دعاء الاموات لمشاري

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate

السبت، 4 مارس 2023

تفسير سورة النور الايات من59.الي 61.

تفسير سورة النور الايات من59.الي 61.

 وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

===== 

النور - تفسير ابن كثير 

وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

{ وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) }

هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض. وما تقدَّم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض. فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنَهم خَدَمُهم مما ملكَت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال: الأول من قبل صلاة الغداة؛ لأن الناس إذ ذاك يكونون نيامًا في فرشهم { وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ } أي: في وقت القيلولة؛ لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله، { وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ } لأنه وقت النوم، فيُؤمَرُ الخدمُ والأطفال ألا يهجمُوا على أهل البيت في هذه الأحوال، لما يخشى من أن يكون الرجل

(6/81)

 

 

على أهله، ونحو ذلك من الأعمال؛ ولهذا قال: { ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } أي: إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم من ذلك، ولا عليهم إن رأوا شيئا في غير تلك الأحوال؛ لأنه قد أذن لهم في الهجوم، ولأنهم { طَوَّافُونَ } عليكم، أي: في الخدمة وغير ذلك، ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم؛ ولهذا رَوَى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهِرَّة: "إنها ليست بنجَس؛ إنها من الطوافين عليكم -أو -والطوافات" (1) .

ولما كانت هذه الآية محكمة ولم تنسخ بشيء، وكان عمل الناس بها قليلا جدًا، أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس، كما قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثني عبد الله بن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جُبَيْر قال: قال ابن عباس: ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ [مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ] } (2) إلى آخر الآية، والآية التي في سورة النساء: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } [النساء: 8]، والآية التي في الحجرات: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13]

وروي أيضًا من حديث إسماعيل بن مسلم -وهو ضعيف -عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رَبَاح، عن ابن عباس قال: غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات، فلم يعملوا بهن: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } إلى آخر الآية.

وقال أبو داود: حدثنا ابن الصباح بن سفيان وابن عبدة -وهذا حديثه -أخبرنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، سمع ابن عباس يقول: لم يؤمن بها أكثر (3) الناس -آية الإذن -وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي.

قال أبو داود: وكذلك رواه عطاء، عن ابن عباس يأمر به (4) .

وقال الثوري، عن موسى بن أبي عائشة سألت الشعبي: { لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، قال: لم تنسخ . قلت: فإن الناس لا يعملون بها. فقال: الله المستعان.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا ابن وهب، أخبرنا سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عَمرو، عن عكرمة عن ابن عباس؛ أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن، فقال ابن عباس: إن الله ستِّير يحب الستر، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حِجال في بيوتهم، فربما فاجأ الرجلَ خادمُه أو ولده أو يتيمه في حجره،

__________

(1) الموطأ (1/23) والمسند (5/296) وسنن أبي داود برقم (75) وسنن الترمذي برقم (92) وسنن النسائي (1/55) وسنن ابن ماجه برقم (367).

(2) زيادة من ف، أ.

(3) في ف، أ: "كثير من".

(4) سنن أبي داود برقم (5191).

(6/82)

 

 

وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمَّى الله. ثم جاء الله بعد بالستور (1) ، فبسط [الله] (2) عليهم الرزق، فاتخذوا الستور واتخذوا الحِجَال، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به.

وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ورواه أبو داود، عن القَعْنَبِيّ، عن الدَّرَاوَرْدِيّ، عن عمرو بن أبي عَمْرو به (3) .

وقال السُّدِّي: كان أناس من الصحابة، رضي الله عنهم، يحبون أن يُوَاقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن.

وقال مقاتل بن حَيَّان: بلغنا -والله أعلم -أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مُرْشدة صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما، فجعل الناس يدخلون بغير إذن، فقالت أسماء: يا رسول الله، ما أقبح هذا! إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد، غلامهما بغير إذن! فأنزل الله في ذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ] } (4) الآية.

ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ، قوله: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

ثم قال تعالى: { . وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } يعني: إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث، إذا بلغوا الحلم، وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال، يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته، وإن لم يكن في الأحوال الثلاث.

قال الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير: إذا كان الغلام رباعيا فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال. وهكذا قال سعيد بن جبير.

وقال في قوله: { كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } يعني: كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه.

وقوله: { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ } قال سعيد بن جُبَيْر، ومُقَاتل بن حَيَّان، وقتادة، والضحاك: هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد ، { اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا } أي: لم يبق لهن تَشوُّف إلى التزويج، { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } أي: ليس عليها من الحرج في التستر كما على غيرها من النساء.

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس: { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } الآية [النور: 31] فنسخ، واستثنى من ذلك { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا } الآية (5)

قال ابن مسعود [في قوله] (6) : { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } قال: الجلباب، أو

__________

(1) في ف: "بعده بالستور" وفي أ: "بعده الستر".

(2) زيادة من أ، والدر المنثور 5/56.

(3) سنن أبي داود برقم (5192).

(4) زيادة من أ.

(5) سنن أبي داود برقم (4111).

(6) زيادة من أ

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

الرداء: وكذا رُوي عن ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء (1) وإبراهيم النَّخَعِيّ، والحسن، وقتادة، والزهري، والأوزاعي، وغيرهم.

وقال أبو صالح: تضع الجلباب، وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار.

وقال سعيد بن جُبَيْر وغيره، في قراءة عبد الله بن مسعود: "أن يضعن من ثيابهن" وهو الجلباب من فوق الخمار فلا بأس أن يضعن عند غريب أو غيره، بعد أن يكون عليها خمار صَفيق.

وقال سعيد بن جبير: { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } يقول: لا يتبرجن بوضع الجلباب، أن يرى ما عليها من الزينة.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عبيد الله، حدثنا ابن المبارك، [حدثني سَوَّار بن ميمون، حدثتنا طلحة بنت عاصم، عن أم المصاعن، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: دخلت عليّ] (2) فقلت: يا أم المؤمنين، ما تقولين في الخضاب، والنفاض، والصباغ، والقُرطين، والخلخال، وخاتم الذهب، وثياب الرقاق؟ فقالت: يا معشر النساء، قصتكن (3) كلها واحدة، أحل الله لكن الزينة غير متبرجات. أي: لا يحلّ لكنّ أن يَرَوْا منكن محرما.

وقال السدي: كان شريك لي يقال له: "مسلم" ، وكان مولى لامرأة حذيفة بن اليمان، فجاء يوما إلى السوق وأثر الحنّاء في يده، فسألته عن ذلك، فأخبرني أنه خَضَب رأس مولاته -وهي امرأة حذيفة -فأنكرت ذلك. فقال: إن شئت أدخلتك عليها؟ فقلت: نعم. فأدخلني عليها، فإذا امرأة جليلة، فقلت: إن مسلما حدثني أنه خضب رأسك؟ فقالت: نعم يا بني، إني من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحًا، وقد قال الله في ذلك ما سمعت.

وقوله: { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ } أي: وترك وضعهن لثيابهن -وإن كان جائزًا -خير وأفضل لهن، والله سميع عليم.

{ لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) }

اختلف المفسرون -رحمهم الله -في المعنى الذي رفع من أجله الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض هاهنا، فقال عطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في الجهاد.

__________

(1) في أ: "الشعبي".

