهذا الحضور لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات والحركة، وهذا لا يتأتى إلا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين، فإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف كان استقبال تلك الجهة أولى( ).

يحب الله تعالى الألفة بين المؤمنين، وقد ذكر المنة بها عليهم حيث قال: ﴿واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ﴾ ( )  ولو توجّه كل واحد في صلاته إلى ناحية، لكان ذلك يوهم اختلافاً ظاهراً، فعيّن الله تعالى لهم جهة معلومة، وأمرهم جميعاً بالتوجه نحوها، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك.

خصْ الله تعالى الكعبة بإضافتها إليه في قوله: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾( )وخصّ المؤمنين بإضافتهم بصفة العبودية إليه ﴿ياعبادي﴾( )، وكلتا الإضافتين للتخصيص والتكريم، فكأنه تعالى قال: يا مؤمن أنتَ عبدي، والكعبة بيتي، والصلاة خدمتي، فأقبلْ بوجهك في خدمتي إلى بيتي، وبقلبك إليّ..) ( ).

يستحيل شرعاً أن يتبع المسلم طريقة اليهود، والنصارى، لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ﴾، وجه الاستحالة: أن الجملة جاءت بالاسمية المؤكدة بحرف الجر في سياق النفي( ).

اليهود والنصارى لا يتبع بعضهم بعضاً، بل يضلل بعضهم بعضاً ( ).

اتباع اليهود والنصارى اتباع للهوى لا للهدى، لقوله تعالى: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾.

الإنسان قد يتابع غيره جهلاً، فلا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد قيام الحجة، لقوله تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾، ولا يعتبر من﴿الظَّالِمِينَ﴾ إلا لمن عرف الحق وخالفه( ).

﴿إِنَّكَ إِذًا﴾ أي: إن اتبعتهم،﴿لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي: داخل فيهم، ومندرج في جملتهم، وأي ظلم أعظم، من ظلم، من علم الحق والباطل، فآثر الباطل على الحق، وهذا، وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم، فإن أمته داخلة في ذلك( ).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسمالرابع والأربعون: الآية 146-150

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يَكْتُمُونَ: يخفون.

الْمُمْتَرِينَ: الشاكين المترددين.

وِجْهَةٌ: قبلة.

مُوَلِّيهَا: مائل إليها بوجهه.

علماء أهل الكتاب المعاصرون للنبي يعرفون أنه النبي المبشر به معرفة تامة، وذلك كما جاء في كتبهم، كما قال الله ــــ تبارك وتعالى: ﴿ الَّذِينَيَتَّبِعُونَالرَّسُولَالنَّبِيَّالْأُمِّيَّالَّذِييَجِدُونَهُمَكْتُوبًاعِنْدَهُمْفِيالتَّوْرَاةِوَالْإِنْجِيلِيَأْمُرُهُمْبِالْمَعْرُوفِوَيَنْهَاهُمْعَنِالْمُنْكَرِوَيُحِلُّلَهُمُالطَّيِّبَاتِوَيُحَرِّمُعَلَيْهِمُالْخَبَائِثَوَيَضَعُعَنْهُمْإِصْرَهُمْوَالْأَغْلَالَالَّتِيكَانَتْعَلَيْهِمْ ﴾( ).

لا عذر ولا حجة لأهل الكتاب في إنكارهم رسالة النبي لأنهم أوتوا من وصفه ما يعرفونه به كما يعرفون أبناءهم.

بيان أن تعلق الإنسان بالابن أقوى من تعلقه بالبنت، لقوله تعالى: ﴿ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾، فهو يعرف الابن أكثر مما يعرف البنت لقوة تعلقه به.

الاحتراس في القرآن الكريم، حيث قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ﴾، لأن كتمان الحق لم يكن من جميعهم، بل من فريق منهم، وطائفة أخرى لا تكتم الحق، فإن من النصارى من آمن، كالنجاشي، ومن اليهود ــــ كعبد الله بن سلام ــــ مَن آمن، ولم يكتم الحق( ).

﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي: هذا الحق الذي هو أحق أن يسمى حقا من كل شيء، لما اشتمل عليه من المطالب العالية، والأوامر الحسنة، وتزكية النفوس وحثها على تحصيل مصالحها، ودفع مفاسدها، لصدوره من ربك، الذي من جملة تربيته لك أن أنزل عليك هذا القرآن الذي فيه تربية العقول والنفوس، وجميع المصالح( ).

إن ما جاء من عند الله فهو حق، لقوله تعالى: ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴾.

ما دام الحق من الله فإنه يجب أن يؤمن الإنسان به، وأن لا يلحقه في ذلك شك، ولا مرية( ).

كل شيء خالف ما جاء عن الله فهو باطل، لقوله تعالى: ﴿ فَمَاذَابَعْدَالْحَقِّإِلَّاالضَّلَالُفَأَنَّىتُصْرَفُونَ ﴾( ).

تقوية الرسول على ما هو عليه من الحق ــــ وإن كتمه أهل الكتاب ــــ لأن الإنسان بشر، لما أنكر هؤلاء الذين أوتوا الكتاب الحق قد يعتري الإنسان شيء من الشبهة ــــ وإن كان بعيداً، فبين الله سبحانه وتعالى أن ما جاء به هو الحق، لقوله تعالى: ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴾ ( ).

عناية الله سبحانه وتعالى بالنبي بذكره بالربوبية الخاصة، لقوله تعالى: ﴿ مِنْ رَبِّكَ ﴾.

﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أي: فلا يحصل لك أدنى شك وريبة فيه، بل تفكَّر فيه وتأمل، حتى تصل بذلك إلى اليقين، لأن التفكر فيه لا محالة، دافع للشك، موصل لليقين( ).

الشك ينافي الإيمان، لقوله تعالى: ﴿ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾.

عناية الله سبحانه وتعالى بالرسول بالتثبيت، لأن قوله تعالى له: ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴾ يقتضي ثباته عليه، وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾يقتضي استمراره على هذا الثبات، ولا شك أن في هذا من تأييد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتثبيته ما هو ظاهر( ).

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ٌ﴾ أي: كل أهل دين وملة، له وجهة يتوجه إليها في عبادته، وليس الشأن في استقبال القبلة، فإنه من الشرائع التي تتغير بها الأزمنة والأحوال، ويدخلها النسخ والنقل، من جهة إلى جهة، ولكن الشأن كل الشأن، في امتثال طاعة الله، والتقرب إليه، وطلب الزلفى عنده( ).

قوله تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ ﴾ يشمل الوجهة الشرعية، والوجهة القدرية ( ).

وجوب المسابقة إلى الخير، لقوله تعالى: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾.

﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها، يتضمن فعلها، وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل، من صلاة، وصيام، وزكوات وحج، عمرة، وجهاد، ونفع متعد وقاصر( ).

الأمر يقتضي الفورية، لأن الاستباق إلى الخير لا يكون إلا بالمبادرة إلى فعله، فهذه الآية مما يستدل به على أن الأمر المطلق للفورية.

﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات﴾ يشمل الاستباق إليها، والاستباق فيها، أي إذا وصلت إلى الخير فلا تقف، بل كن في نفس فعلك الخير مسابقاً، وهذا يشبهه قوله تعالى: ﴿اهْدِنَاالصِّرَاطَالْمُسْتَقِيمَ﴾ فالمطلوب أن يصل الإنسان إلى الصراط، ويستمر فيه، ولهذا قال تعالى: ﴿ اهْدِنَاالصِّرَاطَالْمُسْتَقِيمَ ﴾ ( ).

عنَّ أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَجِّرِ إِلَى الصَّلَاةِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي الْبَدَنَةَ، ثُمَّ الَّذِي عَلَى إِثْرِهِ كَالَّذِي يُهْدِي الْبَقَرَةَ، ثُمَّ الَّذِي عَلَى إِثْرِهِ كَالَّذِي يُهْدِي الْكَبْشَ، ثُمَّ الَّذِي عَلَى إِثْرِهِ كَالَّذِي يُهْدِي الدَّجَاجَةَ، ثُمَّ الَّذِي عَلَى إِثْرِهِ كَالَّذِي يُهْدِي الْبَيْضَةَ"( ).

إحاطة الله تعالى بالخلق أينما كانوا، لقوله تعالى: ﴿ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا ﴾.

﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ﴾ فيجمعكم ليوم القيامة بقدرته، فيجازي كل عامل بعمله( ).

الإشارة إلى البعث، لأن الإتيان بالجميع يكون يوم القيامة( ).

إثبات عموم قدرة الله عزّ وجلّ، لقوله تعالى﴿ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

وجوب التوجه إلى المسجد الحرام أينما كان الإنسان، لقوله تعالى: ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾.

﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ في أسفارك وغيرها، وهذا للعموم، ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي: جهته( ).

تكرار الأمر الهام لتثبيته، والثبات عليه، ودفع المعارضة فيه، لأنه كلما كرر كان مقتضاه أن الأمر ثابت محكم يجب الثبوت عليه، وكون المسلمين ينقلون من وجهة إلى وجهة في القبلة أمر هام له شأن عظيم، ولهذا ارتد من ارتد من الناس حين حوِّلت القبلة( ).

إثبات حرمة المسجد الحرام، وتعظيمه، لقوله تعالى: ﴿ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾( ).

﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ أكده بـ "إن "واللام، لئلا يقع لأحد فيه أدنى شبهة، ولئلا يظن أنه على سبيل التشهي لا الامتثال( ).

التوجه إلى الكعبة هو الحق، لقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴾ فأثبت فيه الحقية مؤكداً بـ ﴿إن﴾، واللام( ).

﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم، فتأدبوا معه، وراقبوه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فإن أعمالكم غير مغفول عنها، بل مجازون عليها أتم الجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر( ).

وجوب استقبال الكعبة أينما كان الإنسان، قال أهل العلم: من أمكنه مشاهدة الكعبة فالواجب إصابة عينها، ومن لم تمكنه كفى استقبال جهتها، لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوااللهَمَااسْتَطَعْتُمْ ﴾ ( ).

﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ أي: شرعنا لكم استقبال الكعبة المشرفة، لينقطع عنكم احتجاج الناس من أهل الكتاب والمشركين، فإنه لو بقي مستقبلا بيت المقدس، لتوجهت عليه الحجة، فإن أهل الكتاب، يجدون في كتابهم أن قبلته المستقرة، هي الكعبة البيت الحرام، والمشركون يرون أن من مفاخرهم، هذا البيت العظيم، وأنه من ملة إبراهيم، وأنه إذا لم يستقبله محمد صلى الله عليه وسلم، توجهت نحوه حججهم، وقالوا: كيف يدعي أنه على ملة إبراهيم، وهو من ذريته، وقد ترك استقبال قبلته؟( ).

أن الظالم لا يدفع ملامته شيء، بمعنى أنه سيلوم وإن لم يكن محل لوم، لقوله تعالى: ﴿ إِلَّاالَّذِينَظَلَمُوامِنْهُمْ ﴾.

﴿فَلَاتَخْشَوْهُمْوَاخْشَوْنِي﴾يعني مهما قال الذين ظلموا من كلام، ومهما قالوا من زخارف القول، ومهما ضايقوا من المضايقات فلا تخشوهم؛ و «الخشية»، و «الخوف» متقاربان؛ إلا أن أهل العلم يقولون: إن الفرق أن «الخشية» لا تكون إلا عن علم؛ لقوله تعالى﴿إِنَّمَايَخْشَىاللهَمِنْعِبَادِهِالْعُلَمَاءُ﴾ ( ) بخلاف «الخوف»: فقد يخاف الإنسان من المخوف وهو لا يعلم عن حاله؛ والفرق الثاني: أن «الخشية» تكون لعظم المخشيّ؛ و «الخوف» لضعف الخائف( ).

﴿فَلَاتَخْشَوْهُمْ﴾يُرِيدُ النَّاسَ﴿وَاخْشَوْنِي﴾الْخَشْيَةُ أَصْلُهَا طُمَأْنِينَةٌ فِي الْقَلْبِ تَبْعَثُ عَلَى التَّوَقِّي. وَالْخَوْفُ: فَزَعُ الْقَلْبِ تَخِفُّ لَهُ الْأَعْضَاءُ، وَلِخِفَّةِ الْأَعْضَاءِ بِهِ سُمِّيَ خَوْفًا. وَمَعْنَى الْآيَةِ التَّحْقِيرُ لِكُلِّ مَنْ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَمْرُ بِاطِّرَاحِ أَمْرِهِمْ وَمُرَاعَاةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى( ).

﴿وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ أصل النعمة، الهداية لدينه، بإرسال رسوله، وإنزال كتابه، ثم بعد ذلك، النعم المتممات لهذا الأصل، لا تعد كثرة، ولا تحصر، منذ بعث الله رسوله إلى أن قرب رحيله من الدنيا، وقد أعطاه الله من الأحوال والنعم، وأعطى أمته، ما أتم به نعمته عليه وعليهم( ).

﴿وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ الْهِدَايَةُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَقِيلَ: دُخُولُ الْجَنَّةِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَلَمْ تَتِمَّ نِعْمَةُ الله على عبد حتى يدخله الجنة( ).

 

 

 

 

 

 

 

القسمالخامس والأربعون: الآية 151-157

 

 

 

 

 

 

 

 

يُزَكِّيكُمْ: يطهركم من الشرك، ويرفع من اخلاقكم.

الْحِكْمَةَ: سنة رسول الله ، أو حسن الفهم عنه.

بِالصَّبْرِ: بتوطين النفس على احتمال المكاره.

لَنَبْلُوَنَّكُمْ: لنختبركم ونمتحنكم.

مُصِيبَةٌ  ومصابة ومصوبة: الأمر المكروه يحلّ بالإنسان.

صَلَواتٌ: ترحّم رحمة بعد رحمة، ومرّة بعد أخرى.

بيان نعمة الله تعالى علينا بإرسال الرسول لقوله تعالى: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا ﴾.( )

﴿كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ﴾رَسُولًا تَعْرِفُونَهُ بِالصِّدْقِ فَاذْكُرُونِي بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ( ).

﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ وهذا يعم الآيات القرآنية وغيرها، فهو يتلو عليكم الآيات المبينة للحق من الباطل، والهدى من الضلال، التي دلتكم أولا على توحيد الله وكماله، ثم على صدق رسوله، ووجوب الإيمان به، ثم على جميع ما أخبر به من المعاد والغيوب، حتى حصل لكم الهداية التامة، والعلم اليقيني( ).

بلَّغ النبي جميع ما أوحي إليه على وجه الكمال، لقوله تعالى: ﴿ يَتْلُوعَلَيْكُمْآيَاتِنَا ﴾.( )

من فوائد رسالة النبي حصول العلم،لأن هذه الآيات كلها علم، لقوله تعالى: ﴿ يَتْلُوعَلَيْكُمْآيَاتِنَا ﴾.

الشريعة التي جاء بها النبي كلها تزكية للأمة، وتنمية لأخلاقها، ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ولهذا قال تعالى:﴿ وَيُزَكِّيكُمْ ﴾.

﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ أي: يطهر أخلاقكم ونفوسكم، بتربيتها على الأخلاق الجميلة، وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة، وذلك كتزكيتكم من الشرك، إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن الخيانة إلى الأمانة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق، ومن التباغض والتهاجر والتقاطع، إلى التحاب والتواصل والتوادد، وغير ذلك من أنواع التزكية( ).

وظيفة الرسول ومهمته التي جاء بها أنه يعلمنا الكتاب والحكمة.

اشتمال الشريعة على الحكمة، لقوله تعالى:﴿ وَيُعَلِّمُكُمُالْكِتَابَوَالْحِكْمَةَ ﴾( ).

﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ﴾ أي: القرآن، ألفاظه ومعانيه، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ قيل: هي السنة، وقيل: الحكمة، معرفة أسرار الشريعة والفقه فيها، وتنزيل الأمور منازلها( ).

الأصل في الإنسان الجهل، لقوله تعالى﴿ وَيُعَلِّمُكُمْمَالَمْتَكُونُواتَعْلَمُونَ ﴾( ).

فضل الله عزّ وجلّ، حيث علمنا ما لم نكن نعلم، لقوله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُكُمْمَالَمْتَكُونُواتَعْلَمُونَ ﴾، وهذا عام في كل ما نحتاج إلى العلم به من أمور الدنيا، والآخرة( ).

﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ اذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ أَيْضًا: الذِّكْرُ طَاعَةُ اللَّهِ، فَمَنْ لَمْ يُطِعْهُ لَمْ يَذْكُرْهُ وَإِنْ أَكْثَرَ التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ( ).

وجوب ذكر الله(مطلق الذكر) لقوله تعالى:﴿فَاذْكُرُونِي﴾.

﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ فأمر تعالى بذكره، ووعد عليه أفضل جزاء، وهو ذكره لمن ذكره، وذكر الله تعالى، أفضله، ما تواطأ عليه القلب واللسان، وهو الذكر الذي يثمر معرفة الله ومحبته، وكثرة ثوابه، والذكر هو رأس الشكر( ).

وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَذْكُرُ اللَّهَ إِلَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَذْكُرُهُ مُؤْمِنٌ إِلَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَلَا يَذْكُرُهُ كَافِرٌ إِلَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ بعذاب( ).

مَنْ ذَكر الله ذكره الله، لقوله تعالى: ﴿ أَذْكُرْكُمْ ﴾، وكون الله يذكرك أعظم من كونك تذكره، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» ( ).

وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ مِنْ عَمَلٍ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ( ).

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَنْبِئْنِي مِنْهَا بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: (لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) ( ).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ) ( ).

الأصل ذكر القلب،لقوله تعالى: ﴿ وَلَاتُطِعْمَنْأَغْفَلْنَاقَلْبَهُعَنْذِكْرِنَاوَاتَّبَعَهَوَاهُ ﴾ ( )،وقوله: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، وصفة الذكر بالقلب التفكر في آيات الله، ومحبته، وتعظيمه، والإنابة إليه، والخوف منه، والتوكل عليه، وما إلى ذلك من أعمال القلوب.

ذكر الله باللسان يكونبالنطق بكل قول يقرب إلى الله، وأعلاه قول: «لا إله إلا الله».

ذكر الله بالجوارح فيكون بكل فعل يقرب إلى الله: كالصلاة، والركوع، والسجود، والجهاد، والزكاة.

﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾فَشُكْرُ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِذِكْرِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَشُكْرُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ لِلْعَبْدِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِطَاعَتِهِ لَهُ، إِلَّا أَنَّ شُكْرَ الْعَبْدِ نُطْقٌ بِاللِّسَانِ وَإِقْرَارٌ بِالْقَلْبِ بِإِنْعَامِ الرَّبِّ مَعَ الطَّاعَاتِ( ).

وجوب الشكر، لقوله تعالى: ﴿ وَاشْكُرُوالِي﴾، و «الشكر» يكون بالقلب، وباللسان، وبالجوارح( ).

﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ أي: على ما أنعمت عليكم بهذه النعم، ودفعت عنكم صنوف النقم، والشكر يكون بالقلب، إقرارا بالنعم، واعترافا، وباللسان، ذكرا وثناء، وبالجوارح، طاعة لله وانقيادا لأمره، واجتنابا لنهيه، فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة، وزيادة في النعم المفقودة( ).

الشكر بالقلب أن يعتقد الإنسان بقلبه أن هذه النعمة من الله عزّ وجلّ وحده.

الشكر باللسان فيكونبالتحدث بنعم الله لا افتخاراً، بل شكراً، قال الله تعالى: ﴿ وَأَمَّابِنِعْمَةِرَبِّكَفَحَدِّثْ ﴾( )، وقال رسول الله : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر»( ).

قال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ﴾ وفي الإتيان بالأمر بالشكر بعد النعم الدينية، من العلم وتزكية الأخلاق والتوفيق للأعمال، بيان أنها أكبر النعم، بل هي النعم الحقيقية؟ التي تدوم، إذا زال غيرها وأنه ينبغي لمن وفقوا لعلم أو عمل، أن يشكروا الله على ذلك، ليزيدهم من فضله، وليندفع عنهم الإعجاب، فيشتغلوا بالشكر( ).

الشكر بالجوارح يكون بطاعة الله، وصرف هذه النعمة لما جُعِلَت لها.

وجوب ملاحظة الإخلاص في الشكر، لأن الشكر طاعة، والطاعة لا بد فيها من الإخلاص، كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْكَانَيَرْجُوالِقَاءَرَبِّهِفَلْيَعْمَلْعَمَلًاصَالِحًاوَلَايُشْرِكْبِعِبَادَةِرَبِّهِأَحَدًا ﴾ ( ).

﴿وَلا تَكْفُرُونِ﴾أَيْ لَا تَكْفُرُوا نِعْمَتِي وَأَيَادِيَّ. فَالْكُفْرُ هُنَا سَتْرُ النِّعْمَةِ لَا التَّكْذِيبُ( ).

ولما كان الشكر ضده الكفر، نهى عن ضده فقال: ﴿وَلا تَكْفُرُونِ﴾ المراد بالكفر هاهنا ما يقابل الشكر، فهو كفر النعم وجحدها، وعدم القيام بها، ويحتمل أن يكون المعنى عاما، فيكون الكفر أنواعا كثيرة، أعظمه الكفر بالله، ثم أنواع المعاصي، على اختلاف أنواعها وأجناسها، من الشرك، فما دونه( ).

تحريم كفر النعمة، لقوله تعالى: ﴿وَلا تَكْفُرُونِ﴾ ولهذا إذا أنعم الله على عبده نعمة فإنه يحب أن يرى أثر نعمته عليه( ).

﴿ وَاشْكُرُوالِي﴾، معناه استعينوا بنعمتي على طاعتي.

