دعاء الاموات لمشاري

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate

الجمعة، 3 مارس 2023

مقالات في الطفولة من مجلة الرسالة والنسيان في نظر التحليل النفسي والعقدة النفسية عند الاطفال وخواطر الطفولة ..


إياك

وعلى الآباء ألا يكونوا أشبه شيء بالشرطة، وأن لا ينظروا إلى الحياة نظر هؤلاء إليها فيأخذوا الناس بالوعيد وييضعوا لهم الذُر وألوان التهديد، فإن واجب الشرطي أن يراقب الناس ويكون بمرصد لمن يعتدي على القانون ويخالف السنة ويركب رأسه في هذه الحياة، ولكن واجبك أيها الوالد أن تزرع في فؤاد صبيك حب القانون ولا يتوفر لك ذلك إلا إذا جنيت نفسك استعمال آداب الشدة وعبارات النهي والزجر ما استطعت إلى ذلك سبيلا. وتوفرت على تصوير الخير أمام أعين أطفالك وبصيرتهم بجماله وأريتهم وجه صلاحه وسداد الرأي في اتباعه فذلك أنفع لهم وأحدى عليك من تحذيرهم الشر وإصرارك على تكريههم فيه وزرع البغضاء له في قلوبهم من طريق النهي والزجر والتأنيب. فدع قولك لصبيك. . . إنك لطفل خبيث شرير. . . . . واستعض عنه قولك في رفق. . . . إنك لست بالمحمود الخلق الآن. . . . . وبدلا من أن تصدر له وخامة العاقبة إذا هو حاد عن طريق الخير وشذ عن قانونك الذي وضعته له. يخلق بك أن تصور حسن العواقب إذا هو أطاع قانونك وعمل بإرادتك وصدع برأيك. فبدلاً من تقول له. . . . . إنك مخطئ. . . لا تقطف الأزاهر من أفنانها - لا تبك لأنك قذرً. . . . لا تصرخ. . . . . لا تحدث هذه الضوضاء!. . . . لا تهبط عن مقعدك!. . . لا تكن قاسياً معك أخيك!. . . . يحسن لك أن تقول له في رفق وهداوة ولين، لقد ارتكبت هفوة. . . . . . الله في الأزاهر المسكينة. خل عنك البكاء وكن فرحاً طروباً. اجتهد أن تكون أنظف هنداماً. . . تكلم بصوت رقيق خفيض. . . رفقاً رفقاً. . . . أرجوك أن تمكث في مكانك - ترفق بأخيك. . . . . وهلم. . . . .

فإذا أنت فعلت ذلك لم تلبث أن بوناً شاسعاً بين الأدبين، وفرقاً عظيماً، فإن آداب النهي والزجر تبصر الطفل بكل ما هو شر وأثم، وتريه أنه الطفل الشرير الأثيم. أما آدب العرف والرفق فتدله على الجميل وتجلبه إلى الخير وتعوده التزامه والدأب عليه وسلوك مالكه.

فعليك أن تأخذ إذن بالآداب الموجبة وتحاش الآداب السالبة، وليكن مقصدك الحض على الخير لإزالة الشر بتنبيه الطفل إليه.

العناية بالبدن

من الناس طائفة يرون أنه إذا اعتنى الإنسان بصحة الطفل فلا مشاحة في أنه سيروح بطبيعة الحال فرحاً ذكياً نشيطاً متقدماً في النماء، مون الناس آخرون يذهبون إلى أن الصحة لا أهمية لها البتة في ترقية عقول الأطفال وتهذيبهم وإعدادهم للأغراض السامية التي يتطلع الآباء إليها في الحياة، ونحن نتخذ مكاناً وسطاً بين الرأيين ولا نغالي في المذهب مغالاة الرأيين بل نقول أنه إذا أهملت تربية الذهن والأخلاق فلا شك في أن الصحة لا تلبث أن تفسد وتهن يوماً وإنه إذا غفل أمر الصحة فمن الصعب أو المستحيل أن يصل المربي إلى تحقيق شيء من المقاصد الأخلاقية التي يريدها لطفله ولا أمل في تنمية مدارك الطفل أو تهذيب خلقه.

فحذار أن تستهين بأمر صحة الأطفال فإنك إن فعلت سقطت عنك وظائف المربي المهذب فأما العناية بثياب الأطفال الداخلية اللاصقة بأبدانهم والعمل على تنظيفهم أبداً فأمر معلوم لا يريد بسطاً ولا شرحاً ولكن ينبغي أن تحشد العناية التامة بوجه خاص لكل ما يمس الأطعمة ويختص بنظافتها وجودتها وصلاحيتها.

ومما هو بسبيل ذلك أن يعتني الآباء بأمر اللبان وغيرها من الأطعمة ويهتموا باختيار أجودها وأصلحها وأصحها، ويغلى اللبن أو كل ما هو أشبه به من الأطعمة أو وضعه فوق النار قبل تقديمه للأطفال بل لطالما رأينا الآباء العقلاء بعيدي النظر لا يفتأون يغلون اللبن أو الماء قبل إعطائهم لأصبيتهم - ثم لا ننس وجوب تغيير الأطعمة والأوان الأطعمة وألوان الأكل وتنويعها من حين إلى حين كما تقتضيه فصول العام وتستوجبه اختلافات الطقس والهواء.

ويجب أن يقدم إليهم في كل يوم لون من الفاكهة أو نوع من الحلوى. وينبغي أن تكون المآكل في منتهى البساطة دون أن ينقصها التنويع والتغيير ثم ينبغي للأطفال الدفء في الشتاء والاشتمال بالثياب الباعثة عليه والتخفف منها في الصيف والارتداء بالثياب المناسبة له الصالحة لجوه ولاغناء عن تغيير ثياب النوم عند تغيير كل فصل أو مرحلة من العام، ولا بد من أن يكونوا في وقاء من تقلبات الطقس أو من التيارات الهوائية عند النوم وهبات الرياح في الشتاء وأيام البرد ثم لا ينبغي إذا كفلت للأطفال مستلزمات الرياضة في الهواء الطلق والنسيم العليل أن يحمل على الأطفال بالتعب ويطلب منهم الإجهاد والاستمرار حتى يدركهم اللغوب بل يجب أن تحترم رغبتهم في الراحة وينزل عن طلبهم عند الجهد والكلال. فإذا رأيت الطفل قلقاً باكياً أو نحو ذلك، فانتظر وتحر السبب لعل الباعث هواء الحجرة أو خلوها منه أو درجة الهضم عند الطفل أو فساد معدته. فإذا ألمّ به ما يلم بالأطفال من الدعكات الانحرافات فعليك استشارة الطبيب للتو والساعة وإنفاذ وصاياه ووصفاته مراعياً الدقة التامة والحذر الشديد، وينبغي لك العناية بأسنان الطفل من الحين إلى الحين والنظر إليها وتقفقد شئونها وحالاتها ثم فحص عينيه وجميع أطراف بدنه وأطراف جثمانه فإذا تيسر لك الوقوع على طبيب تستطيع أن تسترشد به في أمر تربية طفلك فلا تن عن الاسترشاد به والركون إلى نصائحه. وإذا أمكنك الحضور إلى محاضرات التربية والجلوس إلى مذكرات التمريض ودروس الإسعافات الوقتية وما إليها من الدروس التي تلقى على الجماهير لتدريبهم على مستلزمات الصحة فافعل ولا تتأخر وادخر لك إذا استطعت كتاباً أو دليلاً من الكتب الطبية التي وضعت لإرشاد الآباء خاصة.

وبد فإنه لا يتسع المقام هنا للاستطراد في ذكر وجوه عديدة من شرائط العناية بالصحة ولا استيعاب هذا الباب برمته. ولكن إذا كنت قد أدركت روح هذه التعاليم التي بسطناها لك فقد سهل عليك أن تجد لنفسك ما يلزم للطفل من العناية البدنية وما يجب وما يصلح. واعلم أننا نريد في جميع أجزاء هذا الكتاب الذي توفرنا فيه على حشد مبادئ التربية الحديثة أن نفهم الناس أن الوالد الذي يهمل أمر الصحة أو يغفل أمر الخلق إنما يهمل بذلك الصحة والخلق معاً.

الأدوار الأربعة للحياة

الآن وقد بسطنا لك المبادئ الأولية في التربية فنحن مستطردون إلى الطرائق الواجبة لها. ومن هنا يصح لنا أن نقسم التربية إلى أربعة أدوار - فالدور الأول - من وقت الميلاد إلى سن الثانية ومنتصف الثالثة. - والدور الثاني - في هذه السن الأخيرة إلى السابعة - والدور الثالث - من السابعة إلى الربيع الواحد والعشرين أو حواليه والدور الأخير من ثمت إلى السنين التالية.