(2) زيادة من ف، أ.

(3) في أ: "فصلن".

(6/84)

 

 

وجعلوا هذه الآية هاهنا كالتي في سورة الفتح (1) وتلك في الجهاد لا محالة، أي: أنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد؛ لضعفهم وعجزهم، وكما قال تعالى في سورة براءة: { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } [التوبة:91 ، 92].

وقيل: المراد [هاهنا] (2) أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى؛ لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات، فربما سبقه غيره إلى ذلك. ولا مع الأعرج؛ لأنه لا يتمكن من الجلوس، فيفتات عليه جليسُه، والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره، فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم، فأنزل الله هذه الآية رخصة في ذلك. وهذا قول سعيد بن جبير، ومِقْسَم.

وقال الضحاك: كانوا قبل المبعث يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذرًا وتَقَزُّزًا، ولئلا يتفضلوا عليهم، فأنزل الله هذه الآية.

وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ } الآية قال: كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه، أو بيت أخته، أو بيت عمته، أو بيت خالته. فكان الزَّمنى يتحرجون (3) من ذلك، يقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم (4) . فنزلت هذه الآية رخصةً لهم (5) .

وقال السُّدّي: كان الرجل يدخل بيت أبيه، أو أخيه أو ابنه، فتُتْحفه المرأة بالشيء من الطعام، فلا يأكل من أجل أن رَبَّ البيت ليس ثَمّ. فقال الله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ } إلى قوله: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } .

وقوله تعالى: { وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } ، إنما ذَكَر هذا -وهو معلوم -ليعطفَ عليه غيره في اللفظ، وليستأديه (6) ما بعده في الحكم. وتضمن هذا بيوت الأبناء؛ لأنه لم ينص عليهم. ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أنَّ مال الولد بمنزلة مال أبيه، وقد جاء في المسند والسنن، من غير وجه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنت ومالك لأبيك" (7)

وقوله: { أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } ، إلى قوله { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } ، هذا ظاهر. وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، كما هو مذهب[الإمام] (8) أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل، في المشهور عنهما.

__________

(1) عند الآية: 17.

(2) زيادة من أ.

(3) في أ: "يحرجون".

(4) في أ: "عشيرتهم".

(5) تفسير عبد الرزاق (2/53).

(6) في أ: "ولا يساوي".

(7) المسند (2/179) وسنن أبي داود برقم (3530) وسنن ابن ماجه برقم (2292) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما.

(8) زيادة من ف، أ.

(6/85)

 

 

وأما قوله: { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } فقال سعيد بن جُبَير، والسُّدِّي: هو خادم الرجل من عبد وقَهْرَمان، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف.

وقال الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدفعون مفاتحهم إلى ضُمَنائهم، ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه. فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أن نأكل؛ إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم، وإنما نحن أمناء. فأنزل الله: { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } .

وقوله: { أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي: بيوت أصدقائكم وأصحابكم، فلا جناح عليكم في الأكل منها، إذا علمتم أن ذلك لا يَشُقُّ عليهم ولا يكرهون ذلك.

وقال قتادة: إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه.

وقوله: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } ، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: وذلك لما أنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [النساء: 29] قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو أفضل من الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد. فكف الناسُ عن ذلك، فأنزل الله: { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى } (1) إلى قوله: { أَوْ صَدِيقِكُمْ } (2) ، وكانوا أيضًا يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم في ذلك، فقال: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } .

وقال قتادة: وكان هذا الحي من بني كنانة، يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية، حتى إن كان الرجلُ لَيَسوقُ الذُّودَ الحُفَّل وهو جائع، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل الله: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } .

فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده، ومع الجماعة، وإن كان الأكل مع الجماعة أفضل وأبرك، كما رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد بن مسلم، عن وَحْشيّ بن حَرْب، عن أبيه، عن جده؛ أنّ رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا نأكلُ ولا نشبَع. قال: "فلعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يُبَاركْ لكم فيه".

ورواه أبو داود وابن ماجه، من حديث الوليد بن مسلم، به (3)

وقد رَوَى ابن ماجه أيضًا، من حديث عمرو بن دينار القهرماني، عن سالم، عن أبيه، عن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلوا جميعًا ولا تَفَرّقُوا؛ فإن البركة مع الجماعة". (4)

وقوله: { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } قال سعيد بن جبير، والحسن البصري،

__________

(1) بعدها في ف، أ: "ولا على الأعرج حرج".

(2) قبلها في ف، أ: "أو ما ملكتم مفاتحه".

(3) المسند (3/501) وسنن أبي داود برقم (3764) وسنن ابن ماجه برقم (3286).

(4) سنن ابن ماجه برقم (3287) وقال البوصيري في الزوائد (3/77): "هذا إسناد ضعيف".

(6/86)

 

 

وقتادة، والزهري: فليسلم بعضكم على بعض.

وقال ابن جُرَيْج: حدثنا أبو الزبير: سمعتُ جابر بن عبد الله يقول: إذا دخلتَ على أهلك، فسَلِّمْ عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة. قال: ما رأيته إلا يوجبه.

قال ابن جريج: وأخبرني زياد، عن ابن طاوس أنه كان يقول: إذا دخلَ أحدكم بيته، فليسلم.

قال ابن جُرَيْج: قلت لعطاء: أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلِّم عليهم؟ قال: لا ولا آثر وجوبه عن أحد، ولكن هو أحبُّ إلي، وما أدعه إلا نابيًا (1)

وقال مجاهد: إذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله. وإذا دخلت على أهلك فسلِّمْ عليهم، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

وروى الثوري، عن عبد الكريم الجَزَريّ، عن مجاهد: إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: بسم الله، والحمد لله، السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

وقال قتادة: [إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين] (2) فإنه كان يؤمر بذلك، وحُدّثنا أن الملائكة ترد عليه. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عَوْبَدُ بن أبي عمران الجوني، عن أبيه، عن أنس قال: أوصاني النبيّ (3) صلى الله عليه وسلم بخمس خصال، قال: "يا أنس، أسبغ الوضوء يُزَد في عمرك، وسَلّم على من لقيك من أمتي تكْثُر حسناتك، وإذا دخلت -يعني: بيتك -فسلم على أهل بيتك، يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضُّحى فإنها صلاة الأوابين قبلك. يا أنس، ارحم الصغير، ووقِّر الكبير، تَكُنْ من رفقائي يوم القيامة". (4)

وقوله: { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } قال محمد بن إسحاق: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقول: ما أخذت التشهدَ إلا من كتاب الله، سمعت الله يقول: { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } ، فالتشهد في الصلاة: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ثم يدعو لنفسه ويسلم.

هكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث ابن إسحاق.

والذي في صحيح مسلم، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف هذا (5) ، والله أعلم .

__________

(1) في ف، أ: "ناسيا".

(2) زيادة من ف، أ.

(3) في ف: "رسول الله".

(4) ورواه ابن عدي في الكامل (5/382) من طريق موسى عن عويد بن أبي عمران الجوني، به. ونقل عن البخاري: "عويد بن أبي عمران عن أبيه منكر الحديث" ثم قال ابن عدي: "وعويد يبن على حديثه الضعف".

(5) صحيح مسلم برقم (403) ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".