﴿وَلا تَكْفُرُونِ﴾ معناه لا تستعينوا بنعمتي على معصيتي.

فضيلة الإيمان، وأنه من أشرف أوصاف الإنسان، لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... ﴾.

الاستعانة بالصلاة من مقتضيات الإيمان، لقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَاالَّذِينَآمَنُوااسْتَعِينُوابِالصَّبْرِوَالصَّلَاةِ ﴾.

الصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر، فلا سبيل لغير الصابر، أن يدرك مطلوبه، خصوصا الطاعات الشاقة المستمرة، فإنها مفتقرة أشد الافتقار، إلى تحمل الصبر، وتجرع المرارة الشاقة، فإذا لازم صاحبها الصبر، فاز بالنجاح، وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملازمة عليها، لم يدرك شيئا، وحصل على الحرمان، وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محل قدرة العبد، فهذه لا يمكن تركها إلا بصبر عظيم( ).

بيان الآثار الحميدة للصلاة، وأن من آثارها الحميدة أنها تعين العبد في أموره( ).

أمر تعالى بالاستعانة بالصلاة لأن الصلاة هي عماد الدين، ونور المؤمنين، وهي الصلة بين العبد وبين ربه، فإذا كانت صلاة العبد صلاة كاملة، مجتمعا فيها ما يلزم فيها، وما يسن، وحصل فيها حضور القلب، الذي هو لبها فصار العبد إذا دخل فيها، استشعر دخوله على ربه، ووقوفه بين يديه، موقف العبد الخادم المتأدب، مستحضرا لكل ما يقوله وما يفعله، مستغرقا بمناجاة ربه ودعائه( ).

جواز الاستعانة بغير الله فيما يمكن أن يعين فيه، لقوله تعالى: ﴿اسْتَعِينُوابِالصَّبْرِوَالصَّلَاةِ ﴾  وجاء في الحديث: «وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة»( ).

﴿مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ أي: مع من كان الصبر لهم خلقا، وصفة، وملكة بمعونته وتوفيقه، وتسديده، فهانت عليهم بذلك، المشاق والمكاره، وسهل عليهم كل عظيم، وزالت عنهم كل صعوبة، وهذه معية خاصة، تقتضي محبته ومعونته، ونصره وقربه( ).

إن في الصبر تنشيطاً على الأعمال، والثبات عليها، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّاللهَمَعَالصَّابِرِينَ ﴾( )..

إثبات معية الله سبحانه وتعالى( ).

﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ﴾وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُحْيِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ لِيَرْزُقَهُمْ- عَلَى مَا يَأْتِي- فَيَجُوزُ أَنْ يُحْيِيَ الْكُفَّارَ لِيُعَذِّبَهُمْ، وَيَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ. وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الشُّهَدَاءِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ فَرْقٌ إِذْ كُلُّ أَحَدٍ سَيَحْيَا. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ"( ).

﴿ وَلَاتَقُولُوالِمَنْيُقْتَلُفِيسَبِيلِاللهِأَمْوَاتٌبَلْأَحْيَاءٌ ﴾ النهي عن القول بأن الذين قتلوا في سبيل الله أموات، وهو يشمل القول بالقلب - وهو الاعتقاد، والقول باللسان - وهو النطق( ).

أخبر تعالى: أن من قتل في سبيله، بأن قاتل في سبيل الله، لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه الظاهر، لا لغير ذلك من الأغراض، فإنه لم تفته الحياة المحبوبة، بل حصل له حياة أعظم وأكمل، مما تظنون وتحسبون.

فالشهداء ﴿ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾( ).

إثبات حياة الشهداء، لكنها لا تماثل حياة الدنيا، بل هي أجلّ، وأعظم، ولا تعلم كيفيتها( ).

ثواب الله سبحانه وتعالى للعامل أجلُّ، وأعلى، وذلك، لأن الشهيد عرض نفسه للموت ابتغاء ثواب الله، فأثابه الله، حيث جعله حياً بعد موته حياة.

إثبات نعيم القبر، لقوله تعالى: ﴿ بَلْأَحْيَاءٌ ﴾.

أرواح الشهداء في أجواف طيور  خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. وفي هذه الآية، أعظم حث على الجهاد في سبيل الله، وملازمة الصبر عليه( ).

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ لنمتحننكم لِنَعْلَمَ الْمُجَاهِدَ وَالصَّابِرَ عِلْمَ مُعَايَنَةٍ حَتَّى يَقَعَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا ابْتُلُوا بِهَذَا لِيَكُونَ آيَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا صَبَرُوا عَلَى هَذَا حِينَ وَضَحَ لَهُمُ الْحَقُّ. وَقِيلَ: أَعْلَمَهُمْ بِهَذَا لِيَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْهُ أَنَّهُ يُصِيبُهُمْ، فَيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ فَيَكُونُوا أَبْعَدَ لَهُمْ مِنَ الْجَزَعِ، وَفِيهِ تَعْجِيلُ ثَوَابِ الله تعالى على العزم وتوطين النفس( ).

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن، ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان، ولم يحصل معها محنة، لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر. هذه فائدة المحن، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان، ولا ردهم عن دينهم، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين( ).

 

ابتلاء العباد بما ذكر الله من الخوف، والجوع، ونقص الأموال، والأنفس، والثمرات، لقوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾( ).

﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ من الأعداء ﴿وَالْجُوعِ﴾ أي: بشيء يسير منهما؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله، أو الجوع، لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك( ).

 

﴿مِنَ الْخَوْفِ﴾أَيْ خَوْفِ الْعَدُوِّ وَالْفَزَعِ فِي الْقِتَالِ، قَالَهُ ابن عباس. وقال الشافعي: هو خوف اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ( ).

﴿وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ﴾ وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية، وغرق، وضياع، وأخذ الظلمة للأموال من الملوك الظلمة، وقطاع الطريق وغير ذلك( ).

﴿وَالْجُوعِ﴾يَعْنِي الْمَجَاعَةَ بِالْجَدْبِ وَالْقَحْطِ، فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ الْجُوعُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ( ).

﴿وَالأنْفُسِ﴾ أي: ذهاب الأحباب من الأولاد، والأقارب، والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد، أو بدن من يحبه( ).

﴿وَالْأَنْفُسِ﴾قَالَ ابن عباس: بالقتل والموت فِي الْجِهَادِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي بِالْأَمْرَاضِ( ).

﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾ أي: الحبوب، وثمار النخيل، والأشجار كلها، والخضر ببرد، أو برد، أو حرق، أو آفة سماوية، من جراد ونحوه( ).

﴿وَالثَّمَراتِ﴾  قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُرَادُ مَوْتُ الْأَوْلَادِ، وَوَلَدُ الرَّجُلِ ثَمَرَةُ قَلْبِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ قِلَّةُ النَّبَاتِ وَانْقِطَاعُ الْبَرَكَاتِ( ).

﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب، فالصابرين، هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة( ).

﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾وَالصَّبْرُ صَبْرَانِ: صَبْرٌ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَهَذَا مُجَاهِدٌ، وَصَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، فَهَذَا عَابِدٌ. فَإِذَا صَبَرَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَصَبَرَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ أَوْرَثَهُ اللَّهُ الرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَعَلَامَةُ الرِّضَا سُكُونُ الْقَلْبِ بِمَا وَرَدَ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمَحْبُوبَاتِ( ).

﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ أَيْ بِالثَّوَابِ عَلَى الصَّبْرِ. وَالصَّبْرُ أَصْلُهُ الْحَبْسُ، وَثَوَابُهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ. لَكِنْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى) ( ).

من سمة الصابرين تفويض أمرهم إلى الله بقلوبهم، وألسنتهم إذا أصابتهم المصائب، لقوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِالصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَإِذَاأَصَابَتْهُمْمُصِيبَةٌقَالُواإِنَّالِلَّهِوَإِنَّاإِلَيْهِرَاجِعُونَ ﴾ ( ).

﴿مُصِيبَةٌ﴾ الْمُصِيبَةِ: كُلُّ مَا يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ وَيُصِيبُهُ، يُقَالُ: أَصَابَهُ إِصَابَةً وَمُصَابَةً وَمُصَابًا. وَالْمُصِيبَةُ وَاحِدَةُ الْمَصَائِبِ( ).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنُ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ  إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ( ).

قال رَسُولُ اللَّهِ :مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَذَكَرَ مُصِيبَتَهُ فَأَحْدَثَ اسْتِرْجَاعًا وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الأجر مثله يوم أصيب ( ).

احتساب الأجر على المصيبة بأنه كلما عظم المصاب كثر الثواب، ولهذا ذكروا عن بعض العابدات أنها أصيبت بمصيبة، ولم يظهر عليها أثر الجزع، فقيل لها في ذلك، فقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها( ).

﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره( ).

﴿إِنَّا لِلَّهِ﴾تَوْحِيدٌ وَإِقْرَارٌ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْمُلْكِ( ).

﴿قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ﴾ أي: مملوكون لله، مدبرون تحت أمره وتصريفه( ).

﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ﴾إِقْرَارٌ بِالْهَلْكِ، عَلَى أَنْفُسِنَا وَالْبَعْثِ مِنْ قُبُورِنَا، وَالْيَقِينُ أَنَّ رُجُوعَ الْأَمْرِ كُلِّهِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ لَهُ. قَالَ سَعِيدُ ابن جُبَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَمْ تُعْطَ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ نَبِيًّا قَبْلَ نَبِيِّنَا، وَلَوْ عَرَفَهَا يَعْقُوبُ لَمَا قَالَ: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ( ).

فضيلة الاسترجاع عند المصيبة وهو قول: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها" ( ).

﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالصبر المذكور ﴿عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي: ثناء وتنويه بحالهم ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ عظيمة، ومن رحمته إياهم، أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع، علمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به وهو هنا صبرهم لله( ).

﴿أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ"﴾هَذِهِ نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الصَّابِرِينَ الْمُسْتَرْجِعِينَ. وَصَلَاةُ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ: عَفْوُهُ وَرَحْمَتُهُ وَبَرَكَتُهُ وَتَشْرِيفُهُ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْغُفْرَانُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ( ).

الثناء على الصابرين بأنهم هم المهتدون الذين اهتدوا إلى ما فيه رضا الله وثوابه( ).

﴿وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾قِيلَ: إِلَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَإِجْزَالِ الْأَجْرِ، وَقِيلَ: إِلَى تَسْهِيلِ الْمَصَائِبِ وتخفيف الحزن.( )

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسمالسادس والأربعون: الآية 158-160

 

 

 

 

 

 

 

 

الصَّفا وَالْمَرْوَةَ: جبلان بمكّة، والصّفا: جمع صفاة، وهي من الحجارة ممّا صفا من مخالطة التّراب والرّملوالمروة: الأبيض من الحجارة، وقيل: الشديد منها.

حَجَّ الْبَيْتَ: قصده.

شَعَائِرِ: الشعائر: معالم الدّين.

يَلْعَنُهُمُ: اللعنة: الطرد والإبعاد من رحمة الله.

اعْتَمَرَ: أي زار البيت.

جُناحَ: هو الإثم أصله من جنح إذا مال.

أمر جل ثناؤه المؤمنين بالسعي بين الصفا والمروة، عند الحج أو العمرة، وجعل السعي من شعائر دين الله، ومن معالم طاعته، وذلك إحياء لحادثة تاريخية من أروع الذكريات في تاريخ الإنسانية، تلك هي حادثة إسماعيل عليه السلام مع أمه (هاجر) المؤمنة الصابرة، بعد أن تركهما الخليل إبراهيم عليه السلام في مكان قفر ليس فيه أنيس، ولا سمير، ولا ساكن.. تركهما امتثالاً لأمر الله سبحانه في هذه الصحراء الشاسعة الواسعة، التي لا يسكنها أحد، لأنالله عَزَّ وَجَلَّ يريد أن يعمرها بالسكان، ويجعل هذه البقعة المباركة مكاناً لبناء بيته العتيق، ومهوى لأفئدة الملايين من البشر( ).

يخبر تعالى أن الصفا والمروة (وهما معروفان): ﴿مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ أي أعلام دينه ظاهرة، التي تَعَبَّد الله بها عباده، وإذا كانا من شعائر الله، فقد أمر الله بتعظيم شعائره فقال: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ فدل على أنهما من شعائر الله، وأن تعظيم شعائره، من تقوى القلوب ( ).

الطواف بين الصفا، والمروة، يرجح إنه ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به،لأن النبي قال: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» ( ).وقالت عائشة: «والله! ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة» ( ).

تمسّحُ المشركين بالأصنام في الجاهلية عند السعي لا يمنع المؤمنين من السعي بينهما( ).

الطاعة خير، لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾، ولا ريب أن طاعة الله سبحانه وتعالى خير للإنسان في حاله ومآله( ).

وقوله: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ﴾ أي: فعل طاعة مخلصا بها لله تعالى ﴿خَيْرًا﴾ من حج وعمرة، وطواف، وصلاة، وصوم وغير ذلك ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ فدل هذا، على أنه كلما ازداد العبد من طاعة الله، ازداد خيره وكماله، ودرجته عند الله، لزيادة إيمانه( ).

التطوع بالحج والعمرة في غير الفريضة من مظاهر كمال الإيمان( ).

إثبات صفة الشكر، والعلم، لقوله تعالى: ﴿ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾، لأنهما اسمان دالان على الصفة، وعلى الحكم إن كان متعدياً، فقوله تعالى: ﴿ عَلِيمٌ ﴾ يدل على العلم ــــ وهذه هي الصفةــــ، ويدل على الحكم بأنه يعلم كل شيء( ).

﴿وَمَنْتَطَوَّعَخَيْرًافَإِنَّاللهَشَاكِرٌعَلِيمٌ ﴾ وَهُوَ مَا يَأْتِيهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَمَنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ فَإِنَّ اللَّهَ يَشْكُرُهُ. وَشُكْرُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ إِثَابَتُهُ عَلَى الطَّاعَةِ( ).

اليهود والنصارى كتموا صفات النبي لصدّ الناس عن الإيمان به( ).

كتم العلم من كبائر الذنوب، يؤخذ من ترتيب اللعنة على فاعله، والذي يرتب عليه اللعنة لا شك أنه من كبائر الذنوب( ).

﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ﴾ وهم جميع الخليقة، فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة، لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير، يصلي الله عليه وملائكته، حتى الحوت في جوف الماء، لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم، وقربهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله، مضاد لأمر الله، مشاق لله، يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يطمسها  فهذا عليه هذا الوعيد الشديد( ).

أن هؤلاء الكاتمين ملعونون، يلعنهم الله، ويلعنهم اللاعنون، لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَيَلْعَنُهُمُاللهُوَيَلْعَنُهُمُاللَّاعِنُونَ ﴾.

حرمة كتمان العلم وفي الحديث الصحيح: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ( ).

كتم العلم خيانة للأمانة التي جعلها الله في أعناق العلماء( ).

إثبات علو الله، لقوله تعالى: ﴿ مَاأَنْزَلْنَا ﴾، والنزول إنما يكون من أعلى، وعلو الله بذاته ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة( ).

وجوب نشر العلم عند الحاجة إليه.

إن ما أنزل الله من الوحي فهو بيِّن لا غموض فيه، وهدًى لا ضلالة فيه، لقوله تعالى:﴿ مِنَالْبَيِّنَاتِوَالْهُدَىمِنْبَعْدِمَابَيَّنَّاهُلِلنَّاسِفِيالْكِتَابِ ﴾  ( ).

بيان فضل الله عزّ وجلّ على عباده بما أنزله من البينات، والهدى، لأن الناس محتاجون إلى هذا، ولولا بيان الله سبحانه وتعالى وهدايته ما عرف الناس كيف يتوضؤون، ولا كيف يصلون، ولا كيف يصومون، ولا كيف يحجون، ولكن من فضل الله أن الله سبحانه وتعالى بيّن ذلك.

أن الكتب السماوية كلها بيان للناس، لأن قوله تعالى: ﴿ فِيالْكِتَابِ ﴾المراد به الجنس لا العدد، فالله تعالى بين الحق في كل كتاب أنزله، لم يترك الحق غامضاً، بل بينه لأجل أن تقوم الحجة على الخلق، لأنه لو كان الأمر غامضاً لكان للناس حجة في أن يقولوا: ما تبين لنا الأمر.

جواز الدعاء باللعنة على كاتم العلم، لقولهتعالى: ﴿ وَيَلْعَنُهُمُاللَّاعِنُونَ ﴾.

أن توبة الكاتمين للعلم لا تكون إلا بثلاثة شروط:

الأول: التوبة، وهي الرجوع عما حصل من الكتمان.

الثاني: الإصلاح لما فسد بكتمانهم، لأن كتمانهم الحق حصل به فساد.

الثالث: بيان الحق غاية البيان. لقوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾( ).

﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا﴾ أي رجعوا عما هم عليه من الذنوب، ندما وإقلاعا، وعزما على عدم المعاودة،﴿وَأَصْلَحُوا﴾ ما فسد من أعمالهم، فلا يكفي ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن( ).

أن كل ذنب ــــ وإن عظم ــــ إذا تاب الإنسان منه فإن الله سبحانه وتعالى يتوب عليه( ).

﴿التَّوَّابُ﴾ أي: الرجاع على عباده بالعفو والصفح، بعد الذنب إذا تابوا، وبالإحسان والنعم بعد المنع، إذا رجعوا.

﴿الرَّحِيمُ﴾ الذي اتصف بالرحمة العظيمة، التي وسعت كل شيء ومن رحمته أن وفقهم للتوبة والإنابة فتابوا وأنابوا، ثم رحمهم بأن قبل ذلك منهم، لطفا وكرما، هذا حكم التائب من الذنب( ).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسمالسابع والأربعون: الآية 161-164

 

 

 

 

 

 

 

يُنْظَرُونَ: يمهلون.

اخْتِلَافِاللَّيْلِوَالنَّهَارِ: تعاقبهما.

الْفُلْكِ: السفن.

تَصْرِيفِالرِّيَاحِ: توجيهها.

بَثَّ فِيها: فرّق فيها.

دَابَّةٍ: ما يدب وقيل أنها لا تطلق على الإنسان إلا شتما.

الكافر مستحق للعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين.

يشترط لثبوت ذلك أن يموت على الكفر، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾، فلو رجعوا عن الكفر إلى الإسلام ارتفعت عنهم هذه العقوبة( ).

من كفر واستمر على كفره حتى مات ولم يرجع إلى ربه، ولم ينب إليه، ولم يتب عن قريب فأولئك ﴿عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ لأنه لما صار كفرهم وصفا ثابتا، صارت اللعنة عليهم وصفا ثابتا لا تزول، لأن الحكم يدور مع علته، وجودا وعدما( ).

﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: في اللعنة، أو في العذاب والمعنيان.

الكافر يلعنه الكافر، لقوله تعالى: ﴿ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾، وقد أخبر الله تعالى عن أهل النار أنه ﴿ كُلَّمَادَخَلَتْأُمَّةٌلَعَنَتْأُخْتَهَا ﴾( )، وقال تعالى: ﴿ إِذْتَبَرَّأَالَّذِينَاتُّبِعُوامِنَالَّذِينَاتَّبَعُواوَرَأَوُاالْعَذَابَوَتَقَطَّعَتْبِهِمُالْأَسْبَابُ ﴾( )، فالكافر ــــ والعياذ بالله ــــ ملعون حتى ممن شاركه في كفره.

إن العذاب لا يخفف عنهم، ولا يوماً واحداً، ولهذا يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ وَقَالَالَّذِينَفِيالنَّارِلِخَزَنَةِجَهَنَّمَادْعُوارَبَّكُمْيُخَفِّفْعَنَّايَوْمًامِنَالْعَذَابِ ﴾( ).

﴿لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ بل عذابهم دائم شديد مستمر ﴿وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي: يمهلون، لأن وقت الإمهال وهو الدنيا قد مضى، ولم يبق لهم عذر فيعتذرون( ).

أنهم لا ينظرون، إما أنه من النظر، أو من الإنظار، فهم لا يمهلون ولا ساعة واحدة( ).

إله الخلق إله واحد ــــ وهو الله عزّ وجلّ، لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْإِلَهٌوَاحِدٌ ﴾.

﴿إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أي: متوحد منفرد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فليس له  شريك في ذاته، ولا سمي له ولا كفو له، ولا مثل، ولا نظير، ولا خالق، ولا مدبر غيره، فإذا كان كذلك، فهو المستحق لأن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة، ولا يشرك به أحد من خلقه( ).

اختصاص الألوهية بالله عزّ وجلّ، لقوله تعالى: ﴿ لَاإِلَهَإِلَّاهُوَ ﴾ ( ).

﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ المتصف بالرحمة العظيمة، التي لا يماثلها رحمة أحد، فقد وسعت كل شيء وعمت كل حي، فبرحمته وجدت المخلوقات، وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالات، وبرحمته اندفع عنها كل نقمة، وبرحمته عرّف عباده نفسه بصفاته وآلائه، وبيَّن لهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم( ).

إثبات اسم «الإله»، و «الواحد» لله عزّ وجلّ، لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْإِلَهٌوَاحِدٌ ﴾، وقد جاء في قوله تعالى: ﴿ لِلَّهِالْوَاحِدِالْقَهَّارِ ﴾ ( ): فأثبت اسم «الواحد» سبحانه وتعالى.

﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾.ففي هذه الآية، إثبات وحدانية الباري وإلهيته، وتقريرها بنفيها عن غيره من المخلوقين وبيان أصل الدليل على ذلك وهو إثبات رحمته التي من آثارها وجود جميع النعم، واندفاع جميع النقم، فهذا دليل إجمالي على وحدانيته تعالى( ).