ففي الدور الأول - إذ يكون الطفل عاجزاً عن الإدراك - لا سبيل عليه لا من ناحية تكوين العادات المحمودة. وأما الدور الثاني إذ يكون قد أصاب قسطاً من الإدراك يكفل له فهم أوامرك. فلا سلطان لك عليه إلا من ناحية الطاعة. وفي الدور الثالث حيث يكون الصبي قد تهذبت قواه العقلية وعرف ضبط نفسه ليكن رائدك الحث ومقصدك الأول الحض والترغيب وإن كانت الإرادة الشخصية هي الباعث الأكبر على الصلاح في هذا الدور الثالث.

والذي قصدنا إليه من وضع هذا الكتاب لا يتعدى بسط المبادئ الرشيدة الواجبة للأدوار الثلاثة الأولى وأما الدور الأخير فلا سلطان لنا عليه.

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 52

كيف تربي طفلك

======== 

بتاريخ: 03 - 09 - 1951 . 

للآنسة فائزة علي كامل

- 2 -

وقنا مع فرويد في المقال السابق على تفسير جديد للنسيان بناء على دراسته لبعض الأفعال التي تحدث في حياتنا اليومية كنسيان اسم شخص أو موضع شيء. . . الخ، وسنعرض هذه المرة لعملية النسيان في المجال المرضى. فهنا نجد أن فرويد قد نسب إلى هذه العملية أهمية بالغة إذ تبين إنها العلة لبعض الأمراض النفسية كالهستيريا. فما الذي أدى به إلى هذه النتيجة!

فيما قبل فرويد كانت توجد بديهية طبية هي (فكر تفكيرا تشريحيا) فكانت فكرة المرض مرتبطة بفكرة الإصابة. فمعنى أن نفكر تشريحيا هو أن ننظر إلى الإنسان من ناحية بناء جسمه ونتناسى الناحية الوظيفية للأعضاء. فنعتقد بوجود (أشياء) لا (أفعال). ولكن اتضحت مضار الأخذ بهذا الرأي إذ كان له أسوأ النتائج من الناحية العلاجية إذ ساد الأيمان بأن ما هدم أو فقد فلا أمل في برئه. فكان الأطباء يقفون مكتوفي الأيدي أمام مرض (الأفازيا) أي اختلال الوظائف اللغوبية) بناء على ذلك الأساس.

ثم عدل عن هذه البديهية وأخذ ببديهية أخرى هي (فكر تفكيراً فسيولوجيا) أي يجب ان نراعي الأفعال فلا نهمل ما تقوم به الأعضاء من وظائف. ولكن جاء فرويد وأظهر ان التفكير الفسيولوجي لا يكفي أيضاً، ويجب ان نفكر تفكيرا سيكلوجيا، ففي كثير من الحالات التي ترددت عليه وجد أن العلة مشكله سيكلوجيه. هذا بالإضافة إلى أبحاث (بروير التي ساعدته الى حد كبير على الوصول إلى ما وصل إليه خاصاً بالهستيريا.

فقد حدث أن جاءت (لبروير) فيما بين سنة 1880 وسنة 1881 فتاة تدعى تعاني حاله هستيرية. كانت في العشرين من عمرها، على جانب من الذكاء، طيبة القلب، تبالغ في مرحها وتفرط في حزنها. كانت تعيش في عالم من أحلام اليقظة إذ لم تشأ الظروف أن تجعلها تقع في شراك إحدى تجارب حب الشباب. وكانت أعراضها الهستيرية تنحصر في شلل الذراع الأيمن بصفة خاصة. وبعد أربعة شهور من ظهور هذه الأعراض توفى والدها فأصابها (التجوال النومي عقب ذلك عد (بروير) فترة حضانة المرض من بداية مرض والدها إذ كانت متعلقة به تعلقاً شديداً وتمضي كل وقتها في القيام بتمريضه. فبعد وفاته ازدادت حالتها سوءاً فاشتدت هلوستها التي كانت تدور حول الأفاعي ووصلت الى حد مرعب شنيع. وصارت تراودها فكرة الانتحار من حين لآخر وتصيبها غيبوبات في ميعاد واحد كل يوم. كذلك فقدت معرفتها للغتها الأصلية وهي الألمانية، وأصبحت لا تستطيع إلا تكلم اللغة الإنجليزية وأخيراً تكلمت الفرنسية والإيطالية.

ابتدأ (بروير) في تطبيق طريقته العلاجية مع هذه الفتاة فلاحظ إنها تعود الى حالتها الذهنية العادية عندما يساعدها أثناء التنويم المغناطيسي على تذكر الموقف والأشياء المرتبطة به مع إفساح المجال للانفعالات التي قد يثيرها هذا التذكر. فهذا التنظيف الروحي أدى الى اختفاء كثير من الأعراض، وكانت هي نفسها تسمي هذه الطريقة أو وقد كان ذلك تشجعاً (لبروير) على الاستمرار إذ كانت تصرح له المريضة بأن يدعها تتحدث لأنها تجد في ذلك شفاء.

ومن حديثها استطاع (بروير) الوصول إلى كيفية تكون العرض الخاص بشلل ذراعها. ففي ذات ليله كانت المريضة تجلس إلى جوار سرير والدها المريض واضعه ذراعها اليمنى على ظهر الكرسي. وفي حلم يقظة رأت أفعى سوداء تخرج من الحائط وتسعى للدغ والدها وهنا حاولت أن تبعدها ولكنها لم تستطيع. إذ شعرت بشلل في ذراعها الأيمن الذي كانمنملا) بحكم وضعه. وفي هذه اللحظة حاولت أن تصلي ولكنها وجدت أنها لا تعرف شيئاً من الألمانية ولم تجد في ذهنها إلا دعاء الإنجليزية فرددته.

وحدث أثناء العلاج أن ظهر عرض جديد. فكانت المريضة تأخذ كوب الماء في يدها ولكن ما كاد يلمس شفتيها حتى تدفعه بعيدا كما لو كانت تعاني مرض الهيدروفوبيا الخوف المرضي من الماء) فكانت لا تستطيع الشرب على الرغم من شدة الحر في تلك الأيام، وكانت تلجأ إلى أكل الفواكه مثل البطيخ لتخفيف من شدة عطشها. استمر الحال كذلك لمدة ستة أسابيع وفي ذات تحدثت أثناء نومها المغناطيسي عن مربيتها الإنجليزية التي كانت تكرها. ثم ذكرت حادثه مؤداها أن هذه المربية سمحت لكلب ذات مره أن يشرب من كوب كانت تشرب منه المريضة فتضايقت أشد المضايقة ولكنها اضطرت الى قمع اشمئزازها تأدبا. بعد أن سردت هذه الواقعة وعبرت تعبيراً قوياً عما سبب غضبها وأثار اشمئزازها طلبت كوبا من الماء وشربته، وأفاقت من غيبوبة التنويم المغناطيسي وكوب الماء على شفتيها. ومنذ هذه الجلسة زال خوفها من الماء وبالمثل اختفت كل أعراضها الهستيرية والقليل الذي بقي كان عضوي المنشأ.

انتهى (بروير) من هذه الحالة إلى نتيجتين: الأولى، وهي خاصة بالناحية العلية، ومجملها أن بعض الأعراض المرضية سببها ذكريات لا يستطيع الشخص استحضارها إراديا. . أي أنها على أنها ذكريات لا شعورية. الثانية، وتتعلق بالطريقة العلاجية، وهي تبين أن مجرد استكمال الذكرى المؤلمة المنسية في الشعور مع التصريف الانفعالي يؤديان إلى الشفاء. وقد قام التحليل النفسي على هاتين النتيجتين اللتين توصل إليهما (بروير) إذ اتخذ منهما (فرويد) بداية في أبحاثه في (العصاب العظيم) وهو الهستيريا. ففي عام 1895 ظهر لهما هما الاثنان بعنوان (دراسات في الهستيريا).

في هذا الكتاب أتى (فرويد) بآراء جديده على جانب من العمق فأظهر أن الهستيريا مرض نفسي يمتاز بضيق في ميدان الشعور. وكان (جانيه) يرجع ذلك الضيق إلى أسباب عضويه. . أما (فرويد) فإن كان لم يستبعد تلك الأسباب كليه إلا إنه أعلن أنها لا تعد تعليلا كافيا. ففي نظر (فريد) أن فشل بعض التصورات في شق طريقها الى الشعور إنما يرجع إلى استبعادها نتيجة لانعكاس دفاعي، فهذه التحولات محملة بشحنه مؤلمة لتعارضها مع الميول الرئيسية الموجودة في الشعور. ولذلك فإنها تكبت ومن ثم فالهستيريا تقوم على الكبت. وهذه أول إضافة فرويد إلى آراء (بابنسكي) و (جانيه).