(6/87)

 

 

وقوله: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لما ذكر تعالى ما في السورة الكريمة من الأحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة، نَبَّه تعالى على أنه يُبَيّن لعباده الآيات بيانًا شافيًا، ليتدبروها ويتعقلوها.

=== 

النور - تفسير القرطبي 

الآية: 59 {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}

قرأ الحسن {الحُلْم} فحذف الضمة لثقلها. والمعنى: أن الأطفال أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة؛ وأبيح لهم الأمر في غير ذلك كما ذكرنا. ثم أمر تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت. وهذا بيان من الله عز وجل لأحكامه وإيضاح حلاله وحرامه، وقال {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ولم يقل فليستأذنوكم. وقال في الأولى {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين. وقال ابن جريج: قلت لعطاء {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} قال: واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا، أحرارا كانوا أو عبيدا. وقال أبو إسحاق الفزاري: قلت للأوزاعي ما حد الطفل الذي يستأذن؟ قال: أربع سنين، قال لا يدخل على امرأة حتى يستأذن. وقال الزهري: أي يستأذن الرجل على أمه وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية.

الآية: 60 {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

(12/308)

 

 

فيه خمس مسائل:-

الأولى: قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} القواعد واحدتها قاعد، بلا هاء؛ ليدل حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا: امرأة حامل؛ ليدل بحذف الهاء أنه حمل حبل. قال الشاعر:

فلو أن ما في بطنه بين نسوة ... حبلن وإن كن القواعد عقرا

وقالوا في غير ذلك: قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها، بالهاء. والقواعد أيضا: إساس البيت واحدة قاعدة، بالهاء.

الثانية: القواعد: العجز اللواتي قعدن عن التصرف من السن، وقعدن عن الولد والمحيض؛ هذا قول أكثر العلماء. قال ربيعة: هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها. وقال أبو عبيدة: اللاتي قعدن عن الولد؛ وليس ذلك بمستقيم، لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع، قاله المهدوي.

الثالثة: قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} إنما خص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن؛ إذ لا يذهب للرجال فيهن، فأبيح لهن ما لم يبح لغيرهن، وأزيل عنهم كلفة التحفظ المتعب لهن.

الرابعة: قرأ ابن مسعود وأبي وابن عباس {أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنّ} بزيادة {مِنْ} قال ابن عباس: وهو الجلباب. وروي عن ابن مسعود أيضا {مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} والعرب تقول: امرأة واضع، للتي كبرت فوضعت خمارها. وقال قوم: الكبيرة التي أيست من النكاح، لو بدا شعرها فلا بأس؛ فعلى هذا يجوز لها وضع الخمار. والصحيح أنها كالشابة في التستر؛ إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما.

الخامسة: قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن؛ فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق. والتبرج: التكشف والظهور للعيون؛ ومنه: بروج مشيدة. وبروج السماء والأسوار؛ أي لا حائل دونها يسترها.

(12/309)

 

 

وقيل لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب؟ فقالت: يا معشر النساء، قصتكن قصة امرأة واحدة، أحل الله لكنّ الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكنّ أن يروا منكن محرما. وقال عطاء: هذا في بيوتهن، فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب. وعلى هذا {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ} غير خارجات من بيوتهن. وعلى هذا يلزم أن يقال: إذا كانت في بيتها فلا بدلها من جلبان فوق الدرع، وهذا بعيد، إلا إذا دخل عليها أجنبي. ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن، واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزم الشباب أفضل لهن وخير. وقرأ ابن مسعود {وأن يتعففن} بغير سين. ثم قيل: من التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفانها. روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" . قال ابن العربي: وإنما جعلهن كاسيات لأن الثياب عليهن وإنما وصفهن بأنهن عاريات لأن الثواب إذا رق يصفهن، ويبدي محاسنهن؛ وذلك حرام.

قلت: هذا أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى. والثاني: أنهن كاسيات من الثياب عاريات من لباس التقوى الذي قال الله تعالى فيه: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}. وأنشدوا:

إذا المرء لم يلبس ثياب من التقى ... تقلب عريانا وإن كان كاسيا

وخير لباس المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان لله عاصيا

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره" قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: "الدين". فتأويله صلى الله عليه وسلم القميص بالدين مأخوذ من قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}. والعرب تكني عن الفضل والعفاف بالثياب؛ كما قال شاعرهم:  ثياب بني عوف طهارى نقية

وقد قال صلى الله عليه وسلم لعثمان: "إن الله سيلبسك قميصا فإن أرادوك أن تخلعه فلا تخلعه". فعبر عن الخلافة بالقميص وهي استعارة حسنة معروفة.

قلت: هذا التأويل أصح التأويلين، وهو اللائق بهن في هذه الأزمان، وخاصة الشباب، فإنهن يتزين ويخرجن متبرجات؛ فهن كاسيات بالثياب عاريات من التقوى حقيقة، ظاهرا وباطنا، حيث تبدي زينتها، ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهن، وذلك مشاهد في الوجود منهن، فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك. ومما يقوي هذا التأويل ما ذكر من وصفهن في بقية الحديث في قوله: "رؤوسهن كأسنمة البخت". والبخت ضرب من الإبل عظام الأجسام، عظام الأسنمة؛ شبه رؤوسهن بها لما رفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رؤوسهن. وهذا مشاهد معلوم، والناظر إليهن ملوم. قال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". خرجه البخاري.

الآية: 61 {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

فيه إحدى عشرة مسألة:-

الأولى: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} اختلف العلماء في تأويل هذه الآية على أقوال ثمانية. أقربها - هل هي منسوخة أو ناسخة أو محكمة؛ فهذه ثلاثة أقوال:

الأول: أنها منسوخة من قوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} إلى آخر الآية؛ قاله عبد الرحمن بن زيد، قال: هذا شيء انقطع، كانوا في أول الإسلام ليس على أبوابهم أغلاق، وكانت الستور مرخاة، فربما جاء الرجل فدخل البيت وهو جائع وليس فيه أحد؛ فسوغ الله عز وجل أن يأكل منه، ثم صارت الأغلاق على البيوت فلا يحل لأحد أن يفتحها، فذهب هذا وانقطع. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه.." الحديث. خرجه الأئمة.

الثانية: أنها ناسخة؛ قاله جماعة. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما أنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} قال المسلمون: إن الله عز وجل قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن الطعام من أفضل الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكف الناس عن ذلك؛ فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ - إلى - أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}. قال: هو الرجل يوكل الرجل بضيعته.

قلت: علي بن أبي طلحة هذا هو مولى بني هاشم سكن الشام، يكنى أبا الحسن ويقال أبا محمد، اسم أبيه أبي طلحة سالم، تكلم في تفسيره؛ فقيل: إنه لم ير ابن عباس، والله أعلم.