كفر النصارى القائلين بتعدد الآلهة، لأن قولهم تكذيب للقرآن، بل وللتوراة، والإنجيل، بل ولجميع الرسل، وقد صح عن النبي أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بيأحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» ( ).

السموات متعددة، لقوله تعالى:﴿ إِنَّفِيخَلْقِالسَّمَاوَاتِ  ﴾.

﴿خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾ في ارتفاعها واتساعها، وإحكامها، وإتقانها، وما جعل الله فيها من الشمس والقمر، والنجوم، وتنظيمها لمصالح العباد( ).

وفي خلق ﴿الأرْضِ﴾ مهادا للخلق، يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها، والاعتبار. ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير، وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها، وحكمته التي بها أتقنها، وأحسنها ونظمها.

﴿الأرْضِ﴾ يشمل ما أودع الله فيها من المنافع، حيث جعلها متضمنة، ومشتملة على جميع ما يحتاج الخلق إليه في حياتهم، وبعد مماتهم( ).

﴿اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ وهو تعاقبهما على الدوام، إذا ذهب أحدهما، خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر، والبرد، والتوسط، وفي الطول، والقصر، والتوسط، وما ينشأ عن ذلك من الفصول، التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم، وجميع ما على وجه الأرض، من أشجار ونوابت، كل ذلك بانتظام وتدبير، وتسخير، تنبهر له العقول( ).

﴿اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ يعني في الإضاءة، والظلمة؛ في الحر، والبرد؛ في النصر، والخذلان؛ في كل شيء يتعلق بالليل، والنهار؛ هذه الليالي، والأيام التي تدور على العالم كم فَنِي فيها من حي! كم فيها من حي! كم عز فيها من ذليل! كم ذل فيها من عزيز! كم حصل فيها من حوادث لا يعلمها إلا الله! هذا الاختلاف كله آيات تدل على تمام سلطان الله عزّ وجلّ، وعلى تفرده بالوحدانية سبحانه وتعالى( ).

﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ وهي السفن والمراكب ونحوها، مما ألهم الله عباده صنعتها، وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها.ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح، التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال، والبضائع التي هي من منافع الناس، وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم( ).

﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تجْرِيَ فِي الْبَحْرِ﴾ ؛ ﴿ وَالْفُلْكِ ﴾ هي السفينة؛ وتطلق على المفرد، كما في هذه الآية؛ وعلى الجمع، كما في قوله تعالى:﴿ حَتَّىإِذَاكُنْتُمْفِيالْفُلْكِوَجَرَيْنَبِهِمْ ﴾( ) و ﴿ تجْرِيَ ﴾ أي تسير؛ ﴿ فِي الْبَحْرِ ﴾ أي في جوف البحر: فالغواصات تجري في البحر بما ينفع الناس وهي في جوفه؛ لأنه يقاتل بها الأعداء، وتحمى بها البلاد؛ وهذا مما ينفع الناس؛ ويجوز أن تكون ﴿في﴾ بمعنى «على» أي على سطح البحر، كقوله تعالى: ﴿ وَمِنْآيَاتِهِالْجَوَارِفِيالْبَحْرِكَالْأَعْلَامِ ﴾( ).

ما تضمنه قوله تعالى: ﴿ فَأَحْيَابِهِالْأَرْضَبَعْدَمَوْتِهَا ﴾ وهي آيات عظيمة دالة على كمال القدرة، والرحمة، والعظمة، وعلى إحياء الله سبحانه وتعالى الموتى( ).

﴿فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ فأظهرت من أنواع الأقوات، وأصناف النبات، ما هو من ضرورات الخلائق، التي لا يعيشون بدونها.أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله، وأخرج به ما أخرج ورحمته، ولطفه بعباده، وقيامه بمصالحهم، وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟ ( ).

﴿وَبَثَّ فِيهَا﴾ أي نشر، وفرق؛ وهي معطوفة على قوله تعالى: ﴿أنزل﴾ أي: وفيما بث في الأرض من كل دابة آيات لقوم يعقلون، ﴿مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾أي من كل ما يدب على الأرض من صغير، وكبير، وعاقل، وبهيم؛ وأتى بـ ﴿كل﴾ لإفادة العموم الشامل لجميع الأجناس، والأنواع، والأفراد؛ ففي الأرض دواب لا يَعلَم بأنواعها، ولا أجناسها - فضلاً عن أفرادها - إلا الذي خلقها سبحانه وتعالى يعلم هذه الأجناس( ).

﴿وَبَثَّ فِيهَا﴾ أي: في الأرض ﴿مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ أي: نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة، ما هو دليل على قدرته وعظمته، ووحدانيته وسلطانه العظيم، وسخرها للناس، ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع.فمنها: ما يأكلون من لحمه، ويشربون من دره، ومنها: ما يركبون، ومنها: ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم، ومنها: ما يعتبر به، ومع  أنه بث فيها من كل دابة، فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم، المتكفل بأقواتهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها( ).

﴿تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ باردة وحارة، وجنوبا وشمالا وشرقا ودبورا وبين ذلك، وتارة تثير السحاب، وتارة تؤلف بينه، وتارة تلقحه، وتارة تدره، وتارة تمزقه وتزيل ضرره، وتارة تكون رحمة، وتارة ترسل بالعذاب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسمالثامن والأربعون: الآية 165-167

 

 

 

 

 

 

 

 

أنْدَادًا: أمثالاً من الأوثان يعبدونها من دون الله.

التّقطّع: التباعد بعد الاتّصال.

الْأَسْبابُ: الوصلات. الواحد سبب ووصلة. وأصل السّبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه، ثم جعل كل ما جرّ شيئا سببا.

تَقَطَّعَتْبِهِمُالْأَسْبَابُ: تفككت الروابط التي كانت بينهم في الدنيا.

كَرَّةً: رجعة إلى الدّنيا.

الحسرة: الندامة والاغتمام على ما فات ولا يمكن ارتجاعه.

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً﴾ وَالْمُرَادُ الْأَوْثَانُ وَالْأَصْنَامُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا كَعِبَادَةِ اللَّهِ مَعَ عَجْزِهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ( ).

محبة الله من العبادة، لأن الله جعل من سوّى غيره فيها مشركاً متخذاً لله نداً، فالمحبة من العبادة، بل هي أساس العبادة، لأن أساس العبادة مبني على الحب، والتعظيم، فبالحب يفعل المأمور، وبالتعظيم يجتنب المحظور، هذا إذا اجتمعا، وإن انفرد أحدهما استلزم الآخر( ).

﴿أَنْداداً﴾الْمُرَادُ بِالْأَنْدَادِ الرُّؤَسَاءُ الْمُتَّبَعُونَ، يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ( ).

﴿مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا﴾أي: نظراء ومثلاء، يساويهم في الله بالعبادة والمحبة، والتعظيم والطاعة( ).

﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾أَيْ يُحِبُّونَ أَصْنَامَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ عَلَى الْحَقِّ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ، وَقَالَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ. أَيْ أَنَّهُمْ مَعَ عَجْزِ الْأَصْنَامِ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ مَعَ قُدْرَتِهِ( ).

وجوب حب الله وحب كل ما يُحب الله عز وجل بحبه تعالى( ).

﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾أي يسؤون بَيْنَ الْأَصْنَامِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَحَبَّةِ( ).

المخلوق ليس ندا لله لأن الله هو الخالق، وغيره مخلوق، والرب الرازق ومن عداه مرزوق، والله هو الغني وأنتم الفقراء، وهو الكامل من كل الوجوه، والعبيد ناقصون من جميع الوجوه، والله هو النافع الضار، والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء، فعلم علما يقينا، بطلان قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا، سواء كان ملكا أو نبيا، أو صالحا، صنما، أو غير ذلك، وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة، والذل التام( ).

من الشرك الحب مع الله تعالى، ومن التوحيد الحب بحب الله عز وجل( ).

المؤمن محب لله عز وجل أكثر من محبة هؤلاء لأصنامهم، لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾( ).

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾أَيْ أَشَدُّ مِنْ حُبِّ أَهْلِ الْأَوْثَانِ لِأَوْثَانِهِمْ وَالتَّابِعِينَ لِمَتْبُوعِهِمْ( ).

مدح الله المؤمنين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ أي: من أهل الأنداد لأندادهم، لأنهم أخلصوا محبتهم له، وهؤلاء أشركوا بها، ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة، الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه، والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا، ومحبته عين شقاء العبد وفساده، وتشتت أمره( ).

﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ﴾الْمَعْنَى لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي الدُّنْيَا عَذَابَ الْآخِرَةِ لَعَلِمُوا حِينَ يرونه أن القوة لله جميعا( ).

﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله، وسعيهم فيما يضرهم( ).

﴿وَلَوْ يَرَى﴾و" يرى" بِمَعْنَى يَعْلَمُ، أَيْ لَوْ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ قُوَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَشِدَّةِ عَذَابِهِ( ).

﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ أي: يوم القيامة عيانا بأبصارهم، ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ أي: لعلموا علما جازما، أن القوة والقدرة لله كلها، وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء، فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها، لا كما اشتبه عليهم في الدنيا، وظنوا أن لها من الأمر شيئا، وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه، فخاب ظنهم، وبطل سعيهم، وحق عليهم شدة العذاب( ).

﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمْ لِلْعَذَابِ لِأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ لَعَلِمْتَ مَبْلَغَهُمْ مِنَ النَّكَالِ وَلَاسْتَعْظَمْتَ مَا حَلَّ بِهِمْ( ).

كلما ازداد إيمان العبد ازدادت محبته لله( ).

شدة عذاب الله عز وجل لهؤلاء الظالمين، لقوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾.

﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾يَعْنِي السَّادَةَ وَالرُّؤَسَاءَ تَبَرَّءُوا مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. عَنْ قَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَالرَّبِيعِ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا وَالسُّدِّيُّ: هُمُ الشَّيَاطِينُ الْمُضِلُّونَ تَبَرَّءُوا مِنَ الْإِنْسِ. وقيل: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَتْبُوعٍ ( ).

المتبوعين بالباطل لا ينفعون أتباعهم، لقوله تعالى: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ﴾، ولو كانوا ينفعونهم لم يتبرؤوا منهم( ).

﴿ إِذْتَبَرَّأَالَّذِينَاتُّبِعُوامِنَالَّذِينَاتَّبَعُواوَرَأَوُاالْعَذَابَوَتَقَطَّعَتْبِهِمُالْأَسْبَابُ﴾تبرأ المتبوعون من التابعين، وتقطعت بينهم الوصل، التي كانت في الدنيا، لأنها كانت لغير الله، وعلى غير أمر الله، ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له، فاضمحلت أعمالهم، وتلاشت أحوالهم( ).

لا يقتصر الأمر على عدم النفع، بل يتعداه إلى البراءة منهم، والتباعد عنهم، وهذا يكون أشد حسرة على الأتباع مما لو كان موقفهم سلبياً( ).

﴿وَرَأَوُا الْعَذابَ﴾يَعْنِي التَّابِعِينَ وَالْمَتْبُوعِينَ، قِيلَ: بِتَيَقُّنِهِمْ لَهُ عِنْدَ المعاينة في الدنيا. وقيل: عند العرض والمسألة فِي الْآخِرَةِ. قُلْتُ: كِلَاهُمَا حَاصِلٌ، فَهُمْ يُعَايِنُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْهَوَانِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَذُوقُونَ أَلِيمَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ ( ).

ثبوت البعث وثبوت العقاب لقوله تعالى: ﴿ وَرَأَوُا الْعَذَابَ ﴾ ( ).

﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ﴾أَيِ الْوُصُلَاتُ الَّتِي كَانُوا يَتَوَاصَلُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا مِنْ رَحِمِ وَغَيْرِهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. الْوَاحِدُ سَبَبٌ وَوُصْلَةٌ. وَأَصْلُ السَّبَبِ الْحَبْلُ يَشُدُّ بِالشَّيْءِ فَيَجْذِبُهُ، ثُمَّ جُعِلَ كُلُّ مَا جَرَّ شَيْئًا سَبَبًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْأَسْبَابَ أَعْمَالَهُمْ ( ).

يجمع الله سبحانه وتعالى يوم القيامة بين الأتباع والمتبوعين توبيخاً، وتنديماً لهم، ويتبرأ بعضهم من بعض، لأن هذا ــــ لا شك ــــ أعظم حسرة إذا صار متبوعه الذي كان يعظمه في الدنيا يتبرأ منه وجهاً لوجه( ).

﴿وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾قَالَ الْأَتْبَاعُ: لَوْ ثَبَتَ أَنَّ لَنَا رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم، وَالتَّبَرُّؤُ الِانْفِصَالُ( ).

﴿وَقَالَالَّذِينَاتَّبَعُوالَوْأَنَّلَنَاكَرَّةًفَنَتَبَرَّأَمِنْهُمْكَمَاتَبَرَّءُوامِنَّا﴾وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرأوا من متبوعيهم، بأن يتركوا الشرك بالله، ويقبلوا على إخلاص العمل لله، وهيهات، فات الأمر، وليس الوقت وقت إمهال وإنظار، ومع هذا، فهم كذبة، فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنما هو قول يقولونه، وأماني يتمنونها، حنقا وغيظا على المتبوعين لما تبرأوا منهم والذنب ذنبهم، فرأس المتبوعين على الشر إبليس، ومع هذا يقول لأتباعه لما قضي الأمر ﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾( ).

يوم القيامة تنحل جميع الروابط من صداقة ونسب ولم تبق إلا رابطة الإيمان والأخوة فيه( ).

جميع الأسباب الباطلة التي لا تُرضي الله ورسوله، تتقطع بأصحابها يوم القيامة، وتزول، ولا تنفعهم( ).

﴿ أَعْمالَهُمْ﴾ أَيِ الْأَعْمَالُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا فَوَجَبَتْ لَهُمْ بِهَا النَّارُ( ).

﴿حَسَراتٍ﴾الحسرة أعلا درجات الندامة على شي فَائِتٍ. وَالتَّحَسُّرُ: التَّلَهُّفُ، يُقَالُ: حَسِرْتُ عَلَيْهِ (بِالْكَسْرِ) أَحْسَرُ حَسَرًا وَحَسْرَةً. وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشَّيْءِ الْحَسِيرِ الَّذِي قَدِ انْقَطَعَ وَذَهَبَتْ قُوَّتُهُ.

﴿ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ دَلِيلٌ عَلَى خُلُودِ الْكُفَّارِ فِيهَا وَأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا. وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ﴾( ).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسمالتاسع والأربعون: الآية 168-171

 

 

 

 

 

 

حَلَالًا: ما أباحه الشرع وأذن في تناوله وهو ضد الحرام.

طَيِّبًا: مستلذاً مستطاباً تقبل النفوس عليه.

خُطُوَاتِ: أثر الشيطان ووساوسه.

أَلْفَيْنا: وجدنا.

يَنْعِقُ: من النعيق وهو الصياح.

إظهار منة الله على عباده، حيث أباح لهم جميع ما في الأرض من حلال طيب، لقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَاالنَّاسُكُلُوامِمَّافِيالْأَرْضِحَلَالًاطَيِّبًا ﴾( ).

﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾هذا خطاب للناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم، فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض، من حبوب، وثمار، وفواكه، وحيوانات( ).

كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَسُمِّيَ الْحَلَالُ حَلَالًا لِانْحِلَالِ عُقْدَةَ الْخَطَرِ عَنْهُ. قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: النَّجَاةُ فِي ثَلَاثَةٍ: أَكْلُ الْحَلَالِ، وَأَدَاءُ الْفَرَائِضِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السَّاجِيُّ وَاسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ: خَمْسُ خِصَالٍ بِهَا تَمَامُ الْعِلْمِ، وَهِيَ: مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالْعَمَلِ عَلَى السُّنَّةِ، وَأَكْلُ الْحَلَالِ، فَإِنْ فُقِدَتْ وَاحِدَةً لَمْ يُرْفَعِ الْعَمَلُ. قَالَ سَهْلٌ: وَلَا يَصِحُّ أَكْلُ الْحَلَالِ إِلَّا بِالْعِلْمِ، وَلَا يَكُونُ الْمَالُ حَلَالًا حَتَّى يَصْفُوَ مِنْ سِتِّ خِصَالٍ: الرِّبَا وَالْحَرَامِ وَالسُّحْتِ- وَهُوَ اسْمٌ مُجْمَلٌ- وَالْغُلُولِ وَالْمَكْرُوهِ وَالشُّبْهَةِ ( ).

﴿حَلالا﴾ أي: محللا لكم تناوله، ليس بغصب ولا سرقة، ولا محصلا بمعاملة محرمة أو على وجه محرم، أو معينا على محرم( ).

الأصل أن ما في الأرض الحل والطيب حتى يتبين أنه حرام( ).

﴿طَيِّبًا﴾ أي: ليس بخبيث، كالميتة والدم، ولحم الخنزير، والخبائث كلها، ففي هذه الآية، دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة، أكلا وانتفاعا، وأن المحرم نوعان: إما محرم لذاته، وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب، وإما محرم لما عرض له، وهو المحرم لتعلق حق الله، أو حق عباده به، وهو ضد الحلال( ).

وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" خُطُواتِ الشَّيْطانِ" أَعْمَالُهُ. مُجَاهِدٌ: خَطَايَاهُ. السُّدِّيُّ: طَاعَتُهُ. أَبُو مِجْلَزٍ: هِيَ النُّذُورُ فِي الْمَعَاصِي. وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا عَدَا السُّنَنَ وَالشَّرَائِـــــــــــــــــــــعَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي ( ).

تحريم اتباع خطوات الشيطان، لقولهتعالى: ﴿ وَلَاتَتَّبِعُواخُطُوَاتِالشَّيْطَانِإِنَّهُلَكُمْعَدُوٌّمُبِينٌ ﴾، ومن ذلك الأكل بالشمال، والشرب بالشمال، لقول النبي : «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله » ( ).

ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به - إذ هو عين صلاحهم - نهاهم عن اتباع ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي: طرقه التي يأمر بها، وهي جميع المعاصي من كفر، وفسوق، وظلم، ويدخل في ذلك تحريم السوائب، والحام، ونحو ذلك، ويدخل فيه أيضا تناول المأكولات المحرمة( ).

القياس الفاسد من خطوات الشيطان، ويعتبرإبليس أول من قاس قياساً فاسداً،عندما أمره الله بالسجود لآدم عارض هذا الأمر بقياس فاسد: قال: ﴿ أَنَاخَيْرٌمِنْهُخَلَقْتَنِيمِنْنَارٍوَخَلَقْتَهُمِنْطِينٍ ﴾( ).

الحسد من خطوات الشيطان، كما قال تعالى: ﴿ وَدَّكَثِيرٌمِنْأَهْلِالْكِتَابِلَوْيَرُدُّونَكُمْمِنْبَعْدِإِيمَانِكُمْكُفَّارًاحَسَدًامِنْعِنْدِأَنْفُسِهِمْ ﴾( ).

جاءت «إن»في قوله تعالى:﴿ إِنَّهُلَكُمْعَدُوٌّمُبِينٌ ﴾ للتوكيد، أيلزيادة تأكيد عداوة الشيطان لبني آدم ( ).

﴿إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ﴾سُمِّيَ السُّوءُ سُوءًا لِأَنَّهُ يَسُوءُ صَاحِبَهُ بِسُوءِ عَوَاقِبِهِ. وَهُوَ مَصْدَرُ سَاءَهُ يَسُوءُهُ سُوءًا وَمُسَاءَةً إِذَا أَحْزَنَهُ. وَسُؤْتُهُ فَسِيءَ إِذَا أَحْزَنْتَهُ فَحَزِنَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾( ).

للشيطان إرادة، وأمراً، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَايَأْمُرُكُمْ ﴾ ( ).

﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ﴾ أي: الشر الذي يسوء صاحبه، فيدخل في ذلك، جميع المعاصي( ).

الشيطان لا يأمر بالخير، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَايَأْمُرُكُمْبِالسُّوءِوَالْفَحْشَاءِ ﴾.

﴿الْفَحْشاءِ﴾ فَكُلُّ مَا نَهَتْ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ فَهُوَ مِنَ الْفَحْشَاءِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْفَحْشَاءِ فَإِنَّهُ الزِّنَى، إِلَّا قَوْلَهُ:" ﴿الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ﴾ فَإِنَّهُ مَنْعُ الزَّكَاةِ ( ).

﴿وَالْفَحْشَاءِ﴾ من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الفحشاء من المعاصي، ما تناهى قبحه، كالزنا، وشرب الخمر، والقتل، والقذف، والبخل ونحو ذلك، مما يستفحشه من له عقل ( ).

جاءت﴿ إِنَّمَا ﴾ في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَايَأْمُرُكُمْبِالسُّوءِوَالْفَحْشَاءِ ﴾ للحصر،أي لحصر الأمر  بالسوء والفحشاء( ).

إذا وقع في قلب الإنسان همّ بالسيئة أو الفاحشة فليعلم أنها من أوامر الشيطان، فليستعذ بالله منه، لقوله تعالى:﴿ وَإِمَّايَنْزَغَنَّكَمِنَالشَّيْطَانِنَزْغٌفَاسْتَعِذْبِاللهِإِنَّهُسَمِيعٌعَلِيمٌ ﴾ ( ).

القول على الله بلا علم من أوامر الشيطان، لقوله تعالى:﴿ وَأَنْتَقُولُواعَلَىاللهِمَالَاتَعْلَمُونَ ﴾.

﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ قَالَ الطَّبَرِيُّ: يُرِيدُ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ  وَنَحْوِهَا مِمَّا جَعَلُوهُ شَرْعًا ( ).

﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ فيدخل في ذلك، القول على الله بلا علم، في شرعه، وقدره، فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه، أو أثبت له ما نفاه عن نفسه، فقد قال على الله بلا علم( ).

ذم التعصب بغير هدى، لقوله تعالى: ﴿ بَلْنَتَّبِعُمَاأَلْفَيْنَاعَلَيْهِآبَاءَنَا ﴾، مع أن آباءهم لا عقل عندهم، ولا هدى( ).

﴿قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا﴾ذَمِّ اللَّهِ تَعَالَى الْكُفَّارَ بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ فِي الْبَاطِلِ، وَاقْتِدَائِهِمْ بِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَهَذَا فِي الْبَاطِلِ صَحِيحٌ، أَمَّا التَّقْلِيدُ فِي الْحَقِّ فَأَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَعِصْمَةٌ مِنْ عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ يَلْجَأُ إِلَيْهَا الْجَاهِلُ الْمُقَصِّرُ عَنْ دَرْكِ النَّظَرِ ( ).

﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ فاكتفوا بتقليد الآباء، وزهدوا في الإيمان بالأنبياء، ومع هذا فآباؤهم أجهل الناس، وأشدهم ضلالا وهذه شبهة لرد الحق واهية، فهذا دليل على إعراضهم عن الحق، ورغبتهم عنه، وعدم إنصافهم، فلو هدوا لرشدهم، وحسن قصدهم، لكان الحق هو القصد، ومن جعل الحق قصده، ووازن بينه وبين غيره، تبين له الحق قطعا، واتبعه إن كان منصفا( ).

من تعصب لمذهب مع مخالفة الدليل ففيه شبه من هؤلاء، والواجب أن الإنسان إذا قيل له: «اتَّبِعمَاأَنْزَلَاللهُ» أن يقول: «سمعنا، وأطعنا»( ).

﴿اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾أَيْ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ ( ).

بيان عناد هؤلاء المستكبرين الذين إذا قيل لهم: ﴿ اتَّبِعُوامَاأَنْزَلَاللهُ ﴾ قالوا: ﴿ قَالُوابَلْنَتَّبِعُمَاأَلْفَيْنَاعَلَيْهِآبَاءَنَا ﴾ دون أن يقيموا برهاناً على صحته( ).

شَبَّهَ تَعَالَى وَاعِظَ الْكُفَّارِ وَدَاعِيهِمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّاعِي الَّذِي يَنْعِقُ بِالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءَهُ وَنِدَاءَهُ، وَلَا تَفْهَمُ مَا يَقُولُ، وَمَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ مِنَ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَفْهَمُ ( ).

كل من خالف الحق، وما أنزل الله فليس بعاقل، وليس عنده هدًى، لقوله تعالى: ﴿ لَايَعْقِلُونَشَيْئًاوَلَايَهْتَدُونَ ﴾ ( ).

﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ أن مثلهم عند دعاء الداعي لهم إلى الإيمان كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها، وليس لها علم بما يقول راعيها ومناديها، فهم يسمعون مجرد الصوت، الذي تقوم به عليهم الحجة، ولكنهم لا يفقهونه فقها ينفعهم، فلهذا كانوا صما لا يسمعون الحق سماع فهم وقبول، عميا لا ينظرون نظر اعتبار، بكما فلا ينطقون بما فيه خير لهم( ).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسمالخمسون: الآية 172-176

 

 

 

 

 

 

 

 

أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ: أي ذكر عند ذبحه اسم غير الله. وأصل الإهلال رفع الصّوت.

عَادٍ: العادي؛ المتجاوز قدر الضرورة.

إِثْمَ: الإثم: الذنب والمعصية.

بِالْهُدَى: بالشرائع التي انزلها الله على لسان أنبيائه عليهم السلام.

شِقَاقٍ: عداء وتنازع.

اضْطُرَّ: ألجئ.

فضيلة الإيمان، حيث وجَّه الله الخطاب إلى المؤمنين، فهم أهل لتوجيه الخطاب إليهم، لقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَاالَّذِينَآمَنُوا ﴾ ( ).

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾هذا أمر للمؤمنين خاصة، بعد الأمر العام، وذلك أنهم هم المنتفعون على الحقيقة بالأوامر والنواهي، بسبب إيمانهم( ).

الأمر بالأكل من طيبات ما رزق الله، لقوله تعالى: ﴿ كُلُوامِنْطَيِّبَاتِمَارَزَقْنَاكُمْ ﴾، وهو للوجوب إن كان الهلاك، أو الضرر بترك الأكل( ).

أباح الباري جل وعلا لعباده المؤمنين تناول الطيبات، وحرّم عليهم الخبائث كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، ونهاهم عن تعذيب النفس وحرمانها من اللذائذ الدنيوية، فإن المشركين وأهل الكتاب حرَّموا على أنفسهم أشياء لم يحرمها الله تعالى كالبحيرة والسائبة( ).

أمرهم بأكل الطيبات من الرزق، والشكر لله على إنعامه، باستعمالها بطاعته، والتقوي بها على ما يوصل إليه، فأمرهم بما أمر به المرسلين في قوله:﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾( ).

الخبائث لا يؤكل منها، لقوله تعالى: ﴿ مِنْطَيِّبَاتِمَارَزَقْنَاكُمْ ﴾، والخبائث محرمة، لقوله تعالى: ﴿ وَيُحَرِّمُعَلَيْهِمُالْخَبَائِثَ ﴾ ( ).

الحكمة من تحريم الميتة لما فيها من الضرر، لأنها إمّا أن تكون ماتت لمرض وعلة، قد أفسد بدنها وجعلها غير صالحة للبقاء والحياة، وإما أن يكون الموت لسببٍ طارئ.فأما الأول فقد خبث لحمها، وتلوث بجراثيم المرض، فيخشى من عدواها، ونقل مرضها إلى الآكلين.وأما الثانية: فلأنّ الموت الفجائي يقتضي بقاء المواد الضارة في جسمها( ).

أمّا ما أهل به لغير الله، فهو محرم لا لعلة فيه، ولكن للتوجه به لغير الله، محرم لعلة روحية، لسلامة القلب، وطهارة الروح، وخلوص الضمير، فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية، وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك»( ).

من اسرار البيان قوله تعالى في سورة البقرة:﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾( )فقدم (به) على (لغير الله)،بينما قال في سورة المائدة:﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾( )،وقال في سورة الأنعام:﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾( )فقدّم (لغير الله) على (به)، ويعود السبب في ذلك، أن في سورة البقرة كان المقام مقام الرزق والطعام بأكل الطيبات قدم (به) والضمير يعود على ما يذبح وهو طعام، أما المقام في آية الإنعام هو في الكلام على المفترين على الله ممن كانوا يشرعون للناس بإسم الله وهم يفترون عليه. والكلام في المائدة أيضاً على التحليل والتحريم ومن بيده ذلك، ورفض أية جهة تحلل وتحرم من غير الله فإن الله هو يحكم ما يريدفقدّم (لغير الله) على (به).( )

ما يحصل عليه المرء من مأكول فإنه من رزق الله، وليس للإنسان فيه إلا السبب فقط، لقوله تعالى: ﴿ مَارَزَقْنَاكُمْ ﴾.

توجيه المرء إلى طلب الرزق من الله عز وجل، لقوله تعالى: ﴿ مَارَزَقْنَاكُمْ ﴾، فإذا كان هذا الرزق من الله سبحانه وتعالى فلنطلبه منه مع فعل الأسباب التي أمرنا بها( ).

كان المذهب الشائع عند النصارى أن أقرب ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى، تعذيب النفس واحتقارها، وحرمانها من جميع الطيبات المستلذة، واعتقاد أنه لا حياة (للروح) إلا بتعذيب الجسد، وكلّ هذه الأحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء، وليس لها أثر في شريعة الله( ).

﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾فالشكر في هذه الآية، هو العمل الصالح، وهنا لم يقل "حلالا "لأن المؤمن أباح الله له الطيبات من الرزق خالصة من التبعة، ولأن إيمانه يحجزه عن تناول ما ليس له( ).

وجوب الشكر لله، لقوله تعالى: ﴿ وَاشْكُرُوالِلَّهِ ﴾ ( ).

تفضل الله على هذه الأمة بجعلها أمة وسطاً، تعطي الجسد حقه، والروح حقها، فأحلّ لنا الطيبات وحرّم علينا الخبائث، وأمرنا بالشكر عليها، ولم يجعلنا (جثمانيين) خلّصاً كالأنعام، ولا (روحانيين) خلصاً كالملائكة، بل جعلنا أناسيّ كملة بهذه الشيعة المعتدلة( ).

وجوب الإخلاص لله في ذلك، يؤخذ ذلك من اللام في قوله تعالى﴿ لِلَّهِ﴾ ( ).

﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ أي: فاشكروه، فدل على أن من لم يشكر الله، لم يعبده وحده، كما أن من شكره، فقد عبده، وأتى بما أمر به، ويدل أيضا على أن أكل الطيب، سبب للعمل الصالح وقبوله، والأمر بالشكر، عقيب النعم؛ لأن الشكر يحفظ النعم الموجودة، ويجلب النعم المفقودة كما أن الكفر، ينفر النعم المفقودة ويزيل النعم الموجودة( ).

إن الشكر من تحقيق العبادة، لقوله تعالى: ﴿ إِنْكُنْتُمْإِيَّاهُتَعْبُدُونَ ﴾ ( ).

وجوب الإخلاص لله في العبادة، يؤخذ ذلك من تقديم المعمول في قوله تعالى: ﴿ إِيَّاهُتَعْبُدُونَ ﴾.

﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ وهي: ما مات بغير تذكية شرعية، لأن الميتة خبيثة مضرة، لرداءتها في نفسها، ولأن الأغلب، أن تكون عن مرض، فيكون زيادة ضرر واستثنى الشارع من هذا العموم، ميتة الجراد، وسمك البحر، فإنه حلال طيب( ).

إثبات رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده من وجهين:

أولاً: من أمره إياهم بالأكل من الطيبات، لأن بذلك حفظاً لصحتهم.

ثانياً: من قوله تعالى: ﴿ مَارَزَقْنَاكُمْ ﴾، فإن الرزق بلا شك من رحمة الله( ).

حصرت المحرمات في أربع أشياء: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله.

﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ أي: ذبح لغير الله، كالذي يذبح للأصنام والأوثان من الأحجار، والقبور ونحوها. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ أي: ألجئ إلى المحرم، بجوع وعدم، أو إكراه. ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ أي: غير طالب للمحرم، مع قدرته على الحلال، أو مع عدم جوعه.﴿وَلا عَادٍ﴾ أي: متجاوز الحد في تناول ما أبيح له، اضطرارا، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها( ).

الضرورات تبيح المحظورات، لقوله تعالى: ﴿ فَمَنِاضْطُرَّغَيْرَبَاغٍوَلَاعَادٍفَلَاإِثْمَعَلَيْهِ ﴾، ولكن هذه الضرورة تبيح المحرم بشرطين:

الشرط الأول: صدق الضرورة بحيث لا يندفع الضرر إلا بتناول المحرم.

الشرط الثاني: زوال الضرورة به حيث يندفع الضرر.

إثبات رحمة الله عز وجل، لأن من رحمة الله أن أباح المحَرَّمَ للعبد لدفع ضرورته( ).

إن من تناول المحرم بدون عذر فهو آثم، لقوله تعالى: ﴿ فَلَاإِثْمَعَلَيْهِ ﴾، فعُلم منها أن من كان غير مضطر فعليه إثم.

﴿فَلا إِثْمَ﴾ أي: جناح عليه، وإذا ارتفع الجناح الإثم  رجع الأمر إلى ما كان عليه، والإنسان بهذه الحالة، مأمور بالأكل، بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة، وأن يقتل نفسه( ).

وجوب نشر العلم، لقوله تعالى:﴿ إِنَّالَّذِينَيَكْتُمُونَ ﴾، ويتأكد وجوب نشره إذا دعت الحاجة إليه بالسؤال عنه، إما بلسان الحال، وإما بلسان المقال( ).

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾وعيد شديد لمن كتم ما أنزل الله على رسله، من العلم الذي أخذ الله الميثاق على أهله، أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فمن تعوض عنه بالحطام الدنيوي، ونبذ أمر الله( ).

علو الله عز وجل، لقوله تعالى: ﴿ مَاأَنْزَلَاللهُ﴾، فإن لازم النزول من عنده أن يكون سبحانه وتعالى عالياً( ).

﴿نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ ما يدل على أن الله أنزله لهداية خلقه، وتبيين الحق من الباطل، والهدى من الضلال، فمن صرفه عن مقصوده، فهو حقيق بأن يجازى بأعظم العقوبة( ).

إن هذا الوعيد على من جمع بين الأمرين: ﴿ يَكْتُمُونَ ﴾، و﴿ يَشْتَرُونَ ﴾، فأما من كتم بدون اشتراء، أو اشترى بدون كتم فإن الحكم فيه يختلف، إذا كتم بدون اشتراء فقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّالَّذِينَيَكْتُمُونَمَاأَنْزَلْنَامِنَ الْبَيِّنَاتِوَالْهُدَىمِنْبَعْدِمَابَيَّنَّاهُلِلنَّاسِفِيالْكِتَابِأُولَئِكَيَلْعَنُهُمُاللهُوَيَلْعَنُهُمُاللَّاعِنُونَ ﴾ ( ).

﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ﴾ لأن هذا الثمن الذي اكتسبوه، إنما حصل لهم بأقبح المكاسب، وأعظم المحرمات، فكان جزاؤهم من جنس عملهم( ).

إن متاع الدنيا قليل ــــ ولو كثر ــــ، لقوله تعالى: ﴿ وَيَشْتَرُونَبِهِثَمَنًاقَلِيلًا ﴾.

إطلاق المسبَّب على السبب، لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَمَايَأْكُلُونَفِيبُطُونِهِمْإِلَّاالنَّارَ ﴾  هم لا يأكلون النار، ولكن يأكلون المال، لكنه مال سبب للنار( ).

إقامة العدل في الجزاء، لقوله تعالى﴿أُولَئِكَمَايَأْكُلُونَفِيبُطُونِهِمْإِلَّاالنَّارَ ﴾، فجعل عقوبتهم من النار بقدر ما أكلوه من الدنيا الذي أخذوه عوضاً عن العلم.

﴿وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بل قد سخط عليهم وأعرض عنهم، فهذا أعظم عليهم من عذاب النار( ).

إثبات كلام الله عز وجل، لقوله تعالى: ﴿ وَلَايُكَلِّمُهُمُاللهُ ﴾، لأنه لو كان لا يتكلم لا معهم، ولا مع غيرهم، لم يكن في نفي تكليمه إياهم فائدة، فنفيه لتكليمه هؤلاء يدل على أنه يكلم غيرهم، وقد استدل الشافعي ــــ رحمه الله ــــ بقوله تعالى: ﴿ كَلَّاإِنَّهُمْ ﴾ أي الفجار ﴿ عَنْرَبِّهِمْيَوْمَئِذٍلَمَحْجُوبُونَ ﴾( )  برؤية الأبرار له، لأنه ما حجب هؤلاء في حال السخط إلا لرؤية الأبرار في حال الرضا، إذ لو كان لا يُرى مطلقاً لم يكن لذكر حجب الفجار فائدة، وكلام الله عز وجل هو الحرف، والمعنى، فالله سبحانه وتعالى يتكلم بكلام بحروف، وصوت، وأدلة هذا، وتفصيله مذكور في كتب العقائد( ).

﴿وَلا يُزَكِّيهِمْ﴾ أي: لا يطهرهم من الأخلاق الرذيلة، وليس لهم أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها، وإنما لم يزكهم لأنهم فعلوا أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله، والاهتداء به، والدعوة إليه، فهؤلاء نبذوا كتاب الله، وأعرضوا عنه، واختاروا الضلالة على الهدى، والعذاب على المغفرة( ).

يُزَكى الإنسان يوم القيامة، وذلك بالثناء القولي، والفعلي، فإن الله يقول لعبده المؤمن حين يقرره بذنوبه: «سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»، وأما الفعلي فإن علامة الثناء أنه يعطى كتابه بيمينه، ويَشهد الناسُ كلهم على أنه من المؤمنين، وهذه تزكية بلا شك( ).

غلظ عقوبة هؤلاء بأن الله تعالى لا يكلمهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، والمراد كلام الرضا، وأما كلام الغضبفإن الله تعالى يكلم أهل النار، كما قال تعالى: ﴿ اخْسَئُوافِيهَاوَلَاتُكَلِّمُونِ ﴾ ( ).

إن عذاب هؤلاء الكافرين عذاب مؤلم ألماً نفسياً، وألماً جسمانياً، فأما الألم النفسي فدليله قوله تعالى: ﴿ قَالَاخْسَئُوافِيهَاوَلَاتُكَلِّمُونِ ﴾، فهذا من أبلغ ما يكون من الإذلال الذي به الألم النفسي، وأما الألم البدني فدليله قول الله تعالى: ﴿ كُلَّمَانَضِجَتْجُلُودُهُمْبَدَّلْنَاهُمْجُلُودًاغَيْرَهَالِيَذُوقُواالْعَذَابَإِنَّاللهَكَانَعَزِيزًاحَكِيمًا ﴾ ( )، وقوله تعالى: ﴿ وَسُقُوامَاءًحَمِيمًافَقَطَّعَأَمْعَاءَهُمْ ﴾( )، وقوله تعالى: ﴿يُصَبُّمِنْفَوْقِرُءُوسِهِمُالْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُبِهِمَافِيبُطُونِهِمْوَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْمَقَامِعُمِنْحَدِيدٍ (21) كُلَّمَاأَرَادُواأَنْيَخْرُجُوامِنْهَامِنْغَمٍّأُعِيدُوافِيهَاوَذُوقُواعَذَابَالْحَرِيقِ﴾ ( ).

سبب ضلال هؤلاء وكتمانهم الحق أنهم لم يريدوا الهدى، وإنما أرادوا الضلال والفساد ــــ والعياذ بالله ــــ، لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَالَّذِينَاشْتَرَوُا...﴾.

إن عقوبة الله لهم ليست ظلماً منه، بل هم الذين تسببوا لها، حيث اشتروا الضلالة بالهدى، والله عز وجل ليس بظلام للعبيد( ).

الضرورات تبيح المحظورات فيجب، إذًا عليه الأكل، ويأثم إن ترك الأكل حتى مات، فيكون قاتلا لنفسه.وهذه الإباحة والتوسعة، من رحمته تعالى بعباده، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ( ).

من اسرار البيان تقديم المغفرة على الرحمة نحو قولهتعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾( ) وقوله تعالى:﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾( )قالوا: وسبب تقديم الغفور على الرحيم أن المغفرة سلامة والرحمة غنيمة والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة( ).

توبيخ هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله، لقوله تعالى: ﴿ فَمَاأَصْبَرَهُمْعَلَىالنَّارِ ﴾، وكان الأجدر بهم أن يتخذوا وقاية من النار لا وسيلة إليها( ).

﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ أي: وإن الذين اختلفوا في الكتاب، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه، والذين حرفوه وصرفوه على أهوائهم ومراداتهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسمالحادي والخمسون: الآية 177

 

 

 

 

 

 

الْبِرَّ: اسم جامع لكل خير.

ابْنَالسَّبِيلِ: المسافر المنقطع عن ماله وولده ووطنه.

فِيالرِّقَابِ: فك الرقاب وتخليصها من العبودية والرق.

الْبَأْساءِ: أي البأس والشدة، وهو أيضا البؤس أي الفقر وسوء الحال.

الضَّرَّاءِ: الفقر والقحط وسوء الحال وأشباه ذلك.

حِينَالْبَأْسِ: وقت القتال في سبيل الله.

كَانتِ الْيَهُودُ تُصَلِّي لِلْمَغْرِبِ وَالنَّصَارَى لِلْمَشْرِقِ، وَيَزْعُمُ كُلُّ فَرِيقٍ إن الْبِرَّ ذَلِكَ( ).

إن البر حقيقة هو الإيمان بالله.

﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ أي: بأنه إله واحد، موصوف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص( ).

إن الإيمان باليوم الآخر من البر، ويشمل كل ما أخبر به النبي مما يكون بعد الموت، كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب، والصراط، والميزان، والكتب باليمين، أو الشمال، والجنة، وما ذُكر مننعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب، والسنة عن هذه الأمور مفصلاً أحياناً، ومجملاً أحياناً( ).

﴿وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ وهو كل ما أخبر الله به في كتابه، أو أخبر به الرسول، مما يكون بعد الموت( ).

إن الإيمان بالملائكة من البر، ويشمل الإيمان بذواتهم، وصفاتهم، وأعمالهم إجمالاً فيما علمناه إجمالاً، وتفصيلاً فيما علمناه تفصيلاً.

﴿وَالْمَلائِكَةِ﴾ الذين وصفهم الله لنا في كتابه، ووصفهم رسوله صلى الله عليه وسلم.

إن الإيمان بالكتب من البر، وكيفيته إن نؤمن بأن كل كتاب انزله الله على أحد من رسله فهو حق: صدق في الأخبار، وعدل في الأحكام.

﴿وَالْكِتَابِ﴾ أي: جنس الكتب التي أنزلها الله على رسوله، وأعظمها القرآن، فيؤمن بما تضمنه من الأخبار والأحكام.