لقد اتفق (فرويد) مع (جانيه) على أن علة الاضطراب الهستيري هي التأثير اللاشعوري، ولكن فيما عدا ذلك فإنه يوجد تباين شديد بين آرائهما. فالنسبة لجانيه يمكن أن يشبه النشاط النفسي بقاطرة إذا توقفت فذلك يرجع أما إلى كسر أو التواء في بعض أجزائها. وهذا يمثل التوتر. وإما إلى حاجة القاطرة الى ماء أو فحم، وهذا يمثل الاضطراب الديناميكية النفسية أو العصبية التي يمكن إصلاحها. أما فرويد فينظر الى الامر نظرة أخرى. . فهو يمثل النشاط النفسي بقاطرتين إذا سارتا في اتجاهين متقابلين في طريق واحد فإنهما سيتصادمان ولن يستطيعا التقدم، وهذا يمثل نوعا جديدا من الاضطراب لم يقل به أحد قبل (فرويد) وهو الكف فهذا الاضطراب لا يرجع إلى التوتر ولا الى نقص عصبي أو نفسي وإنما يرجع إلى اضطرابات ديناميكية متقابلة. فآراء فرويد مركزة حول فكرة إيجابية هي الصراع بينما آراء (جانيه) تدور حول فكرة سالبة هي النقص

وثمت فكرة اخرى فسرها (فرويد) وهي الاعراض الجسمية الهستيرية كانحباس الصوت او الرجفة او الشلل. وقد اطلق عليها اسم (الهستيريا التحولية) فهذه ليست الا الطاقة المؤثرة المكبوتة المتجمعة في اللاشعور. ولكن كيف يمكن لهذه الطاقة ان تتحول الى اعراض جسمية؟ يجيب (فرويد) بان العرض الهستيري مثله كمثل الحلم. فهو يدل على رغبة مكبوتة يجب الا تظل كذلك لانها ما دامت هي مدفونة في اللاشعور فانها لنتكف عن التعبيرعن نفسها بواسطة اعراض شديدة الاختلاف انه لا يكفي استبعاد الاعراض لان مثل ذلك كمثل من يقطع الاعشاب السطحية ويبقى على الجذور. فالمصابون بالاعراض الهستيرية لم ينتهوا بعد من الموقف المؤلم او الصدمة التي لحقت بهم، انهم يظلون متعلقين بالموقف الماضي ويصبحون غرباء عن الحاضر والمستقبل. ثم يختفي ذلك الموقف في طيات النسيان ويصبح لا شعوريا ويحل محله الاعراض الهستيرية التي ما هي الا الصراع فيصور، مختلفة. ولا يحدث ذلك من صدمة واحدة وانما بعد معاناة عدة صدمات. وهو يعني بالصدمة كا ما يجلب استثارة في الحياة النفسية تبلغ حدا من العنف بحيث يصبح قمعها او التسامي بها امرا مستحيلا بواسطة الطرق العادية. فتلك هي العلة الحقيقية لنشوء المتاعب الهستيرية.

وقد اشار (فرويد) الى نقطة هامة وهي ان كل عرض هستيري يكشف بوجه عام عن مجموعة من التأثيرات حدثت في حياة المريض فيما مضى ويؤكد انه نسبها تماما. وقد ترجع هذه التأثيرات الى السنين الاولى من الحياة. . ولذلك فان (فرويد) ينظر الى حياة الفرد كتيار متصل تترابط فيه الميول والرغبات. وهو يعتقد ان خلق الشخص يتكون قبل نهاية الخمس سنوات الاولى من العمر، ونحن اذا انكرنا ذلك فانما نعلن جهلنا بالعمليات العقلية لمرحلة الطفولة ومالها من تأثير لا شعوري. كذلك قد يرجع ذلك الانكار الى نسيانها لهذه الفترة من الحياة، ذلك النيسان الذي يحتاج الى تفسير لانه ليس عملية فسيولوجية طبيعية في نظر (فرويد).

بقول (فرويد) ان سبب نسياننا لمرحلة الطفولة الكبت الذي يقوم بدور كبير في مرحلة التعليم المبكرة. فالاطفال يأتون وهذا العالم وهم مزدون بميول ورغبات بريئة تتناسب وسنهم، ولكن هذه الرغبات وتلك الميول لا تتفق وعقلية الكبار الذين يعملون بكل ما في وسعهم لفطم الطفل عنها وتوجيه ذهنه الى ميول اخرى. وهذا ما يسمى (بالتسامي). ومن هنا يضطر الطفل الى قمع ميوله البدائية ودفنها في اللاشعور. ولكن هذه الميول والرغبات المكبوتة لا تفقد شيئا من ديناميكيتها مدى الحياة، فاذا لم تكف طرق التسامي للتخفيف من الطاقة التي تحتوي عليها فان النفس تعمل على تصريف تلك الطاقة بشتى الطرق ولو ادى ذلك الى ظهور اعراضمرضية. فالاعراض العصابية تمثل في صورة مثيرة تحقيق الرغبات المكبوتة.

ان للنسيان اهمية بالغة في الحياة النفسية، ولذلك يقول (فرويد) ان ما يجب عمله ازاء فكرة ينقصها معنى او عمل ليس له هدف هو ان نعثر على الموقف الماضي الذي تحققت فيه الفكرة ووصل العمل الى هدف. (وكان (جانيه) يستخدم التنويم المغناطيسي ليصل الى ذلك الموقف الماضي ثم يهاجم الافكار بعد ظهورها بوسائل مختلفة كالايحاء او ايجاد عناصر منافسة لها او تحل محلها. ولكن تبين (بروير) و (فرويد) انه لا يمكن استعمال التنويم المغناطيسي في جميع الحالات واكتشفا ان اكمال الذكرى المؤلمة باعادة الجزء المنسي منها الى الشعور مع التصريف الانفعالي. . فيهما الكفاية للشفاء وزوال الاعراض. لهذا لم ياخذا بالابحاء المباشر لمحاربة الاعراض ولم يوافقا على استبدال افكار بافكار. لقد حصرا العلاج التحليلي في حل العادات المرضية وذلك باستذكار الحوادث التي نبعث منها. فيجب ملء كل الثغرات التي في ذاكرة المرضى، أي يجب استبعاد (الامنيزيا) وجعل كل ما هو لا شعوري شعوري.

اما سر زوال الاعراض بمجرد استحضار الذكريات المنسية فيرجع الى ان التحليل النفسي يحول العرض الى صورته الاصلية. هذا من جهة. ومن جهة اخرى نلاحظ ان التداعي الحر يسمح للمريض باسترجاع الذكريات المؤلمة على دفعات. فما لوحظ ان الذكرى المكدرة لا تسترجع اولا وانما تأتي الافكار التي ترتبط بهذه الذكرة. . ومنها يتدرج الى الذكرى المؤلمة حقا. وهكذا فان المريض لا يواجه ما ينغصه مرة واحدة. . بل يأخذه جرعة فجرعة، يضاف الى ذلك ان وجود المحلل يشجع المريض ويقوي انيته، فكل اضطراب نفسي له علله مهما كان غموضه في الظاهر، وعمل المحلل الكشف عن هذه العلل. . ولا يستطيع القيام بذلك الا من هيىء ليقابل بهدوء كل محتويات الذهن اللاشعورية. . وكان لديه خبرة بطريقة حل الصراع.

البقية في العدد القادمفائزة علي كامل

مجلة الرسالة - العدد 948

النسيان في نظر التحليل النفسي

===== 

بتاريخ: 15 - 12 - 1941 . 

في طريق التكون وفي طريق الزوال

للأستاذ حسين الظريف المحامي

يراد بالعقدة كل مرض يصيب الحياة العقلية. وتفصيل ذلك أن الطفل يولد وعقله الواعي ستارة بيضاء، حتى إذا اتصل بوالدته وذويه وبالوسط الذي هو فيه، بدأ عقله الشاعر يتكون ويتطور، ودنوت على تلك الستار معاني ما يأخذه عما حوله.

ويمكن إجمال أدوار الطفولة في أن الطفل يشعر بادئ ذي بدء بأنه جزء من أمه، حتى إذا بلغ الثلاث من العمر، أخذ يشعر باستقلال نفسه، وذكت فيه عاطفة فرض ما يريد على الغير ولفت نظرهم إليه.