الثالث: أنها محكمة؛ قاله جماعة من أهل العلم ممن يقتدي بقولهم؛ منهم سعيد بن المسيب وعبيدالله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان المسلمون يوعبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يدفعون مفاتيحهم إلى ضمناهم ويقولون: إذا احتجتم فكلوا؛ فكانوا يقولون إنما أحلوه لنا عن غير طيب نفس؛ فأنزل الله عز وجل: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} إلى آخر الآية. قال النحاس: "يوعِبون" أي يخرجون بأجمعهم في المغازي؛

(12/312)

 

 

يقال: أوعب بنو فلان لبني فلان إذا جاؤوهم بأجمعهم. وقال ابن السكيت: يقال أوعب بنو فلان جلاء؛ فلم يبق ببلدهم منهم أحد. وجاء الفرس بركض وعيب؛ أي بأقصى ما عنده. وفي الحديث: "في الأنف إذا استوعب جدعه الدية" إذا لم يترك منه شيء. واستيعاب الشيء استئصاله. ويقال: بيت وعيب إذا كان واسعا يستوعب كل ما جعل فيه. والضمنى هم الزمنى، واحدهم ضمن زمن. قال النحاس: وهذا القول من أجل ما روي في الآية؛ لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوفيق أن الآية نزلت في شيء بعينه. قال ابن العربي: وهذا كلام منتظم لأجل تخلفهم عنهم في الجهاد وبقاء أموالهم بأيديهم، لكن قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} قد اقتضاه؛ فكان هذا القول بعيدا جدا. لكن المختار أن يقال: إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به من المشي؛ وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه؛ كالصوم وشروط الصلاة وأركانها، والجهاد ونحو ذلك. ثم قال بعد ذلك مبينا: وليس عليكم حرج في أن تأكلوا من بيوتكم. فهذا معنى صحيح، وتفسير بين مفيد، ويعضده الشرع والعقل، ولا يحتاج في تفسير الآية إلى نقل.

قلت: وإلى هذا أشار ابن عطية فقال: فظاهر الآية وأمر الشريعة يدل على أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم فيه الإتيان بالأكمل، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا، فأما ما قال الناس في الحرج هنا وهي:

الثانية: قال ابن زيد: هو الحرج في الغزو؛ أي لا حرج عليهم في تأخرهم. وقوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الآية، معنى مقطوع من الأول. وقالت فرقة: الآية كلها في معنى المطاعم. قالت: وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار؛ فبعضهم كان يفعل ذلك تقذرا لجولان اليد من الأعمى، ولانبساط الجلسة من الأعرج، ولرائحة المريض وعلاته؛ وهي أخلاق جاهلية وكبر، فنزلت الآية مؤذنة

وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجا من غير أهل الأعذار، إذ هم مقصرون عن درجة الأصحاء في الأكل، لعدم الرؤية في الأعمى، وللعجز عن المزاحمة في الأعرج، ولضعف المريض؛ فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم. وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي: إن أهل الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم؛ فنزلت الآية مبيحة لهم. وقيل: كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ذهب به إلى بيوت قرابته؛ فتحرج أهل الأعذار من ذلك؛ فنزلت الآية.

الثالثة: قوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} هذا ابتداء كلام أي ولا عليكم أيها الناس. ولكن لما اجتمع المخاطب وغير المخاطب غلب المخاطب لينتظم الكلام. وذكر بيوت القربات وسقط منها بيوت الأبناء؛ فقال المسفرون: ذلك لأنها داخلة في قوله: {فِي بُيُوتِكُمْ} لأن بيت ابن الرجل بيته وفي الخبر "أنت ومالك لأبيك". لأنه ذكر الأقرباء بعد ولم يذكر الأولاد. قال النحاس: وعارض بعضهم هذا القول فقال: هذا تحكم على كتاب الله تعالى؛ بل الأولى في الظاهر ألا يكون الابن مخالفا لهؤلاء، وليس الاحتجاج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنت ومالك لأبيك" بقوي لوهي هذا الحديث، وأنه لو صح لم تكن فيه حجة؛ إذ قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أن مال ذلك المخاطب لأبيه. وقد قيل إن المعنى: أنت لأبيك، ومالك مبتدأ؛ أي ومالك لك. والقاطع لهذا التوارث بين الأب والابن. وقال الترمذي الحكيم: ووجه قوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} كأنه يقول مساكنكم التي فيها أهاليكم وأولادكم؛ فيكون للأهل والولد هناك شيء قد أفادهم هذا الرجل الذي له المسكن، فليس عليه حرج أن يأكل معهم من ذلك القوت، أو يكون للزوجة والولد هناك شيء من ملكهم فليس عليه في ذلك حرج

 

الرابعة: قوله تعالى: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ} قال بعض العلماء: هذا إذا أذنوا له في ذلك. وقال آخرون: أذنوا له أو لم يأذنوا فله أن يأكل؛ لأن القرابة التي بينهم هي إذن منهم. وذلك لأن في تلك القرابة عطفا تسمح النفوس منهم بذلك العطف أن يأكل هذا من شيئهم ويسروا بذلك إذا علموا. ابن العربي: أباح لنا الأكل من جهة النسب من غير استئذان إذا كان الطعام مبذولا، فإذا كان محرزا دونهم لم يكن لهم أخذه، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن غير محرز عنهم إلا بإذن منهم.

الخامسة: قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} يعني مما اختزنتم وصار في قبضتكم. وعظم ذلك ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه؛ وذلك هو تأويل الضحاك وقتادة ومجاهد. وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء. قال ابن عباس: عني وكيل الرجل على ضيعته، وخازنه على ماله؛ فيجوز له أن يأكل مما قيم عليه. وذكر معمر عن قتادة عن عكرمة قال: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير. ابن العربي: وللخازن أن يأكل مما يخزن إجماعا؛ وهذا إذا لم تكن له أجرة، فأما إذا كانت له أجرة على الخزن حرم عليه الأكل. وقرأ سعيد بن جبير {مُلِّكْتم} بضم الميم وكسر اللام وشدها. وقرأ أيضا {مفاتيحه} بياء بين التاء والحاء، جمع مفتاح؛ وقد مضى في "الأنعام". وقرأ قتادة {مفتاحه} على الإفراد. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

السادسة: قوله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} الصديق بمعنى الجمع، وكذلك العدو؛ قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77]. وقال جرير:

دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهن صديق

(12/315)

 

 

والصديق من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك. ثم قيل: إن هذا منسوخ بقوله: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53]، وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا} [النور: 28] الآية، وقوله عليه السلام: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه" . وقيل: هي محكمة؛ وهو أصح. ذكر محمد بن ثور عن معمر قال: دخلت بيت قتادة فأبصرت فيه رطبا فجعلت آكله؛ فقال: ما هذا؟ فقلت: أبصرت رطبا في بيتك فأكلت؛ قال: أحسنت؛ قال الله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ}. وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} قال: إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته لم يكن بذلك بأس. وقال معمر قلت لقتادة: ألا أشرب من هذا الحب؟ قال: أنت لي صديق! فما هذا الاستئذان. وكان صلى الله عليه وسلم يدخل حائط أبي طلحة المسمى ببيرحا ويشرب من ماء فيها طيّب بغير إذنه، على ما قاله علماؤنا؛ قالوا: والماء متملك لأهله. وإذا جاز الشرب من ماء الصديق بغير إذنه جاز الأكل من ثماره وطعامه إذا علم أن نفس صاحبه تطيب به لتفاهته ويسير مؤنته، أو لما بينهما من المودة. ومن هذا المعنى إطعام أم حرام له صلى الله عليه وسلم إذا نام عندها؛ لأن الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل، وأن يد زوجته في ذلك عارية. وهذا كله ما لم يتخذ الأكل خُبنة، ولم يقصد بذلك وقاية ماله، وكان تافها يسيرا.