إن الإيمان بالنبيين من البر، فنؤمن بكل نبي أوحى الله إليه، فمن علمنا منهم نؤمن به بعينه، والباقي إجمالاً، وقد ورد في حديث صححه ابن حبان إن عدة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً، وإن عدة الأنبياء مائة وأربعةوعشرون ألفاً( )،فإن صح الحديث فهو خبر معصوم يجب علينا الإيمان به، وإن لم يصح فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَلَقَدْأَرْسَلْنَارُسُلًامِنْقَبْلِكَمِنْهُمْمَنْقَصَصْنَاعَلَيْكَوَمِنْهُمْمَنْلَمْنَقْصُصْعَلَيْكَ ﴾ ( ).

إن إعطاء المال على حبه من البر، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به وقال: إن الله يقول: ﴿ لَنْتَنَالُواالْبِرَّحَتَّىتُنْفِقُوامِمَّاتُحِبُّونَ ﴾ ( ).

﴿وَآتَى الْمَالَ﴾ وهو كل ما يتموله الإنسان من مال، قليلا كان أو كثيرا، أي: أعطى المال ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ أي: حب المال، بيَّن به أن المال محبوب للنفوس، فلا يكاد يخرجه العبد، ومن أخرج المال مع حبه له تقربا إلى الله تعالى، كان هذا برهانا لإيمانه، ومن إيتاء المال على حبه، أن يتصدق وهو صحيح شحيح، يأمل الغنى، ويخشى الفقر، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة، كانت أفضل، لأنه في هذه الحال، يحب إمساكه، لما يتوهمه من العدم والفقر( ).

إن إعطاء ذوي القربى أولى من إعطاء اليتامى، والمساكين، لأن الله بدأ بهم، فقال تعالى: ﴿ وَآتَىالْمَالَعَلَىحُبِّهِذَوِيالْقُرْبَى ﴾.

إن لليتامى حقاً، لأن الله امتدح من آتاهم المال، لقوله تعالى:﴿ وَالْيَتَامَى ﴾ سواء كانوا فقراء، أم أغنياء( ).

إثبات رحمة الله عز وجل، حيث ندب إلى إتيان المال لليتامى، والمساكين، لأن هذا لا شك من الرحمة بهم.

إن إعطاء السائل من البروإن كان غنياً، لعموم قوله تعالى﴿ وَالسَّائِلِينَ ﴾( ).

﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ أي: الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج، توجب السؤال، كمن ابتلي بأرش جناية، أو ضريبة عليه من ولاة الأمور، أو يسأل الناس لتعمير المصالح العامة، كالمساجد، والمدارس، والقناطر، ونحو ذلك، فهذا له حق وإن كان غنيا ( ).

إن إعتاق الرقاب من البر، لقوله تعالى: ﴿ وَفِيالرِّقَابِ ﴾، والمال المبذول في الرقاب لا يعطى الرقبة، وإنما يعطى مالك الرقبة، فلهذا أتى بـ ﴿فِي﴾ الدالة على الظرفية،( ) والرقاب ذكر أهل العلم إنها ثلاثة انواع:

أــــ عبد مملوك تشتريه، وتعتقه.

ب ــــ مكاتب اشترى نفسه من سيده، فأعنته في كتابته.

ج ــــ أسير مسلم عند الكفار، فافتديته، وكذلك لو أسر عند غير الكفار، مثل الذين يختطفون الآن ــــ والعياذ باللهــــ، إذا طلب المختطفون فدية فإنه يفك من الزكاة، لأن فيها فك رقبة من القتل.

﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ فيدخل فيه العتق والإعانة عليه، وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده، وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة( ).

إن إقامة الصلاة من البر، لقوله تعالى: ﴿ وَأَقَامَالصَّلَاةَ ﴾ ( ).

إن إيتاء الزكاة للمستحقين لها من البر.

﴿وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ أن الله تعالى يقرن بين الصلاة والزكاة، لكونهما أفضل العبادات، وأكمل القربات، عبادات قلبية، وبدنية، ومالية، وبهما يوزن الإيمان، ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان( ).

الثناء على الموفين بالعهد، وإن الوفاء به من البر، والعهد عهدان: عهد مع الله عز وجل، وعهد مع الخلق( ).فالعهد الذي عهد الله به إلينا إن نؤمن به رباً، فنرضى بشريعته، بل بأحكامه الكونية، والشرعية، هذا العهد الذي بيننا، وبين ربنا.أما العهد الذي بيننا، وبين الناس فأنواعه كثيرة جداً غير محصورة، منها العقود، مثل عقد البيع، وعقد الإجارة، وعقد الرهن، وعقد النكاح، وغير ذلك.

﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ والعهد: هو الالتزام بإلزام الله أو إلزام العبد لنفسه. فدخل في ذلك حقوق الله كلها، لكون الله ألزم بها عباده والتزموها، ودخلوا تحت عهدتها، ووجب عليهم أداؤها، وحقوق العباد، التي أوجبها الله عليهم، والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور، ونحو ذلك( ).

إن الصبر من البر( )، وهو ثلاثة انواع:

الأول: الصبر على طاعة الله، بان يتحمل الصبر على الطاعة من غير ضجر، ولا كراهة.

الثاني: الصبر عن معصية الله، بان يحمل نفسه على الكف عن معصية الله إذا دعته نفسه إليها.

الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة التي لا تلائم الطبيعة بان لا يتسخط من المقدور، ولا يتضجر، بل يحبس نفسه عن ذلك: قال الله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِالصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَإِذَاأَصَابَتْهُمْمُصِيبَةٌقَالُواإِنَّالِلَّهِوَإِنَّاإِلَيْهِرَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَعَلَيْهِمْصَلَوَاتٌمِنْرَبِّهِمْوَرَحْمَةٌوَأُولَئِكَهُمُالْمُهْتَدُونَ﴾( ).

﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ﴾ أي: الفقر، لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة، لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره( ).

﴿ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾الشِّدَّةُ وَالْفَقْرُ. وَالضَّرَّاءُ:الْمَرَضُ وَالزَّمَانَةُ ( ).

﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ﴾إن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم، وإن جاع أو جاعت عياله تألم، وإن أكل طعاما غير موافق لهواه تألم، وإن عرى أو كاد تألم، وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم، وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم( ).

﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ أي: المرض على اختلاف أنواعه، من حمى، وقروح، ورياح، ووجع عضو، حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك، فإنه يحتاج إلى الصبر على ذلك؛ لأن النفس تضعف، والبدن يألم، وذلك في غاية المشقة على النفوس، خصوصا مع تطاول ذلك، فإنه يؤمر بالصبر، احتسابا لثواب الله تعالى.

﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ أي: وقت الحرب( ).

ويجزع الإنسان من القتل، أو الجراح أو الأسر، فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا، ورجاء لثواب الله تعالى الذي منه النصر والمعونة، التي وعدها الصابرين.

﴿أُولَئِكَ﴾ أي: المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة، والأعمال التي هي آثار الإيمان، وبرهانه ونوره، والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية، فأولئك هم ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في إيمانهم، لأن أعمالهم صدقت إيمانهم( ).

﴿ أُولَئِكَالَّذِينَصَدَقُوا ﴾، صدقوا في اعتقاداتهم، وفي معاملاتهم مع الله، ومع الخلق.

﴿ وَأُولَئِكَهُمُالْمُتَّقُونَ ﴾ دليل على إن القيام بالبر من التقوى، لأن حقيقة الأمر أن القائم بالبر يرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله( ).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسم الثاني والخمسون: الآية 178-179

 

 

 

 

 

كُتِبَ: فُرِضَ.

الْقِصاصُ: الأخذ من الجاني مثل ما جنى من قص الأثر وهو تلوه.

عُفِيَ لَهُ:من العفو وهو اسقاط العقوبة.

الْأَلْبابِ: العقول، واحدها لبّ.

أهمية القصاص، لأن الله وجه الخطاب به إلى المؤمنين، وصدره بالنداء المستلزم للتنبيه، وتصدير الخطاب بالنداء فائدته التنبيه، وأهمية الأمر( ).

شرع المولى الحكيم العليم القصاص، وأوجب تنفيذه على الحكام، صيانة لدماء الناس، ومحافظة على أرواح الأبرياء، وقضاء على الفتنة في مهدها( ).

يمتن تعالى على عباده المؤمنين، بأنه فرض عليهم ﴿الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ أي: المساواة فيه، وأن يقتل القاتل على الصفة، التي قتل عليها المقتول، إقامة للعدل والقسط بين العباد( ).

تنفيذ القصاص من مقتضى الإيمان، لأن الخطاب موجه للمؤمنين( ).

توجيه الخطاب لعموم المؤمنين، فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم، حتى أولياء القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول، إذا طلب القصاص وتمكينه من القاتل، وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد، ويمنعوا الولي من الاقتصاص، كما عليه عادة الجاهلية( ).

إذا همّ أحدٌ بقتل أخيه، أو تهيب خيفةً من القصاص، فكفّ عن القتل، فكان في ذلك حياةً له، وحياة لمن أراد قتله، وحياة لأفراد المجتمع( ).

ترك تنفيذ القصاص نقص في الإيمان، فما كان من مقتضى الإيمان تنفيذه فإنه يقتضي نقص الإيمان بتركه( ).

وجوب التمكين من القصاص، لقوله تعالى: ﴿ كُتِبَعَلَيْكُمُالْقِصَاصُ ﴾.

أخذ الجاني بجنايته يكون زاجراً له ولغيره، ورادعاً لأهل البغي والعدوان( ).

مراعاة التماثل بين القاتل، والمقتول، لقوله تعالى: ﴿ الْحُرُّبِالْحُرِّوَالْعَبْدُبِالْعَبْدِوَالْأُنْثَىبِالْأُنْثَى ﴾ ( ).

﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ يدخل بمنطوقها، الذكر بالذكر، ﴿وَالأنْثَى بِالأنْثَى﴾ والأنثى بالذكر، والذكر بالأنثى، فيكون منطوقها مقدما على مفهوم قوله: "الأنثى بالأنثى "مع دلالة السنة، على أن الذكر يقتل بالأنثى ( ).

الحر يقتل بالحر - ولو اختلفت صفاتهما، كرجل عالم عاقلغني جواد شجاع قتل رجلاً فقيراً أعمى أصم أبكم زمِناً جباناً جاهلاً فإنه يقتل به، لعموم قوله تعالى: ﴿ الْحُرُّبِالْحُرِّ ﴾ ( ).

العبد يقتل بالحر، لأنه إذا قُتل الحر بالحر فمن باب أولى أن يقتل العبد بالحر.

وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا، فلا يقتلان بالولد، لورود السنة بذلك، مع أن في قوله: ﴿الْقِصَاصُ﴾ ما يدل على أنه ليس من العدل، أن يقتل الوالد بولده، ولأن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة، ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله، أو أذية شديدة جدا من الولد له( ).

العبد يقتل بالعبد ولو اختلفت قيمتهما، لعموم قوله تعالى: ﴿ وَالْعَبْدُبِالْعَبْدِ ﴾، فلو قتل عبد يساوي مائة ألف عبداً لا يساوي إلا عشرة دراهم فإنه يقتل به، لعموم قوله تعالى: ﴿ وَالْعَبْدُبِالْعَبْدِ ﴾.

الحر يقتل بالعبد، لعموم قوله تعالى﴿وَكَتَبْنَاعَلَيْهِمْفِيهَاأَنَّالنَّفْسَبِالنَّفْسِ ﴾( )، وقول النبي : «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس... » ( ).

الأنثى تقتل بالأنثى - ولو اختلفت صفاتهما - لعموم قوله تعالى: ﴿ وَالْأُنْثَىبِالْأُنْثَى ﴾ ( ).

الأنثى تقتل بالرجل، لأنها إذا قتلت بالأنثى فإنها من باب أولى تقتل بالرجل، ودلالة الآية عليه من باب مفهوم الأولوية.

الرجل لا يقتل بالمرأة، لأنه أعلى منها، هذا مفهوم الآية، والصواب أنه يقتل بها، لأن النبي قتل يهودياً كان قتل جارية على أوضاح لها - رض رأسها بين حجرين ( )، فرض النبي رأسه بين حجرين، وهذا يدل أن قتله كان قصاصاً، لا لنقض العهد - كما قيل به( ).

إذا بقي المعتدي يرتع، دون جزاءٍ أو عقاب، أدّى ذلك إلى إثارة الفتن، واضطراب الأمن، وتعريض المجتمع إلى سفك الدماء البريئة أخذاً بالثأر. والإسلام راعى ذلك فقرّر شريعة القصاص، حتى يستلّ لأحقاد من القلوب، ويقضي على أسباب البغي والخصام، والعدوان( ).

وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل، وأن الدية بدل عنه، فلهذا قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ أي: عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية، أو عفا بعض الأولياء، فإنه يسقط القصاص، وتجب الدية، وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي( ).

جواز العفو عن القصاص إلى الدية، لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْعُفِيَلَهُمِنْأَخِيهِشَيْءٌفَاتِّبَاعٌبِالْمَعْرُوفِوَأَدَاءٌإِلَيْهِبِإِحْسَانٍذَلِكَتَخْفِيفٌمِنْرَبِّكُمْوَرَحْمَةٌ﴾ ( ).

في الوقت الذي يفرض فيه الإسلام القصاص، يحبّب في العفو، ويرسم له الحدود، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص العدل، دعوة إلى التسامي في حدود التطوع، لا إلزاماً يكبت فطرة الإنسان، ويحملها مالا تطيق ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾( ).

إذا عفا عنه وجب على الولي، أي: ولي المقتول أن يتبع القاتل ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ من غير أن يشق عليه، ولا يحمله ما لا يطيق، بل يحسن الاقتضاء والطلب، ولا يحرجه( ).

العفو المندوب إليه ما كان فيه إصلاح، لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْعَفَاوَأَصْلَحَفَأَجْرُهُعَلَىاللهِ ﴾ ( )( ).

وعلى القاتل ﴿أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ من غير مطل ولا نقص، ولا إساءة فعلية أو قولية، فهل جزاء الإحسان إليه بالعفو، إلا الإحسان بحسن القضاء، وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان، مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف، ومن عليه الحق، بالأداء بإحسان ( ).

إذا عفا بعض الأولياء عن القصاص سقط القصاص في حق الجميع، لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْعُفِيَلَهُمِنْأَخِيهِشَيْءٌ ﴾ ( ).

دية العمد على القاتل، لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْعُفِيَلَهُمِنْأَخِيهِشَيْءٌ ﴾، ولا شك أن المعفو عنه هو القاتل، وقد أمر بالأداء( ).

وفي قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ﴾ ترقيق وحث على العفو إلى الدية، وأحسن من ذلك العفو مجانا( ).

فاعل الكبيرة لا يخرج من الإيمان، لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْعُفِيَلَهُمِنْأَخِيهِشَيْءٌ ﴾، فجعل الله المقتول أخاً للقاتل، ولو خرج من الإيمان لم يكن أخاً له( ).

وفي قوله: ﴿أَخِيهِ﴾ دليل على أن القاتل لا يكفر، لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان، فلم يخرج بالقتل منها، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر، لا يكفر بها فاعلها، وإنما ينقص بذلك إيمانه( ).

كان في بني إِسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، وكان في النصارى الدية ولم يكن فيهم القصاص، فأكرم الله هذه الأمة المحمدية وخيرّها بين القصاص والدية والعفو، وهذا من يسر الشريعة الغراء التي جاء بها سيَّد الأنبياء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.

سمّى الله القاتل أخاً لولي المقتول ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ تذكيراً بالأخوَّة الدينية والبشرية حتى يهزّ عطف كل واحد منهما إِلى الآخر فيقع بينهم العفو والاتباع بالمعروف والأداء بالإِحسان( ).

محاسن الشرع الإسلامي وما فيه من اليسر والرحمة حيث أجاز العفو والدية بدل القصاص( ).

يجب الاتباع بالمعروف ــــ يعني يجب على أولياء المقتول إذا عفوا إلى الدية ألا يتسلطوا على القاتل، بل يتبعونه بالمعروف بدون أذية، وبدون منة، لقوله تعالى: ﴿ فَاتِّبَاعٌبِالْمَعْرُوفِ ﴾، والخطاب لأولياء المقتول.

خفف الله عن هذه الأمة بجواز العفو، ورحمهم بجواز أخذ العوض، لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَتَخْفِيفٌمِنْرَبِّكُمْوَرَحْمَةٌ ﴾: تخفيف على القاتل، ورحمة بأولياء المقتول، حيث أذن لهم أن يأخذوا عوضاً، وإلا لقيل لهم: إما أن تعفوا مجاناً، وإما أن تأخذوا بالقصاص( ).

إذا عفا أولياء المقتول، أو عفا بعضهم، احتقن دم القاتل، وصار معصوما منهم ومن غيرهم، ولهذا قال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أي: بعد العفو ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: في الآخرة( ).

إن المعتدي بعد انتهاء القصاص، أو أخذ الدية متوعد بالعذاب الأليم سواء كان من أولياء المقتول، أو من القاتل، لقوله تعالى: ﴿ فَمَنِاعْتَدَىبَعْدَذَلِكَفَلَهُعَذَابٌأَلِيمٌ ﴾ ( ).

بلاغة القرآن الكريم، إذ كان حكماء العرب في الجاهلية يقولون: القتل أنفى للقتل، فقال القرآن: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾. فلم يذكر لفظ القتل بالمرة فنفاه لفظاً وواقعاً( ).

﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أي: تنحقن بذلك الدماء، وتنقمع به الأشقياء، لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل، لا يكاد يصدر منه القتل، وإذا رئي القاتل مقتولا انذعر بذلك غيره وانزجر، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل، لم يحصل انكفاف الشر، الذي يحصل بالقتل، وهكذا سائر الحدود الشرعية، فيها من النكاية والانزجار، ما يدل على حكمة الحكيم الغفار، ونكَّر "الحياة "لإفادة التعظيم والتكثير( ).

الحكمة العظمى في القصاص، وهي الحياة الكاملة، لقوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْفِيالْقِصَاصِحَيَاةٌيَاأُولِيالْأَلْبَابِ ﴾ ( ).

نقل المولى - جل وعلا - بهذا التشريع الحكيم العقوبات، من معنىانتقامي إلى معنى سام جليل، فقد كانت العقوبات السالفة، انتقاماً ينتقم بها المجتمع من المجرمين، أو ينتقم بها أهل القتيل من أهل المقتول، فلا يقبلون حتى يسفكوا مقابل الدم الواحد الدماء البريئة ويزهقوا الأرواح. وربما قتلوا بالرجل مائة رجل، فجعل الله الغرض منها الاستصلاح ﴿ وَلَكُمْفِيالْقِصَاصِحَيَاةٌيَاأُولِيالْأَلْبَابِ ﴾ ( ).

يجب أن يُفعل بالجاني كما فَعل، لأن بذلك يتم القصاص، فإذا قتل بسكين قُتل بمثلها، أو بحجر قُتل بمثله، أو بسمّ قُتل بمثله، وهكذا( ).

﴿ وَلَكُمْفِيالْقِصَاصِحَيَاةٌيَاأُولِيالْأَلْبَابِ ﴾أَنَّ الْقِصَاصَ إِذَا أُقِيمَ وَتَحَقَّقَ الْحُكْمُ فِيهِ ازْدُجِرَ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَ آخَرَ، مَخَافَةَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَحَيِيَا بِذَلِكَ مَعًا. واتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ أَحَدٍ حَقَّهُ دُونَ السُّلْطَانِ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يَقْتَصَّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِسُلْطَانٍ أَوْ مَنْ نَصَّبَهُ السُّلْطَانُ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ السُّلْطَانَ لِيَقْبِضَ أَيْدِيَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ( ).

كون القصاص حياة يحتاج إلى تأمل وعقل، لقوله تعالى﴿يَاأُولِيالْأَلْبَابِ ﴾.

يجب على الإنسان أن يؤمن بأحكام الشريعة دون تردد، وإذا رأى ما يستبعده في بادئ الأمر فليتأمل وليتعقل حتى يتبين له أنه عين الحكمة، والمصلحة، ولهذا قال تعالى: ﴿ يَاأُولِيالْأَلْبَابِ ﴾، فأتى بالنداء المقتضي للانتباه( ).

وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة، أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله، ويعظم معاصيه فيتركها، فيستحق بذلك أن يكون من المتقين( ).

﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فَتَسْلَمُونَ مِنَ الْقِصَاصِ، ثُمَّ يَكُونُ ذَلِكَ دَاعِيَةً لِأَنْوَاعِ التَّقْوَى فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ بِالطَّاعَةِ عَلَى الطَّاعَةِ( ).

من فوائد القصاص أن يتقي الجناة القتل، لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْتَتَّقُونَ ﴾( )، واتقاؤهم للقتل من تقوى الله( ).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسمالثالث والخمسون: الآية 180-182

 

 

 

 

 

 

إِنْ تَرَكَ خَيْراً: الخير: المال.

جَنَفاً: ميلا وعدولا عن الحق.

الْوَصِيَّةُ: كل شيء يؤمر بفعله وتنفيذه بعد الموت.

إِثْمًا: تعمد الظلم.

وجوب الوصية للوالدين والأقربين لمن ترك مالاً كثيراً، لقوله تعالى: ﴿ كُتِبَعَلَيْكُمْ ﴾ ( ).

﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أي: أسبابه، كالمرض المشرف على الهلاك، وحضور أسباب المهالك( ).

الوالدان ليسا من الأقربين، لأنّ القريب من يدلي إلى غيره بواسطة، كالأخ والعمّ ونحوهما، والوالدان ليسا كذلك، ولو كانا منهم لكان تخصيصهما بالذّكر لشرفهما، كقوله تعالى: ﴿ وَمَلَائِكَتِهِوَرُسُلِهِوَجِبْرِيلَوَمِيكَالَ ﴾( )( ).