ويلي هذا الدور، دور السؤال عما حوله كمن يريد أن يحلل ويعلل، ولا يندر أن يسأل الطفل عن نفسه: كيف وجد؟ ومن أين أتى؛ وهو في كل أدواره هذه يعمل على تكوين وتنمية عله الواعي، مفزعاً إياه في الوضع الذي تهيئه له معاني وسطه المحدود.

فحياة عقلنا الظاهر يبدأ تاريخها منذ الولادة، غير أن هذه الحياة قد تكون سلسلة متعاقبة الحلقات، وقد تقوم بين هذه الحلقات بعض الحواجز فتفقد السلسلة صفة التسلسل، وما هذه الحواجز إلا العقد التي تعتور العقل الشاعر في طور نموه، فتقف حائلاً دونه، وترغمه على تبديل اتجاهه الطبيعي بآخر معوج يدركه فيه بعض الشلل.

قد تكون هذه (العقد) في صورة إدراك حقيقية مغلوطة تفقد جزءاً من العقل بعض ارتباطه، وقد تكون منبعثة عن سوء تربية الطفل وعما وراء هذا من مختلف العوامل، فينشأ الوليد شاذاً غير سويّ

إن الدافع الجنسي في الطفل تكون بعد الولادة بقليل، ومن مظاهره مص الأصابع، والرغبة في القبض على الثدي بالشفاه، حتى في غير أوقات الرضاع. هذا ما يقوله الدكتور فرويد ويضيف إليه أن الطفل يوزع حبه على أفراد عائلته، غير أنه يهب أكثره لأمه لشدة اتصاله بها، فإذا ألهاها عنه الزوج نشأ عنده الكره لأمه والغيرة من أبيه، ويزداد هذا الانفعال رسوخاً بتكرر الوقائع، حتى يصبح فيه الطفل واقعاً بين عامل الحب لأحد أبويه، وعامل البغض والغيرة، فإذا بلغ الحلم وجه حبه إلى من يختار من الجنس الآخر، وبذلك يج الحب له منقذاً طبيعياً يفنى فيه. أما إذا لم يوجه التوجيه الصحيح لجهل الأبوين أو لشذوذ في الطفل، فقد يبقى الفتى محباً لأمه، أو لمن يماثلها من الفتيات، وتبقى الفتاة محبة لأبيها، أو لمن يماثله من الفتيان؛ وهذا مظهر من مظاهر الشذوذ الجنسي، وهو ما يراد من العقدة. ذلك لأن سلسلة الفكر عن الحب وموطن وضعه فيه لم يجر على ما هو بصورة طبيعية، وإنما انحرف عما خلق له، لعامل في نفس الطفل، أو لشذوذ في تربيته، وسلك طريقاً آخر غير سوى، قد يكون مصدر كثير من آلامه طول حياته.

كذلك يمر بالطفل دور يحب فيه معرفة ما يحيط بموضوع الولادة، فيبدأ بالسؤال عنه فتسكته أمه بما يشعر بقبح الموضوع، فيلتهب فيه حب الاستطلاع بطريقة غير حميدة، ويجد في الموضوع لذة على الرغم من إفهامه أنه قبيح، وتكون النتيجة اعتقاد الطفل بأن الشيء اللذيذ هو الشيء القبيح. وهنا تنشأ العقدة. ويترتب على ذلك أحد أمرين، فإما أن يكره الطفل أن تقترب منه أمه، أو تتولد فيه الرغبة في المخالطة المادية، فيتبع إحدى الطريقتين، إما الخجل أو اللذة الجسدية؛ فإذا أنكفئ الطفل على ملذاته ورأى منه والده ما يريب وانتهره ولجأ معه إلى الشدة، انقلب خوف الولد من أبيه إلى الكره له، والاعتقاد بأنه لو لم يكن أقوى منه لما خذله، وتكون العقدة في نفس هذا الطفل، هي شعوره بالضعف. ولما كان الصغير لا يجد أمامه مجالاً للإفصاح عما وقع له فهو يحاول إخفاءه عن الجميع، ويوجد في محاولته هذه الصفات المضادة للصفات التي يحاول إخفاءها، كطرق دفاعية نفسية ضدها يشعر ما يشعر به من ضعف يوشك أن يظهر للناس.

قال فرويد: إن للعقل الباطن طريقتين متناقضتين للتعبير عما فيه؛ فقد يكون رجلاً فاضلاًُ شريفاً ذلك الذي يطيل الحديث عن الشرف والفضيلة، وقد يكون سافل النفس دنيئاً فأرد أن يخفي بهذا الحديث ما يعرفه في نفسه مخافة أن يعرفه الناس. وعلة هذا أن العقل الباطن يجب أن يعبر عن النشاط الكامن فيه فإذا كان أحد الطريقين مقفلاً اختار الطريق المقابل

إن الطفل يحمل كثيراً من الغرائز التي يجب أن تعبر عن ذاتيتها وحيويتها في أعماله؛ فإذا نحن منعناه عن الإفصاح عن إحدى غرائزه، اختار للتعبير عنها طريقاً آخر شاذاً، تنشأ فيه العقدة في نفسه، وقد يضغط على رغبة التعبير عن إحدى الغرائز فتتسرب تلك الرغبة إلى قاع النفس وهي ممنوعة عن الظهور، إلا أنها لا تسكن في موطنها الجديد، وإنما تبقى فاعلة متفاعلة في حدود العقل الباطن، حتى إذا سنحت فرصة الظهور خرجت من العقل الباطن إلى العقل الواعي ونفست عن نفسها في هذا الخروج.

لنفرض أن طفلاً مدللاً أرسله أبواه إلى المدرسة فلم يجد فيها ما ألفه في بيته من الحنان، فمثل هذا الطفل إما أن يغير سلوكه الذي اعتاده قبل دخوله المدرسة، أو يبقى مستمراً عليه، فإذ هو لم يختر ما وقع له وظل يريد من الحياة أن تكون مثلما رآه في بيته، مملوءة بالحنو والرقة، ففي هذه البداية ينتهي الوليد إلى اعتبار كل زميل له في الدراسة فظاً غليظ القلب فينفر من الاقتراب منه، ويشعر بالبغض له، ومن ثم يحدث له نفور من كل غريب حتى تعذبه كل تعارف جديد. ود تغيب هذه الرغبة الشاذة في طيات عقله الباطن، ويزيدها تطاول العهد إمعاناً في التواري، إلا أنها تبقى حية عاملة وهي تكون جزءاً من عقل العليل. فالرغبة التي تربط الموضوع في هذا المثال، هي العقدة

إن أكثر من نعرف يحمل في طيات نفسه من العقد النفسية ما يخرج حياة عقله عن السواء ويميل بها إلى جانب من الشذوذ يكتنف شعور صاحبه وإدراكه ويملي إرادته على ما يأتيه من قول وعمل. وقد ثبت في دائرة العلوم النفسية أن أخطر سنوات الطفولة ما يقع بين الثالثة والثامنة من العمر، ففي غضون هذه السنوات يقع أكثر ما يدعي بمشاكل الطفولة.

على أن العقدة في ذاتها لا تعد خطراً على صاحبها إلا إذا كانت متوارية عنه، وهي تعمل من وراء حجاب من الزمن. فإذا حلت العقدة زال ما بصاحبها من مرض يصيب العقل في الصميم

غير أن تحليل العقدة إلى العنصر الذي نشأت عنه، وبعبارة أخرى أن تذكر الحادثة الخاصة التي تنطوي عليها العقيدة ليس مما لا يشق على من يعانيه؛ ذلك لأنه إذا فعل وجد نفسه أمام مانع عنيد هو الزمن، فالعقدة لا تكتفي بالاختفاء وراء ثوبها المستعار وإنما تتوارى فيما وراء وقائع الزمن. وفي أحضان هذا الواقع تقع الصعوبة في تحليل العقدة. ولكن مهما يكن الأمر صعباً فأن طريق الخلوص إليه واضح لمن يريد

لنطلق العنان لما لنا من خواطر وأفكار ومنازع يعج بها العقل الباطن حتى نخرج بها إلى الذاكرة، ومن ثم إلى عقلنا الواعي فنحللها فيه ونرجعها إلى مصادرها الحقيقية، فإننا إن فعلنا ذلك استطعنا حل كافة العقد النفسية، وممن ثم يسهل علينا التحرر منها بالإرادة

وطول الممارسة

تلك هي طريقة التحليل النفسي، بها نخرج بالعقدة إلى العقل الواعي ونربطها بالحادثة التي نشأت عنها فيظهر لنا بطلانها، وبالتالي نتحرر منها وتصبح وكأن لم تكن بالأمس شيئاً.