السابعة: قرن الله عز وجل في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة، لأن قرب المودة لصيق. قال ابن عباس في كتاب النقاش: الصديق أو كد من القرابة؛ ألا ترى استغاثة الجهنميين {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101].

قلت: ولهذا لا تجوز عندنا شهادة الصديق لصديقه، كما لا تجوز شهادة القريب لقريبه. وقد مضى بيان هذا والعلة فيه في "النساء". وفي المثل - أيهم أحب إليك أخوك أم صديقك - قال: أخي إذا صديقي

الثامنة: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} قيل: إنها نزلت في بني ليث بن بكر، وهم حي من بني كنانة، وكان الرجل منهم لا يأكل وحده ويمكث أياما جائعا حتى يجد من يؤاكله. ومنه قول بعض الشعراء:

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي

قال ابن عطية: وكانت هذه السيرة موروثه عندهم عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان لا يأكل وحده. وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه؛ فنزلت الآية مبينة سنة الأكل، ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرما، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وإن إحضار الأكيل لحسن، ولكن بألا يحرم الانفراد.

التاسعة: قوله تعالى: {جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً}{جَمِيعاً} نصب على الحال. و { أَشْتَاتاً} جمع شت والشت المصدر بمعنى التفرق يقال: شت القوم أي تفرقوا. وقد ترجم البخاري في صحيحه باب {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} الآية. و - النهد والاجتماع -. ومقصوده فيما قاله علماؤنا في هذا الباب: إباحة الأكل جميعا وإن اختلفت أحوالهم في الأكل. وقد سوغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فصارت تلك سنة في الجماعات التي تدعى إلى الطعام في النهد والولائم وفي الإملاق في السفر. وما ملكت مفاتحه بأمانة أو قرابة أو صداقة فلك أن تأكل مع القريب أو الصديق ووحدك. والنهد: ما يجمعه الرفقاء من مال أو طعام على قدر في النفقة ينفقونه بينهم؛ وقد تناهدوا؛ عن صاحب العين. وقال ابن دريد: يقال من ذلك: تناهد القوم الشيء بينهم. الهروي: وفي حديث الحسن "أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم". النهد: ما تخرجه الرفقة عند المناهدة؛ وهو استقسام النفقة بالسوية في السفر وغيره. والعرب تقول: هات نهدك؛ بكسر النون. قال المهلب: وطعام النهد لم يوضع للآكلين على أنهم يأكلون بالسواء، وإنما يأكل كل واحد على قدر نهمته، وقد يأكل الرجل أكثر من غيره. وقد قيل: إن

(12/317)

 

 

تركها أشبه بالورع. وإن كانت الرفقة تجتمع كل يوم على طعام أحدهم فهو أحسن من النهد لأنهم لا يتناهدون إلا ليصيب كل واحد منهم من ماله، ثم لا يدري لعل أحدهم يقصر عن ماله ويأكل غيره أكثر من ماله وإذا كانوا يوما عند هذا ويوما عند هذا بلا شرط فإنما يكونون أضيافا والضيف يأكل بطيب نفس مما يقدم إليه. وقال أيوب السختياني: إنما كان النهد أن القوم كانوا يكونون في السفر فيسبق بعضهم إلى المنزل فيذبح ويهيئ الطعام ثم يأتيهم، ثم يسبق أيضا إلى المنزل فيفعل مثل ذلك؛ فقالوا: إن هذا الذي تصنع كلنا نحب أن نصنع مثله فتعالوا نجعل بيننا شيئا لا يتفضل بعضنا على بعض، فوضعوا النهد بينهم. وكان الصلحاء إذا تناهدوا تحرى أفضلهم أن يزيد على ما يخرجه أصحابه، وإن لم يرضوا بذلك منه إذا علموه فعله سرا دونهم.

العاشرة: قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} اختلف المتأولون في أي البيوت أراد؛ فقال إبراهيم النخعي والحسن: أراد المساجد؛ والمعنى: سلموا على من فيها من ضيفكم. فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء: السلام على رسول الله. وقيل: يقول السلام عليكم؛ يريد الملائكة، ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الآية، قال: إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقيل: المراد بالبيوت البيوت المسكونة؛ أي فسلموا على أنفسكم. قال جابر بن عبد الله وابن عباس أيضا وعطاء بن أبي رباح. وقالوا: يدخل في ذلك البيوت غير المسكونة، ويسلم المرء فيها على نفسه بأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قال ابن العربي: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، ولا دليل على التخصيص؛ وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان للغير أو لنفسه، فإذا دخل بيتا لغيره أستأذن كما تقدم، فإذا دخل بيتا لنفسه سلم كما ورد في الخبر، يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ قال ابن عمر. وهذا إذا كان فارغا، فإن كان فيه أهله وخدمه

(12/318)

 

 

فليقل: السلام عليكم. وإن كان مسجدا فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وعليه حمل ابن عمر البيت الفارغ. قال ابن العربي: والذي أختاره إذا كان البيت فارغا ألا يلزم السلام، فإنه إن كان المقصود الملائكة فالملائكة لا تفارق العبد بحال، أما إنه إذا دخلت بيتك يستحب لك ذكر الله بأن تقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وقد تقدم في سورة [الكهف]. وقال القشيري في قوله: {إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً } : والأوجه أن يقال إن هذا عام في دخول كل بيت، فإن كان فيه ساكن مسلم يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإن لم يكن فيه ساكن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإن كان في البيت من ليس بمسلم قال السلام على من اتبع الهدى، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وذكر ابن خويز منداد قال: كتب إلى أبو العباس الأصم قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال حدثنا ابن وهب قال حدثنا جعفر بن ميسرة عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أهلها واذكروا اسم الله فإن أحدكم إذا سلم حين يدخل بيته وذكر اسم الله تعالى على طعامه يقول الشيطان لأصحابه لا مبيت لكم ها هنا ولا عشاء وإذا لم يسلم أحدكم إذا دخل ولم يذكر اسم الله على طعامه قال الشيطان لأصحابه أدركتم المبيت والعشاء".

قلت: هذا الحديث ثبت معناه مرفوع من حديث جابر، خرجه مسلم. وفي كتاب أبي داود عن أبي مالك الأشجعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولج الرجل بيته فليقل اللهم إني أسألك خير الولوج وخير الخروج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا ليسلم على أهله".

الحادية عشرة: قوله تعالى: {تَحِيَّةً} مصدر؛ لأن قوله: {فَسَلِّمُوا} معناه فحيوا. وصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه. ووصفها أيضا بالطيب لأن سامعها يستطيبها. والكاف من قوله: {كَذَلِكَ} كاف تشبيه. و {ذَلِكَ} إشارة إلى هذه السنن؛ أي كما بين لكم سنة دينكم في هذه الأشياء يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم.