تأكد الوصية حضر الموت أو لم يحضر لمن له أو عليه حقوق خشية أن يموت فتضيع الحقوق فيأثم بإضاعتها( ).

جواز الوصية للصحيح، والمريض، ومن حضره الموت ( ).

جواز الوصية بما شاء من المال ( ).

﴿تَرَكَ خَيْرًا﴾ أي: مالا، وهو المال الكثير عرفا، فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف، على قدر حاله من غير سرف، ولا اقتصار على الأبعد، دون الأقرب، بل يرتبهم على القرب والحاجة، ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل( ).

الوصية الواجبة إنما تكون فيمن خلّف مالاً كثيراً، لقوله تعالى: ﴿ إِنْتَرَكَخَيْرًا ﴾ ( ).

الوصية ليست مقيدة بجزء معين من المال، بل هي بالمعروف( ).

أهمية صلة الرحم،حيث أوجب الله الوصية للوالدين والأقربين بعد الموت ( ).

وقوله: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ دل على وجوب ذلك، لأن الحق هو: الثابت، وقد جعله الله من موجبات التقوى( ).

تأكيد وجوب الوصية على من ترك مالاً كثيراً لمن ذُكر، وجه التوكيد قوله تعالى: ﴿ حَقًّاعَلَىالْمُتَّقِينَ ﴾ ( ).

إن من فعل الخير، ثم غُيِّر بعده كُتب له ما أراد، لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَاإِثْمُهُعَلَىالَّذِينَيُبَدِّلُونَهُ ﴾.

إن من بدل الوصية جهلاً فلا إثم عليه، لقوله تعالى: ﴿ بَعْدَمَاسَمِعَهُ ﴾.

﴿بَعْدَمَا سَمِعَهُ﴾ أي: بعدما عقله، وعرف طرقه وتنفيذه، ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ وإلا فالموصي وقع أجره على الله، وإنما الإثم على المبدل المغير( ).

تحريم تغيير الوصية، لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَاإِثْمُهُعَلَىالَّذِينَيُبَدِّلُونَهُ ﴾، فيجب العمل بوصية الموصي على حسب ما أوصى إلا أن يكون جنفاً أو إثماً( ).

﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ يسمع سائر الأصوات، ومنه سماعه لمقالة الموصي ووصيته، فينبغي له أن يراقب من يسمعه ويراه، وأن لا يجور في وصيته.﴿عَلِيمٌ﴾ بنيته، وعليم بعمل الموصى إليه، فإذا اجتهد الموصي، وعلم الله من نيته ذلك، أثابه ولو أخطأ، وفيه التحذير للموصى إليه من التبديل، فإن الله عليم به، مطلع على ما فعله، فليحذر من الله، هذا حكم الوصية العادلة( ).

إحاطة الله عز وجل بكل أعمال الخلق، لأن قوله تعالى: ﴿ سَمِيعٌعَلِيمٌ ﴾  ذكر عقب التهديد في قوله تعالى: ﴿ فَمَنْبَدَّلَهُبَعْدَمَاسَمِعَهُفَإِنَّمَاإِثْمُهُعَلَىالَّذِينَيُبَدِّلُونَهُ ﴾، وهذا يدل على أن الله يسمع، ويعلم ما يبدله الوصي( ).

إن من خاف جوراً أو معصية من موصٍ فإنه يصلح ( ).

﴿ فَمَنْخَافَمِنْمُوصٍجَنَفًاأَوْإِثْمًافَأَصْلَحَبَيْنَهم﴾مَنْ خَافَ أي علم وراي وأتى علمه بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَنَّ الْمُوصِيَ جَنَفَ وَتَعَمَّدَ أَذِيَّةَ بَعْضِ وَرَثَتِهِ فَأَصْلَحَ مَا وَقَعَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالشِّقَاقِ( ).

رفع الإثم عن الوصي إذا أصلح لخوفه جنفاً، أو إثماً( ).

﴿فَلَاإِثْمَعَلَيْهِ ﴾  أَيْ لَا يَلْحَقُهُ إِثْمُ الْمُبَدِّلِ الْمَذْكُورُ قَبْلُ. وَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِهِ تَبْدِيلٌ مَا وَلَا بُدَّ، وَلَكِنَّهُ تَبْدِيلٌ لِمَصْلَحَةٍ. وَالتَّبْدِيلُ الَّذِي فِيهِ الْإِثْمُ إِنَّمَا هُوَ تَبْدِيلُ الْهَوَى( ).

فضيلة الإصلاح، لقوله تعالى:﴿ فَأَصْلَحَبَيْنَهُمْ ﴾، فإن في الإصلاح درء الإثم عن الموصي، وإزالة العداوة، والشحناء بين الموصى إليهم والورثة.

 

 

 

 

 

 

 

القسم الرابع والخمسون

 

 

 

 

 

 

 

كُتِبَ عَلَيْكُمُ: فرض.

الصِّيَامُ: لغة الإمساك، وشرعاً: الإمساك عن شهوات البطن والفرج وما يقوم مقامهما.

يُطِيقُونَهُ: من الطاقة، وهي القدرة على الشيء.

الْفُرْقَانِ: الذي يفرق بين الحق والباطل، وهو القرآن الكريم.

أهمية الصيام، لأن الله تعالى صدره بالنداء، وأنه من مقتضيات الإيمان، لأنه وجه الخطاب إلى المؤمنين، وأنّ تركه مخل بالإيمان( ).

فرضية الصيام، لقوله تعالى: ﴿ كُتِبَ ﴾.

فرض الصيام على من قبلنا من الأمم، لقوله تعالى: ﴿ كَمَاكُتِبَعَلَىالَّذِينَمِنْقَبْلِكُمْ ﴾،والتشبيه في أصل الصوم لا في كيفيّته أو في كيفيّة الإفطار( ).

تسلية الإنسان بما ألزم به غيره ليهون عليه القيام به، لقوله تعالى: ﴿ كَمَاكُتِبَعَلَىالَّذِينَمِنْقَبْلِكُمْ ﴾ ( ).

ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه( ).

الحكمة في إيجاب الصيام، وهي تقوى الله، لقوله تعالى﴿ لَعَلَّكُمْتَتَّقُونَ ﴾( ).

﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، التي تميل إليها نفسه، متقربا بذلك إلى الله، راجيا بتركها، ثوابه، فهذا من التقوى( ).

الصيام عبودية لله، وامتثال لأوامره، واتقاء لحرماته، ولهذا جاء في الحديث القدسي: «كل عمل آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» فشعور الإنسان بالعبودية لله عَزَّ وَجَلَّ، والاستسلام لأمره وحكمه، وهو أسمى أهداف العبادة وأقصى غاياتها، بل هو الأصل والأساس الذي ترتكز عليه حكمة خلق الإنسان ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين﴾( ).

مما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام، يضعف نفوذه، وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب، تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك، مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى( ).

في الصيام تربية للنفس، وتعويدها على الصبر وتحمل المشاق في سبيل الله، فالصيام يربي قوة العزيمة،وقوة الإرادة، ويجعل الإنسان متحكماً في أهوائه ورغباته، فلا يكون عبداً للجسد، ولا أسيراً للشهوة، وإنما يسير على هدي الشرع، ونور البصيرة والعقل، وشتّان بين إنسان تتحكّم فيه أهواؤه وشهواته فهو يعيش كالحيوان لبطنه وشهوته، وبين إنسان يقهر هواه ويسيطر على شهوته، فهو ملاك من الملائكة ﴿وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام والنار مَثْوًى لَّهُمْ﴾( ).

يربي الصوم في الإنسان، ملكة الحب والعطف والحنان، ويجعل منه إنساناً رقيق القلب، طيّب النفس، ويحرّك فيه كامن الإيمان، فليس الصيام حرماناً للإنسان عن الطعام والشراب، بل هو تفجير للطاقة الروحية في نفس الإنسان، ليشعر بشعور إخوانه، ويُحسّ بإحساسهم، فيمدّ إليهم يد المساعدة والعون، ويمسح دموع البائسين، ويزيل أحزان المنكوبين، بما تجود به نفسه الخيّرة الكريمة التي هذّبها شهر الصيام، ولقد قيل ليوسف الصدّيق عليه السلام: «لم تجوع وأنتَ على خزائن الأرض فقال: أخشى إن أنا شبعتُ أن أنسى الجائع»( ).

فضل التقوى، وأنه ينبغي سلوك الأسباب الموصلة إليها، لأن الله أوجب الصيام لهذه الغاية العظيمة، ويدل على عظمها أنها وصية الله للأولين، والآخرين، لقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْوَصَّيْنَاالَّذِينَأُوتُواالْكِتَابَمِنْقَبْلِكُمْوَإِيَّاكُمْأَنِاتَّقُوااللهَ ﴾ ( ).

حكمة الله سبحانه وتعالى بتنويع العبادات، لأننا إذا تدبرنا العبادات وجدنا أن العبادات متنوعة، منها ما هو مالي محض، ومنها ما هو بدني محض، ومنها ما هو مركب منهما: بدني، ومالي.

الصوم أيامه قليلة، لقوله تعالى: ﴿ أَيَّامًامَعْدُودَاتٍ ﴾.

التعبير بكلمات يكون بها تهوين الأمر على المخاطب، لقوله تعالى: ﴿ أَيَّامًامَعْدُودَاتٍ ﴾( ).

المشقة تجلب التيسير، لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْكَانَمِنْكُمْمَرِيضًاأَوْعَلَىسَفَرٍفَعِدَّةٌمِنْأَيَّامٍأُخَرَ ﴾، لأن المرض، والسفر مظنة المشقة.

جواز الفطر للمرض( ).

﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ﴾ فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان، كاملا كان، أو ناقصا، وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة، عن أيام طويلة حارة كالعكس( ).

جواز الفطر في السفر، لقوله تعالى: ﴿ أَوْعَلَىسَفَرٍفَعِدَّةٌمِنْأَيَّامٍأُخَرَ ﴾.

السفر الذي يباح فيه الفطر غير مقيد بزمن، ولا مسافة، لإطلاق السفر في الآية، وعلى هذا يرجع فيه إلى العرف: فما عده الناس سفراً فهو سفر.

العاجز عن الصيام عجزاً لا يرجى زوالهفإنه يطعم عن كل يوممسكيناً ( ).

يرجع في الإطعام في كيفيته ونوعه إلى العرف، لأن الله تعالى أطلق ذلك، والحكم المطلق إذا لم يكن له حقيقة شرعية يرجع فيه إلى العرف( ).

﴿ فَمَنْتَطَوَّعَخَيْرًافَهُوَخَيْرٌلَهُ ﴾قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: مَنْ أَرَادَ الْإِطْعَامَ مَعَ الصَّوْمِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَنْ زَادَ فِي الْإِطْعَامِ عَلَى الْمُدِّ( ).

طاعة الله ــــ تبارك وتعالى ــــ كلها خير، لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْتَطَوَّعَخَيْرًافَهُوَخَيْرٌلَهُ ﴾ ( ).

ثبوت تفاضل الأعمال، لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْتَصُومُواخَيْرٌلَكُمْ ﴾، وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل، فينبني على ذلك أن الناس يتفاضلون في الأعمال.

التنبيه على فضل العلم، لقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

في الصيام فوائد دينية واجتماعية عظيمة أشير إليها بلفظ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾( ).

بيان الأيام المعدودات التي أبهمها الله عز وجل في الآيات السابقة، بأنها شهر رمضان.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-« أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ »( ).

أنزل الله تعالى القرآن في هذا الشهر،وقد أنزله جل وعلا مفرقاً، فيلزم من ذلك أن لا يكون القرآن كله نزل في هذا الشهر( ).

ما تضمنه القرآن من الهداية لجميع الناس، لقوله تعالى: ﴿ هُدًىلِلنَّاسِ ﴾.

القرآن الكريم متضمن لآيات بينات واضحة لا تخفى على أحد إلا على من طمس الله قلبه فلا فائدة في الآيات، كما قال عز وجل: ﴿ وَمَاتُغْنِيالْآيَاتُوَالنُّذُرُعَنْقَوْمٍلَايُؤْمِنُونَ ﴾( ).

القرآن الكريم فرقان يفرق بين الحق، والباطل، وبين النافع، والضار، وبين أولياء الله، وأعداء الله، وغير ذلك من الفرقان فيما تقتضي حكمته التفريق فيه( ).

وجوب الصوم متى ثبت دخول شهر رمضان، وشهر رمضان يثبت دخوله إما بإكمال شعبان ثلاثين يوماً، أو برؤية هلاله، وقد جاءت السنة بثبوت دخوله إذا رآه واحد يوثق بقوله ( ).

لا يجب الصوم قبل ثبوت دخول رمضان.

تيسير الله - تبارك وتعالى - على عباده، حيث رخص للمريض الذي يشق عليه الصوم، وللمسافر مطلقاً أن يفطرا، ويقضيا أياماً أخر( ).

إثبات الإرادة لله عز وجل، لقوله تعالى:﴿ يُرِيدُاللهُبِكُمُالْيُسْرَوَلَايُرِيدُبِكُمُالْعُسْرَ ﴾( ).

شريعة الله سبحانه وتعالى مبنية على اليسر، والسهولة، لأن ذلك مراد الله عز وجل في قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُاللهُبِكُمُالْيُسْرَ﴾،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ( ).

وكان صلى الله عليه وسلم يبعث البعوث، ويقول: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» ( )«فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين»( ).

انتفاء الحرج والمشقة والعسر في الشريعة، لقوله عز وجل: ﴿ وَلَايُرِيدُبِكُمُالْعُسْرَ ﴾.

إذا دار الأمر بين التحليل، والتحريم فيما ليس الأصل فيه التحريم فإنه يغلب جانب التحليل، لأنه الأيسر، والأحب إلى الله( ).

﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ وهذا - والله أعلم - لئلا يتوهم متوهم، أن صيام رمضان، يحصل المقصود منه ببعضه، دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته، ويشكر الله تعالى عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده، وبالتكبير عند انقضائه، ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ خطبة العيد( ).

مشروعية التكبير عند تكميل العدة، لقول الله تعالى: ﴿ وَلِتُكْمِلُواالْعِدَّةَوَلِتُكَبِّرُوااللهَعَلَىمَاهَدَاكُمْ ﴾ ( ).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ أَنْ يُكَبِّرُوا وَرُوِيَ عَنْهُ: يُكَبِّرُ الْمَرْءُ مِنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إِلَى انْقِضَاءِ الْخُطْبَةِ، وَيُمْسِكُ وَقْتَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَيُكَبِّرُ بِتَكْبِيرِهِ. قَالَ مَالِكٌ: هُوَ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ. وَالْفِطْرُ وَالْأَضْحَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكَبِّرُ فِي الْأَضْحَى ولا يكبر في الفطر( )

يشرع الله الشرائع لحكمةوغاية حميدة، لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْتَشْكُرُونَ ﴾( ).

الإشارة إلى أن القيام بطاعة الله من الشكر، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَاالَّذِينَآمَنُواكُلُوامِنْطَيِّبَاتِمَارَزَقْنَاكُمْوَاشْكُرُوالِلَّهِ ﴾( )، وقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَاالرُّسُلُكُلُوامِنَالطَّيِّبَاتِوَاعْمَلُواصَالِحًا ﴾( )، وهذا يدل على أن الشكر هو العمل الصالح.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسم الخامس والخمسون: الآية 186-187

 

 

 

 

 

 

 

الرَّفَث: النّكاح، وقيل أيضا: الإفصاح بما يجب أن تكنى عنه من ذكر النّكاح. أراد بالنّكاح الوطء لا العقد. وقيل: الأصل فيه فحش القول.

لَيْلَةَالصِّيَامِ: الليلة التي يصبح فيها المرء صائماً.

لِبَاسٌ:اللباس: الملابسة والمخالطة.

عَاكِفُونَ: ماكثون في المسجد طاعة لله وتقرباً إليه.

تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ: تفتعلون، من الخيانة وهي انتقاض الحق على جهة المساترة.

بَاشِرُوهُنَّ: جامعوهن. والمباشرة: الجماع، سمّي بذلك لمسّ البشرة البشرة. والبشرة: ظاهر الجلد، والأدمة: باطنه.

وَابْتَغُوا: اطلبوا.

الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ: بياض النّهار.

الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ: سواد اللّيل.

حُدُودُ اللَّهِ: ما حدّه لكم. والحدّ: النّهاية التي إذا بلغها المحدود له امتنع.

إن الصيام مظنة إجابة الدعاء، لأن الله سبحانه وتعالى ذكر ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾في أثناء آيات الصيام، ولا سيما أنه ذكرها في آخر الكلام على آيات الصيام( ).

﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة( ).

ينبغي الدعاء في آخر يوم الصيام ــــ أي عند الإفطار.

رأفة الله عز وجل، لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي ﴾، حيث أضافهم إلى نفسه تشريفاً، وتعطفاً عليهم( ).

والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق( ).

إثبات قرب الله سبحانه وتعالى، والمراد قرب نفسه، لأن الضمائر في هذه الآية كلها ترجع إلى الله ( ).

إثبات سمع الله، لقوله تعالى: ﴿ أُجِيبُ ﴾، لأنه لا يجاب إلا بعد أن يُسمعَ ما دعا به( ).

من دعا ربه بقلب حاضر، ودعاء مشروع، ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء، كأكل الحرام ونحوه، فإن الله قد وعده بالإجابة، وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء، وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية، والإيمان به، الموجب للاستجابة( ).

إن من شرط إجابة الدعاء أن يكون الداعي صادق الدعوة في دعوة الله عز وجل، بحيث يكون مخلصاً مشعراً نفسه بالافتقار إلى ربه، ومشعراً نفسه بكرم الله، وجوده، لقوله تعالى: ﴿ إِذَا دَعَانِ ﴾( ).

يجيب الله تعالى دعوة الداع إذا دعاه، ولا يلزم من ذلك أن يجيب مسألته ( )

﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة، ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة. ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره، سبب لحصول العلم كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾( ).

الإنابة إلى الله عز وجل، والقيام بطاعته سبب للرشد، لقوله تعالى: ﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾( ).

الاستجابة لا بد أن يصحبها إيمان، لأن اللهقرن بينهما، في قوله تعالى:    ﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي ﴾( ).

جواز الكلام بين الزوج وزوجته فيما يستحيا منه، لقوله تعالى: ﴿ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾، لأنه مُضَمن معنى الإفضاء( ).

جواز استمتاع الرجل بزوجته من حين العقد، لقوله تعالى: ﴿ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ ما لم يخالف شرطاً بين الزوجين( ).

الزوجة ستر للزوج، وهو ستر لها، وأن بينهما من القرب كما بين الثياب، ولابسيها، ومن التحصين للفروج ما هو ظاهر، لقوله تعالى: ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾ ( ).

﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾أَصْلُ اللِّبَاسِ فِي الثِّيَابِ، ثُمَّ سُمِّيَ امْتِزَاجُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِصَاحِبِهِ لباسا، لانضمام الْجَسَدِ وَامْتِزَاجِهِمَا وَتَلَازُمِهِمَا تَشْبِيهًا بِالثَّوْبِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتْرٌ لِصَاحِبِهِ فِيمَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْجِمَاعِ مِنْ أَبْصَارِ النَّاسِ.قال مُجَاهِدٌ: أَيْ سَكَنٌ لَكُمْ، أَيْ يَسْكُنُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ( ).

إثبات العلة في الأحكام، لقوله تعالى: ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ ﴾، لأن هذه الجملة لتعليل التحليل( ).

﴿ عَلِمَاللهُأَنَّكُمْكُنْتُمْتَخْتَانُونَأَنْفُسَكُمْ ﴾ يَسْتَأْمِرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ مِنَ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي ليالي الصوم. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ بِأَنَّهُ يَخُونُهَا، وَسَمَّاهُ خَائِنًا لِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ ضرره عائدا عليه( ).

كما يخون الإنسان غيره قد يخون نفسه، وذلك إذا أوقعها في معاصي الله، فإن هذا خيانة، وعلى هذا فنفس الإنسان أمانة عنده، لقوله تعالى: ﴿ عَلِمَاللهُأَنَّكُمْكُنْتُمْتَخْتَانُونَأَنْفُسَكُمْ ﴾ ( ).

﴿ فَتَابَعَلَيْكُمْ ﴾، يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا- قَبُولُ التَّوْبَةِ مِنْ خِيَانَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ. وَالْآخَرُ- التَّخْفِيفُ عَنْهُمْ بِالرُّخْصَةِ وَالْإِبَاحَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ ﴾( )  يَعْنِي خَفَّفَ عَنْكُمْ( ).

إثبات التوبة لله، لقوله تعالى﴿ فَتَابَعَلَيْكُمْ ﴾، وهذه من الصفات الفعلية( ).

﴿ وَعَفَاعَنْكُمْ ﴾ يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ مِنَ الذَّنْبِ، وَيَحْتَمِلُ التَّوْسِعَةَ وَالتَّسْهِيلَ( ).

ثبوت النسخ خلافاً لمن أنكره، وهو في هذه الآية صريح، لقوله تعالى: ﴿ فَالْآنَبَاشِرُوهُنَّ ﴾ يعني: وقبل الآن لم يكن حلالاً( ).

﴿فالآن﴾ بعد هذه الرخصة والسعة من الله ﴿باشروهن﴾ وطأ وقبلة ولمسا وغير ذلك( ).

جواز مباشرة الزوجة على الإطلاق بدون تقييد، ويستثنى من ذلك الوطء في الدبر، والوطء حال الحيض، أو النفاس( ).

ينبغي أن يكون الإنسان قاصداً بوطئه طلب الولد، لقوله تعالى: ﴿ وَابْتَغُوامَاكَتَبَاللهُلَكُمْ ﴾( ).