(بغداد)

حسين الظريفي

المحامي

مجلة الرسالة - العدد 441

العقدة النفسية

====== 

بتاريخ: 1 - 10 - 1918 . 

هذا مقال فلسفي فكه، بديع المنحى، رائع المغزى، وضعه في هذه الأيام الأخيرة رجل من أكبر كتاب الدنيا في الروايات وفي الصفوف الأولى من العلماء المحدثين، وأدباء انجلترا العصريين، وهو السير كونان دويل، ولا يذهبن القارئ إذ يقرأ هذه الأسطر إلى أنه سيقرأ رواية جديدة عن شرلوك هولمز وهو ذلك الضرب من الروايات الشرطية، والأقاصيص التي افتن كونان دويل في سبكها وإظهار حيل اللصوص والشرط في تضاعيفها، ولا يحسبن أنها تدخل في باب تاريخ الحرب الكبرى الذي كلفت الحكومة الانكليزية هذا الكاتب العظيم بوضعه، ومنحته في سبيل إتمام هذا التاريخ مائة ألف جنيه تنشيطاً له واحتثاثاً، بل هذه ليست إلا صوراً رسم فيها ذلك الروائي المبدع وجهاً جديداً من حياته الخاصة، وصور بها أطفالاً له نجباء، وسيعلم القارئ أن السير كونان دويل ولا ريب وجد في تصوير هذه اللوحات الصغيرة ترويحاً لنفسه في هذه الأيام العصيبة التي تركت أثرها في كل روح، وشغلت كل ذهن، ونحن نعتقد أنها ستقع هذا الموقع من نفس القارئ وتخرج به من قراءة أخابير الحرب ومشاغلها وهمومها إلى قراءة قطعة عذبة لذة ذات مغزى طيب نافع.

هذه الصور التي أرسمها هي عن ثلاثة أطفال، ولكن أشخاصها في الحقيقة خمسة، على أن الشخصين الآخرين ليسا إلا من باب الصور الإضافية فقط أما الأطفال الثلاثة فهم مختلفون جد الاختلاف وأكبرهم سناً صبي في الثامنة ندعوه لادي وإذا كان في أهل الإنسانية فارس انحدر إلى الدنيا جاهزاً. . وتام الفروسية فهو هو، فإن له روحاً أشجع ما يكون من الأرواح وهي أنكر الأرواح لذاتها، وأطهرها صفحة، وأنصعها أديماً، وهي تسكن بدناً طويلاً نحيفاً كامل الهيئة، خفيف الحركة، وهو صبي خجول، ولا يشرق أمام الغرباء، ثم يتلوه الطفل دمبلس وهو يناهز السابعة، ولن ترى في الدنيا طفلاً مثله استدارة وجه ونعومة خد، تحت عينين واسعتين شريرتين تلمعان مجوناً حيناً، ثم تنطفئان حيناً فتلوحان حزينتين ذابلتين، وفي هذا الطفل بذور الرجل العظيم، وأساس الجبار الهائل، وإن لروحه عمقاً وسكوناً ووقاراً تتجلى في كثير من الأحايين، ولكنه في ظاهره طفل الأطفال، وأشد الصبيان صبيانية، وهو أبداً يطلب العبث والأذى والمجون ويصرخ دائماً قائلاً، الآن أريد أن أتملعن وأمجن!. . فإذا قالها أتمها وإذا فاه بها أنفذها، وهو يحمل حباً خالصاً ووداً لجميع من حوله من المخلوقات، وهو أشد الناس ميلاً إلى خبر الحشرات ومعرفة أسرار الكائنات، وقد شوهد كثيراً وهو يمسك بيده حشرة من الحدائق فيدنى فمها من حافة آنية مفعمة بالزبد ليعلم إذا كانت تحب الزبدةكما يقول:

وهو يتفحص الحشرات ويخرجها من مكامنها بشكل عجيب، وطريقة غريبة ولك أن تضعه في أجمل حائط. . وتدخله أبهج بستان فإنك غير لابث قليلاً حتى تراه طالعاً عليك يحمل في يده ضفدعة أو بزاقة أو فراشة، ولا شيء في الدنيا يحرضه على إيذائها وإنما يمنحها ما يظنه كرماً وحسن معاملة ثم يعيدها إلى أوطانها ويردها إلى أماكنها التي التمسها فيها، وقد اعتاد أن يكلم أمه كلاماً خشناً إذا سمعها تأمر الخدم أن يقتلوا الفراش إذا وجدوه فوق الكرنب ولا يرضيه أو يقنعه أن يسمع منها أن تلك الحشرات مؤذية للخضر ضارة به.

وإن له لمزية على أخيه لادي، وهي أنه لا يعتريه الخجل مطلقاً ولا يغريه بالسكوت، بل لا يلبث في لحظة أن يألف أي إنسان ويهجم عليه بالحديث ويسأله الأسئلة المتكاثرة وهو مخلوق فرح ولكنه (خلقي) أحب الأطفال إلى الشجار إذا قطب جبينه واحمر خده، وتقلصت شفتاه، فإذا عاودته هذه الحال استطاع أن يدفع أخاه الأكبر ويلصقه بالجدار، وذلك لأن أخاه يشعر بالفروسية، وتمسكه طبيعته النبيلة عن إيذائه أو مقابلته بالمثل، ولو قدر الله أن تظهر عظمة هذا الطفل الدفينة فيه النامية بين جوانحه، فهل تعرفون فيم تظهر، وأي منحى تنتحي، في قوة الخيال، فقل له أيتما حكاية فلا تلبث أن تجد الطفل قد راح مذهولاً مبهوتاً سارحاً في ملكوت الله، وإنه ليجلس جامداً في مكانه - لا حراك يتحرك، ولا يد يرفع، ولا رجل يهز، ولا يدع عينيه تتوليان عن عين محدثه وهو يلتهم كل غريب من الأقاصيص - وغامض مبهم من النوادر والحواديت وهو في ذلك نقيض أخيه، فإن هذا قلق لا يستقر به مكان، ولا يطمئن له مجلس، شغوف بأن يتحرك ويجري ليؤدي عملاً، أو ينفذ أمراً، ولكن دمباس الأصغر ينشغل ويثبت في مكان لا يبرحه، إذا كان هناك شيء خليق بأن يسمع، وإن له لصوتاً هو أحد مزاياه، وخاصة من خصائصه، فإذا كان قادماً عرفت ذلك عن كثب وهو مستهل طالع عليك من مسافة، وهو بهذه الرهبة الطبيعية، فضلاً عن جرأته وبلاغته واستفاضة كلامه يتخذ الرئاسة على إخوته في أي مكان يحتله على حين ترى أخاه الأكبر - وهو من نبله يرى نفسه أرفع من أن يحسن شيئاً من عوامل الغيرة - يرضى بأن يكون إزاء أخيه الصغير بمثابة الجمهور المتفرج الضاحك قبالة المغنى الجهير الصوت.

وأما الطفل الثالث فمخلوقة في الخامسة جميلة كملاك وعميقة الروح كبئر، والطفلان بجانبها قليلاً الغور وبركتان ظاهرتا القاع بالنسبة إلى هذه الطفلة الصغيرة، في وضوح نفسها واعتزالها وإخلادها إلى ذات روحها، ونحن نعرف الولدين أما البنت فلا نستطيع لكنها إدراكاً، إذ يلوح وراء هذا البدن الضئيل الصغير شيء قوي، وعنصراً شديد التأثير وإن لها إرادة هائلة، وعزيمة صارمة فلا شيء يردها عن أمرها، ولا أمر في الدنيا يغريها بترك منتوى نفسها، وإنما تستطيع النصائح والإرشادات الرقيقة اللينة أن تهذبها وتكبح جماحها هو نا ما، والطفلان لا يستطيعان شيئاً ولا حيلة لهما ولا رجاء، إذا هي أصرت على شيء، أو أجمعت النية على شأن من الشؤون، ولكنها لا تبدي هذه النية القاسية إلا إذا أرادت أن تعلن عن عظمتها، وتظهر جلالها، وهذه لا تكون إلا على فترات ولا تقع إلا في أحايين إذ أن عادتها أن تجلس صامتة هادئة معتزلة متنبهة لجميع ما يحدث حولها، دون أن تسهم فيه إلا بنظرة أو ابتسامة وهي وأخوها الصغير دمبلس حليفان صديقان وإن كانا لا يفتآن يقعان في شجار المحبين ومعاكسات العشاق، فإذا كانت يوماً غضبي منه لم تذكر اسمه في صلواتها وراء أمها فتقول اللهم بارك كل إنسان إلا دمبلس وإذ ذاك تصيح بها أمها، ما هذا؟ ما هذا؟ يجب أن تذكري اسم أخيك!. وحينئذٍ تقول متكرهة. . إذن، فاللهم بارك دمبلس الفظيع!. . بعد أن تخص بالابتهال إلى الله قطتها وجديها وعروسها الخشبية.