==== 

النور - تفسير الطبري 

وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ   عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) }

يقول تعالى ذكره: إذا بلغ الصغار من أولادكم وأقربائكم، ويعني بقوله:( منكم ) من أحراركم( الحلم ) يعني الاحتلام، واحتلموا( فليستأذنوا ) يقول: فلا يدخلوا عليكم فى وقت من الأوقات إلا بإذن، لا في أوقات العورات الثلاث ولا في غيرها. وقوله:( كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول: كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقربائه الأحرار، وخصّ الله تعالى ذكره في هذه الآية الأطفال بالذكر، وتعريف حكمهم عباده في الاستئذان دون ذكر ما ملكت أيماننا، وقد تقدّمت الآية التي قبلها بتعريفهم حكم الأطفال الأحرار والمماليك; لأن حكم ما ملكت أيمانكم في ذلك حكم واحد، سواء فيه حكم كبارهم وصغارهم في أن الإذن عليهم في الساعات الثلاث التي ذكرها الله في الآية التي قبل.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: أما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله، يعني من الصبيان الأحرار إلا بإذن على كل حال، وهو قوله:( وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ).

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال عطاء:( وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ) قال: واجب على الناس أجمعين أن يستأذنوا إذا احتلموا على من كان من الناس.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، قال: يستأذن الرجل على أمه؟ قال: إنما أنزلت( وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) فِي ذَلِكَ(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ) يقول: هكذا يبين الله لكم آياته، أحكامه وشرائع دينه، كما بين لكم أمر هؤلاء الأطفال في الاستئذان بعد البلوغ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) يقول: والله عليم بما يصلح خلقه وغير ذلك من الأشياء، حكيم في تدبيره خلقه.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ{{ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) }

يقول تعالى ذكره: واللواتي قد قعدن عن الولد من الكبر من النساء، فلا يحضن ولا يلدن، واحدتهنّ قاعد( اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا ) يقول: اللاتي قد يئسن من البعولة، فلا يطمعن في الأزواج( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) يقول: فليس عليهنّ حرج ولا إثم أن يضعن ثيابهنّ، يعني جلابيبهنّ، وهي القناع الذي يكون فوق الخمار، والرداء الذي يكون فوق الثياب، لا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال، وغير المحارم من الغرباء غير متبرجات بزينة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا ) وهي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار، وتضع عنها الجلباب ما لم تتبرّج لما يكره الله وهو قوله:( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ثُمَّ قَالَ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ).

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله:( يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) يعني الجلباب، وهو القناع، وهذا للكبيرة التي قد قعدت عن الولد، فلا يضرّها أن لا تجلبب فوق الخمار. وأما كلّ امرأة مسلمة حرّة، فعليها إذا بلغت المحيض أن تدني الجلباب على الخمار، وقال الله في سورة الأحزاب( يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) وكان بالمدينة رجال من المنافقين إذا مرت بهم امرأة سيئة الهيئة والزيّ، حسب المنافقون أنها مزنية وأنها من بغيتهم، فكانوا يؤذون المؤمنات بالرفث ولا يعلمون الحرّة من الأمة، فأنزل الله في ذلك( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) يقول: إذا كان زيهنّ حسنا لم يطمع فيهن المنافقون.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، في قوله:( وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ ) التي قعدت من الولد وكبرت. قال ابن جُرَيج: قال مجاهد:( اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا ) قال: لا يُردنه( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) قال: جلابيبهنّ.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَالْقَوَاعِدُ مِنَ  النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) قال: وضع الخمار، قال: التي لا ترجو نكاحا، التي قد بلغت أن لا يكون لها في الرجال حاجة. ولا للرجال فيها حاجة، فإذا بلغن ذلك وضعن الخمار. غير متبرّجات بزينة، ثم قال:( وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ) كان أبي يقول هذا كله.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ذرّ، عن أبي وائل، عن عبد الله، في قوله:( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) قال: الجلباب أو الرداء، شكّ سفيان.

قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) قال: الرداء.

حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله في هذه الآية( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) قال: هي الملحفة.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت أبا وائل قال: سمعت عبد الله يقول في هذه الآية( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) قال: الجلباب.

حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: أخبرني الحكم، عن أبي وائل، عن عبد الله، مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود، في قوله:( أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) قال: هو الرداء.

قال الحسن، قال: عبد الرزاق، قال الثوري: وأخبرني أبو حصين وسالم الأفطس، عن سعيد بن جُبير، قال: هو الرداء.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي( أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) قال: تضع الجلباب المرأة التي قد عجزت ولم تزوّج. قال الشعبيّ: فإن أُبيّ بن كعب يقرأ "أنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنَّ".

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: قلت لابن أبي نجيح، قوله:( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) قال: الجلباب، قال يعقوب:  لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

قال أبو يونس: قلت له: عن مجاهد؟ قال: نعم، في الدار والحجرة.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) قال: جلابيبهنَّ.

وقوله:( غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) يقول: ليس عليهنّ جناح في وضع أرديتهنّ إذا لم يردن بوضع ذلك عنهنّ أن يبدين ما عليهنّ من الزينة للرجال. والتبرّج: هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تستره.

وقوله:( وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ) يقول: وإن تعففن عن وضع جلابيبهنّ وأرديتهنّ، فيلبسنها خير لهنّ من أن يضعنها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ) قال: أن يلبسن جلابيبهنّ.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبيّ( وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ) قال: ترك ذلك، يعني: ترك وضع الثياب.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ) والاستعفاف: لبس الخمار على رأسها، كان أبي يقول هذا كله( وَاللَّهُ سَمِيعٌ ) ما تنطقون بألسنتكم( عليم ) بما تضمره صدوركم، فاتقوه أن تنطقوا بألسنتكم ما قد نهاكم عن أن تنطقوا بها، أو تضمروا في صدوركم ما قد كرهه لكم، فتستوجبوا بذلك منه عقوبة.

القول في تأويل قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ  أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) }

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في هذه الآية في المعنى الذي أنزلت فيه، فقال بعضهم: أنزلت هذه الآية ترخيصا للمسلمين في الأكل مع العميان والعرجان والمرضى وأهل الزمانة من طعامهم، من أجل أنهم كانوا قد امتنعوا من أن يأكلوا معهم من طعامهم، خشية أن يكونوا قد أتوا بأكلهم معهم من طعامهم شيئًا مما نهاهم الله عنه بقوله:( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) .

* ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثني عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا ) من بيوتكم ... إلى قوله:( أَوْ أَشْتَاتًا ) وذلك لما أنزل الله( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) فقال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام من أفضل الأموال، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكفّ الناس عن ذلك، فأنزل الله بعد ذلك( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ ) - إلى قوله:( أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ).

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ ) ... الآية، كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض، فقال بعضهم: إنما كان بهم التقذّر والتقزّز. وقال بعضهم: المريض لا يستوفي الطعام، كما يستوفي الصحيح والأعرج المنحبس، لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والأعمى لا يبصر طيب الطعام، فأنزل الله( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) حرج في مؤاكلة المريض والأعمى والأعرج، فمعنى الكلام على تأويل هؤلاء: ليس عليكم أيها الناس في الأعمى حرج أن تأكلوا منه ومعه، ولا في الأعرج حرج، ولا في المريض حرج، ولا في أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم، فوجّهوا معنى "على" في هذا الموضع إلى معنى "في".

وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية ترخيصا لأهل الزمانة في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية، لأن قوما كانوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن  عندهم في بيوتهم ما يطعمونهم، ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم، أو بعض من سمّى الله في هذه الآية، فكان أهل الزمانة يتخوّفون من أن يطعموا ذلك الطعام، لأنه أطعمهم غير ملكه.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:( وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ ) قال: كان رجال زمنى. قال ابن عمرو في حديثه: عميان وعرجان. وقال الحارث: عمي عرج أولوا حاجة، يستتبعهم رجال إلى بيوتهم، فإن لم يجدوا طعاما ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم، ومن عدّد منهم من البيوت، فكره ذلك المستتبعون، فأنزل الله في ذلك( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ) وأحلّ لهم الطعام حيث وجدوه.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان الرجل يذهب بالأعمى والمريض والأعرج إلى بيت أبيه، أو إلى بيت أخيه، أو عمه، أو خاله، أو خالته، فكان الزمني يتحرّجون من ذلك، يقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فنزلت هذه الآية رخصة لهم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، نحو حديث ابن عمرو، عن أبي عاصم.

وقال آخرون: بل نزلت ترخيصا لأهل الزمانة الذين وصفهم الله في هذه الآية أن يأكلوا من بيوت من خلَّفهم في بيوته من الغزاة.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، قال: قلت للزهري، في قوله:( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ ) ما بال الأعمى ذكر هاهنا، والأعرج والمريض؟ فقال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، يقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، وكانوا يتحرّجون من ذلك، يقولون: لا ندخلها وهم غُيَّب، فأنزلت هذه الآية رخصة لهم.

وقال آخرون: بل عنى بقوله:( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) في التخلف عن الجهاد في سبيل الله، قالوا: وقوله:( وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) كلام منقطع عما قبله.

  * ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) قال: هذا في الجهاد في سبيل الله، وفي قوله:( وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) ... إلى قوله:( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) قال: هذا شيء قد انقطع، إنما كان هذا في الأوّل، لم يكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة، فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد، فربما وجد الطعام وهو جائع، فسوّغه الله أن يأكله. قال: وقد ذهب ذلك اليوم، البيوت اليوم فيها أهلها، وإذا خرجوا أغلقوها، فقد ذهب ذلك.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية ترخيصا للمسلمين الذين كانوا يتقون مؤاكلة أهل الزمانة في مؤاكلتهم إذا شاءوا ذلك.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن مِقْسم، في قوله:( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ ) قال: كانوا يتقون أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج، فنزلت( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ).

واختلفوا أيضا في معنى قوله:( أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ) فقال بعضهم: عني بذلك: وكيل الرجل وقيمه، أنه لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته، ونحو ذلك.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله:( أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ) وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته، فرخص الله له أن يأكل من ذلك الطعام والتمر ويشرب اللبن.

وقال آخرون: بل عُني بذلك: منزل الرجل نفسه أنه لا بأس عليه أن يأكل.

* ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ) يعني: بيت أحدهم، فإنه يملكه، والعبيد منهم مما ملكوا.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قَتادة، في قوله:( أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ) مما تحبون يا ابن آدم

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال:( أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ) قال: خزائن لأنفسهم، ليست لغيرهم.

وأشبه الأقوال التي ذكرنا في تأويل قوله:( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ ) ... إلى قوله:( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) القول الذي ذكرنا عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، وذلك أن أظهر معاني قوله:( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ ) أنه لا حرج على هؤلاء الذين سموا في هذه الآية أن يأكلوا من بيوت من ذكره الله فيها، على ما أباح لهم من الأكل منها؛ فإذ كان ذلك أظهر معانيه فتوجيه معناه إلى الأغلب الأعرف من معانيه أولى من توجيهه إلى الأنكر منها. فإذ كان ذلك كذلك؛ كان ما خالف من التأويل قول من قال: معناه: ليس في الأعمى والأعرج حرج أولى بالصواب. وكذلك أيضا الأغلب من تأويل قوله:( وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) أنه بمعنى: ولا عليكم أيها الناس، ثم جمع هؤلاء والزَّمنَى الذين ذكرهم قبل في الخطاب، فقال: أن تأكلوا من بيوت أنفسكم، وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بين خبر الغائب والمخاطب غلبت المخاطب، فقالت: أنت وأخوك قمتما، وأنت وزيد جلستما، ولا تقول: أنت وأخوك جلسا، وكذلك قوله:( وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) والخبر عن الأعمى والأعرج والمريض غلب المخاطب، فقال: أن تأكلوا، ولم يقل: أن يأكلوا.

فإن قال قائل: فهذا الأكل من بيوتهم قد علمناه، كان لهم حلالا إذ كان ملكا لهم، أو كان أيضا حلالا لهم الأكل من مال غيرهم. قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما توهمت، ولكنه كما ذكرناه عن عبيد الله بن عبد الله، أنهم كانوا إذا غابوا في مغازيهم، وتخلف أهل الزمانة منهم، دفع الغازي مفتاح مسكنه إلى المتخلف منهم، فأطلق له في الأكل مما يخلف في منزله من الطعام، فكان المتخلفون يتخوّفون الأكل من ذلك وربه غائب، فأعلمه الله أنه لا حرج عليه في الأكل منه، وأذن لهم في أكله فإذ كان ذلك كذلك تبين أن لا معنى لقول من قال: إنما أنزلت هذه الآية من أجل كراهة المستتبع أكل طعام غير المستتبع، لأن ذلك لو كان كما قال من قال ذلك، لقيل: ليس عليكم حرج أن تأكلوا من طعام غير من أضافكم، أو من طعام آباء من دعاكم، ولم يقل: أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم، وكذلك لا وجه لقول من قال: معنى ذلك: ليس على الأعمى حرج في التخلف عن الجهاد في سبيل الله، لأن قوله:( أَنْ تَأْكُلُوا ) خبر ليس ، وأن في موضع نصب على أنها خبر لها، فهي متعلقة  بليس، فمعلوم بذلك أن معنى الكلام: ليس على الأعمى حرج أن يأكل من بيته، لا ما قاله الذين ذكرنا من أنه لا حرج عليه في التخلف عن الجهاد؛ فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا، تبين أن معنى الكلام: لا ضيق على الأعمى، ولا على الأعرج، ولا على المريض، ولا عليكم أيها الناس أن تأكلوا من بيوت أنفسكم، أو من بيوت آبائكم، أو من بيوت أمهاتكم، أو من بيوت إخوانكم، أو من بيوت أخواتكم، أو من بيوت أعمامكم، أو من بيوت عماتكم، أو من بيوت أخوالكم، أو من بيوت خالاتكم، أو من البيوت التي ملكتم مفاتحها، أو من بيوت صديقكم إذا أذنوا لكم في ذلك، عند مغيبهم ومشهدهم. والمفاتح: الخزائن، واحدها: مفتح إذا أريد به المصدر، وإذا كان من المفاتيح التي يفتح بها فهي مفتح ومفاتح، وهي هاهنا على التأويل الذي اخترناه جمع مِفتح الذي يفتح به.

وكان قَتادة يتأوّل في قوله:( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) ما حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قَتادة( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) فلو أكلت من بيت صديقك من غير أمره، لم يكن بذلك بأس، قال معمر: قلت لقتادة: أو لا أشرب من هذا الحُبّ؟ قال: أنت لي صديق.