﴿وابتغوا ما كتب الله لكم﴾ أي: انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى والمقصود الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته، وحصول مقاصد النكاح( ).

جواز الأكل، والشرب، والجماع في ليالي الصيام حتى يتبين الفجر، لقوله تعالى: ﴿ وَكُلُواوَاشْرَبُواحَتَّىيَتَبَيَّنَ﴾  فإن تبين أن أكله، وشربه، وجماعه، كان بعد طلوع الفجر فلا شيء عليه( ).

﴿وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر﴾ هذا غاية للأكل والشرب والجماع، وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكا في طلوع الفجر فلا بأس عليه.وفيه: دليل على استحباب السحور للأمر، وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد.وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل، ويصح صيامه، لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، أن يدركه الفجر وهو جنب، ولازم الحق حق( ).

جواز أن يصبح الصائم جنباً ( ).

أن الاعتبار بالفجر الصادق الذي يكون كالخيط ممتداً في الأفق( ).

بياض النهار، وسواد الليل يتعاقبان، فلا يجتمعان، لقوله تعالى: ﴿ حَتَّىيَتَبَيَّنَلَكُمُالْخَيْطُالْأَبْيَضُمِنَالْخَيْطِالْأَسْوَدِ ﴾( ).

من الأفضل المبادرة بالفطر، لقوله تعالى: ﴿ إِلَىاللَّيْلِ ﴾، وقد جاءت السنة بذلك صريحاً، كما في قوله : «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» ( ).

الصيام الشرعي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّأَتِمُّواالصِّيَامَإِلَىاللَّيْلِ ﴾.

﴿ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد﴾ دلت الآية على مشروعية الاعتكاف، وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى، وانقطاعا إليه، وأن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد الذي يقام فيه الصلوات الخمس، وفي الآية دليل على أن الوطء من مفسدات الاعتكاف( ).

الإشارة إلى مشروعية الاعتكاف، لأن الله أقره، ورتب عليه أحكاماً، وقوله تعالى: ﴿ فِيالْمَسَاجِدِ ﴾ بيان للواقع، لأن الاعتكاف المشروع لا يكون إلا في المساجد( ).

النهي عن مباشرة النساء حال الاعتكاف.

استنبط بعض أهل العلم أن الاعتكاف يكون في أواخرشهر رمضان ( ).

﴿تلك﴾ المذكورات - وهو تحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام، وتحريم الفطر على غير المعذور، وتحريم الوطء على المعتكف، ونحو ذلك من المحرمات،﴿حدود الله﴾ التي حدها لعباده، ونهاهم عنها( ).

أوامر الله حدود له، وكذلك نواهيه، لقوله تعالى: ﴿ تِلْكَحُدُودُاللهِ ﴾( ).

﴿ تِلْكَحُدُودُاللهِ ﴾أَيْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ حُدُودُ الله فلا تخالفوها، وَالْحُدُودُ: الْحَوَاجِزُ. وَالْحَدُّ: الْمَنْعُ، وَسُمِّيَتْ حُدُودُ اللَّهِ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا هُوَ مِنْهَا، وَمِنْهَا سُمِّيَتِ الْحُدُودُ فِي الْمَعَاصِي، لأنها تمنع أصحابهما مِنَ الْعَوْدِ إِلَى أَمْثَالِهَا( ).

﴿فلا تقربوها﴾ أبلغ من قوله: "فلا تفعلوها "لأن القربان، يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه، والنهي عن وسائله الموصلةإليه( ).

ينبغي البعد عن المحارم، لقوله تعالى: ﴿ فَلَاتَقْرَبُوهَا ﴾ ( ).

يبين الله سبحانه وتعالى للناس الآيات الكونية، والشرعية، لقوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَيُبَيِّنُاللهُآيَاتِهِلِلنَّاسِ ﴾.

﴿يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون﴾ فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه، فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم، ولو علم تحريمه لم يفعله، فإذا بين الله للناس آياته، لم يبق لهم عذر ولا حجة، فكان ذلك سببا للتقوى( ).

الآيات الكونية هي المخلوقات، فكل المخلوقات ذواتها، وصفاتها، وأحوالها من الآيات الكونية ( ).

الآيات الشرعية: هي ما أنزله الله تعالى على رسله، وأنبيائه من الوحي ( ).

كلما ازداد الإنسان علماً بآيات الله ازداد تقًى، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَايَخْشَىاللهَمِنْعِبَادِهِالْعُلَمَاءُ ﴾( )،  ولهذا يقال: من كان بالله أعرف كان منه أخوف.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسمالسادس والخمسون: الآية 188-189

 

 

 

 

 

تَأْكُلُوا: تأخذوا وتستولوا.

بِالْبَاطِلِ:من دون حق.

تُدْلُوا: تُلقوا.

الْإِثْمِ: شهادة الزور أو اليمين الفاجرة.

الْأَهِلَّةِ: جمع هلال. يقال في أوّل ليلة إلى الثالثة هلال، ثم يقال القمر إلى آخر الشهر.قيل: إنّ الهلال مشتقّ من الإهلال، وهو رفع الصّوت عند رؤيته.

مَواقِيتُ: جمع ميقات، وهو مفعال من الوقت.

تحريم أكل المال بالباطل، و «الْبَاطِلِ» كل شيء ليس لك به حق شرعاً( ).

﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ﴾أي: ولا تأخذوا أموالكم أي: أموال غيركم، أضافها إليهم، لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويحترم ماله كما يحترم ماله؛ ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة( ).

حرص الشارع على حفظ الأموال، لقوله تعالى: ﴿ وَلَاتَأْكُلُواأَمْوَالَكُمْبَيْنَكُمْبِالْبَاطِلِ ﴾، ولأن الأموال تقوم بها أمور الدين، وأمور الدنيا، كما قال تعالى: ﴿ وَلَاتُؤْتُواالسُّفَهَاءَأَمْوَالَكُمُالَّتِيجَعَلَاللهُلَكُمْقِيَامًا ﴾( ).

﴿بِالْبَاطِلِ﴾ولما كان أكلها نوعين: نوعا بحق، ونوعا بباطل، وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل، قيده تعالى بذلك، ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية، أو نحو ذلك، ويدخل فيه أيضا، أخذها على وجه المعاوضة، بمعاوضة محرمة، كعقود الربا، والقمار كلها، فإنها من أكل المال بالباطل، لأنه ليس في مقابلة عوض مباح، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة، ونحوها( ).

كلمة ﴿ وَتُدْلُوا﴾تبين أن اليد التي تأخذ الرشوة هي اليد السفلى، مع كون الحكام الذين تلقى إليهم الأموال في الأعلى لا في الأسفل، فجاءت لتعبّر عن دناءة المرتشي وسفله ولو كان في الذروة من حيث المنصب وموقع المسئولية.

قضاء القاضي لا يؤثرُ في تغيير حرمة أكل المال من قوله:﴿ وَتُدْلُوابِهَاإِلَىالْحُكَّامِ ﴾ ( ).

﴿وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة، وحكم له بذلك، فإنه لا يحل له، ويكون آكلا لمال غيره، بالباطل والإثم، وهو عالم بذلك. فيكون أبلغ في عقوبته، وأشد في نكاله( ).

إذا علمالوكيل أن موكله مبطل في دعواه، لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى: ﴿وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾( ).

لا إثم على الحاكم إذا حكم بما ظهر له وإن كان خلاف الواقع.

تيسير الله سبحانه وتعالى على الحكام بين الناس، حيث لا يعاقبهم على الأمور الباطنة، وإلا لكان الحكام في حرج، ومشقة.

من حُكم له بما يعتقد أنه حق فلا إثم عليه ( ).

بيان علم الله، وسمعه، ورحمته، لقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ ﴾، علم الله بسؤالهم، وسمعه، ورحمهم بالإجابة( ).

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ﴾ جمع - هلال - ما فائدتها وحكمتها؟ أو عن ذاتها( ).

إن الحكمة من الأهلة أنها مواقيت للناس في شؤون دينهم، ودنياهم، لقوله تعالى: ﴿ مَوَاقِيتُلِلنَّاسِ ﴾( ).

﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ أي: جعلها الله تعالى بلطفه ورحمته على هذا التدبير يبدو الهلال ضعيفا في أول الشهر، ثم يتزايد إلى نصفه، ثم يشرع في النقص إلى كماله، وهكذا، ليعرف الناس بذلك، مواقيت عباداتهم من الصيام، وأوقات الزكاة، والكفارات، وأوقات الحج( ).

إن ميقات الأمم كلها الميقات الذي وضعه الله لهم ــــ وهو الأهلة ــــ، فهو الميقات العالمي، لقوله تعالى: ﴿ مَوَاقِيتُلِلنَّاسِ ﴾.

إن الحج مقيد بالأشهر، لقوله تعالى: ﴿ وَالْحَجِّ ﴾.

البر يكون بالتزام ما شرعه الله، والحذر من معصيته، لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّالْبِرَّمَنِاتَّقَى ﴾.

العادات لا تجعل غير المشروع مشروعاً، لقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَالْبِرُّبِأَنْتَأْتُواالْبُيُوتَمِنْظُهُورِهَا ﴾  مع أنهم اعتادوه، واعتقدوه من البر، فمن اعتاد شيئاً يعتقده براً عُرِض على شريعة الله( ).

﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ويستفاد من إشارة الآية أنه ينبغي في كل أمر من الأمور، أن يأتيه الإنسان من الطريق السهل القريب، الذي قد جعل له موصلا فالآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، ينبغي أن ينظر في حالة المأمور، ويستعمل معه الرفق والسياسة، التي بها يحصل المقصود أو بعضه، والمتعلم والمعلم، ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله، يحصل به مقصوده، وهكذا كل من حاول أمرا من الأمور وأتاه من أبوابه وثابر عليه،  فلا بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود( ).

ينبغي للإنسان أن يأتي الأمور من أبوابها، لقوله تعالى: ﴿وَأْتُواالْبُيُوتَمِنْأَبْوَابِهَا ﴾ ( ).

لما نفى أن يكون إتيان البيوت من ظهورها من البر بيّن ما يقوم مقامه، فقال تعالى: ﴿وَأْتُواالْبُيُوتَمِنْأَبْوَابِهَا ﴾.

وجوب تقوى الله، لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوااللهَ ﴾.

تسمى التقوى براً، والتقوى سبب للفلاح، لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْتُفْلِحُونَ﴾( ).

 

 

 

القسمالسابع الخمسون: الآية 190-194

 

 

 

 

 

 

 

وَلَاتَعْتَدُوا:ولا تتجاوزوا الحد فيما أمر الله به أو نهى عنه.

ثَقِفْتُمُوهُمْ: ظفرتم بهم.

الْفِتْنَةُ:الابتلاء.

جَزَاءُ: الجزاء: ما وقع في مقابلة الإحسان أو الإساءة.

العُدْوَانَ:الاعتداء والظلم، والمراد به القتل.

الشَّهْرُالْحَرَامُ: سمي كذلك لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره من القتال.

الْحُرُمَاتُ: ما يجب احترامه والمحافظة عليه.

قِصَاصٌ: القصاص: مقابلة الشيء بمثله.

غَفُورٌ: ساتر على عباده ذنوبهم، ومنه المغفر لأنه يغطّي الرأس. وغفرت المتاع في الوعاء، إذا جعلته فيه لأنه يغطّيه ويستره.

الصراع بين الحق والباطل قديم قدم هذه الحياة، لا يهدأ ولا ينتهي ولا يزول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وإليه يرجعون!! ( ).

وجوب القتال، لقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا ﴾، ووجوب أن يكون في سبيل الله - أي في شرعه، ودينه، ومن أجله -، لقوله تعالى: ﴿ فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾.

لا يذكر في القرآن الكريم لفظ القتال أو الجهاد إِلا ويقرن بكلمة «سبيل الله» وفي ذلك دلالة واضحة على أن الغاية من القتال غاية شريفة نبيلة هي إِعلاء كلمة الله لا السيطرة أو المغنم أو الاستعلاء في الأرض أو غيرها من الغايات الدنيئة( ).

﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ أي: الذين هم مستعدون لقتالكم، وهم المكلفون الرجال، غير الشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال( ).

تحريم الاعتداء حتى على الكفار، لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا﴾، وعلى المسلمين من باب أولى، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمن يبعثهم، كالسرايا والجيوش: «لا تمثلوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً»، لأن هذا من العدوان( ).

﴿وَلا تَعْتَدُوا﴾النهي عن الاعتداء، يشمل أنواع الاعتداء كلها، من قتل من لا يقاتل، من النساء، والمجانين والأطفال، والرهبان ونحوهم والتمثيل بالقتلى، وقتل الحيوانات، وقطع الأشجارونحوها، لغير مصلحة تعود للمسلمين.ومن الاعتداء، مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها، فإن ذلك لا يجوز( ).

إثبات محبة الله - أي أن الله يحب -، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾، وجه الدلالة: أنه لو كان لا يحب أبداً ما صح أن ينفي محبته عن المعتدين فقط، فما انتفت محبته عن هؤلاء إلا وهي ثابتة في حق غيرهم( ).

لا بد لكل أمة من أمم الأرض، تريد أن تحيا حياة العزة والكرامة، من أن تستعد الاستعداد الكامل لمجابهة عدوها بكل ما تملك من قوة، وأن تأخذ بأسباب النصر، فتهيئ شبابها للجهاد والقتال، لأنه لا عيش في هذه الدنيا إلا للأقوياء، ولا منطق إلا للقوة، وقديماً قال شاعرنا العربي:

ومن لم يذُدْ عن حوضه بسلاحه... يُهدّمْ ومن لا يظلم الناس يظلم( ).

حسن تعليم الله عز وجل، حيث يقرن الحكم بالحكمة، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ ( ).

نهى الله تبارك وتعالى عن الغلو، وتعدّي الحدود، والإسراف في أي شيء، ووجّه تعالى إلى أنّ الاقتصاد والاعتصام بالسنة عليهما مدار الدّين( ).

﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ هذا أمر بقتالهم، أينما وجدوا في كل وقت، وفي كل زمان قتال مدافعة( ).

وجوب قتال الكفار أينما وجِدوا، لقوله تعالى: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾، ووجوب قتالهم أينما وجدوا يستلزم وجوب قتالهم في أي زمان، لأن عموم المكان يستلزم عموم الزمان، ويستثنى من ذلك القتال في الأشهر الحرم: فإنه لا قتال فيها، لقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَعَنِالشَّهْرِالْحَرَامِقِتَالٍفِيهِقُلْقِتَالٌفِيهِكَبِيرٌ ﴾ ( ).

﴿عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وأنه لا يجوز إلا أن يبدأوا بالقتال، فإنهم يقاتلون جزاء لهم على اعتدائهم، وهذا مستمر في كل وقت، حتى ينتهوا عن كفرهم فيسلموا، فإن الله يتوب عليهم، ولو حصل منهم ما حصل من الكفر بالله والشرك في المسجد الحرام، وصد الرسول والمؤمنين عنه وهذا من رحمته وكرمه بعباده( ).

أن نخرج هؤلاء الكفار، كما أخرجونا، المعاملة بالمثل، لقوله تعالى: ﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾، ولهذا قال العلماء: إذا مثّلوا بنا مثّلنا بهم، وإذا قطعوا نخيلنا قطعنا نخيلهم مثلاً بمثل سواءً بسواء( ).

الإشارة إلى أن المسلمين أحق الناس بأرض الله، لقوله تعالى: ﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾ ( ).

تعظيم حرمة المسجد الحرام، لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ ( ).

الإسلام دين الله إلى الإنسانية، يهتم بدعوة الناس إلى الدخول في هدايته، والانضواء تحت رايته، لينعموا بحياة الأمن والاستقرار، ويعيشوا العيشة الكريمة التي أرادها الله لنبي الإنسان وإن الأمة الإسلامية. هي الأمة التي اختارها الله لإعلاء دينه، وتبليغ وحيه، وايصال هذا الهدى والنور إلى أمم الأرض( ).

جواز القتال عند المسجد الحرام إذا بدأَنا بذلك أهله، لقوله تعالى: ﴿ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ ( ).

المبالغة في قتال الأعداء إذا قاتلونا في المسجد الحرام، لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ ( ).

وجوب مقاتلة الكفار حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، وقتال الكفار في الأصل فرض كفاية، وقد يكون مستحباً، وقد يكون فرض عين( ).

إثبات العدل لله عز وجل، لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾، والجزاء من جنس العمل.

تمام عدل الله حيث جعل أحكامه، وعقوبته مبنية على عدوان من يستحق هذه العقوبة فقال تعالى﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ ( ).

فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ: أي فلا جزاء ظلم إلا على ظالم. والعدوان: التّعدّي والظّلم سمّي عدوانا على الازدواج والمقابلة( ).

وجوب الكف عن الكفار إذا انتهوا عما هم عليه من الكفر، فلا يؤاخذون بما حصل منهم حال كفرهم، ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿ قُلْلِلَّذِينَكَفَرُواإِنْيَنْتَهُوايُغْفَرْلَهُمْمَاقَدْسَلَفَ ﴾  ( ).

أخذ الأحكام الشرعية مما تقتضيه الأسماء الحسنى، ولها نظائر، منها قوله تعالى في المحاربين: ﴿ إِلَّاالَّذِينَتَابُوامِنْقَبْلِأَنْتَقْدِرُواعَلَيْهِمْفَاعْلَمُواأَنَّاللهَغَفُورٌرَحِيمٌ ﴾ ( ).

إن الأمر بقتالهم مقيد بغايتين، غاية عدمية: ﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ أي حتى لا توجد فتنة، و «الفتنة» هي الشرك، والصد عن سبيل الله، والغاية الثانية إيجابية: ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ بمعنى: أن يكون الدين غالباً ظاهراً لا يعلو إلا الإسلام فقط، وما دونه فهو دين معلو عليه يؤخذ على أصحابه الجزية عن يد وهم صاغرون( ).

ثم ذكر تعالى المقصود من القتال في سبيله، وأنه ليس المقصود به، سفك دماء الكفار، وأخذ أموالهم، ولكن المقصود به أن ﴿يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ تعالى، فيظهر دين الله تعالىعلى سائر الأديان، ويدفع كل ما يعارضه، من الشرك وغيره، وهو المراد بالفتنة، فإذا حصل هذا المقصود، فلا قتل ولا قتال ( ).

إذا وقف أحد في طريق الدعوة، وأراد أن يصدها عن المضي في طريقها، فلا بدّ من دحره، وتطهير الأرض من شره، لتصل هداية الله إلى النفوس، وتعلو كلمة الحق، ويأمن الناس على حريتهم الدينية، في الإيمان بالله الواحد القهار. ولذلك شرع القتال لدفع عدوان الظالمين، ولتحطيم كل قوة تعترض طريق الدعوة، وإيصالها للناس في حرية واطمئنان. وصدق الله ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ﴾ ( ).

﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ عن قتالكم عند المسجد الحرام ﴿فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ أي: فليس عليهم منكم اعتداء، إلا من ظلم منهم، فإنه يستحق المعاقبة، بقدر ظلمه( ).

أنهم إذا انتهوا ــــ إما عن الشرك: بالإسلام،وإما عن الفتنة: بالاستسلام ــــ فإنه لا يعتدى عليهم، لقوله تعالى﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ ( ).

﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ من باب عطف العام على الخاص، أي: كل شيء يحترم من شهر حرام، أو بلد حرام، أو إحرام، أو ما هو أعم من ذلك، جميع ما أمر الشرع باحترامه، فمن تجرأ عليها فإنه يقتص منه، فمن قاتل في الشهر الحرام، قوتل، ومن هتك البلد الحرام، أخذ منه الحد، ولم يكن له حرمة، ومن قتل مكافئا له قتل به، ومن جرحه أو قطع عضوا، منه، اقتص منه، ومن أخذ مال غيره المحترم، أخذ منه بدله( ).

أن الحرمات قصاص، يعني أن من انتهك حرمتك لك أن تنتهك حرمته مثلاً بمثل، ولهذا فرع عليها قولهتعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾( ).

لما كانت النفوس - في الغالب - لا تقف على حدها إذا رخص لها في المعاقبة لطلبها التشفي، أمر تعالى بلزوم تقواه، التي هي الوقوف عند حدوده، وعدم تجاوزها( ).

أن المعتدي لا يجازى بأكثر من عدوانه، لقوله تعالى: ﴿ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾( ).

ولا يُقاتل إلا الباغي المعتدي، الذي يريد أن يفرض إرادته على الأمة بالقهر والسلطان، وأن يصد عن دين الله بقوة الحديد والنار، ويفتن المؤمن بوسائل الفتنة والإغراء. ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾( ).

وجوب تقوى الله عز وجل في معاملة الآخرين، بل في كل حال، لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللهَ ﴾( ).

﴿مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ أي: بالعون، والنصر، والتأييد، والتوفيق( ).

إثبات أن الله مع المتقين، لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾.

.....................

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسمالثامن والخمسون: الآية 195-196

 

 

 

 

 

 

 

التَّهْلُكَةِ: مصير الشيء بحيث لا يدرى أين هو المصير.

أُحْصِرْتُمْ: منعتم من السّير بمرض أو عدوّ أو سائر العوائق.

اسْتَيْسَرَ: تيسّر وسهل.

مِنَ الْهَدْيِ هو ما أهدي إلى البيت الحرام.

مَحِلَّهُ: منحره. يعني الموضع الذي يحلّ فيه نحره.

الأذى: ما يكره ويغتمّ به.

نُسُكٍ: ذبائح، واحدها نسيكة.

الأمر بالإنفاق في سبيل الله، لقوله تعالى:  ﴿ وَأَنْفِقُوافِيسَبِيلِاللهِ ﴾.

﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله، وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله، وهي كل طرق الخير، من صدقة على مسكين، أو قريب، أو إنفاق على من تجب مؤنته( ).

الإشارة إلى الإخلاص في العمل، لقوله تعالى: ﴿ فِيسَبِيلِاللهِ ﴾، ويدخل في هذا: القصد، والتنفيذ ــــ أن يكون القصد لله ــــ، وأن يكون التنفيذ على حسب شريعة الله، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَإِذَاأَنْفَقُوالَمْيُسْرِفُواوَلَمْيَقْتُرُواوَكَانَبَيْنَذَلِكَقَوَامًا ﴾ ( ).

أعظم الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، فإن النفقة فيه جهاد بالمال، وهو فرض كالجهاد بالبدن، وفيها من المصالح العظيمة، الإعانة على تقوية المسلمين، وعلى توهية الشرك وأهله، وعلى إقامة دين الله وإعزازه، والجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة، فالنفقة له كالروح، لا يمكن وجوده بدونها، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله، إبطال للجهاد، وتسليط للأعداء، وشدة تكالبهم، فيكون قوله تعالى: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ كالتعليل لذلك( ).

التهلكة في الآية: هي عدم الانفاق في سبيل الله.

تحريم الإلقاء باليد إلى التهلكة، لقوله تعالى: ﴿ وَلَاتُلْقُوابِأَيْدِيكُمْإِلَىالتَّهْلُكَةِ ﴾،ويتناول كل ما فيه هلاك الإنسان، وخطر في دينه، أو دنياه( ).

والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين: ترك ما أمر به العبد، إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح، فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة، فمن ذلك، ترك الجهاد في سبيل الله، أو النفقة فيه، الموجب لتسلط الأعداء، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف، أو محل مسبعة أو حيات، أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا، أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك، فهذا ونحوه، ممن ألقى بيده إلى التهلكة( ).

أن ما كان سبباً للضرر فإنه منهي عنه، ومن أجل هذه القاعدة عرفنا أن الدخان حرام، لأنه يضر باتفاق الأطباء، كما أن فيه ضياعاً للمال أيضاً، وقد نهى عن إضاعة المال( ).

ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة  الإقامة على معاصي الله، واليأس من التوبة، ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض، التي في تركها هلاك للروح والدين( ).

الأمر بالإحسان، لقوله تعالى: ﴿ وَأَحْسِنُوا ﴾.

الإحسان الذي به تمام الواجب فالأمر فيه للوجوب، وأمّا الإحسان الذي به كمال العمل فالأمر فيه للاستحباب( ).

﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان، لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم.

ويدخل فيه الإحسان بالجاه، بالشفاعات ونحو ذلك، ويدخل في ذلك، الإحسان بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس، من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالهم، وإعانة من يعمل عملا والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك، مما هو من الإحسان الذي أمر الله به، ويدخل في الإحسان أيضا، الإحسان في عبادة الله تعالى( ).

فضيلة الإحسان، والحث عليه، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّاللهَيُحِبُّالْمُحْسِنِينَ ﴾.

إثبات المحبة لله عز وجل، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّاللهَيُحِبُّالْمُحْسِنِينَ ﴾.

إن العمرة، والحج سواء في وجوب إتمامهما، لقوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّواالْحَجَّوَالْعُمْرَةَلِلَّهِ ﴾( ).

يستدل بقوله تعالى:﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ﴾ على أمور:

أحدها: وجوب الحج والعمرة، وفرضيتهما.

الثاني: وجوب إتمامهما بأركانهما، وواجباتهما، التي قد دل عليها فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: "خذوا عني مناسككم "

الثالث: أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة.

الرابع: أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما، ولو كانا نفلا.

الخامس: الأمر بإتقانهما وإحسانهما، وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم لهما.

السادس: وفيه الأمر بإخلاصهما لله تعالى.

السابع: أنه لا يخرج المحرم بهما بشيء من الأشياء حتى يكملهما، إلا بما استثناه الله، وهو الحصر، فلهذا قال: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ أي: منعتم من الوصول إلى البيت لتكميلهما، بمرض، أو ضلالة، أو عدو، ونحو ذلك من أنواع الحصر، الذي هو المنع( ).

وجوب الإخلاص لله، لقوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّواالْحَجَّوَالْعُمْرَةَلِلَّهِ ﴾يعني أتموها لله لا لغيره، لا تراعوا في ذلك جاهاً، ولا رتبة، ولا ثناءً من الناس.

إذا أحصر الإنسان عن إتمام الحج والعمرة فله أن يتحلل، ولكن عليه الهدي، لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْأُحْصِرْتُمْفَمَااسْتَيْسَرَمِنَالْهَدْيِ ﴾ ( ).

﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أي: فاذبحوا ما استيسر من الهدي، وهو سبع بدنة، أو سبع بقرة، أو شاة يذبحها المحصر، ويحلق ويحل من إحرامه بسبب الحصر( ).

أطلق الله تعالى الإحصار، ولم يقيده، لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْأُحْصِرْتُمْ ﴾، فظاهر الآية شمول الإحصار لكل مانع من إتمام النسك.

وجوب الهـــــــــــــدي على من أحصر، لقولـــــــــــــــــــــــــه تعالى: ﴿ فَمَااسْتَيْسَرَمِنَالْهَدْيِ ﴾( ).

أن من تعذر، أو تعسر عليه الهدي فلا شيء عليه، لقوله تعالى: ﴿ فَمَااسْتَيْسَرَمِنَالْهَدْيِ ﴾، ولم يذكر الله بديلاً عند العجز.

لا يجب على المحصر الحلق عند التحلل، لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكره.

لا بد أن يكون هذا الهدي مما يصح أن يهدَى: بأن يكون بالغاً للسن المعتبر سالماً من العيوب المانعة من الأجزاء، لقوله تعالى: ﴿ مِنَالْهَدْيِ ﴾.

﴿وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ وهذا من محظورات الإحرام، إزالة الشعر، بحلق أو غيره، لأن المعنى واحد من الرأس، أو من البدن، لأن المقصود من ذلك، حصول الشعث والمنع من الترفه بإزالته، وهو موجود في بقية الشعر( ).

تحريم حلق الرأس على المحرم، لقوله تعالى: ﴿ وَلَاتَحْلِقُوارُءُوسَكُمْ ﴾، والنهي عام لكل الرأس، ولبعضه، إذاً لو حلق بعضه وقع في الإثم.

لا يحرم حلق شعر غير الرأس، لأن الله خص النهي بحلق الرأس فقط، وأما الشارب، والإبط، والعانة، والساق، والذراع، فلا يدخل في الآية الكريمة، لأنه ليس من الرأس، والأصل الحل، وهذا ما ذهب إليه أهل الظاهر.

لا يجوز الحلق إلا بعد النحر، لقوله تعالى:﴿ حَتَّىيَبْلُغَالْهَدْيُمَحِلَّهُ ﴾.

جواز حلق الرأس للمرض، والأذى، لقوله تعالى:﴿ فَمَنْكَانَمِنْكُمْمَرِيضًاأَوْبِهِأَذًىمِنْرَأْسِهِ...﴾( ).

وجوب الفدية على المحرم إذا حلق رأسه ( ).

التيسير على العباد، وذلك بوقوع الفدية على التخيير.

أن كفارات المعاصي فدًى للإنسان من العقوبة، لقوله تعالى:﴿ فَفِدْيَةٌمِنْصِيَامٍأَوْصَدَقَةٍ...﴾( ).

جواز التمتع بالعمرة إلى الحج ( ).

﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ أي: بأن قدرتم على البيت من غير مانع عدو وغيره، ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ بأن توصل بها إليه، وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها( ).

تيسير الله على العباد، لقوله تعالى: ﴿ فَمَااسْتَيْسَرَمِنَالْهَدْيِ ﴾، والدين كله من أوله إلى آخره مبني على اليسر( ).

﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أي: فعليه ما تيسر من الهدي، وهو ما يجزئ في أضحية، وهذا دم نسك، مقابلة لحصول النسكين له في سفرة واحدة، ولإنعام الله عليه بحصول الانتفاع بالمتعة بعد فراغ العمرة، وقبل الشروع في الحج، ومثلها القِران لحصول النسكين له.ويدل مفهوم الآية، على أن المفرد للحج، ليس عليه هدي، ودلت الآية، على جواز، بل فضيلة المتعة، وعلى جواز فعلها في أشهر الحج( ).

﴿ فَمَنْلَمْيَجِدْفَصِيَامُثَلَاثَةِأَيَّامٍفِيالْحَجِّ ﴾ من لم يجد الهدي، أو ثمنه، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج ( ).

﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ أي الهدي أو ثمنه ﴿فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ أول جوازها من حين الإحرام بالعمرة، وآخرها ثلاثة أيام بعد النحر، أيام رمي الجمار، والمبيت بـ "منى" ولكن الأفضل منها، أن يصوم السابع، والثامن، والتاسع( ).

صيام السبعة لا يجوز في أيام الحج، لقوله تعالى: ﴿ وَسَبْعَةٍإِذَارَجَعْتُمْ ﴾( ).

﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ أي: فرغتم من أعمال الحج، فيجوز فعلها في مكة، وفي الطريق، وعند وصوله إلى أهله( ).

يجوز التتابع، والتفريق بين الأيام الثلاثة،والأيام السبعة، لأن الله سبحانه وتعالى أطلق، ولم يشترط التتابع، ولو كان التتابع واجباً لذكره الله، كما ذكر وجوب التتابع في صيام كفارة القتل، وصيام كفارة الظهار( ).

تيسير الله ــــ تبارك وتعالى ــــ على عباده، حيث جعل الأكثر من الصيام بعد رجوعه، لقوله تعالى: ﴿ وَسَبْعَةٍإِذَارَجَعْتُمْ ﴾.

﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من وجوب الهدي على المتمتع ﴿لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ بأن كان عند مسافة قصر فأكثر، أو بعيدا عنه عرفات، فهذا الذي يجب عليه الهدي، لحصول النسكين له في سفر واحد، وأما من كان أهله من حاضري المسجد الحرام، فليس عليه هدي لعدم الموجب لذلك( ).

لا يجب الهدي، أو بدله من الصيام على من كان حاضر المسجد الحرام، لقوله تعالى:﴿ ذَلِكَلِمَنْلَمْيَكُنْأَهْلُهُحَاضِرِيالْمَسْجِدِالْحَرَامِ ﴾.

فضيلة المسجد الحرام، لوصف الله سبحانه وتعالى له بأنه حرام ــــ أي ذو حرمة ــــ، ومن حرمته تحريم القتال فيه، وتحريم صيده، وشجره، وحشيشه، وأن من أراد الإلحاد فيه بظلم أذاقه الله من عذاب أليم ( ).

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي: في جميع أموركم، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ومن ذلك، امتثالكم، لهذه المأمورات، واجتناب هذه المحظورات المذكورة في هذه الآية( ).

............................

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القسم التاسع والخمسون: الآية 197-199

 

 

 

 

 

 

فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ: أي ألزمه نفسه بالشروع فيه بالإحرام به.

والفرض: الإيجاب والإلزام، وأصله الحدّ.

رَفَثَ:الرفث القول الفاحش البذيء وقربان النساء.

فُسُوقَ: الفسوق: الخروج عما حدده الشرع.

جِدَالَ:الجدال: المراء والخصام.

الزَّادِ:الأعمال الصالحة وما يدخر من الخير.

جُنَاحٌ:حرج وإثم.

أَفَضْتُمْ: دفعتم بكثرة.

فَاذْكُرُوا: الذكر: الدعاء والتلبية والتكبير والتحميد.

الْمَشْعَرِ الْحَرامِ: هو مزدلفة،والمشعر: المعلم لمتعبّد من متعبّداته( ). وجمعه مشاعر.

ذكر الحج في الآية ثلاث مرات.المراد بالأول: زمان الحج.وبالثاني: الحج نفسه المسمى بالنسك.وبالثالث: ما يعم الزمان والمكان وهو الحرم.

الحج موسم عبادة، وموسم تجارة، وفيه منافع اقتصادية( ).

يخبر تعالى أن ﴿الْحَجَّ﴾ واقع في ﴿ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ عند المخاطبين، مشهورات، بحيث لا تحتاج إلى تخصيص، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره، وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس( ).

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ: شوّال وذو القعدة وعشر ذي الحجّة، أي خذوا في أسباب الحجّ، وتأهّبوا له في هذه الأوقات من التّلبية وغيرها ( ).

﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ أي: أحرم به، لأن الشروع فيه يصيره فرضا، ولو كان نفلا.

واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه، على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره( ).

من تلبس بالحج، أو العمرة وجب عليه إتمامه، وصار فرضاً عليه، لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْفَرَضَفِيهِنَّالْحَجَّ ﴾ ( ).

تحرم المحظورات بمجرد عقدالإحرام - وإن لم يخلع ثيابه من قميص، وسراويل، وغيرها، لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْفَرَضَفِيهِنَّالْحَجَّفَلَارَفَثَ ﴾، لأنه جواب الشرط، وجواب الشرط يكون تالياً لفعله، فبمجرد أن يفرض فريضة الحج تحرم عليه المحظورات( ).

﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج، وخصوصا الواقع في أشهره، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه، من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصا عند النساء بحضرتهن.والفسوق وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام.والجدال وهو:المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة( ).

الإحرام ينعقد بمجرد النية - أي نية الدخول إلى النسك، وتثبت بها الأحكام - وإن لم يلبّ، لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْفَرَضَفِيهِنَّالْحَجَّفَلَارَفَثَ ﴾( ).

تحريم الفسوق، لقوله تعالى: ﴿ وَلَافُسُوقَ ﴾.

تحريم الجدال، لقوله تعالى: ﴿ وَلَاجِدَالَفِيالْحَجِّ ﴾ ( ).

البعد حال الإحرام عن كل ما يشوش الفكر، ويشغل النفس، لقوله تعالى: ﴿ وَلَاجِدَالَفِيالْحَجِّ ﴾.

﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ فكل خير وقربة وعبادة، داخل في ذلك، أي: فإن الله به عليم، وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير، وخصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة، فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها، من صلاة، وصيام، وصدقة، وطواف، وإحسان قولي وفعلي( ).

الحث على فعل الخير، لأن قوله تعالى:﴿ وَمَاتَفْعَلُوامِنْخَيْرٍيَعْلَمْهُاللهُ ﴾  يدل على أنه سيجازي على ذلك، ولا يضيعه، قال تعالى:﴿ وَمَنْيَعْمَلْمِنَالصَّالِحَاتِوَهُوَمُؤْمِنٌفَلَايَخَافُظُلْمًاوَلَاهَضْمًا ﴾  ( ).

الخير سواء قلّ، أو كثر، فإنه معلوم عند الله، لقوله تعالى: ﴿ مِنْخَيْرٍ﴾، وهي نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم( ).

عموم علم الله تعالى بكل شيء، لقوله تعالى: ﴿وَمَاتَفْعَلُوامِنْخَيْرٍيَعْلَمْهُاللهُ﴾

ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك، فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين، والكف عن أموالهم، سؤالا واستشرافا، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين، وزيادة قربة لرب العالمين، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع( ).

أنه ينبغي للحاج أن يأخذ معه الزاد الحسيّ من طعام، وشراب، ونفقة، لئلا يحتاج في حجه، فيتكفف الناس، لقوله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا ﴾( ).

الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه، في دنياه، وأخراه، فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة، وأجل نعيم دائم أبدا، ومن ترك هذا الزاد، فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين. فهذا مدح للتقوى( ).

أن التقوى خير زاد، كما أن لباسها خير لباس، فهي خير لباس، لقوله تعالى: ﴿ وَلِبَاسُالتَّقْوَىذَلِكَخَيْرٌ ﴾( )، وهي خير زاد، لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّخَيْرَالزَّادِالتَّقْوَى ﴾.

وجوب تقوى الله، لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُونِ ﴾.

أصحاب العقول هم أهل التقوى، لقوله تعالى:﴿ وَاتَّقُونِيَاأُولِيالْأَلْبَابِ ﴾( )

﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ﴾ أي: يا أهل العقول الرزينة، اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول، وتركها دليل على الجهل، وفساد الرأي( ).

كلما نقص الإنسان من تقوى الله كان ذلك دليلاً على نقص عقله - عقل الرشد، بخلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت من ناقصات عقل، ودين» ( ).

جواز الاتجار أثناء الحج بالبيع، والشراء، والتأجير ــــ كالذي يؤجر سيارته التي يحج عليها في الحج، لقوله تعالى: ﴿ لَيْسَعَلَيْكُمْجُنَاحٌأَنْتَبْتَغُوافَضْلًامِنْرَبِّكُمْ ﴾( ).

ينبغي للإنسان في حال بيعه، وشرائه أنيكون مترقباً لفضل الله لا معتمداً على قوته، وكسبه، لقوله تعالى: ﴿ أَنْتَبْتَغُوافَضْلًامِنْرَبِّكُمْ ﴾.

لما أمر تعالى بالتقوى، أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره، ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج، وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله، لا منسوبا إلى حذق العبد، والوقوف مع السبب، ونسيان المسبب، فإن هذا هو الحرج بعينه( ).

ظهور منة الله على عباده بما أباح لهم من المكاسب، وأن ذلك من مقتضى ربوبيته سبحانه وتعالى، حيث قال تعالى: ﴿ فَضْلًامِنْرَبِّكُمْ ﴾( ).

مشروعية الوقوف بعرفة، لقوله تعالى:﴿ فَإِذَاأَفَضْتُمْمِنْعَرَفَاتٍ ﴾ ( ).

وفي قوله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ دلالة على أمور:

أحدها: الوقوف بعرفة، وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج، فالإفاضة من عرفات، لا تكون إلا بعد الوقوف.

الثاني: الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام، وهو المزدلفة، وذلك أيضا معروف، يكون ليلة النحر بائتا بها، وبعد صلاة الفجر، يقف في المزدلفة داعيا، حتى يسفر جدا، ويدخل في ذكر الله عنده، إيقاع الفرائض والنوافل فيه.

الثالث: أن الوقوف بمزدلفة، متأخر عن الوقوف بعرفة، كما تدل عليه الفاء والترتيب.

الرابع، والخامس: أن عرفات ومزدلفة، كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها، وإظهارها.

السادس: أن مزدلفة في الحرم، كما قيده بالحرام.

السابع: أن عرفة في الحل، كما هو مفهوم التقييد بـ "مزدلفة "( ).

أنه يشترط للوقوف بمزدلفة أن يكون بعد الوقوف بعرفة، لقوله تعالى: ﴿ فَإِذَاأَفَضْتُمْمِنْعَرَفَاتٍفَاذْكُرُوااللهَعِنْدَالْمَشْعَرِالْحَرَامِ ﴾.

الصلاة من ذكر الله، لقوله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُوااللهَعِنْدَالْمَشْعَرِالْحَرَامِ ﴾ ( ).

بيان أن مزدلفة من الحرم، لقوله تعالى: ﴿ عِنْدَالْمَشْعَرِالْحَرَامِ ﴾.

عرفة مشعر حلال، لأنها من الحل، ولهذا يجوز للمحرم أن يقطع الأشجار بعرفة( ).

﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ أي: اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم، التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان( ).

إذا جعلنا الكاف للتعليل في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوهُكَمَاهَدَاكُمْ ﴾فالمعنى: اذكروا الله تعالى لما أنعم عليه به من الهداية.

إذا جعلنا الكاف للتشبيه في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوهُكَمَاهَدَاكُمْ ﴾فالمعنى: اذكروه على الوجه الذي هداكم له، فيستفاد منها أن الإنسان يجب أن يكون ذكره لله على حسب ما ورد عن الله عزّ وجلّ( ).

الذكر المشروع ما وافق الشرع، لقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوهُكَمَاهَدَاكُمْ ﴾( ).

تذكير الإنسان بحاله قبل كماله، ليعرف بذلك قدر نعمة الله عليه، لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْكُنْتُمْمِنْقَبْلِهِلَمِنَالضَّالِّينَ ﴾، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: «ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي» ( ).

متى أفاض الإنسان من حيث أفاض الناس لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّأَفِيضُوامِنْحَيْثُأَفَاضَالنَّاسُ ﴾ فإنه يلزم من ذلك أن يكون قد بات بمزدلفة( ).

﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ أي: ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس، من لدن إبراهيم عليه السلام إلى الآن، والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا عندهم، وهو رمي الجمار، وذبح الهدايا، والطواف، والسعي، والمبيت بـ "منى "ليالي التشريق وتكميل باقي المناسك( ).

كان هذا النسك أمراً معلوماً يسير الناس عليه من قديم الزمان، لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّأَفِيضُوامِنْحَيْثُأَفَاضَالنَّاسُ ﴾( ).

﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والإكثار من ذكره، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد، في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة( ).

قرن الحكم بالعلة، لقوله تعالى:﴿ وَاسْتَغْفِرُوااللهَ إِنَّاللهَ غَفُورٌرَحِيمٌ ﴾، وقرن الحكم بالعلة في مثل هذا يفيد الإقدام، والنشاط على استغفار الله عزّ وجلّ( ). 

تم الجزء الثاني ويليه الثالث بإذن الله تعالى

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

والثمن الجنة لعبد الملك القاسم

سلسلة أين نحن من هؤلاء ؟  كتاب والثمن الجنة لعبد الملك القاسم  بسم الله الرحمن الرحيم  المقدمة  الحمد لله الذي وعد من أطاعه جنات عدن تجري ...