وإن حبها عروسها خلق عجيب من بين أخلاقها، وهو يثير في الذهن نظرية علمية يؤيدها الأساتذة والفلاسفة، فقد بلغ من حبها لها أنها لا تذهب إلى أي مكان إلا اصطحبتها معها، وإن جميع لعبها الأخرى لا تعزيها عن غياب هذه العروسة، فإذا سافرت الأسرى إلى المصطاف على ساحل البحر فلا غنى عن سفر العروسة معها، ولن يغمض جفنها إلا إذا كانت بين ذراعيها - وإذا دعيت العشيرة إلى مأدبة، أصرت على حملها إلى الوليمة - وهذا الخلق يوحي إلى الفلاسفة شيئاً من تاريخ النوع الإنساني، فإن هذه العبودية التي تشعر بها الوليدة نحو عرائسها، صورة حية من نشوء الأديان، وهي أثر من آثار ساكن الكهوف والإنسان الأول، والوثني القديم، وفي حب هذه الطفلة لعروستها عبادة الوثنية فإن الهمجي المتوحش يختار الشيء التافه الذي لا يستحق العبادة فيعبده، وكذلك ترى هذه الهمجية المتوحشة الصغيرة تعبد عروسة من الخشب.

هؤلاء أطفالنا الثلاثة، صورتهم صورة خشنة لا دقة فيها ولا تلوين ولا تجميل بقدر ما استطاع قلمي الضعيف أن يصف ويرسم، والآن دعنا نتخيل أننا في فصل الصيف، والوقت مساء، والظلام قد عسعس، وقد جلس الوالد يدخن في مقعده، والأم عن كثب تسمع والأطفال قعود كالحزم على السجادة وهم يتباحثون ويتناقشون ويجتهدون في حل عقد مسائل الحياة الصغيرة الغامضة عليهم، وعندما يجلس أطفال صغار يلعبون بفكرة جديدة، يروحون أشبه شيء بالقطط أمام الكرة، فكل منهم يقذفها إلى صاحبه، وأحدهم يلاطفها بيده، والآخرون يحاولون اختطافها بعضهم من بعض.

وكانت الطفلة تتكلم، وهي تحضن عروستها التي تؤثرها على جميع لعبها، فلم يسع الوالد إلا أن يخفي وجهه وراء الصحيفة التي كان يجيل البصر في أسطرها، ويشحذ سمعه للحديث الذي راح يدور بين الأطفال.

قالت الطفلة: إنني لفي عجب - لا أدري هل سيسمحون لي بدخول عروستي معي إلى الجنة أم لا.

فضحك الصبيان، وكانت عادتهما أن يضحكا لجميع ما تقول - فأردفت تقول. . إنهم إن لم يسمحوا بذلك، فلن أرتضي الدخول أبداً إلى الجنة وحدي.

قال دمبلس: ولا أنا إذا لم يسمحوا لي بدخول نمري!

وهنا عادت الطفلة تقول: سأقول لهم أنها عروس نظيفة هادئة ساكنة جميلة لا تؤذي أحداً في الجنة. .

قالت ذلك وهي تحتضن العروسة وتلاطفها.

وهنا نظر لادي إلى أبيه فقال. . . ما رأيك في هذا يا أبي؟ هل تظن أن في الجنة لعباً وعرائس!. .

قال الوالد. . بلا ريب، يوجد فيها كل شيء يستطيع أن يسعد الأطفال ويبهجهم.

قال دمبلس: وهل فيها قدر ما في ألف صنف؟

قال الشيخ: وهو يبلع ريقه متحيراً. . بل أكثر!. .

فصفق الأطفال الثلاثة فرحين مبتهجين لهذا النبأ الخطير.

قال لادي: وهو أحب الأطفال إلى الحشرات وعلم الحيوان.

أبتاه العزيز: إنني متحير في أمر الطوفان، متعجب منه أشد العجب.

فسأله أبوه. . ومم العجب يابني؟.

قال الطفل: من مسألة السفينة، فقد تعلمت أن جميع حيوانات الدنيا كانت فوق ظهرها، وإن من كل حيوان زوجين اثنين، أليس كذلك؟

قال الوالد: هو ذلك!

فسأل الطفل: إذا كان ذلك كذلك، فماذا كانت تأكل الحيوانات آكلة اللحوم؟

وأنت فتعلم إن الإنسان يجب أن يكون أميناً مع الأطفال فلا يدلى إليهم بأجوبة مضحكة على أسئلتهم الغريبة، فإن أسئلتهم في العادة أكثر عقلاً وحكمة من أجوبة آبائهم.

قال الشيخ: وهو يزن كل عبارة يقولها - الحقيقة يا بني، هذه الأقاصيص قديمة جداً جداً، وضعها اليهود في التوراة، ولكنهم استمدوها من القوم الذين كانوا في بابل، ولعل أهل بابل التقطوها من قوم قدماء أدركوا شباب العالم، وإذا تنقلت قصة مثل هذا التنقل، فقد يضيف إنسان عليها شيئاً ويردف آخر على ما أضاف الأول أشياء، ولذلك لا يمكن أن تنحدر إلينا الأحداث على حقائقها التامة.

قال الطفل مستنتجاً: إذن فهي كاذبة لا حقيقة لها!. .

فأجاب الوالد: بل أريد أن أقول حقيقية، فقد كان في الدنيا طوفان عظيم، وأظن أن قوماً استطاعوا النجاة منه وأنقذوا معهم حيواناتهم، فلما أقلعت السماء، وجفت الدماء، نزلوا إلى الأرض وحمدوا الله على سلامتهم.

فسأل الطفل: وماذا كان رأي الذين لم ينجوا من هذا الطوفان.

قال: هذا ما لا علم لنا به.

فقال الطفل: بل بالطبع لم يشكروا الله ولم يحمدوا.

فقال أبوهم: لقد لقوا عقابهم وحسب.

وهنا انبرى دمبلس الأوسط فسأل فجأة. . هل ينبغي لنا أن نفعل كما كان يفعل عيسى؟

قال أبوهم: بلا ريب يا بني العزيز، فقد كان أنبل رجل.

فسأل الطفل: وهل كان ينام من المغرب يا أبي؟ قال الولد: لا أعلم عن ذلك شيئاً.

فقال الطفل: لو كان عيسى ينام حقيقة من المغرب فأنا لا أريد أن أقتدي به في هذه العادة.

قال الطفل الأكبر: وهل كان يأخذ شربة زيت من الحين إلى الحين.

فأجاب الوالد: إنه كان يصدع بما يؤمر، يا بني لقد كان رجلاً طيباً، ولذلك كان ولا ريب طفلاً طيباً في طفولته.

قال لادي: إن أختي الصغيرة رأت الله أمس!.

وهنا سقطت الصحيفة من الوالد رعباً وحيرة.

فأردف الطفل يشرح الأمر وهو يقول: لقد أجمعنا أمرنا على أن ننام على ظهورنا ونحملق في السماء حتى نرى الله عياناً ولهذا وضعنا السجادة على العشب وامتددنا جنباً لجنب، ورحنا نحملق بقدر ما استطعنا، فلم أر شيئاً، ولم ير دمبلس شيئاً، ولكن الطفلة تقول أنها رأت الله.

فأطرقت الطفلة برأسها ضاحكة وقالت أجل لقد رأيته.

فسألها أبوه وما شبهه يا طفلة؟

قالت الطفلة شبهه شبه الآلهة تماماً، وأمسكت ولم تزد.

قال لادي: وهو يمسك بأطراف الموضوع، أبي، من هو الأقوى، الله أم الشيطان؟

قال أبوه، الله بلا ريب لأنه يحكم كل شيء.

فسأله ثانية: إذن فلماذا لا يقتل الشيطان؟

وأردف أخوه: ولماذا لا يسلخه؟

وقال الأول: ولو فعل لزال كل سوء من الأرض.