وأما قوله:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: كان الغنيّ من الناس يتخوّف أن يأكل مع الفقير، فرخص لهم في الأكل معهم.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله:( أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ) قال: كان الغنيّ يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصديقه، فيدعوه إلى طعامه ليأكل معه، فيقول: والله إني لأجنح أن آكل معك، والجنح: الحرج وأنا غنيّ وأنت فقير،، فأمروا أن يأكلوا جميعا أو أشتاتا.

وقال آخرون: بل عني بذلك حيّ من أحياء العرب، كانوا لا يأكل أحدهم وحده، ولا يأكل إلا مع غيره، فأذن الله لهم أن يأكل من شاء منهم وحده، ومن شاء منهم مع غيره.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: كانوا يأنفون ويتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، حتى يكون معه غيره،- فرخص الله لهم، فقال:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ).

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: كانت بنو كنانة يستحي الرجل منهم أن يأكل وحده، حتى نزلت هذه الآية.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: كانوا لا يأكلون إلا جميعا، ولا يأكلون متفرّقين، وكان ذلك فيهم دينا، فأنزل الله: ليس عليكم حرج في مؤاكلة المريض والأعمى، وليس عليكم حرج أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ) قال: كان من العرب من لا يأكل أبدا جميعا، ومنهم من لا يأكل إلا جميعا. فقال الله ذلك.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، قال: نزلت( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ) في حيّ من العرب كان الرجل منهم لا يأكل طعامه وحده، كان يحمله بعض يوم حتى يجد من يأكله معه قال: وأحسب أنه ذكر أنهم من كنانة.

وقال آخرون: بل عُني بذلك قوم كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن عمران بن سليمان، عن أبي صالح وعكرمة، قالا كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم، فرخص لهم، قال الله:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ).

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله وضع الحرج عن المسلمين أن يأكلوا جميعا معا إذا شاءوا، أو أشتاتا متفرّقين إذا أرادوا، وجائز أن يكون ذلك نزل بسبب من كان يتخوّف من الأغنياء الأكل مع الفقير، وجائز أن يكون نزل بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا لا يطعمون وحدانا، وبسبب غير ذلك، ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على حقيقة شيء منه، والصواب التسليم لما دلّ عليه ظاهر التنزيل، والتوقف فيما لم يكن على صحته دليل.

وقوله:( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) اختلف أهل--التأويل في ذلك. فقال بعضهم: معناه: فإذا دخلتم أيها الناس بيوت أنفسكم، فسلموا على أهليكم وعيالكم.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة في قوله:( فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) قالا بيتك، إذا دخلته فقل: سلام عليكم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) قال: سلم على أهلك ، قال ابن جريح: وسُئل عطاء بن أبي رباح: أحقّ على الرجل إذا دخل على أهله أن يسلم عليهم؟ قال: نعم. وقالها عمرو بن دينار، وتلوا:( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ) قال عطاء بن أبي رباح: ذلك غير مرّة.

قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: أخبرني أبو الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم( تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ) قال: ما رأيته إلا يوجبه.

قال ابن جُرَيج، وأخبرني زياد، عن ابن طاوس أنه كان يقول: إذا دخل أحدكم بيته فليسلم.

قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قلت لعطاء: إذا خرجت أواجب السلام، هل أسلم عليهم؟ فإنما قال:( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا ) ؟ قال: ما أعلمه واجبا، ولا آثِرُ عن أحد وجوبه ولكن أحبّ إليّ وما أدعه إلا ناسيا.

قال ابن جُرَيج، وقال عمرو بن دينار: لا قال: قلت لعطاء: فإن لم يكن في البيت أحد؟ قال: سلم ، قل: السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله، قلت له: قولك هذا إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد عمن تأثره؟ قال: سمعته ولم يؤثر لي عن أحد.

قال ابن جُرَيج، وأخبرني عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قال: السلام علينا من ربنا، وقال عمرو بن دينار: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

حدثنا أحمد بن عبد الرحيم، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: ثنا صدقة، عن زهير، عن ابن جُرَيج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: إذا دخلت على أهلك  فسلم عليهم، تحية من عند الله مباركة طيبة. قال: ما رأيته إلا يوجبه.

حدثنا محمد بن عباد الرازي، قال: ثنا حجاج بن محمد الأعور، قال: قال لي ابن جُرَيج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول، فذكر مثله.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) يقول: سلموا على أهاليكم إذا دخلتم بيوتكم، وعلى غير أهاليكم، فسلموا إذا دخلتم بيوتهم.

وقال آخرون: بل معناه: فإذا دخلتم المساجد فسلموا على أهلها.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن المبارك عن معمر، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) قال: هي المساجد، يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، في قوله:( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) قال: إذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله ، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وإذا دخلت بيتك فقل: السلام عليكم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين فيها ناس منكم، فليسلم بعضكم على بعض.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله:( فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) أي: ليسلم بعضكم على بعض، كقوله:( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله:( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) قال: إذا دخل المسلِّمُ سُلِّم عليه، كمثل قوله:( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) إنما هو: لا تقتل أخاك المسلم.

وقوله:( ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ) قال: يقتل بعضكم بعضا، قريظة والنضير.

وقال آخرون: معناه: فإذا دخلتم بيوتا ليس فيها أحد، فسلموا على أنفسكم.

  * ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، قال: إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وإذا دخلت بيتا فيه ناس من المسلمين وغير المسلمين، فقل مثل ذلك.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي سنان، عن ماهان، قال: إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم، قال: تقولوا: السلام علينا من ربنا.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرنا شعبة عن منصور، قال شعبة: وسألته عن هذه الآية:( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) قال: قال إبراهيم: إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشجّ عن نافع أن عبد الله كان إذا دخل بيتا ليس فيه أحد، قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، قال: ثنا منصور، عن إبراهيم:( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) قال: إذا دخلت بيتا فيه يهود، فقل: السلام عليكم ، وإن لم يكن فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال معناه: فإذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين، فليسلم بعضكم على بعض.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن الله جلّ ثناؤه قال:( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا ) ولم يخصصْ من ذلك بيتا دون بيت، وقال:( فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) يعني: بعضكم على بعض، فكان معلوما إذ لم يخصص ذلك على بعض البيوت دون بعض، أنه معنيّ به جميعها، مساجدها وغير مساجدها.ومعنى قوله:( فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) نظير قوله:( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) . وقوله:( تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) ونصب تحية، بمعنى: تحيون أنفسكم تحية من عند الله السلام تحية، فكأنه قال: فليحيّ بعضكم بعضا تحية من عند الله، وقد كان بعض أهل العربية يقول: إنما نصبت بمعنى: أمركم بها تفعلونها تحية منه، ووصف جلّ ثناؤه هذه التحية المباركة الطيبة لما فيها من الأجر الجزيل والثواب العظيم.

وقوله:( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ) يقول تعالى ذكره: هكذا يفصل الله لكم   معالم دينكم، فيبينها لكم، كما فصل لكم في هذه الآية ما أحلّ لكم فيها، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يقول: لكي تفقهوا عن الله أمره ونهيه وأدبه. ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

والثمن الجنة لعبد الملك القاسم

سلسلة أين نحن من هؤلاء ؟  كتاب والثمن الجنة لعبد الملك القاسم  بسم الله الرحمن الرحيم  المقدمة  الحمد لله الذي وعد من أطاعه جنات عدن تجري ...