أليس كذلك يا أبي؟

فوقع الوالد في الحيرة الكبرى فجاءت زوجته إلى عونه وراحت تقول للأطفال، لو كان كل شيء طيباً في الحياة سهلاً في الدنيا، إذن لما كنا واجدين شيئاً نحاربه ونجاهد إزاءه يا أبنائي الأعزاء، وإذ ذاك لم تكن لتتهذب أخلاقنا، وتتحسن نفوسنا، وتستقيم أرواحنا.

قال الوالد مردفاً على قول الوالدة: وكانت تكون الحياة أشبه بميدان لعب الكرة، واللاعبون في صف واحد لا يجدون لاعبين أمامهم يقاومونهم.

وعادت الأم تقول: لو لم تكن الهموم والشرور والنقائص والمضار، لم نجد شيئاً نميز به، وبضدها تتميز الأشياء.

قال الطفل: بذلك المنطق الغريب الذي يجنح إليه الأطفال، إذا صح ما تقولين يا أماه، فإن الشيطان نافع أكبر النفع وهو في النهاية ليس رجلاً مسيئاً كما كنا نظن.

قال الوالد متحيراً: لا ينبغي أن نتصور الشيطان شخصاً بل نتصور جميع الدنايا والمعابات التي نرتكبها وجميع القسوات والفظاعات والشنائع، فهي الشيطان الذي نحاربه، فهل تظن في جميع هذا شيئاً نافعاً، أظنك لا تقول ذلك.

ففكر الأطفال في هذا ملياً، ثم رفع لادي رأسه فسأل والده وهل رأيت الله أنت يا أبي؟

فأجاب الوالد: كلا، بل شهدت أعماله، وهذا كل ما نستطيعه في هذا العالم انظر إلى الكواكب في الليل وانظر إلى القوة التي جعلتها في نظام متين، ومسيرة مضطردة لا تغيير لها ولا تبديل.

قال أحد الأطفال: لعله لم يستطع أن يجعل هذه الكواكب الشهب تقف في مكان واحد.

قال الشيخ: بل لقد أراد بها أن تكون شهباً لا مقر لها ولا مطمأن.

قال الطفل: ليتها كانت جميعاً شهباً، فيا الله من ذلك المنظر الجميل لو أنها راحت كذلك.

قال الأب: نعم، ولكنها في ليلة واحدة قد تنفذ في كبد السماء ثم لا تلبث أن تحتجب، فانظر ماذا يكون حال الدنيا إذ ذاك.

فلاحظ دمبلس: أحقاً أن الله يسمع جميع ما نقول؟

فأجاب الوالد: لا أعرف وهو خائف أن يساق إلى موضوع مخيف ولكن الأم كانت أثبت منه فقالت أجل يا بني، إنه يسمع كل شيء.

فعاد الطفل يسأل: وهل هو يتسمع علينا الآن؟ قالت: أجل.

فأردف الطفل يقول: إذا كان هذا فإن ذلك ليس من الأدب في شيء.

فابتسم الوالد لأنه أدرك المأزق الذي وقعت فيه زوجته، وتنهدت الأم حسري مرعبة لا تعرف ماذا تقول.

وهنا كان قد أمسى الليل، وحان موعد نوم الأطفال فنهضوا من مكانهم.

قالت الأم: لتقولوا دعواتكم عند النوم قبل الذهاب إلى المضاجع.

فركع الثلاثة فوق السجادة، ولا تزال الطفلة مصرة على احتضان عروستها قال دمبلس صاحب الصوت العميق الأحش، وهو في موقف الإمامة، اللهم بارك كل إنسان أحبه واجعلني صبياً طيباً خير مثال للأطفال، ونشكرك اللهم ونحمدك على أن جعلت يومنا مباركاً ناعماً، اللهم أطل عمر أبي، وبارك في والدتي.

وهنا أردفت الطفلة تقول: اللهم أرسل سكراً كثيراً للمساكين.

وزاد عليها دمبلس، اللهم رخص لنا ثمن الغاز حتى لا يشكو أبي.

قال الوالد: آمين.

وانطلق الأطفال بعد تقبيلة المساء إلى المضاجع.

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 44

خواطر الطفولة

======== 

بتاريخ: 31 - 12 - 1945 . 

للأستاذ عبد المنعم خلاف

ترجع ذاكرتي الآن سبعا وثلاثين سنة وأنا في ساعة من ساعات الذكرى إلى الصورة الأولى من وجه باسم يطالعني مع الصبح كل يوم يوقظني من النوم، ويهدهدني في فراش الطفولة بكلمات مقصوصة مضغوطة في تنغيم قليل وتمطيط ومعابثة، فلا ألبث أن أستيقظ لذلك الوجه الراعي الواحد الذي ما كنت أعرف غيره بعد في دنياي يومئذ.

تلك هي الإلتماعة الأولى التي أدركت بها وجودي وابتدأت روحي على نورها الضئيل تدخل رحاب الدنيا وتستفيق من ذهول الطفولة.

وتلك هي الصورة الأولى للدنيا في نفسي: وجه صبيح باسم راحم يطالعني مع نور الصبح الندي الجميل، ويعابثني بيد رحيمة رفيقة. . .

وكذلك تدخل الدنيا إلى وعي الطفولة في إطار من الحب والرحمة والحنان والابتسام. . .

وكذلك كانت الأمومة السفير الأول من الله للنفس البشرية يرسله إلى الوافد المولود يرحب به على عتبات الوجود، ثم يدخل به في ترحاب داخل العتبات. . ألم يقل (أنا الرحمن وأنت الرحم).

ومازال هذا الوجه يرعاني بعينيه حتى أغمضتهما بيدي الإغماضة الأخيرة في مساء الجمعة الحادي عشر من ذي الحجة الماضي، بعد أن انطفأ فيهما نور الحياة، فوضعت ذلك الوجه في ذلك القبر الذي ضرحنا له فيه.

ومنذ أن شببت عن الطوق ومضيت في طريقي إلى الاكتمال وبلوغ الأشد، ومضت هي في طريقها إلى الذبول والأفول تيقظت لهذا اليقظة الكبرى وأدركتها بالفكرة كما أدركتها قبل بالإلهام، وعرفت موضعها مني وموضعي منها كروح انبثقت من روحها وجسم كون من جسمها وصار حبي إياها ينمو ويشتعل بذلك اللهيب الأبيض الدافئ اللذيذ الذي ينضج القلب ويهيئه للحب الأكبر الذي تعمر أسراره جوانب الكون الجميل.

صار حُبيها أوسع محراب أقف فيه لأشهد منه الكون في أروع صورة من صوره ذات التهاويل والتعاجيب! وكنت أحس حركة قلبي حين يكون في جوارها فأستلمه بكفي من فرط الشعور به وشدة الحركة فيه. . . أقول حقاً أيها القارئ ولا ألعب بألفاظ وقد أتيح لي من إدراك أمي بفكري الكامل ما لم يتح لي من إدراك أبي رحمه الله، فقد توفي منذ سبعة عشر عاماً، قبل أن يدخل على من إرهاف الحس وتوفز الشعور بالحياة وعجبها ما دخل! ولذلك اكتفيت من رثائه يومئذ بدموع يوحدها مع أنه كصورة من أحق صور العلماء بالتسجيل والبيان لعمق روحه وفكره - وحسبك من رجل كان يستحي من نفسه!

أما أمي فقد أنسأ الله لي في أجلها حتى أدركتها الإدراك الكامل، فكانت منبعاً فياضاً من ينابيع الشعر في نفسي. وقد كتبت عنها مرات خطراتي اليومية، وأدركت منها أن الأمومة هي منبع الخير والرحمة والحب والبر الذي في الدنيا وليس الخير كما يتوهم (نيتشه) فلسفة الضعف ووسيلة الضعفاء والعبيد إلى خديعة الأقوياء والسادة ليتوقوا به بطشهم ونكالهم، وإنما الخير والبر والرحمة هي فيض الأمومة على أبنائها في أسرتها الصغيرة ومن الأسرة الصغيرة انتقل ذلك الفيض إلى الأسرة البشرية الكبيرة في الأمة والأمم.

فلولا الأم لاستمر اقتتال الأخوة على الطعام والمقتنيات كما يقتتلون ويتنازعون أول دخولهم الحياة، ولكنها لا تزال توصي الأخ بأخيه وتحببه فيه وتربط ما بينهما حتى يشبا ويجدا طعم الدم الواحد في قلبيهما ويذكرا الجذع الواحد الذي تفرعا منه، ثم يتسع معنى الرحم بتفرع الأسرة حتى تصير قبيلة ثم أمة وهكذا.

فليس منبع الخير هو الضعف كما يفلسف (نيتشه) نبي النازية الكاذب الذي تأثرت الهتلرية وإضرابها بفلسفته وصدرت عنها في حرب البطن وخيلاء القوة، وإنما منبعها قوة الأمومة الصبور الحاملة أمانتها في جلد ورضا وغبطة ورحمة، وأعظم بها أمانة! لأنها أثقل تبعة وأعظم رسالة!

كتبت عن أمي في سجل خطراتي في 13 - 8 - 1939:

(هذه أمي! هذه أمي العجوز الجليلة، تكلمني وأنا لا أستمع لأحاديثها لأني مشغول بالتفكير فيها وعلاقتي بها، ونهايتها. . .

ما أبسطها قضية إذا نظرت إلى سطوح الأشياء بدون تفكر في الأسس والنسب التي قامت عليها! وهي أم ككل الأمهات الكثيرات، والدات الحيوان والأنسان، لا تستحق الشعر والفلسفة، ولا تستلزم أكثر من السعي عليها والطاعة لها والبر بها كما يحدث الدين. . . ولكنها عند الفكر محراب مسحور لا تستطيع أن تفلت من بين يديه إلا بخيال وخبال! أننا عْمُىُ الأفكار، نمر على أشياء الله بالنظرة الخاطفة والخطرة العابرة بدون أن نؤدي صلاة الفكر.

ووالله! إني حين أجرد أمي من معنى الأمومة الشائع وألبسها ثوب الطبيعة، أشعر لها بشعور هو أعظم وأجل من الحب المبذول للأمهات. . . ولقد أورثني البعد عنها ثلاث سنين، وأنا بالعراق، الفكر كمعنى مجرد من ملابسات المادة. . . وإذا نظرت إليها وتذكرت أن في صدرها وحدة أعظم مكان يحفظ لي الحب الفدائي الرحيم، وأنه المكان الوحيد الذي نجا من أن يكون فيه شر لي، أحسست الدموع تطفر إلى عيني حادرة في غفلة منها هي. . . بل أحسست أن رحمة الله تنظر إلى من عينيها، وأنه لا بد من سجود!

فإذا حدثتني عن شيء من تاريخها وتاريخ أبي معها وتاريخي في دمها ونفسها وآمالها وفصالي منها واعتمادي عليها. . . انهدم كل كياني الفكري حينذاك، وشعرت بدوار من الحيرة والدهشة لإخراج الله رب الحياة لهذه العجائب والحيوات، وأمسكت بيديها، وهي لا تدري السر، وقبلتهما؛ لأني لا أستطيع أن أصنع في أبراد غلتي وإحساسي بها غير ذلك!

كلا! لن تذهب هذه المعاني العلوية إلى التراب أيها المجانين الملحدون المنكرون لبعث!

لابد أن تحيا هذه المعاني ونحيا لها لندركها في دار الشرح والتفسير لكل ألغاز الحياة!

كلا! لن يضرب الله بين قلبي وقلبها وقلب أبي ويفضل بيننا إلى الأبد، فلا نرى ونحس تلك العجائب التي في عالم القلوب!

إنه تبذير أن تضيع هذه المعاني الكريمة بدون رجعة، وما كان الله من المبذرين!

لو علمت أنه لا لقاء بين الأحباء الذاهبين لظللت عاكفاً على قبريهما أخاطب سر قلبيهما كما يخاطب الوثني الأصنام.

إننا سائرون إلى الله نافخ روحه في أجسامنا ومشوقنا إلى أسراره. . .

وما أجمل أن أنهي حالتي الوجدانية هذه بالصلاة مع والدتي لله مصدر وجودنا، ومنه وإليه مصيرنا!

(إن حياتها تدبر، وحياتي تقبل. وإنني صرت أكبر منها حجما وأكثر علماً. إن بريق عينيها ينطفئ وأسنانها تتساقط وشعرها يشتعل شيباً وجلدها يتجعد، وهيكلها يضعف. . . والحيات تسترد آلاتها منها، ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، إنها لا تدرك هذه المعاني التي أدركها.

والحمد لله على الجهل في هذا الموضع! والويل لي حين أبلغ مبلغها من العمر بفكري وشعري!

إنها صورة الطبيعة وتلخيص أعمالها. وإن الطبيعة امرأة! تلد وتدور دورتها الأبدية ولكنها تتجدد! أما بنات حواء فذاهبات إلى غير رجعة في رحاب هذه الطبيعة التي نراها.

ولكن الإنسان المؤمن حينما يرفع بصره إلى الله الحي الدائم الحياة، القوى الدائم القوة ينسى فناءه وفناء أبويه، بل يرحب بذلك الفناء في سبيل الرجوع إلى مصدر الحياة والقرب منه والعيش معه حياة الدوام!

ما أروحك على القلوب أيتها الكلمة التي يتمثل فيها كل العجز الإنساني: إنا لله! وأنا إليه راجعون!

من وجهها عرفت الأزل، ومن وجهي عرفت هي الأبد! كانت صلتي الباقية بماضي في أصلاب آبائي، وظللت وفياً لعشها كبيضة عقيم أو كفرخ عاجز الجناحين).

هكذا كتبت عنها وكنت أستلمها وأستوحي وجودها. . . وهاهو ذا وجهها يطالعني بعد موتها مغمض العينين ينظر لي من فوق سرير الموت ومن أعماق ظلمات القبر، فأشعر لمفارقتها أن حياتي انشطرت أو أني كغصن غاب عنه جذعه الذي يربطه بالأرض ويمده من إمداد المجهول.

ما هو كفاء رحمة قلبك لي وقلبي لك من الألفاظ يا أماه! أي لفظ وأي فكر يترجم عن السر الذي بيني وبينك! إنه الأمومة والبنوة! إنه كل منابع الرحمة والبر والإخلاص. . . أإلى النسيان والفناء ذلك كله؟ كذبوا يا ذات الفداء والتضحية. . . لقد ورثتماني: أنت وأبي الحياة والإيمان فأديتما واجبكما كاملا غير منقوص:

وكنت مثالا للأمومة الفطرية المعقولة الملهمة التي لا تفسد ولا تدلل لعطف عكسي. . . ومثالا للعمل الدائب، والشركة الأمينة، والعشرة المنصفة والسهر الدائم على ما استخلفت عليه. . .

لا تأويل عندك يصرفك عن الواجب ويقعدك عنه مهما كانت المشقة فيه.

براءة فطرة وصدق وتصديق وإلهام نافذ لمواقف الخلق السليم. . .

ثقافة شعبية أمية من القرية والمدينة، فيها التجربة والحكمة والمثل، وتتوجها خلاصة من الروح الديني العميق الفطري وإقبال دائم على الله في جميع الظروف.

كان تأثيرها فيّ تأثير الروح في الروح بالسلوك والصراحة والصرامة في مواضع الجد، أما تأثير أبي فكان تأثير التوجيه الصامت والأدب الحي والقلم الجليل والوجه الوقور.

حين قرأت في أذنها بعد ما فاضت روحها ما حضرني من القرآن والدعاء. . . وحين ألصقت يدي بعد وفاتها بخديها الباردتين اللذين سرت فيهما برودة الموت في منتصف ليلة الوفاة كما كنت أفعل دائماً وهي في الحياة. . .

وحين نزلت قبرها وضرحتها فيه كما كانت الوصاة بجوار قبر أبي، وجلست بين القبرين. . .

وحين أمر بسريرها خالياً من جسدها الذي كان ملء نفسي وفكري. . .

وحين أرى ثيابها يعمرها شبحها، وأتذكرها تمر بالمنزل حجرة حجرة كطيف رحمة. . .

وحين أقرأ مدونة محفوظات أمثالها وحكمها الكثيرة العجيبة التي كانت تستشهد بها كأحسن منطق في منطق العامية المصرية نقلا عن عمتها الحاجة (شركس) الصالحة التي لم تنجب وكان همها العبادة والتوجيه لشابات العائلة.

وحين أرى البقية القليلة من لداوتها وصديقاتها اللائى من طراز كاد يفنى. . .

بل حين أرى عجوزاً مثلها في أي مكان. . .

حين هذا كله شعرت وأشعر أنها خلفت لقلبي ذخيرة قيمة من الحزن الثمين الذين يقتات منه في أزمات القحط الروحي.

عبد المنعم خلاف

مجلة الرسالة - العدد 652 .

أمي. . .! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

والثمن الجنة لعبد الملك القاسم

سلسلة أين نحن من هؤلاء ؟  كتاب والثمن الجنة لعبد الملك القاسم  بسم الله الرحمن الرحيم  المقدمة  الحمد لله الذي وعد من أطاعه جنات عدن تجري ...